جاء احتفال إسرائيل بمناسبة مرور نصف قرن على حرب حزيران / يونيو 1967، هذا العام، وما تضمنه من مظاهر ومواقف، ليؤكد استمرار المشروع الصهيوني الكولونيالي الهادف إلى السيطرة على فلسطين التاريخية ومنع إقامة دولة فلسطينية. وبهذا المنطق حدّد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الخطاب الذي ألقاه خلال مراسم أقيمت في القدس يوم 5 / 6 / 2017، مواقفه إزاء مصير الضفة الغربية والقدس،وإزاء العملية السياسية المتعثرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
فقد أكد نتنياهو أن أهم نتائج تلك الحرب يتمثل في "العودة إلى ربوع وطننا التي فُصلنا عنها منذ أجيال كثيرة، ولكننا لم نكف عن اعتبارها قلب وطننا،" مشيراً إلى أن هذه العودة هي بمثابة "تحقيق للعدالة وممارسة لحق"، وإلى أنه "بجانب الرغبة في التوصل إلى تسوية مع جيراننا الفلسطينيين، سنواصل الحفاظ على مشروع الاستيطان وتعزيزه". وكرّر نتنياهو أن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ليس صراعاً على أرض، ولا على إقامة دولة فلسطينية، وإنما على "إبادة دولة" ـ إسرائيل ـ ومنع إقامتها طيلة عشرات السنين ثم تخريبها بعدما أقيمت. وبالتالي "على دول العالم أن تطالب الفلسطينيين، مثلما نطالب نحن، وبأوضح شكل، بالاعتراف أخيراً بالدولة اليهودية، التي هي الدولة القومية للشعب اليهودي، والتخلي عن مطالبهم وما يسمونه حق العودة والاعتراف بحقنا في العيش هنا في بلدنا" (موقع رئيس الحكومة الإسرائيلية على شبكة الانترنت).
وعلى أعتاب هذه الذكرى كتب يوسي أحيميئير، وهو سياسي ومفكر يميني ورئيس تحرير مجلة "هؤماه" ["الأمة"] الفصلية الصادرة عن "محفل جابوتنسكي"، افتتاحية العدد 205 من هذه المجلة الذي خصّص لذكرى مرور نصف قرن على حرب 1967، يتجسّد مدلولها الأبرز في ما يمكن اعتباره "تسويق ضم" مناطق الضفة الغربية إلى إسرائيل، من خلال الدعوة إلى عدم ترك مسألة أراضي الضفة (وتحديداً أراضي ما يعرف بـ "مناطق ج") كمسألة خلافية يجب التفاوض بشأنها ، وطرح مسألة "الحق التاريخي للشعب اليهودي في هذه المناطق بصورة حازمة على بِساطِ البحث"، وهو برأيه "الحق الذي يجب أن يتغلب ويتفوّق على أي حق آخر للسكان الأصليين غير اليهود في بقاع هذا البلد". وتحث الافتتاحية على عدم الاكتفاء بالتركيز على المصلحة الأمنية الإسرائيلية، على الرغم من أنها تُعتَبر مصلحة مهمة في حد ذاتها، نظراً إلى أن المجتمع الدولي الذي يتفهم المطالب الأمنية لإسرائيل، يربطها بالانسحاب إلى خطوط سنة 1967 وإقامة دولة فلسطينية.
هذا الكلام يعيد حرب 1967 إلى سياقها الإسرائيلي ضمن المشروع الكولونيالي الصهيوني. وهذا السياق على وجه التحديد لم يكن خافياً عن أعين باحثين كثيرين بمن في ذلك باحثون إسرائيليون نقديون، قد يكون أبرزهم عالم الاجتماع غرشون شافير الذي كتب دراسة حول تلك الحرب ظهرت قبل نحو ربع قرن في كتاب "المجتمع الإسرائيلي: وجهات نظر نقدية" (1993).
