أيامي: سيرة ذاتية
نقولا زيادة. لندن: هزار يابليشنغ ليمتد، 1992 (جزآن). 610 صفحات
ثمة سؤال لا ينفك يتردد كل مرة ينشب الكلام فيها عن السيرة الذاتية وعلاقتها بالتاريخ، وهو: هل السيرة الشخصية، أكانت ذاتية أم غيرية، مصدر للتاريخ؟ وكيف يمكن التفريق بين السيرة التي تشتبك بالتاريخ وتلك التي تندرج في إطاره، كالسيرة التاريخية مثلاً؟
لقد ميز العرب، بدقة، بين الطبقات والتراجم والسيَر، وإن اشتركت كلها في جذر واحد هو التاريخ؛ فـ "أنساب الأشراف" للبلاذري، و "المغازي" للواقدي، و "الطبقات" لابن سعد تعتبر من كتب الطبقات المشهورة. و "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر، و "تاريخ أصفهان" لأبي نعيم ليست إلا تراجم للرجال المشهورين من علماء كل بلد. أما السيرة فأشهرها، طبعاً، السيرة النبوية التي تنقلت بين أيدي الكُتّاب والمُحدّثين والحُفّاظ، فجاءت على أشكال وضروب، كسيرة ابن هشام، وسيرة ابن إسحق، والسرة الحلبية، وسيرة ابن سيد الناس.
وتكمن قيمة السيرة التاريخية، أكثر ما تكمن، في اشتباكها بالتاريخ، لأنها تدور حول أفراد لهم حضورهم التاريخي، من غير أن يكون لها قيمة، في ذاتها، كمصدر للتاريخ. وربما يكمن شأنها الأكثر أهميةأيضاً، في أن المؤرخ، حين يؤرخ، يستأنسس بالسيرة لكنه لا يعتمدها مصدراً علمياً خالصاً، أو مرجعاً أساسياً من مراجعه.
وفي تاريخنا المعاصر، عرف الأدب العربي الحديث ضروباً من السيرة، كالسيرة الذاتية والسيرة الغيرية والسيرة القصصية. فمن السيرة الذاتية كتب طه حسين "الأيام"، وأحمد أمين "حياتي"، وإبراهيم عبد الحليم "ذكريات الطفولة"، وتوفيق ضعون "سيرة حياتي"؛ ومن التراجم كتب ميخائيل نعيمة "جبران خليل جبران"، ومحمد سعيد العريان "حياة الرافعي"، وشفيق غربال "محمد علي الكبير"، وعلي أدهم "منصور الأندلس"؛ ومن السيرة القصصية كتب توفيق الحكيم "عودة الروح"، وعباس محمود العقاد "سارة"، وإبراهيم عبد القادر المازني "إبراهيم الكاتب"، فضلاً عن مؤلفات جرجي زيدان. وكانت أول سيرة عربية حديثة هي "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق.
واعتدنا، في العالم العربي، أن تقرأ مذكرات السياسيين والقادة ورجال الحكم، وقلما كتب رجال الفكر مذكراتهم أو سٍيَرهم. وفي كلتا الحالتين كان ينقص هؤلاء جميعاً الإحساس بالتاريخ، أي أن يكتبوا بعين المؤرخ، حيث سطوة التاريخ ماثلة في أذهانهم، وحصافة الباحث متغلغلة في سطورهم. أما الدكتور نقولا زيادة، فقد كتب مذكراته الطويلة، كعمره المديد، لا ليتحدث عن السياسة والسياسيين، بل عن الفكر والأدب والثقافة والتربية والعادات والأماكن والرجال؛ كل ذلك بعين المؤرخ الذي يتابع أدق التفصيلات في الوقت الذي لا ينسى رؤية الاتجاهات الكبرى والخطوط الرئيسية.
