Shoufani, A Journey of Emigration
Reviewed Book
Full text: 

رحلة في الرحيل: فصول من الذاكرة.. لم تكتمل

إلياس شوفاني. بيروت: دار الكنوز الأدبية، 1994. 304 صفحات.

 

هل للتاريخ فائدة حقاً؟ وهل يقدم التاريخ للأفراد والجماعات عِبَراً وأمثولات؟ وهل اعتبر القادة يوماً بالتاريخ فاتعظوا وازدجروا؟ يقول ابن الجوزي: "إن التواريخ وذكر السِيَر راحة للقلب وجلاء للهم وتنبيه للعقل." وهذا القول الثاقب يعترف بأن لا فائدة جوهرية من التاريخ، وفائدته الوحيدة تكمن في المتعة الذهنية (تنبيه العقل) وفي المتعة النفسية (جلاء الهم وراحة القلب) فقط. فالتاريخ، على مر العصور والأزمنة، لم يبرهن قط عن أنه قدّم دروساً مفيدة فعلاً للناس والسوّاس بحيث يمكن اقتداؤها والاتعاظ بها.

إذا كان ثمة جدوى من إثارة مثل هذه التساؤلات، فما الجدوى، إذن، عدا المتعة الذهنية، من السيرة الناقصة للدكتور إلياس شوفاني؟ لقد تخرج الدكتور شوفاني في جامعة برنستون سنة 1968، وكانت أطروحته للدكتوراه بعنوان: "حروب الردة: الفتح الإسلامي للجزيرة العربية". إنه، إذن، أستاذ في التاريخ؛ لكنه كتب هذه "الفصول" من غير الإحساس بالتاريخ؛ فأغفل أسماء الكثير من الأشخاص بلا سبب وجيه، وقفز فوق الكثير من الحوادث المهمة بلا حكمة ظاهرة، ولم يتمسك بتدوين التواريخ التفصيلية عند الانتقال من محطة إلى أُخرى، الأمر الذي أفقدنا القدرة على متابعة التدرج الزمني لهذه السيرة الناقصة.

يعترف الدكتور شوفاني بأن "هذه الفصول ليست مذكرات شخصية ولا هي سيرة ذاتية، بل هي، في الغالب، تداعيات من الذاكرة" (ص 7). صحيح أن هذا الكتاب الموسوم بـِ "رحلة من الرحيل" ليس تاريخاً أو تحليلاً أو دراسة، كما أنه ليس مذكرات أو يوميات، لكنه، في إطاره الشامل، مزيج من التذكر والتاريخ والنقد والتحليل، ولا سيما في مطالعته الوافية عن إسرائيل وعلاقتها بالولايات المتحدة. وهذا الاعتراف لا يعفي الكتاب من الإقرار بالنقصان، وهذا المزيج الممتع من الذكريات وهذه الجولة الدافئة في الأفكار والرجال والأزمنة لن يتمكنا من التملص من النقد الموجه إليهما بمعيار التاريخ والنقد التاريخي، وفي هذا تفصيل.

كُتبت هذه "الفصول"، ثم نُشرت في فترات متباعدة ومن دون تخطيط مسبق أو التزام أن تتحول هذه الفصول إلى ما يشبه السيرة. فالفصل الأول كُتب سنة 1972 بالإنكليزية، ونشرته Journal of Palestine Studies، ثم أعادت مجلة "مواقف" نشره بالعربية في 23 أيلول/سبتمبر 1972. وكُتب الفصل الثاني سنة 1978 ونشرته مجلة "شؤون فلسطينية" في العدد الرابع والثمانين، ثم نُشر الفصل الثالث في العدد التاسع والثمانين من المجلة ذاتها. أمّا الفصول الباقية فقد كُتبت سنة 1992، وها هي تُنشر في سنة 1994. ولا شك في أن ثمة رابطاً يجمع هذه الفصول بعضها إلى بعض، ويعطي لنشرها في كتاب مستقل مشروعية أدبية. فهذه "الفصول" لو جرى إحكامها بطريقة أُخرى، ولو جرى شد أطرافها وسد ثغراتها ونواقصها، لجاءت سيرة ذاتية على أحسن ما تكون عليه السِيَر: حارّة وممتعة وجميلة في آن معاً. وكان في الإمكان تفادي هذا التباعد في زمن كتابة بعض فصولها بإضافة بعض "اللواصق" التاريخية والكثير من الهوامش التي تُعرب ما استعجم وتوضح ما استشكل كي يتسق النص ويصبح ذا فائدة مبررة.