ووفقاً لما يقوله شافير، شكلت حرب 1967 إشارة البداية أو هي بمثابة تمهيد لمزيد من تطرّف المشروع الكولونيالي الصهيوني في فلسطين. وبعد هذه الحرب أصبحت الطريق سالكة أمام إقدام قباطنة هذا المشروع على تنحية ما سمّاه "نموذج الاستيطان الكولونيالي المُجزّأ" ـ وهو نموذج جرى تطبيقه ضمن تخوم "الخط الأخضر" (حدود اتفاقيات الهدنة سنة 1949) تمشياً مع ظروف يمكن اعتبارها "خاصة" وتعود أساساً إلى الصلة بين عنصري الجغرافيا والديموغرافيا في سيرورة هذا المشروع ـ واستبداله بنموذج استيطان كولونيالي آخر يستند إلى سيطرة مجموعة المستوطنين اليهود على السكان المحليين، أو إلى طرد هؤلاء السكان من جميع المناطق الخاضعة لسيطرة المستوطنين. بكلمات أخرى انقطعت الصلة أو الرابطة بين المركّب الديموغرافي وبين المركّب الجغرافي، التي كانت قيداً على عملية الاستيطان الكولونيالي الصهيوني في إحدى مراحلها. وما أتاح إمكان ذلك، بطبيعة الحال، هو السيطرة الأمنية على تلك المنطقتين (الضفة الغربية وقطاع غزة) والتفوّق العسكري لإسرائيل، الأمر الذي كان المستوطنون اليهود مفتقرين إليه في فترة ما قبل إقامة الدولة، أي ما قبل سنة 1948. وبذا فإن "نموذج الاستيطان الطاهر المحدود" أخذ يُخلي مكانه لنموذج آخر هو "الاستيطان الطاهر المطلق"، الذي كانت منظمة "غوش إيمونيم" الاستيطانية المتطرفة أول من بدأ بتطبيقه في المناطق الفلسطينية المحتلة سنة 1967. ومع هذا التطور بدأ يتشكل تشابه واضح بين الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي في المناطق المحتلة منذ سنة 1967، وبين حركات استيطان كولونيالية أوروبية سابقة في مناطق متعددة من العالم.
ويعتقد شافير أن مصدر الاستقطاب الأيديولوجي ـ السياسي، الذي حدث في المجتمع الإسرائيلي بدءاً من سنة 1967 في شأن الموقف من المناطق الفلسطينية التي احتُلت في تلك السنة، يعود بالأساس إلى خلاف بين مؤيدي نموذجين مصغرين مختلفين للسياسة الكولونيالية إزاء نموذج "الاستيطان الطاهر": هناك من جهة مؤيدو النموذج الطاهر المحدود، الذين هم على استعداد للتنازل عن مناطق جغرافية في مقابل تحقيق "التجانس الإثني"، ومن جهة أخرى هناك مؤيدو النموذج الطاهر المطلق، الذين يطمعون في الانتشار على جميع المناطق الجغرافية، مفترضين أن السكان الفلسطينيين يمكن السيطرة عليهم أو طردهم. بكلمات أخرى، إن الخلاف هو بين الذين يؤيدون الخصوصية ـ الحصرية اليهودية وإن بأصناف متنوعة، لا بين مؤيدي هذه الخصوصية ـ الحصرية وبين معارضيها جملة وتفصيلاً.
