تثير أوضاع الناس في قطاع غزة الحيرة والدهشة وربما الإعجاب، بقدر ما تثير الشفقة وتستدعي التعاطف. فخلال فترة قياسية من الزمن تقل عن عشرة أعوام، دفع الناس ثمناً باهظاً خلال مرحلة الانقسام الداخلي الدامي، ودفعوا أثماناً أكبر خلال ثلاث حروب بشعة وقاسية شنتها إسرائيل في أواخر سنة 2008، وفي أواخر سنة 2012، وفي صيف هذه السنة (2014).
حروب دامية كلفت سكان القطاع آلاف الضحايا، وآلاف الجرحى، وآلاف البيوت والمؤسسات المدمرة كلياً أو جزئياً، في ظل حصار خانق ضربته إسرائيل وقوى أُخرى، كجزء من ضريبة الجغرافيا. وبغض النظر عن مدى وجاهة الدوافع والأهداف، فإن نحو مليون وثمانمئة ألف، في مساحة تبلغ ثلاثمئة وستين كيلومتراً مربعاً، يعاني جملة من الأزمات التي لا حل لها، فلا حكومة "حماس" كانت قادرة على حلها، والتخفيف من وطأتها على الحكومتين، ولا أيادي أُخرى وطنية، أو غير وطنية، امتدت للمساعدة في حلها.
في القرن الحادي والعشرين، يعيش سكان القطاع في ظل أزمة نقص التيار الكهربائي، التي ترافقها أزمة توفر الوقود. ويضاعف المأساة تزايد أزمة البطالة، وخصوصاً بين الشباب والخريجين، وأزمة الفقر المدقع، فضلاً عن أزمتَي التلوث البيئي، والمياه الصالحة للاستخدام الآدمي.
يمكن الحديث باستفاضة عن سياسة تهميش مقصودة، وممارسة ضغوط شديدة، لإرغام "حماس" على تغيير سياستها ودورها، ولتطويعها، أو خروج الجماهير عليها تحت ضغط مسؤوليتها اجتماعياً ووطنياً عن معاناة الناس. وإذا كان الانقسام قد وقع، سعياً وراء تغيير موازين القوى الداخلية، ومن أجل السيطرة على المؤسسة الوطنية والقرار، فإن إسرائيل استغلت هذا السعي من أجل تأبيد الانقسام، باعتباره كما قال شمعون بيرس "إنجازاً تاريخياً"، من شأنه أن يوفر المبررات والذرائع لمنع تنفيذ رؤية الدولتين وقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة منذ سنة 1967.
في ظل هذه الأوضاع، لم يكن ممكناً قط الحديث عن اقتصاد طبيعي، وعن الرغبة في تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والمجتمعي والنفسي. وفي ظل هذا الجو المشحون بالأزمات والأعباء الثقيلة، وكذلك بالأسباب والدوافع التي لا يتسع هذا المقال لذكرها، تم توقيع اتفاقية الشاطئ للبدء بتنفيذ وثيقة المصالحة التي جرى التوصل إليها وتوقيعها عبر حوارات مكثفة في القاهرة.
غادرت "حماس" الحكومة من دون أن تغادر الحكم، لمصلحة حكومة وفاق وطني غير فصائلية، لكن هذه الحكومة لم تتحمل مسؤوليتها تجاه القطاع، في حين اندلعت مشكلة رواتب نحو أربعين ألفاً من موظفي حكومة "حماس"، والتي أدت إلى إغلاق البنوك، وشل الحركة التجارية، وتصاعد حدة التصريحات والاتهامات بين الطرفين "فتح" و"حماس".
وبدلاً من أن يتخطى الناس حالتَي الإحباط واليأس، إلى حالة التفاؤل، عادت مشاعر اليأس فطغت، لا بل تملكتهم مشاعر الغضب والخوف من أن يدفعوا ثمن المصالحة المتعثرة، أكثر مما دفعوا على مذبح الانقسام. ووسط هذه المشاعر والمناخات والأوضاع، شنت إسرائيل حملتها الشرسة على الضفة الغربية، متخذة من اختفاء ثلاثة مستوطنين ذريعة لتحقيق جملة من الأهداف يقف على رأسها تدمير المصالحة، وحل حكومة الوفاق.
وبغض النظر عن تداعيات الأحداث، منذ اختفاء المستوطنين الثلاثة، وما إذا كانت إسرائيل قد حققت أهدافها، أو بعضها، أو فشلت، تورطت حكومة نتنياهو في حرب جديدة على قطاع غزة، قيدت سقفها بالحاجة إلى بقاء حركة "حماس" في غزة، و"فتح" في الضفة الغربية.
فوجئت إسرائيل، وجميع أجهزتها العسكرية والأمنية والسياسية، بقدرات المقاومة وتكتيكاتها، وهو ما جعل هذه الحرب مختلفة جذرياً عن الحروب السابقة، وأدى إلى تفتّح عيون الإسرائيليين على ما تمتلكه المقاومة الفلسطينية من قدرة على الردع، وعلى خلخلة قدرة إسرائيل على الصد، إذ وصلت الصواريخ الفلسطينية تقريباً إلى كل مدن فلسطين التاريخية وقراها، الأمر الذي أربك القيادة الإسرائيلية التي لم تعد قادرة على التعامل مع هذا الوضع.
