المحنة العربية: الدولة ضد الأمة
برهان غليون. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993.
ثمة مفارقة حضارية، وهي في الآن ذاته إشكالية نظرية، تقول: لماذا شهدت الإنسانية منذ مطلع القرن الماضي تقدماً مطرداً في اتجاه الديمقراطية، وفي الوقت ذاته كان العالم يشهد تراكماً للسلطة ونمواً متسارعاً في نظم العنف وآليات الاستبداد السياسي؟
إن كتاب الدكتور برهان غليون: "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة" محاولة لفك حدّي هذه المفارقة، وسعي ممتاز لتفسير هذه الإشكالية. وهو، إلى ذلك، تأمل نقدي في واقع المجتمعات المعاصرة، ولا سيما المجتمعات العربية، وتأمل نقدي في العلوم الاجتماعية وفي النظريات السائدة بشأن السياسة والدولة، كالليبرالية والماركسية،. وهو يرى أن ما تعرضت الماركسية له من نقض تاريخي، انتصار الليبرالية.
والكتاب محاولة في تفسير القطيعة بين المجتمع والدولة الحديثة في العالم العربي، وهو يخالف الأفكار الأنثروبولوجية التي تركزت على العوامل الثقافية والبنى الدينية مثلما يخالف الأفكار التاريخانية التي تشدد على العوامل الخارجية وعلى الإمبريالية كمنطق لفهم أصل السلطة الاستبدادية العربية الراهنة. ويعتقد أن "الماضي لا يفسر الحاضر"، ذلك لأن النظريات التي تحاول أن تعيد الاستبداد الحديث إلى مقولة "نمط الإنتاج الآسيوي" أو "مركزية الحضارات المائية" تتجاهل أن التاريخ الماضي غيَّره التاريخ الحاضر، وأن جوهر الاقتصاد المعاصر صار لا يرتكز، في أية دولة، على توزيع المياه. والدولة الحديثة، المستبدة، نشأت في معمعان الصراع ضد الاستعمار بهدف نيل الاستقلال الوطني، واستيعاب الحداثة، والاندراج في الحضارة العالمية. فهي على مثال دولة القيصر بطرس الأكبر التي أدى فشلها في التحديث إلى تفجير ثورة أكتوبر البلشفية سنة 1917؛ وهي دولة السلطان عبد الحميد الثاني التي أدى إخفاقها إلى تفكك الإمبراطورية وظهور قيادة أتاتورك وحزب الاتحاد والترقي؛ وهي دولة محمد علي باشا التي قادت هزيمته إلى انهيار مصر وسقوطها في التبعية المباشرة لبريطانيا، وهي، أخيراً، الدولة الشاهنشاهية في إيران التي قاد فشل التحديث فيها إلى ظهور دولة شاملة تستند إلى الدين في شرعيتها.
يعتقد الكاتب أن الدولة التحديثية المعاصرة ماتت. وفي كتابه هذا يحلل الأوضاع العربية الراهنة، ومركّزاً على الحقية الاستقلالية كي يتقدم في تفسير أصل الدولة التحديثية ونشوئها وولادتها وموتها. ويستنتج أن الاستبداد في الدول الحديثة لا علاقة له بالاستبداد القديم؛ فأصل الاستبداد الحديث هو الدولة الحديثة ذاتها التي أفلست تماماً بعدما جيرت سلطاتها الاحتكارية لمصلحة فئة قليلة متحكمة فيها، فأضافت إلى الاستبداد المطلق الفساد الشامل.