"13 أيلول"
أنيس صايغ. بيروت: مكتبة بيسان، 1994.
قرر الدكتور أنيس صايغ أن يهجر لبنان نهائياً بعد إقامة دامت نحو خمسة وأربعين عاماً. وعلى غرار أحمد فارس الشدياق منذ 150 عاماً، اختار مالطا مهجراً جديداً له ولزوجته، يعتزلان فيه العالم وشؤونه وشجونه، وينصرفان عن الناس وعما يضر بالناس إلى ما ينفع النفس والبدن والناس.
لقد أحب أنيس صايغ بيروت إلى درجة العشق عندما كانت منارة للعلم، وموطناً للديمقراطية، وموئلاً للمضطهدين، ومناخاً من الحرية، ومساحة من الجمال، ومجالاً للقضايا الكبرى والطموحات الكبيرة. أحب بيروت عندما كانت كتاباً وصحيفة ومطبعة، وشعلة تتوهج وأحلاماً تستيقظ وأفكاراً تتصادم ونظريات تومض وأحزاباً تخبو وأُخرى تنهض. لكن تقلبات الأيام وتحولات الدهور ألجأته إلى الهجرة قسراً. غير أن الحنين إلى بيروت ما انفك يُقلِّب مواجعه ويحرض وجدانه وخياله، ويستدعيه، بقوة الشوق، إلى العودة ثانية إلى بيروت ولو في زيارة خاطفة. وها هو بعد أعوام خمسة في المهجر القسري يشد رحاله إليها. فماذا وجد فيها، وماذا شاهد وماذا سمع؟
وجد بيروت مدينة للخيبة وعاصمة للمرارة وكتلة من البؤس والهلع؛ فالجامعة الأميركية، حيث تعلَّم، يرئسها يهودي يدعى "إلياهو بن شلومو". ودائرة التاريخ العربي فيها صار اسمها "دائرة العلاقات العربية – الإسرائيلية". ومركز دراسات الوحدة العربية صار اسمه "مركز دراسات التطبيع الشرق الأوسطي". وقريباً منه كان يقوم مركز الأبحاث الفلسطيني الذي كان أنيس صايغ ثاني مدير له بعد شقيقه الدكتور فايز صايغ: لقد اندثرت مكتبة مركز الأبحاث الفلسطيني منذ سنة 1982، ثم مات المركز بعدها ودُفن في قبرص. لكن العجيب أن أحد المديرين اللذين خلفا الدكتور أنيس صايغ صار سفيراً لمحمية غزة – أريحا في إسرائيل، وصار الآخر سفيراً لإسرائيل في غزة – أريحا.
المؤكد أن الدكتور أنيس صايغ لم يهجر بيروت قط، ولم يغادرها إلى مالطا بتاتاً، وحتى الآن ما زالت الجامعة الأميركية في مكانها، ورئيسها أميركي من أصل سوري.. إنها الكوابيس الراعبة التي اجتاحت مخيلة الدكتور صايغ بعد توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن يوم 13 أيلول/ سبتمبر 1993، فأفرغها على الورق بعد صمت دام عشرة أعوام تقريباً. فالدكتور صايغ أصيب، في جملة ما أصيب به، بنعمة النوم على عكس غيره ممن أصيب بنقمة الأرق. لكن مصيبته أن الكوابيس تلاحقه في صحوه ومنامه. والمشهد السابق لبيروت كان أحد الكوابيس الكثيرة التي نثرها في هذا الكتاب الشائق والمميز (أنظر: "جولات في بيروت في العام 2000"، ص 219).
يعود أنيس صايغ إلى الكتابة بعد عشرة أعوام من الصمت. لقد كان اتفاق 13 أيلول/سبتمبر 1993 محطة صار ما قبلها تاريخاً وما بعدها تاريخاً. وحرّضه هذا الاتفاق على الخروج من الصمت الذي طال زمنه؛ فجاء كتاب "13 أيلول" صورة بالأشعة الخارقة وبالرؤية الحارقة وبالمجهر المكبر عن الواقع العربي الراهن، ولا سيما الواقع الفلسطيني، بكل تداعياته وأوهامه وضوضائه. إنه نقد حاسم لا يرحم للقيادة الفلسطينية وللمعارضة الفلسطينية على السواء: الأولى للمسالك التي اختارتها وللخيارات التي سلكتها وللمصائر التي انتهت إليها، والأُخرى لعجزها وسكونها وخمولها وسكوتها ومشاركتها في المسؤولية عن الانحدار الذي صارت منظمة التحرير الفلسطينية إليه، وعن التدهور الذي نأى بالحركة السياسية الفلسطينية بعيداً عن مراميها.
