المسيحيون في القدس والضفة الغربية منذ 1948: دراسة تاريخية واجتماعية وسياسية
Christian Communities in Jerusalem and the West Bank since 1948: An Historical, Social and Political Study
Daphne Tsimhoni
Westport, CT: Praeger, 1993. 239 pages. $55.
إن اهتمام تسيمحوني بالطوائف المسيحية في القدس والضفة الغربية اهتمام أكاديمي. فقد نالت شهادة الدكتوراه سنة 1976 بأطروحة عن "الانتداب البريطاني والمسيحيين العرب في فلسطين، 1920 - 1925". والمؤلفة باحثة في مركز أبحاث بن- غوريون، ومحاضرة في دائرة التاريخ في جامعة بن- غوريون في النقب، وقد واصلت اهتمامها الأكاديمي بنشر سلسلة من المقالات في المجلات الإسرائيلية والعالمية، ومعظم هذه المقالات مستمد من أطروحتها للدكتوراه. والكتاب موضوع المراجعة تحديث لهذا الاهتمام.
من نكد الحظ أن النظرة التي تلقيها تسيمحوني لا تشتمل على تعقيدات القضايا وحدَّة المخاوف التي تساور المسيحيين الفلسطينيين. ففي رأي تسيمحوني أن السكان المحليين الناطقين بالعربية يشكلون 91,6٪ من المسيحيين في القدس والضفة الغربية (ص 25). ومع أنه من شأن هذه النسبة أن ترشد المؤلفة إلى استكشاف الصلات التاريخية والثقافية والاجتماعية - الاقتصادية التي تربط المسيحيين الفلسطينيين بالمجتمع الفلسطيني عامة، فإن المنهجية التي اختارتها تسيمحوني في معظم فصول الكتاب تركز على "الطوائف المسيحية" باعتبارها متميزة من الإطار السياسي والاجتماعي - الاقتصادي. ربما كانت هذه المنهجية ملائمة لمناقشة البنية التراتبية وإدارة الأملاك، وسوى ذلك من الاعتبارات المؤسساتية التي تعني الكنائس على اختلافها، كما في الفصول 3 إلى 8؛ فهي تفي بحق الجهد الذي يبذله المسيحيون الفلسطينيون للتعامل مع مشكلاتهم "الإطارية" المتعلقة بالقضايا الاجتماعية والوطنية.
ويبدو هذا العجز عن تقديم نظرة شاملة للتجربة الحياتية واضحاً في الفصل الأول: "وضع المسيحيين في القدس والضفة الغربية"، وهو محاولة "شرعانية" لوضع المسيحيين في ظل الحكم الأردني ثم، منذ سنة 1967، تحت الحكم الإسرائيلي. معظم هذا البحث الشرعاني يتعلق بإسرائيل، ولا يشار إلاّ لماماً إلى أحوال المسيحيين بين سنتي 1948 و1967. وتشير معلومات إحصائية تذكرها تسيمحوني في إحدى الحواشي، عرضاً، إلى هذا الأمر: "بحلول سنة 1961 كانت عمّان قد اتسعت لتغدو أكبر مركز مسيحي في المملكة، إذ بلغ عدد المسيحيين فيها 42.800 نسمة معظمهم من القدس؛ وعلى وجه الإجمال كان 58٪ من مسيحيي المملكة يقيمون بالضفة الغربية" (ص 31). ولم يزل المسيحيون في الأردن يشعرون بأنهم جزء من النسيج الاجتماعي الثقافي والاقتصادي للمجتمع. ذلك بأن كثيرين من الخمسين ألف لاجئ فلسطيني مسيحي، الذين فروا خلال حرب سنة 1948، قصدوا عمّان، حيث ازدهرت أحوالهم في مختلف المصالح، وشكلوا العمود الفقري للطبقة الوسطى الوليدة. أمّا النظم والقوانين التي صدرت عن حكومة الأردن في الخمسينات - والتي تنسب تسيمحوني إليها تضمينات سلبية، لا بل تمييزية بالنسبة إلى المسيحيين، فكان الغرض منها تنظيم العلاقات بين الدولة ومختلف الكنائس والجماعات الدينية، وتأمين التعايش في مجتمع يعاني آثار حرب سنة 1948.
على الرغم من الآليات القانونية والمؤسساتية التي تضمن، فيما يقال، استقلال الجماعات الدينية في إسرائيل، فإن المسيحيين الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية لا يشعرون بأن هذه النصوص تغيِّر شيئاً في علاقاتهم بالسلطات الإسرائيلية. ولا تجانب تسيمحوني الصواب في تقويمها الوضع، إذ تخلص إلى أن "السلطات الإسرائيلية عاملت السكان الأصليين المسيحيين باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من السكان العرب المسلمين" (ص 11). هذا ما يجب أن تكون عليه الأوضاع. لكن المكاسب التي حصل عليها، فيما ترى تسيمحوني، بعض الكنائس وسواها من المنظمات الدينية، خلافاً لأتباعها من السكان الأصليين، إنما هي أقرب إلى أن تكون نتائج ثانوية للمعادلة الفريدة التي تنظم العلاقة بين الدولة والدين في إسرائيل والتي تمنح مزايا مهمة للجماعات الدينية اليهودية وللجماعات الدينية غير اليهودية، تالياً.