وعملياً فإن حكومات إسرائيل بعد سنة1967 ، بدءاً بالحكومات التي كانت برئاسة حزب "العمل"، ألغت تقسيم "أرض إسرائيل" (فلسطين) الذي نشأ بعد حرب 1948. و"برنامج ألون"، الذي شكّل هادياً ومرشداً لمبادرات الاستيطان من طرف حزب "العمل" بعد حرب حزيران / يونيو، أُعدّ تحت تأثير الحسابات الديموغرافية ـ الجغرافية القديمة لحركة العمل. وكانت غاية هذا البرنامج هي ترسيخ وجود إسرائيلي ثابت في المناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية، من خلال حدّ أدنى من السكان الفلسطينيين في تخوم المناطق المعدّة لأن تبقى خاضعة لسيطرة إسرائيل، ولذا ، تمحور البرنامج حول تشجيع الاستيطان اليهودي في غور الأردن ذي الكثافة السكانية المنخفضة. ومع ذلك، فإن إحدى الحكومات برئاسة حزب "العمل" صادقت على إقامة المستوطنات "غير الشرعية" في منطقة "غوش عتسيون" والخليل (ومن هذه المستوطنات ظهر، في فترة لاحقة، زعماء منظمة "غوش إيمونيم" المذكورة). وبهذه المصادقة "انجرّت" تلك الحكومة وراء سياسة توسّع إقليمية جغرافية بالتقسيط أو على مراحل. وجرى توسيع المناطق المشمولة في "برنامج ألون"، بمقدار كبير، في سنة 1973، عبر "برنامج غليلي" الأكثر غلواءً. وحدثت بالتدريج نقلة كبيرة في المفاهيم والتصورات السابقة بشأن المناطق الحدودية والاستيطان، بدءاً بالاستيطان الأمني، مروراً بالاستيطان ذي الدوافع الدينية ـ المسيانية، وانتهاءً باستيطان الأطراف غير الأيديولوجي.
وبرأي شافير، يمكن الوقوف على التغيير البعيد الأثر في العلاقات بين الإسرائيليين والشعب العربي الفلسطيني بعد سنة 1967 من خلال المجالات الثلاثة المهمة في أي عملية استيطان كولونيالية، هي مجالات الأرض والعمل والديموغرافيا.
وفي مداخلة جديدة لإفرايم كام الباحث في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب بعنوان "ماذا تعلمت الأطراف العربية من حرب 1967"، يشير هذا الباحث بصورة خاصة إلى أن الأطراف العربية بقيت بعد عدة سنوات من تلك الحرب تبحث عن شتى السبل لتجاوز آثار الهزيمة. وبمقارنة ذلك مع الأوضاع الحالية التي تسود العالم العربي يمكن القول إن تغيرات هامة ودراماتيكية طرأت على مواقف هذه الأطراف "إذ من الصعب أن تجد زعيماً عربياً واحداً الآن يتبنى موقفاً يقول بضرورة هزيمة إسرائيل،" على حدّ قوله. وفي هذا الشأن نوّه أشار إلى حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 أزالت وصمة الهزيمة في 1967 ، لكن في الوقت عينه "أثبتت للأطراف العربية أنه يستحيل إلحاق الهزيمة بإسرائيل."
وقدم "كام" عرضاً لتطوّر المواقف السياسية والعسكرية لدى كل من مصر وسورية والأردن، منذ حرب حزيران / يونيو 1967، نتوقف عند أبرزها:
- مصر: بعد حرب 1967 مثُل أمام مصر خياران واقعيان: الأول، خوض حرب استنزاف ضد إسرائيل. والثاني، القيام بعملية عسكرية محدودة (شبيهة بتلك التي جرى القيام بها خلال حرب 1973). وقد اختار الرئيس جمال عبد الناصر الخيار الأول. أما خليفته، الرئيس أنور السادات، فقد استقّر قراره على اتباع الخيار الثاني وأضاف إليه عنصرين جديدين هما: 1- تطوير الخيار العسكري؛ 2- دمج الخيار العسكري ضمن عملية سياسية. وبناء على ذلك فإن النظر إلى حربي 1967 و1973 ينبغي أن يتم باعتبارهما وحدة واحدة من ناحية مصر.
- سورية: أدت حرب 1967 إلى "اعتراف سوري برجحان توازن القوى بين إسرائيل وسورية لمصلحة الأولى، وإلى معرفة أن إسرائيل تهدّد دمشق انطلاقاً من هضبة الجولان المحتلة." لكن سورية ظلت متمسكة بـ "الخط المتشدّد" حيال إسرائيل لأسباب أيديولوجية ولـ "غياب إكراهات مماثلة لتلك التي اضطرت مصر إلى انتهاج طريق التسوية السياسية، ومنها الأوضاع الاقتصادية الداخلية." وأرجع "كام" أسباب موافقة سورية على "التحادث مع إسرائيل" في أوائل تسعينيات القرن الفائت إلى ما سمّاه "انهيار مفهوم الأمن السوريّ."