لكن لكل إنجاز ثمنه، وهذا الأخير تدفعه المقاومة، غير أن الناس هم مَنْ يتكبدون دفع معظم الثمن، في ظل الشعور باليأس، والعوز، والتهميش، والفقر، وغياب الإدارة الحكومية الرسمية، وفي ظل تحمّل سكان القطاع أعباء الحرب الانتقامية التي تشنها إسرائيل. وفي هذه الحرب ركزت إسرائيل هجماتها على البيوت والمؤسسات، وقتلت وجرحت مئات المدنيين، وألحقت أضراراً بالغة بالبنية التحتية المهترئة أصلاً.
عائلات بأكملها أبيدت، ومئات المنازل السكنية دُمرت على رؤوس الأطفال والنساء والمسنين، وتضررت مئات البيوت وتصدعت، وأصاب الهلع والخوف مئات آلاف الأطفال. قطاع غزة بأكمله تعرض للقصف، حتى لم يعد فيه منطقة آمنة، والشوارع تفتقر إلى الحركة، كأن الناس يعيشون في ظل حظر تجوّل تفرضه شمولية القصف براً وبحراً وجواً.
الأسواق والمحال التجارية ملأى بالبضائع، لكن القدرة الشرائية ضعيفة جداً، لأن البنوك مغلقة، والموظفين لم يتسلموا رواتبهم، والتجار غير قادرين على إنجاز معاملاتهم التجارية. الخضروات والفواكه رخيصة الثمن بسبب عدم توافر السيولة، وبسبب القصف، وكثير من المحال التجارية أخذ يعرض بضائعه بأسعار منافسة ومغرية، لكن بلا جدوى.
هذا يعني أن كثيراً من العائلات كان، ولا يزال، يمضي أيام شهر رمضان، على أقل القليل من الطعام، وربما هناك مَن لا يجد هذا القليل.
من اللافت أن قوات الاحتلال كانت تتعمد تكثيف قصف المنازل في وقت الإفطار والسحور. ومَنْ لا يعيش في القطاع يعتقد أن إعلانات قصف الطيران الحربي الإسرائيلي المتكررة لمناطق فارغة، تنطوي على شيء من الحرص على حياة المدنيين، غير أن الحقيقة هي أن هذه المناطق الفارغة التي تقع بين البيوت السكنية، كانت هدفاً للقصف للاشتباه في أنها مكامن لقاذفات الصواريخ. وفي جميع الأحوال، فإن ذلك تسبب بتصدّع مئات المنازل المجاورة، وبإثارة الهلع والخوف لدى الأطفال والنساء.
إذا كان هذا المشهد المأساوي هو ما يرسم صورة سكان قطاع غزة، فإنه لا يكتمل إلاّ برصد ارتفاع مشاعر التعاطف والإعجاب بأداء المقاومة. وفي أوضاع هذه الحرب الأخيرة، لم يعد ممكناً رصد ظاهرة الاستقطاب الفصائلي التي تسود في فترات الهدوء، فالكل يشعر بالعزة والكرامة. فمع كل صاروخ ينطلق يشعر الناس بأنه يحمل آمالهم، وكرامتهم، واعتزازهم بانتمائهم الوطني إلى حيث الأصل، إلى مسقط الرأس، إلى القرية، أو إلى المدينة التي طُرد منها آباؤهم وأجدادهم. ويطغى هذا الشعور على كل ما يرافق هذه الحرب، من خذلان الأشقاء، وتجاهل المجتمع الدولي، وعلى كل الأزمات والمعاناة التي يتكبدونها. ويدرك الناس أن هذه الحرب ستتوقف آجلاً أم عاجلاً، وأنهم سيعيدون صوغ مشاعرهم، باختلاف الأوضاع، لكن الشعور الدائم يظل يدور حول سؤال هو: هل هذا قدر غزة، أم هي لعنة الجغرافيا؟
في الواقع، إن معاناة سكان القطاع لا تعود إلى الأعوام التي أعقبت مرحلة الانقسام، إذ سبقتها حروب إسرائيلية كثيرة، وأزمات كبيرة، ذلك بأن القطاع كان معزولاً عن العالم منذ سنة 1948، حتى هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومنذ ذلك الوقت ما زالت المعاناة ممتدة على طول مرحلة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة منذ سنة 1967.
بعد كل حرب، ومع كل أزمة ومعاناة، يتساءل الناس: لِمَ لا يتلقى أهل غزة معاملة حسنة من الأشقاء العرب، حتى حين يكون الواحد منهم مستوفياً جميع شروط المعاملة الحسنة، اللهم إلاّ من شهادة خلو من الأمراض المزمنة؟ إن أهل غزة يستحقون الإنصاف وينتظرونه من الأهل والأشقاء.