وتدرك تسيمحوني مشكلة تناقص عدد المسيحيين الفلسطينيين. والفصل الثاني: "الاتجاهات الديموغرافية"، مفيد لجهة النسب والمقارنات وتفسيرات التناقص: "استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي القائم وغياب أي حل سياسي دائم في المستقبل المنظور... تدهور الوضع الاقتصادي للطبقة الوسطى المدينية التي ينتمي معظم المسيحيين إليها... ومشكلة خاصة هي انعدام السكن بأسعار معقولة ولا سيما في القدس... وانبعاث الإسلام في الشرق الأوسط..." (ص 23 - 24). لكن من الواضح أن هذه التفسيرات، باستثناء انبعاث الإسلام، ترتبط ارتباطاً مباشراً باستمرار الاحتلال الإسرائيلي وبتأثيره الضار في المجتمع والاقتصاد الفلسطينيَين. يقيناً إن انبعاث الإسلام يثير بعض المخاوف والتساؤلات في صفوف المسيحيين، لكنها تظل مفتوحة على المناقشة والحوار داخل الإطار الفلسطيني.
والإسرائيليون، الرسميون منهم والأكاديميون على السواء، شديدو الحساسية حيال مسألة هجرة المسيحيين، ولا سيما ما تنطوي عليه، تضميناً، من مسؤولية إسرائيلية: "مسألة هجرة المسيحيين سُيِّست منذ زمن طويل وباتت تستخدم وسيلة للضغط على إسرائيل في الصحافة الغربية" (ص 30). لكن أيّاً يكن الإرباك الإعلامي بالنسبة إلى الإسرائيليين، فمن الواضح أن الوضع السياسي، مع ما يستتبعه من نتائج اجتماعية واقتصادية، هو العامل الأساسي الدافع للطبقة الوسطى الفلسطينية التي ينتمي معظم المسيحيين إليها..." (ص 23).
وتتبع الفصول 3 إلى 8 منهجية مشابهة؛ إذ يركز كل منها على طائفة أو أكثر من الطوائف المسيحية. والمنهجية المعتمدة تلقي مزيداً من الضوء على الاهتمام الأكاديمي للمؤلفة، إذ ينطلق السرد من لمحة تاريخية، تلم ببعض التطورات أيام الحكم الأردني، ثم تنتقل إلى البنية التراتبية والعلاقات بين رجال الدين وسواهم من المنتمين إلى الطائفة، وأخيراً تتناول المنظمات الزمنية. ويشار بإيجاز إلى قضايا كل من الطوائف ومخاوفها. ومع ذلك، فإن في وسع المهتمين بتقرير وصفي لكل من الطوائف المسيحية وبناها أن يفيدوا من هذه الفصول، ولا سيما الفصل الثالث الخاص بالروم الأورثوذكس، والفصل الرابع الخاص بالأرمن الأورثوذكس. وتغطي فصول الكتاب أكثر من خمس عشرة طائفة مسيحية، وتجعله مدخلاً ممتازاً إلى طيف الطوائف والكنائس المسيحية في القدس والضفة الغربية.
تعويضاً عن الافتقار إلى النظرة الشاملة حيال المسائل والمشاغل التي تقلق المسيحيين الفلسطينيين، تخصص المؤلفة الفصل الأخير (التاسع) لموقف المسيحيين خلال الانتفاضة. "بين المطرقة والسندان: المسيحيون خلال الانتفاضة"، فصل يصور المسيحيين الفلسطينيين في صورة دفاعية اعتذارية خلال مشاركتهم في تجربة الانتفاضة. تقدم تسيمحوني تحليلات لنصوص رسائل بطريرك اللاتين الفلسطيني ميشال أسعد صباح، في شأن الوضع السياسي، للدلالة على تسيُّس أعلى سلطة كاثوليكية في البلد وللتثبت من "أنشطة البطريرك صباح وتصريحاته الميالة إلى الانتفاضة" (ص 170). وتعمد المؤلفة إلى تحليل وريقات وكراريس تتعلق بالعلاقات بين المسلمين والمسيحيين أصدرتها البعثة البابوية بشأن العدل والسلام. ثم تخلص المؤلفة إلى أن "هذه الدعوات حثت المسيحيين على مزيد من المشاركة في الانتفاضة، واستنهضت الفلسطينيين عامة، مشدِّدة على عدالة قضيتهم والوحدة بين المسيحيين والمسلمين" (ص 174). وتناقش المؤلفة ثورة بيت ساحور على الضريبة سنة 1989، وقضية دير مار يوحنا في القدس سنة 1990 من وجهة نظر مساهمة كل من الحادثتين في التضامن الظاهري بين المسلمين والمسيحيين: "لقد مثلت الثورة على الضريبة بالنسبة إلى كثيرين من المسيحيين مساهمتهم في القضية الوطنية ومشاركتهم فيها على قدم وساق" (ص 176). وفي هذه الأثناء "استتبعت حادثة دير مار يوحنا تعبيراً نادر المثال عن التضامن بالإجماع بين مختلف الكنائس المسيحية من جهة والمسلمين، وفيهم المجلس الإسلامي الأعلى، من جهة أُخرى؛ إذ اعتبر الجميع القضية قضية وطنية فلسطينية من الدرجة الأولى" (ص 177).