- الأردن: اعتبر "كام" أن الأردن "خضع للتغيير الأكثر أهمية" الذي ترتب على حرب 1967. وأشار إلى أن أبرز الدروس التي استبطنها الأردن بعد تلك الحرب هي "التنازل عن خيار الحرب ضد إسرائيل والاتجاه نحو خيار التعايش السلمي معها" وأيضاً "التنازل عن الضفة الغربية، الذي تم الوصول إليه بصورة تدريجية إلى أن أعلن عنه رسمياً سنة 1988" (المقصود إعلان العاهل الأردني الملك حسين عن فك الارتباط مع الضفة الغربية).
وبحسب "كام"، فإن حرب 1967 كان لها إجمالاً دور حاسم وباتّ في إقناع العرب باستحالة القضاء على إسرائيل "لأنها متفوقة استراتيجياً ولأنها تعتمد على الولايات المتحدة." وبعد هذه الحرب "اختفى تعبير تصفية آثار حرب 1948 وحلّ محله تعبير تصفية آثار حرب 1967،" كما "انهار الائتلاف العربي" ("يسرائيل هيوم"، 4 / 6 / 2017).
مكانة القضية الفلسطينية
خيمت على إحياء ذكرى مرور نصف قرن على حرب 1967 ظلال الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب إلى منطقة الشرق الأوسط. ومع أن وقائع تلك الزيارة لم توضح عناصر رؤية إدارة ترامب إزاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إلا إنه يجوز اعتبار أنها عكست تأييداً للموقف العربي المركزي فيما يتعلق بالبيئة الإقليمية، وشفّت عن تبنٍّ للموقف الإسرائيلي فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أو على الأقل عن تبن للرؤية الإسرائيلية حيال نقطة الانطلاق نحو تسوية الصراع، وهي الرؤية التي تحاول الدفع قدماً بما يسمى المقاربة الإقليمية.
في ضوء ذلك كان هناك تحليلات إسرائيلية شدّدت على أن الجانب الفلسطيني كان الغائب الأبرز في زيارة ترامب إلى المنطقة وإسرائيل، لأن هذا الأخير تجاهل الموضوع الفلسطيني خلال زيارته العربية، وتجاهل الحقوق الفلسطينية أثناء زيارته لإسرائيل.
في المقابل، رأت دراسة جديدة صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، وشارك في إعدادها عدد كبير من الباحثين في هذا المعهد، أنه ينبغي على وجه السرعة وضع صيغة مُعدّلة لـ "مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي" في ضوء العديد من التغيرات الإقليمية والدولية وكذلك التحولات الداخلية، بحيث تستجيب لهذه التغيرات والتحولات، نظراً إلى أن مبادئ المفهوم القديم التي وضعها رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الدفاع الأول ديفيد بن غوريون، في خمسينيات القرن العشرين المنصرم، لم تعد تستجيب لجميع "التحديات الماثلة أمام إسرائيل في الوقت الحالي."
وتتطرّق الدراسة، من بين أمور أخرى، إلى الوضع الناشئ في منطقة الشرق الأوسط في إثر "الربيع العربي" الذي بدأ بالثورة التونسية في مطلع سنة 2011، وتحلّل تداعياته. لكن الأمر اللافت فيها يظل كامناً في توكيدها أنه على الرغم من أن ما تسميه "الزلزال الإقليمي" تسبّب بإبعاد الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني عن مركز الحلبة، إلاّ إن هذا الصراع بقي ويبقى التحدّي المركزي بالنسبة إلى إسرائيل، مشيرة إلى أنه سيتأثر كذلك من "توجهات إقليمية مستجدّة" (موقع "معهد أبحاث الأمن القومي" على شبكة الانترنت).