ولد الدكتور نقولا زيادة في 2 كانون الأول 1907 في باب المصلّى، أحد أحياء منطقة الميدان في مدينة دمشق. فهو، الحال هذه دمشقي الولادة ناصري "الدم". فكأنه من هذه الجهة، يشبه المسيح، ابن بلدته الناصرة، الذي كان، بدوره، ناصري "الدم" تلحمي الولادة. وتغطي مذكراته الفترة الواقعة بين سنة 1907 وسنة 1992، أي ما يقارب خمسة وثمانين عاماً كاملاً. وقد عصفت بالعالم العربي، في هذه الفترة، أحداث جمة كان لها شأن كبير في تقرير المصائر التي انتهت حال البلاد العربية إليها؛ فمن إعلان الدستور العثماني (1909)، إلى قيام الحرب العالمية الأولى (1914)، فانكشاف أمر معاهدة سايكس – بيكو (1917)، وإعلان بلفور (1917)، ثم خروج العثمانيين نهائياً من العراق والشام (1917)، حتى مؤتمر السلم (1919)، فالانتدابين البريطاني والفرنسي (1920)، مروراً بالثورات التحررية العربية في مصر (1919)، والعراق (1920)، وسوريا (1925)، وفلسطين (1936)، حتى النكبة وقيام دولة إسرائيل (1948). ثم ما تبع ذلك كله من حروب وانقلابات وأحزاب ونظريات ومشاريع وهزائم وانهيارات.
يسرد الدكتور نقولا زيادة الأحداث التي عاشها خلال هذه الفترة بدقة وعناية فائقتين، مع التذكير على بلاد الشام، وفي القلب منها فلسطين. والمذكرات، في طبيعة الحال، ليست سرداً للأحداث التاريخية الناشبة، ولا للمفارق السياسية العاصفة، وإنما هي مذكرات شخص عاش في خضم هذه الأحداث، فروي سيرته أولاً وسيرة عائلته ومحيطه ومجتمعه، ثم ما أحاط به من تقلبات وأحوال، بذاكرة عجيبة مدهشة تلتقط أدق التفصيلات والتواريخ وأسماء الرجال والنساء والأمكنة.
لقد ظهر الدكتور نقولا زيادة في هذه المذكرات وقد أضاف إلى مواهبه المتعددة موهبة جديدة هي فن السرد، فكان حاذقاً في رواية الطرائف والمُلَح، ماهراً في سرد المواقف المحرنة، ولا سيما قصة موت والده التي تكاد تستنفز الدمع من عيون القرّاء؛ لكأنها دراما إنسانية تصلح أن تكون فيلماً سينمائياً ساحراً، على غرار فيم "بائعة الخبز" أو فيلم "البؤساء".
يقيناً، إن "أيامي" ليست مذكرات سياسية، فصاحبها لم يشتغل بالسياسة مباشرة ولا تشغله السياسة يوماً عن حياته الفكرية والثقافية والتربوية. لكن هذه المذكرات تكتظ بأخبار رجال السياسة والفكر والأدب والتربية، وبأخبار الكثيرين ممن صار لهم شأن في عالم السياسة في ما بعد. وهذه المذكرات، وإن تكن تأريخاً لكثير من الأماكن، فهي ليست تاريخاً لمدينة يعينها. لكن لدمشق فيها مكانة مميزة ومكاناً رحباً. وعلى الرغم من أن الكاتب لم يعش في أرجائها وأحيائها إلا طفولته المبكرة، فهو يسترسل في وصف المدينة وأحيائها وأسواقها وأمكنتها وأسواقها وأمكنتها وشوارعها وكنائسها وجوامعها وجيران الطفولة والناس فيها. وهو يحتفظ لهذه المدينة بوَلَه حار وحنين لاهب، لكأن ذاكرته ر تنفك تستحضر نفسها حنيناً إلى دمشق وأهلها وجيرانه فيها، وكأن نقولا زيادة حينما يتكلم على دمشق يتكلم بسلطان الشعر والعاطفة لا بسلطان التاريخ وعين المؤرخ، فجاءت كلماته أنشودة حب وقصيدة وفاء لهذه المدينة العابقة بالتاريخ وسحر الماضي وشواهد السنين.
