Abu Gharbiyeh, In the Midst of the Struggle
Reviewed Book
Full text: 

في خضم النضال العربي الفلسطيني مذكرات المناضل بهجت أبو غربية 1916 - 1949

بيروت: مؤسسة الدرسات الفلسطينية، 1993.

 

يكاد يكون الارتباط كاملاً بين ولادة ونشأة المناضل بهجت أبو غربية – مؤلف كتاب "في خضم النضال العربي  الفلسطيني" (وهو مذكراته عن الفترة الممتدة من سنة 1916 إلى سنة 1949) وبين ولادة ونشوء وتطور فكرة إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين – ومن ثم القضية الفلسطينية بمجمل مراحلها، بدءاً بوعد بلفور وانتهاء بانسحاب الجيش العربي المصري الذي كان محاصراً في الفالوجة في إثر توقيع مصر اتفاقية الهدنة في رودس في 24 شباط/ فبراير 1949، وهي الاتفاقية التي وقعها الأردن في 3 نيسان/أبريل 1949 فشكلت خاتمة رحلة طويلة وشاقة من المؤامرات الدولية والخيانة والضعف العربيين، بما في ذلك المقاومة العربية والفلسطينية، التي شاب الضعف والتذبذب والخيانة بعض رموزها.. وصولاً إلى التسليم – طوعاً أو كرهاً – بما أرادته الصهيونية العالمية، مدعومة من الغرب الاستعماري (ولا سيما بريطانيا وأميركا)، إذ حققت في اتفاقية رودس ما لم تكن حصلت عليه بالحرب والمجازر والتواطؤ!

من هنا فإن كتاب المناضل بهجت أبو غربية يتجاوز كونه مذكرات ليشتمل على تاريخ وتوثيق للكثير من مراحل النضال الفلسطيني في ثلاثة وثلاثين عاماً من عُمْر الشخص وعُمْر القضية المتلاحمين والمتداخلين حتى لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، وهو ما يعطي قدراً عالياً من الصدقية لقوله:

"سأقدم في الفصول المقبلة ترجمة لحياتي، وليس تأريخاً للقضية الفلسطينية. ولكنني مضطر إلى التعرض للقضية الفلسطينية، بل إلى جوانب من القضية القومية، في سياق الحديث عن تاريخ حياتي، لأن حياتي الشخصية ارتبطت بالقضية الفلسطينية والنضال العربي من ناحيتين:

"الأولى: هي الفترة التاريخية، فقد ولدت مع ولادة قضية فلسطين وعشت شبابي بل معظم حياتي في أخطر مراحل هذه القضية.

"الثانية: إنني لم أعش على هامش هذه القضية وأحداثها، بل شاركت في نضال شعبنا ضد الهجمة الاستعمارية الصهيونية على الأمة العربية في القرن العشرين....

"وسيرى القارىء أنه لم تكن في حياة تاريخية خارج إطار القضية الفلسطينية بخاصة والقضية العربية بعامة." (ص 1)

وهكذا، يكون أبو غربية قد قرّر سلفاً أن يقدم لا مذكراته فحسب، والتي يمكن أن تقتصر على سرد الأحداث والوقائع التي عايشها، مشاركاً أو شاهداً أو مستمعاً، بل أيضاً الوثائق والأحداث التي تجعل كتابه مزيجاً من المذكرات والتأريخ والتوثيق لعشرات، ولربما لمئات المعارك الصغيرة والكبيرة التي كان فيها صانعاً أو مساهماً أو مشاهداً أو مستمعاً، حيث يورد أسماء عدد كبير من الوقائع، بعضها نجده مأخوذاً من مصادر تاريخية معروفة، وبعضها الآخر من ذكريات المؤلفة الشخصية. ففي الكتاب مئات الأسماء لأشخاص مناضلين أو من جبهة الأعداء، وأسماء القادة والزعماء العرب، وكذلك أسماء الأماكن والمواقع والمعارك الشهيرة أو المعارك غير المعروفة. وإلى ذلك، نجد قدْراً كبيراً من المواد الوثائقية المشتملة على أرقام وإحصاءات ومقررات.. إلخ، الأمر الذي يجعل تقديم "قراءة" للكتاب أمراً صعباً للغاية. وعليه، فإن أية قراءة لهذا الكتاب لا بد من أن تتجنب التفصيلات الصغيرة، وهي تبلغ المئات بل الآلاف، وأن تذهب باتجاه التناول الشمولي للقضايا الجوهرية التي انصب عليها تركيز المؤلف – المناضل.

ولا بد هنا من التوقف عند الهدف الأساسي الذي يبدو أن المؤلف قد عمل جاهداً على إبرازه، وهو يظهر في قوله عن ضرورة تدوين مذكراته "لأنني أرغب في الحديث للأجيال الحاضرة والقادمة [....] مبنياً لهم أن آباءهم وأجدادهم ناضلوا بشرف في سبيل حرية الأمة العربية، وفي سبيل منع تنفيذ وعد بلفور وقيام الدولة الصهيونية، وفيما بعد، في سبيل تحرير فلسطين وإنقاذها من أيدي الإمبريالية والصهيونية."