كما تتناول الدراسة مجموعة من التغيرات الاجتماعية والديموغرافية الجارية في إسرائيل والتي تؤدي برأيها إلى تغيير وجه الساحة الداخلية برمتها، وبينها الفجوات الاقتصادية الآخذة بالتعمّق، واتسّاع دائرة الفقر، و"الفجوات العقائدية" التي تزداد عمقاً بين اليمين و"اليسار". وفي شأن هذه الأخيرة توضح الدراسة أن "الخلافات بين اليمين واليسار تتعلق أساساً بالسياسة التي يجب اتباعها تجاه الفلسطينيين وبالنسبة إلى مستقبل مناطق الضفة الغربية،" وتخلص إلى أن "هذه الخلافات تمنع أي إمكانية لتحديد غايات قومية يجمع عليها معظم السكان في إسرائيل."
وفي إطار تناول التحولات الإسرائيلية الداخلية، تعتبر الدراسة أن ظاهرة شبكات التواصل الاجتماعي تؤثر من جهة فيما تسميه "الخطاب الديمقراطي"، ومن جهة أخرى تؤدي إلى "سطوع نجم" قادة شعبويين يفتقرون إلى صفات الزعامة. وليس من المبالغة القول إن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي وزعيم اليمين بنيامين نتنياهو ينتمي إلى هذا الصنف من القادة. وأحداث الفترة الأخيرة قدمت المزيد من القرائن الدالّـة على ذلك، وفي طليعتها آخر المُستجدات المتعلقة بإعادة هيكلة المشهد الإعلامي في إسرائيل بما يضمن بسط السيطرة المُطلقة، إدارياً وسياسياً، على وسائل الإعلام، وذلك عبر تأسيس هيئة جديدة لتنظيم البث الإسرائيلي العام لتحل محل سلطة البث القائمة.
ويندرج في هذا الإطار أيضاً استمرار الهجوم على المحكمة الإسرائيلية العليا والسلطة القضائية، والذي انتقل رويداً رويداً من المسعى اليمينيّ المحموم لتغيير صورتها إلى المجاهرة العلنية بمرامي هذا التغيير، وهي محاصرتهما وتقليص صلاحياتهما "حتى وضعهما في مكانهما الصحيح وتوضيح حدودهما،" تطبيقاً لما تراه أحزاب اليمين الإسرائيلي الحاكم وقادتها حيال "ضرورة إعادة ترسيم الحدود وتوضيحها بين السلطات الثلاث وتأكيد الفصل بينها،" بزعم أن "السلطة القضائية" (وخصوصاً المحكمة العليا) تفرض "أجندتها" على السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست)، من خلال قراراتها القضائية، ولا سيما تلك التي تتصدى للإجراءات الإدارية الحكومية المعادية لحقوق المواطن والإنسان أو للتشريعات القانونية المعادية للقيم الديمقراطية.
ومع أهمية الانطباع العام الذي تثيره دراسة "معهد أبحاث الأمن القومي"، تحديداً من خلال التأكيد أن القضية الفلسطينية كانت وستبقى "التحدّي المركزي" بالنسبة إلى إسرائيل، على الرغم من كل ما جرى ويجري من تطورات داخلية وإقليمية ودولية، وكذلك فلسطينية، لا بُدّ من الالتفات إلى ما تقوله ورقة جديدة صادرة عن أحد مراكز الأبحاث اليمينية ("المركز المقدسي للشؤون العامة وشؤون الدولة") بخصوص "التحوّل المفاجئ" الذي طرأ على الخطاب السياسي في إسرائيل في مطلع سنة 2016 الفائت.