يتعمد الدكتور شوفاني، في معظم الأحيان، إغفال أسماء الرجال، أكانوا أشخاصاً عاديين أم مثقفين أم أعلاماً بارزين. وهو يتحدث عنهم من غير أن يخبرنا بأسمائهم، كأن يقول: "عملتُ مساعداً لأستاذ التاريخ العربي في فجر الإسلام وضحاه. كان مستشرقاً نمساوي الأصل والفصل، درس في فيينا وهاجر إلى فلسطين..." (ص 103). وهكذا، من غير أن يفصح عن اسم هذا المستشرق المهم. وقد جرت العادة، عند المؤرخين أو الباحثين، أن يذكر المرء أساتذته وشيوخه والذين قرأ عليهم؛ ففي ذلك، فضلاً عن العرف، فائدة مزدوجة هي معرفة الرجال بأسمائهم، وتتبع مآثرهم ونوادرهم.

كذلك يروي الدكتور شوفاني الكثير من الحوادث ذات المغزى. لكنه، بسبب إغفاله ذكر الأسماء، تفقد هذه الحوادث أَلَقَها وعِبرتَها، مثلما تفقد طرافتها ومطابقتها التاريخية وإمكان التحقق من سياقها. حتى إن مبالغته في إغفال الأسماء تصبح بلا معنى حينما يتحدث عن شخص مغْفَل ثم يشير إلى أحد أشهر كتبه، فيقول في الصفحتين 131 و 132: "كان في الجامعة أستاذان فلسطينيان. أحدهما من الناصرة أصلاً (...) أمّا الثاني فهو من يافا أصلاً. أستاذ في دائرة التاريخ الحديث. تخرج في جامعة شيكاغو. وله مزاجه الخاص الذي وصفه في أحد كتبه ›جمر ورماد‹. وإذا لم يكن من السهل التقرب كثيراً من الأول، فإن صداقتي مع الثاني توطدت عبر السنين اللاحقة سواء في أميركا أو في بيروت." وهكذا لم يُصرح الدكتور شوفاني باسمي هذين الأستاذين، ولا سيما صديقه الحميم، علماً بأن أي قارئ يعرف أن صاحب "جمر ورماد" هو الدكتور هشام شرابي. ولا أظن أن هناك أي سبب أمني أو سياسي أو غير ذلك يفرض إغفال اسمه بعد أن جرى التلميح إليه في معرض الإشارة إلى كتابه المشهور "جمر ورماد".

وفي مكان آخر، وفي معرض الحديث عن "الندوة العالمية الثانية عن فلسطين" التي عقدت في الكويت في 13 شباط/فبراير 1971، يقول: "افتتح الندوة رسمياً عضو اللجنة المركزية لحركة ‹فتح› (...) الذي تخرج مهندساً معمارياً من جامعة هيوستن في ولاية تكساس الأميركية، وكان من المؤسسين لحركة التحرير الوطني الفلسطيني - ‹فتح›. تخرج وعاد للعمل في الكويت" (ص 141).

من هو المهندس المعماري عضو اللجنة المركزية هذا؟ هل ثمة، بَعدُ، أسرار في أسماء القادة الفلسطينيين؟ إن معرفة هذا الرجل هي من أسهل الأمور؛ إذ يكفي العودة إلى "اليوميات الفلسطينية" لسنة 1971، التي كان الدكتور أنيس صايغ يشرف على إصدارها في مركز الأبحاث الفلسطيني، لنعرف أن الشخص المقصود ربما كان الدكتور زهير العلمي. فما الحكمة أو العبرة، إذن، في إغفال اسم الدكتور زهير العلمي؟ أهي الاستهانة أم التقليل من شأنه؟ إن القاعدة المأنوسة في مثل هذا الضرب من الكتابة، كالنقل والرواية والمذكرات، هي أن عدم ذكر الأسماء ليس من آداب المتحدثين.