وسعياً وراء هذا الهدف الكبير والأساسي، يضع المؤلف – المناضل، في كتابه هذا، الخطوط العريضة والتفصيلات الصغيرة لرسم صورة ذات ملامح بارزة حيناً، وباهتة حيناً، بحسب ما يقتضي الموقف. وتشتمل الصورة على الملامح الأساسية للمرحلة التي يتحدث عنها، في مواقف الأطراف المتصارعة: محلياً وعربياً ودولياً. ومع أنه يبدأ رسم الصورة من موقعه فيها، إذ يتحدث عن نشأته في أسرة ذات منابت خليلية يختلط فيها الوالد المولود في الزقازيق المصرية بالوالدة التركية الأصل المولودة في بلاد الصرب، ويصف – في صفحات قليلة – الأوضاع المعيشية لهذه الأسرة، ثم سرعان ما يجعل من هذا الوصف نقطة انطلاق إلى ما هو أكبر وأشمل وأعمّ، بحيث تبدو الأعوام الأولى من حياته تمهيداً لتجربته النضالية التالية والمستمرة حتى نهاية الكتاب، مع غياب شبه كامل – فيما بعد – لكل ما هو شخصي وعائلي وفردي.. فلا وجود لبهجت الشخص إلا في "خضم النضال العربي الفلسطيني".

أما أبرز القضايا في هذه "المذكرات" فيمكن تقسيمها إلى أدوار وعلاقات بين الأطراف، من دون دخول تفصيلات اي منها:

القضية الأولى هي تأكيد دور بريطانيا خاصة، والغرب عامة، في زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، بدءاً بوعد بلفور، ومروراً بالدعم الذي قدمتها بريطانيا، كدولة منتدبة في فلسطين وشرق الأردن، للصهاينة حين كانوا مجرد أقلية يهودية في فلسطين حتى أصبحوا يشكلون منظمات ذات أهداف واضحة اتخذت فيما بعد شكل دولة داخل الدولة، وانتهاء بجميع أشكال القمع التي مارستها حكومة الانتداب ضد الشعب الفلسطيني، سواء على صعيد الوضع الاقتصادي أو صعيد الوضع العسكري. وعلى هذا المستوى، يذكر أبو غربية أحداثاً لمواجهات تمثل الجانب الأول في العلاقة بين بريطانيا والحركة الصهيونية، وينتقل ليرسم صورة العلاقة بين بريطانيا والعرب الفلسطينيين، وما قام هو به شخصياً، وما قام المناضلون العرب والفلسطينيون به من أشكال المقاومة والثورة ضد بريطانيا واليهود معاً، متمثلاً في الثورات المتتالية في سنوات 1919، و1921، 1929، ثم الثورة الكبرى سنة 1936، وحتى انتهاء الانتداب في 15 أيار/مايو 1948.

وفي هذا السياق تبرز مجموعة من الحقائق الملازمة للنضال العربي الفلسطيني في المرحلة التي يتناولها الكتاب، ولعل أهمها – وهي كثيرة جداً وكلها مهمة – ما يذكره أبو غربية من وقائع تبين الصعوبة البالغة والمشقة الكبيرة في تأمين وسائل المواجهة، حيث يتركز الحديث عن وسائل فردية وأسلحة بدائية ومتخلفة، قياساً بما يملكه الطرف الآخر. وفي المقابل، فإن المرحلة لم تخلُ من إنجازات كبيرة نسبياً. كما يلفت أبو غربية الانتباه – في هذا الموضوع – إلى دور البرجوازية الفلسطينية التي حاول المناضلون الاستعانة بها لشراء الأسلحة، وكان تجاوبها للأسف سلبياً جداً! وهو لا يتورع عن ذكر حوادث محددة وبأسماء معينة لتوضيح هذه المسألة. (أنظر ص 65)

كما لا يتهرب أبو غربية من الاعتراف بالتخلف العربي الفلسطيني في مجالات كالزراعة مثلاً، حين يقارن بين الوضع العربي والوضع اليهودي من خلال رؤيته للتفاوت كما شاهده ووصفه في رحلة كشفية توقف فيها أمام مستوطنة عين حارود اليهودية، فلفت نظره جمال المستوطنة ومزارعها المتطورة، ولفت نظره أكثر "منظر قافلة جِمالٍ عربية تحمل حصاد القمح.. وإلى جانبها جرار يهودي يقطر مقطورة تحمل من حصاد القمح أضعاف ما تحملخ القافلة"، ويتساءل عندها "ماذا يخبىء لنا المستقبل؟"، الأمر الذي يجعلنا لا نستطيع الفصل بين هذا التخلف وأسبابه ونتائجه وبين النضال؛ فهو مؤشر على المستقبل أساسي وضروري.