إن تسيمحوني، اتساقاً مع وجهة نظرها الأكاديمية والسياسية، كانت تودُّ أن ترى المسيحيين الفلسطينيين، ولا سيما زعماءهم الروحيين والزمنيين، يتخذون مواقف أقرب إلى مصالحهم الطائفية الضيقة منها إلى القضايا والمصالح المجتمعية والوطنية. وتبدو منزعجة من بعض المواقف التي يتضمنها كتاب الكاهن نعيم عتيق "العدل ولا شيء إلاّ العدل"، الذي يطرح المأزق الفلسطيني في سياق لاهوت تحرري حديث، ويستعمل مصطلحات توراتية تذكر بالطريقة التي استخدم اليهود فيها هذا اللاهوت لإقامة دولة إسرائيل. إن التماهي الشديد الذي يعرب رجال الإكليروس الفلسطينيون عنه حيال تراثهم الثقافي وقضيتهم الوطنية يبدو مقلقاً لتسيمحوني، التي تعتقد أن من شأن هذا التماهي أن يضعف الطوائف المسيحية داخلياً، فضلاً عن أنه لا يتسق مع معاملة الإسلام لطوائف المسيحيين العرب باعتبارهم ذميين. غير أن المسيحيين الفلسطينيين لم يشعروا قط بأنهم ذميون لأنهم أحرار في المشاركة النشطة في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع الفلسطيني. كما أن ظهور جماعات الحوار التي تشدد على التراث الثقافي المشترك والتي تستضيف مؤتمرات سنوية، مثل "اللقاء"، تشهد على شعور أصيل عند المسلمين والمسيحيين وميل إلى استجلاء المسائل المتعلقة بجماعاتهم الدينية على نحو منفتح وصريح. ولم يقتصر "اللقاء" الذي أنشأته في أوائل الثمانينات مجموعة من الأكاديميين المسيحيين يرئسها الدكتور جريس خوري، على رفع درجة إدراك المسيحيين القضايا والمشاغل التي تواجه جماعاتهم، كما تلاحظ تسيمحوني، بل إنه قام أيضاً بدور أساسي في تسهيل الحوار مع الأكاديميين والمثقفين المسلمين.
إن تشديد تسيمحوني على ميل الطوائف المسيحية إلى الانجذاب نحو المركز* قد فوَّت عليها الاستقصاء الدقيق لنسيج العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر في هذه الطوائف. وفي غياب استقصاء كهذا، فمن المشكوك فيه أن يكون من الممكن استعمال هذا الكتاب للتنبؤ بكيفية تأثير التطورات السياسية الحديثة في الطوائف المسيحية. إذ تشير الدلائل من دراسة للهجرة أجريت سنة 1993 في المنطقة المركزية من الضفة الغربية إلى أن أكثرية المسيحيين الذين يفكرون في مغادرة البلد لن تقدم على ذلك إذا ما ساد السلام والاستقرار في الضفة الغربية وغزة. والمسيحيون الفلسطينيون يفكرون حالياً في كيف يستطيعون أن يشاركوا أفضل مشاركة في إدارة السلطة الوطنية وفي إنشاء الدولة الفلسطينية. وتدور المناقشات حول هذا الموضوع في مختلف الدوائر الكنسية والزمنية. والمسيحيون الفلسطينيون، الذين يرقى وجود بعضهم في البلد إلى بداية المسيحية، هم جزء لا يتجزأ من المجتمع والمشهد الثقافي الفلسطينيَين. والعمل الأكاديمي الذي لا يقبل بهذه الفكرة سيظل محدوداً في تقويمه الاتجاهات الحالية والمستقبلية السائدة في صفوف المسيحيين الفلسطينيين.
* هكذا في الأصل، ولعل المقصود ميل الطوائف المسيحية إلى الهجرة (المترجم).