ولد الدكتور إلياس شوفاني في قرية معليا، في الجليل الغربي، بتاريخ 1 نيسان/أبريل 1934، لكن ذكرياته في هذه "الفصول"  تبدأ في 31 تشرين الأول/أكتوبر 1948 حينما اضطر إلى مغادرة منزله تحت ضغط القوات اليهودية وإلى الاختباء في كروم الزيتون المحيطة بقريته. ويمر شريط الذاكرة بتمهل فيخبرنا كيف نسفت الهاغاناه منزل والده الذي كان تسلل إلى بلدة رميش اللبنانية هرباً من مطاردة القوات اليهودية، وكيف ساقه اليهود بشاحنة، مع عدد من الشبان الآخرين، إلى آخر نقطة عند حدود الأردن، حيث جرى إنزالهم وإبعادهم إلى الضفة الشرقية، ومن هناك إلى لبنان حيث التقى والده وبقي خمسة أشهر قبل أن يعود متسللاً إلى قريته ليصبح بعد وساطة مطران الروم الكاثوليك في حيفا - المطران حكيم الذي صار بطريركاً فيما بعد - من حَمَلة البطاقة الحمراء، أي من المقيمين بصورة موقتة، بحسب قانون المحتل الإسرائيلي الجديد. ثم تعود ذاكرته لتروي "قصة معليا" وتاريخ بناء إحدى حاراتها على أيدي نصارى هاجروا من لبنان سنة 1860، وكيف صارت هذه الحارة تدعى حارة الشوافنة، ثم علاقة البلدة بالقرى المجاورة، مثل ترشيحا والكابري، وبالقبائل البدوية الضاربة في ظاهرها كقبيلة السويطات. ثم تنتقل الذاكرة لتتحدث عن المشكلات التي نشبت بين جيش الإنقاذ والفلاحين الذين أنهكتهم كتائب هذا الجيش بالسخرة والخدمة والحراسة. إنها قصة معليا قبل سقوطها سنة 1948، ثم قصتها مع الاحتلال. وحكاية هذه القرية مع الاحتلال هي حكاية الأرض أولاً وأخيراً. وهذا ينطبق على جميع القرى العربية الأُخرى التي ظل أهلها فيها، والتي نما الصراع بشأنها حتى وصل إلى ذروته في "يوم الأرض" في 30 آذار/مارس 1976: "في الداخل كنا نعرف ما يلاقيه إخواننا في الخارج. كنا نعلم أن هاجسهم الأول هو العودة. لقد تشردوا وذاقوا الأمرين. وكان طبيعياً أن يتطلعوا إلى العودة. أمّا نحن فقد ذقنا المر مرتين. ولكننا، على العموم، لم نتشرد. وعليه، فلم تكن العودة على رأس همومنا. كنا في بلدنا وفي بيوتنا أحياناً، ولو اختلفت الأحوال وانقلبت الأمور. كنا نتعاطف مع تطلعات أبناء شعبنا في الخارج لكننا كنا نشفق عليهم من العودة... فلا تكون عودتهم افتداء لنا من إسارنا، كما لا تكون انعتاقاً لهم من محنتهم. كنا نشفق عليهم أن يتخلصوا من اللجوء ليغرقوا في القمع" (ص 70).

انتهت تجربة الدكتور شوفاني مع الاحتلال الإسرائيلي في 15 آب/أغسطس 1962، عندما غادر ميناء حيفا متوجهاً إلى الولايات المتحدة للدراسة (عاد إلى فلسطين مرة واحدة فقط في صيف سنة 1968 لزيارة والده المريض ثم لم يعد إليها قط). لقد طوّحت الأيام به وجرجرت قدميه في رحلة متعبة متواصلة من فلسطين إلى الولايات المتحدة ثم إلى بيروت فإلى دمشق... فكان كمن تخطفته أيدي سبأ، فيه من كل مطرح أثر، وفي كل مطرح منه أثر.

في الجانب الآخر من هذه "الرحلة" يرحل الدكتور شوفاني بحنين موجع وبدفء لذيذ إلى بدايات تجربته السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، وكيف عصفت رياح السياسة به فألجأته إلى لبنان، حيث خاض غمار هذه التجربة بكل اندفاع وحماسة، فيعرض لانضمامه إلى حركة "فتح" في الولايات المتحدة، ثم لعمله في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، فضلاً عن مركز التخطيط الفلسطيني. ثم يقدم مراجعة نقدية للمسيرة الفلسطينية التي تقهقرت من "برنامج التحرير" سنة 1965 إلى "البرنامج المرحلي"  سنة 1974، حتى "برنامج الاستقلال" سنة 1988، فيلاحظ أن التخلي عن "برنامج التحرير" لمصلحة "برنامج الاستقلال" شكل تراجعاً مذهلاً، وكان يجب أن يكون الاستقلال تتويجاً لبرنامج التحرير (الفصل التاسع). وهذا التراجع، من بين أسباب أُخرى، فسح في المجال، في رأيه أمام نمو جهاز الدولة على حساب أداة الثورة (الفصل العاشر). ولهذا راح يصب مدفعية نقده على أحد أبرز شعارات هذا التراجع، وهو شعار "استقلالية القرار الفلسطيني" (الفصل الحادي عشر).

إن أكثر المراحل إثارة وصخباً في حياة الدكتور شوفاني هي مرحلة ما بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في أواخر آب/أغسطس 1982، وبالتحديد مرحلة دمشق التي شهدت سنة 1983 خروج "فتح-القيادة الموقتة" على الجسم العام لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، وانتماء الدكتور شوفاني إلى هذه الحركة الجديدة ـ القديمة وتسلمه مهمات قيادية فيها. إن بذور هذا الانشقاق تعود إلى مرحلة سابقة شهدت ظهور ما يسمى "التيار الديمقراطي" في حركة "فتح"، أو ما كان يدعى "يسار فتح". غير أن الدكتور شوفاني آثر أن يتوقف، في رحلته هذه، عند يوم 26 آب/أغسطس 1982، وهو آخر يوم له في بيروت، من دون أن يتجاوز ذلك إلى الدخول في الأنفاق الصعبة. ولعل في هذا التمهل حكمة. ولعل الأيام تُنضج موقفاً نقدياً من هذه التجربة أكثر عمقاً ودراية.