وفقاً لما ورد في هذه الورقة، فإن حزبَي الليكود والعمل وجدا نفسيهما ـ فيما تصفه بأنه "إحدى الحالات النادرة في التاريخ" ـ يقفان في الجانب ذاته من المتراس، وذلك عندما أقر الحزبان علناً أنه وفي اللحظة الزمنية الراهنة بات الهدف المتمثل في التوصل إلى حلّ عبر المفاوضات مع الفلسطينيين استناداً إلى صيغة "دولتين لشعبين"، بمثابة "سراب غير قابل للتحقيق".
وفي رأي كاتب هذه الورقة، هيرش غودمان، فإن أحد الأسباب التي تقف وراء ذلك يعود إلى أن كلا الحزبين لاحظ أن الفلسطينيين تبنوا ما يعرف بـ "الخطة ب"، التي تشمل سياسة ترتكز على فرضية فحواها أن الطريق الأسلم للدفع قدماً نحو تحقيق الأهداف والمصالح الفلسطينية تكمن في القيام بجهود ومساع حثيثة من جانب واحد في الساحة الدولية، وتكريس الواقع القائم، وذلك عبر القيام بأعمال استنزاف عنيفة، ونزع الشرعية عن إسرائيل ومقاطعتها. فمن وجهة نظر الفلسطينيين، فإن مثل هذه الأعمال والنشاطات من شأنها أن تضعف إسرائيل في الساحة الدولية وأن تبقي الصراع الإقليمي مطروحاً على الأجندة بهدف التسبب في انقسام داخلي وإضعاف المجتمع الإسرائيلي.
كما يتفق الحزبان الرئيسيان في إسرائيل حالياً ـ بحسب ما يقول الكاتب ـ على أن الهدف الحقيقي للفلسطينيين لم يعد حل "دولتين لشعبين"، استناداً لمبدأ مقايضة الأرض بالسلام، وعلى أن الفلسطينيين معنيون الآن بأن يروا في نهاية العملية واقعاً يقوم على "دولة واحدة يصبحون فيها هم الأكثرية، وأن لا يكون لإسرائيل وجود كدولة يهودية وديمقراطية" (موقع "المركز المقدسي للشؤون العامة وشؤون الدولة" على شبكة الانترنت).
وإذا كان هذا الكلام، الذي لا يُمكن دحضه في مجال التشخيص الدقيق لواقع حال الحزبين الإسرائيليين الرئيسيين وموقفيهما من القضية الفلسطينية، يعني شيئاً، فإنه يعني أكثر من أي شيء آخر أن جوهر تعامل هذين الحزبين مع ذلك "التحدّي المركزي" غير مُرشّح، على الأقل في الأفق المنظور، لأن يتطوّر في اتجاه التجاوب مع التطلعات الفلسطينية حتى في حدودها الأدنى.
تغيرات إسرائيلية داخلية
فيما يتعلق بالتغيرات الإسرائيلية الداخلية، نتوقف عند ورقة جديدة أعدّها طاقم "معهد سياسة الشعب اليهودي" (أسسته "الوكالة اليهودية")، على أعتاب مؤتمره السنوي الذي عُقد أخيراً، والتي أجمل فيها أحدث التغيرات في الدول الغربية وخلفيتها وما تعبر عنه، واتجاهات تأثيراتها المحتملة على مستقبل إسرائيل واليهود في العالم، كما حاول استشراف تأثير التطورات الحاصلة في إسرائيل على ماهية تعامل العالم الغربي، نظراً إلى كونها ترسم جوهر الملامح المستقبلية لإسرائيل، ولا سيما في المدى المنظور.
وقامت الورقة بتحليل سيرورتين متصلتين من ناحيتي المبنى والمعنى: الأولى، سيرورة ازدياد قوة اليمين ونفوذ تيّار القومية الدينية في إسرائيل، والثانية، سيرورة التغيرات الديموغرافية التي طرأت على إسرائيل.
ووفقاً لما تشير إليه الورقة، فإن أحد جوانب السيرورة الثانية يتمثّل في تغير تركيبة السكان اليهود في إسرائيل بسبب التدين، من ناحية تزايد عدد اليهود الحريديم (المتشددين دينياً) والمتدينين في مقابل ضعف الوسط المحافظ، وتضاؤل أعداد العلمانيين.