يمزج كتاب "أيامي" بين السيرة والاعترافات، ويكاد يتفرد بشجاعته على الذات وجرأته على المحرمات، وسطوته على التزمّت حينما باح بتفصيلات حميمة لم نعهدها في كتب المتأخرين، أمثال محمد مهدي الجواهري ("ذكرياتي")، وميخائيل نعيمة ("سبعون")، وهشام شرابي ("صور الماضي")، وجبرا إبراهيم جبرا ("البئر الأولى")، إنه أقرب إلى "يوميات أندريه جيد"، و "اعترافات جان جاك روسو"، واعترافات تولستوي والقديس أوغسطين التي شجعت الميل إلى تعرية النفس المتلبسة بالآثام. فالدكتور نقولا زيادة الذي عاش في بيت لا رجل فيه، فلا أب ولا عم ولا خال، تجرأ على الحديث عن تفتح غرائزه، وعن الإغواء الذي تعرًض له من بعض الفتية النابلسيين، ثم اعترف أنه لم يعرف امرأة إلا سنة 1935 فيث أوروبا، وكان في الثامنة والعشرين. وبين هذه المشاهد من التذكر جاء وصف عرسه على زوجته الأولى، مرغريت شهوان، أشبه بقصيدة حب ووفاء لم تُنسه الأيام دقائقه ولم تخنه الذاكرة في أبسط تفصيلاته.
نقع في كتاب "أيامي" على فيض من المعلومات والحكايات والمعارف والطرائف، وفيه الكثير مما يقوّم معرفتنا بالأزمنة والأمكنة والأحوال والرجال؛ فنعرف أن الاسم الأصلي لدرويش المقدادي هو درويش الحاج إبراهيم، وأن روبرت كفلكنتي هو روبرت تلحمي، ونمر العليمي هو نفسه نمر حبيب، ونمر الهواري هو في الأصل محمد نمر، ومحمد العدناني كان اسمه محمد خورشيد واختار العدناني لقباً لنفسه تفاخراً بأجداده العرب. وبيدو أن الدكتور نقولا زيادة لم يترك شاردة مرت بأيامه ولا واردة مرقت في ذهنه إلا سجلها في هذه المذكرات. وأحسب أن صاحب المذكرات أرادها، كما هي، شاملة كل صغيرة وكبيرة، وفيها تفصيل يصل حد المبالغة. غير أن المذكرات أغفلت أمراً مهماً مكا كان يجب أن تغفله بعد هذا الجهد الكبير في التذكر والتدوين والمراجعة. وما أغفلته المذكرات ليس حدثاً عابراً أو أمراً بسيطاً ربما تمكّن من الإفلات من قبضة التذكر، بل هو جزء مديد في أيام الدكتور زيادة ولصيق بحياته الفكرية وعطائه الأدبي، أعني بذلك "الموسوعة الفلسطينية". لقد عمل الدكتور نقولا زيادة في مشروع الموسوعة الفلسطينية منذ بدايته، فكان أحد كُتّاب القسم العام الذي صدر سنة 1984 في أربعة مجلدات. وكان عضواً في لجنة خبراء القسم الخاص الذي صدر سنة 1990 في ستة مجلدات، فضلاً عن عضويته في اللجنة التحضيرية للتخطيط والتكليف من سنة 1985 حتى سنة 1988، وإشرافه على الصور المستخدمة في الموسوعة وكتابته دراسة بعنوان: "فلسطين من الإسكندر إلى الفتح العربي الإسلامي". وبعد هذا، لم تحظ الموسوعة الفلسطينية في مذكرات الدكتور زيادة بأي ذكر البتة. نعم، ولا حتى كلمة واحدة! فقط هناك صورة واحدة له، من بين عشرات الصور المنشورة في الجزء الثاني من المذكرات، كتب تحتها: "في مكتب الموسوعة الفلسطينية ببيروت 1985". وأحسب أن ليس من حقي أن أقيسَ على هذا النقصان لأتساءل: هل هناك أمور أخرى مهمة أغفلتها ذاكرة الدكتور نقولا زيادة أيضاً؟ لكنني أعتقد أن مثل هذا النقصان، على فداحته، ربما جاء عفو الخاطر فصار إلى سوء التقدير.