والكتاب ينضج بمرارة وتهكم لا يلائمان أصحاب العبوس الثوري والجدية الزائفة. إنه أشبه بـ"فشة خلق" يصب غضبه، من خلالها، على الولايات المتحدة الأميركية والفلسطينيين والعالم العربي؛ بل هو خروج من أملاح البحر الميت التي خرّشت جلده أعواماً عشرة. لقد صمت أنيس صايغ لحماية مشروع الموسوعة الفلسطينية الذي ساهم فيه نحو 240 كاتباً عربياً وفلسطينياً من ذوي العلم والرأي والخبرة. وعندما أراد البعض وأد هذا المشروع لم يقف أي واحد من هؤلاء الكُتّاب إلى جانبه، فخاض معركة الموسوعة وحريتها واستمرارها وحده بلا نصير أو ظهير. لهذا رأى الدكتور صايغ مثقفي العالم العربي، إلا أقلهم، وقد انقسموا صنوفاً وضروباً وأنواعاً: فهناك المثقف البلطجي الضارب بسيف السلطان، والمثقف الحربجي الإرهابي في ثوب العالِم، والمثقف الحكوجي مطرب السلطان، والعرضحالجي الذي يكتب للسلطان ما يريد السلطان أن يقول، والمكوجي والخزمتجي، وعلى شاكلتهم المصلحجي والعربجي والوطنجي والمشكلجي والمشاريعجي والبستانجي والهيلمجي والإفرنجي والإسفنجي والغليونجي، وهناك البرج عاجي والمزاجي وازدواجي (أنطر: "الأيدي الملوثة"، ص 47).
إن كتاب "13 أيلول" كتاب واحد في كتابين: الأول بعنوان: "اتفاقية 13 أيلول: الخطأ والخطر"، وهو مجموعة من المقالات والمقابلات والمداخلات التي تعرضت لاتفاق "غزة – أريحا أولاً". وفي هذا القسم فنّد الدكتور صايغ الاتفاق المذكور، كاشفاً الثغرات التي خرّقته والعيوب التي شابته، مبيناً مخاطره على مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته وعلى المنطقة العربية بأسرها. ويبدو الدكتور صايغ، هنا، معارضاً متفرداً ومستقلاً، يختلف عن جميع صنوف المعارضة العربية والفلسطينية، الرسمية منها والحزبية. لقد دان الاتفاق وموقّعيه، لكنه أنكر على المعارضة اليوم تاريخها الماضي وحمّلها بعض المسؤولية عما وصلنا إليه، كاشفاً عجزها عن مواجهة الحقائق الجديدة (أنظر: "رسالة إلى قادة الفصائل العشرة"، ص 117).
أما الكتاب الآخر فهو بعنوان: "ذكريات العام 2000". وهو يختلف تماماً عن الكتاب الأول. إنه كتاب الهواجس الموحشة والكوابيس السود والهذيان الراعب والنهايات البائسة، حيث يحاول أنيس صايغ أن يتخيل حال الأمة مع فاتحة القرن الجديد في ضوء اتفاق "13 أيلول"، فيرى، كما يرى الرائي لا كما يرى النائم، أن اليهود تسربوا إلى بيوتنا وناموا في أسرّتنا وتسربلوا بشراشفنا وتزوجوا نساءنا وأغووا بناتنا وسيطروا على شبابنا واستحمروا رجالنا واستعمروا بلادنا، وما زال الرؤساء إياهم، والقادة على ديدنهم، والمعارضون في اعتراضهم حتى يتمكنوا، فإن دام الأمر لهم بطشوا بالمعارضة. وما زال الشعب مركوباً والنخبة إما راكبة أو مغلوبة، والمثقفون باعة كلام، والكلام القديم ما انفك يدور في الأفواه الجديدة، وما زال الحال مقيماً، فسبحان مبدّل الأحوال ومقلِّب الآمال.
كتاب "13 أيلول" كتاب ممتع ومدهش في آن واحد. لقد جمع المتعة إلى الفائدة إلى الإبهار. وتمكن بعذوبة فائقة أن يتحرك بعقولنا ومشاعرنا من الجدية والرصانة في قسمه الأول إلى السخرية المرة والغرائبية المريرة في قسمه الثاني. وعندما ينطوي القارىء آخر صفحة فيه يكتشف أمراً مفاجئاً: إن الدكتور أنيس صايغ ملك في الفكاهة السوداء وسيّد في فن الكاريكاتير، وكاتب يمتلك أسلوباً لماحاً أحياناً وساخراً أحياناً أخرى. إنه، باختصار، هجّاء خطير من عيار جرير وأترابه.
لقد أخفى ابن طبريا (أنيس صايغ) تحت ياقته ابن الرومي كما لو أنه ساحر مميز، وهو، بالتأكيد، ساخر ممتاز. وهذه السخرية فريدة، وليست من صنف السخرية الضاحكة على الطريقة المصرية، بل سخرية مجبولة بالمرارة والألم والخيبة وتقلبات الدهور وعثرات الأيام. ولعل في قلب هذا الهذيان والسوداوية يكمن الحافز إلى تخطي سواد الأيام، والدافع إلى التغلب على شروط الحاضر.