والنتيجة الأبرز المترتبة على تداخل هاتين السيرورتين، مثلما تؤكد الورقة، تتجسّد في تعزّز النظرة التي تميل إلى رؤية أن دولة إسرائيل يجب أن تعكس "المصلحة اليهودية" فوق أي مصالح أخرى. وبلغة الورقة "فإن الصهيونية الدينية تسعى لإعادة بلورة أساس الصلاحية الفكرية ـ الأخلاقية الذي تم بناء مؤسسة القانون الإسرائيلية عليه، ولأن تغرس في هذا الإطار تعبيراً أكبر عن المبادئ المستمدة من عالم الديانة والتراث اليهوديين، بدلاً من المبادئ المستمدة من العالم العلماني ـ الليبرالي ـ الكوني".
وتسجل الورقة أن الصهيونية ـ الدينية تسعى إلى تنفيذ مسعاها هذا من خلال كتلة "البيت اليهودي" وشخصيات دينية بارزة في حزب الليكود الحاكم، كما أنها تحاول تحقيق نفوذ كبير من خلال التأثير على السلكين الحكومي والإعلامي وقيادة الجيش الإسرائيلي، الذي بات الضباط المتدينون أكثر حضوراً في صفوفه. وتسعى الصهيونية ـ الدينية للاستيطان في الضفة الغربية وضمها إلى إسرائيل (موقع "معهد سياسة الشعب اليهودي" على شبكة الانترنت).
بطبيعة الحال ثمة سيرورات أخرى تشهدها إسرائيل تدعم النتيجة السابقة وتكرّسها. ومنها ما يحدث في حلبة الإعلام التي يواصل فيها نتنياهو من خلال موقعه السياسي، وعلى نحو هوسيّ، مسعاه الرامي إلى بسط سيطرته الشخصية على مجمل وسائل الإعلام في إسرائيل، العامة والتجارية، بغية تدجينها بما ينسجم مع رؤاه وتوجهاته السياسية، وأيضاً بما يخدم مصالحه الشخصية الفردية، وفي مقدمها مصلحة بقائه شخصياً على رأس الهرم السياسي. وكذلك ما تشهده وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية بإدارة نفتالي بينت، رئيس "البيت اليهودي"، من جهود محمومة لفرض رواية الصهيونية الدينية على مناهج التعليم في إسرائيل.
ومن البدهي أن ما يقوم به اليمين الإسرائيلي في كل ما يتعلق بتغيير ملامح إسرائيل، يستند إلى فائض القوة الذي أصبح يمتلكه منذ أن تربّع على سدّة الحكم قبل 40 سنة، والذي تسبّب رويداً رويداً بانزياح كل الخارطة السياسية الحزبية نحو اليمين.
وينعكس فائض القوة هذا، بصورة جليّة، في الممارسات التي يقوم بها اليمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967.
وكي تكتمل الدائرة لا بُد من أن نضيف ما يلي:
- ما تؤكده ورقة "معهد سياسة الشعب اليهودي" بشأن الصهيونية الدينية وتطلعاتها السياسية، لا يعني من ناحيتنا أكثر من أن هذا التيّـار يرغب في أن يضع "بصمتـه" على المشروع الصهيوني وأن يصوغه على نحو أشدّ فظاظة من المشروع الصهيوني التقليدي، الفظّ والعدواني أصلاً.
- المعطيات التي قام طاقم هذا المعهد بتجميعها في الورقة المذكورة، معروفة للقاصي والداني. ومع هذا، فإن في مجرّد تجميعها بهذه الكثافة، وقراءتها داخل حقل الدلالات المرتبطة بملامح المستقبل، ما يتيح إمكان التعامل معها كرزمة واحدة ضمن مجال تعريـة صورة إسرائيل الراهنة وما تُحيل إليه، بما في ذلك ضمن نطاق علاقتها المباشرة مع مجتمعها