ومما يثير الاهتمام، هذه الجرأة التي يتحدث أبو غربية بها عن الدور العربي في القضية الفلسطينية: فعلى المستوى الشعبي، ثمة مشاركة عربية واضحة في النضال، سواء من الأردن أو سوريا تحديداً. أما على الصعيد الرسمي فثمة إشارات كثيرة إلى الضعف والتخاذل، إن لم يكن التآمر الذي مارسه بعض الأنظمة في مراحل مختلفة من النضال والمواجهة، ولا سيما في المرحلة الأخيرة المتمثلة في انسحاب الإنكليز وإعلان الدولة الصهيونية، والدور الذي أدته الجيوش العربية، التي كان الفلسطينيون يعتقدون أنها ستدخل فلسطين في 15 أيار/ مايو لتحررها، فتبين أنها جاءت لتنفذ تقسيم فلسطين وفقاً للقرار الصادر سنة 1947، ومن ثم إلحاق ما تبقى من فلسطين بالأردن.

أما القيادات الفلسطينية، فيعتقد المؤلف أنها لم تكن تملك ما يمكنها من المواجهة، على الرغم من إيراده بعض المعلومات عن مشاركو بعضها في الوصول إلى ما وصلت الأمور إليه، إما ضعفاً وإماً تخاذلاً ومساومة، كما هي الحال بالنسبة إلى القيادات ذات الأصول الأرستقراطية، التي كان بعض أعضائها متذبذباً ويتصور أن مهادنة الاستعمار قد توصل إلى حلول وسطية، لكن التيار الشعبي كان يمنع هذه العناصر من التأثيير في المسيرة الوطنية. وهنا يشير إلى أن الفلاحين والعمال والطلبة وفئة الشباب قد تحمّلوا العبء الأكبر من النضال والمقاومة.

ومن القضايا التي يبدو أبو غربية معنياً بإبرازها، أسباب هجرة الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وعلى رأس هذه  الأسباب المذابح الهمجية، كما حدث في دير ياسين والدوايمة واللد، مضافاً إليها الدعاية العربية التي كانت من جهة تقوم بتضخيم المذابح، ومن جهة أخرى تقدم للناس وعوداً بالإنقاذ والتحرير، الأمر الذي دفع العرب إلى اليأس والإحباط والرعب ومغادرة بيوتهم إلى الضياع والتشتت.

لكن، وفي مقابل هذا الإحساس بالرعب الذي يتشكل من خلال رسم مشاهد الذبح "احتل اليهود القرية.... بيتاً بيتاً، وذبحوا عدداً كبيراً من أهلها ذبح النعاج.... بدم بارد...." (ص 221)، أو الشعور بالخذلان والتآمر في الوقت "الذي اشتد فيه خطر.... سقوط القدس.... شعرنا باليتم!! أو لعله التآمر!...." (يجدر الرجوع إلى ص 269 من الكتاب، وكذلك ص 297 و329). في مقابل ذلك كله، تتكرر عبارات: "فليمروا على أجسادنا" و"دافعوا عن أرضهم دفاع الأبطال ولم يسمحوا للعدو أن يمرّ إلا على جثثهم" أو "صمدت يافا وضواحيها صموداً بطولياً في وجه قوات متفوقة عدداً وسلاحاً".. غلخ. لكن، ما العمل إذا كان بعض الجبوش العربية بقيادة ضباط من الإنكليز؟ وما العمل إذا كانت مهمة الجيش جيش من أقوى الجيوش العربية تحرير القرى العربية من سكانها، كما حدث في قرى جبع وإجزم وعين غزال قرب حيفا، التي صمدت في وجه هجمات يهودية من البر والبحر والجو، ولم تسقط، وكبدت العدو خسائر فادحة، حتى جاء جيش عربي ونقل سكانها بسياراته خارج فلسطيط؟ (ص 321) وكيف نصدق أحد الزعماء العرب حين يقول إنه "ينوي الزحف إلى تل أبيب ليهشم رأس الحية في وكرها"، بينما قائد قواته يتفق مع اليهود على عدم تجاوز الخطوط التي رسمها قرار التقسيم؟

وإذا كان ما ذكر من أبرز القضايا التي يعالجها الكتاب بتوسع وقدر كبير من التفصيل وذكْر الوقائع، فإن سيرة المؤلف – المناضل، ومن خلال ارتباطها الوثيق بالقضية الكبرى وتفصيلاتها، هي إحدى سِيَر المناضلين الأفذاذ الذين ربطوا مصيرهم بالنضال وإرادة التحرر، لا في المرحلة التي يغطيها الكتاب فحسب، بل حتى الحلقة الأخيرة التي نشهدها في هذه المرحلة الحالية؛ ففي رحلته الممتدة بين سنة 1916 وسنة 1949، مسيرة تبدأ في صورتها الفعلية مع تأليف منظمة "الحرية" التي بدأت سرية سنة 1934، وظلت تمارس أشكالاً من النضال السري حتى سنة 46 – 1947، حين اندمجت في جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، الذي ربطته بالمناضل أبو غربية علاقات نضالية حميمة. وفي مسيرة أبو غربية معارك ومواجهات وإصابات في أجزاء جسده، تمثل شهادات على مناضل بلا رتب أو نياشين. ولعل في كتاب مذكراته من الصدق والحرارة في سرد بعض الوقائع ما يدفع إلى البكاء ويفجّر الدموع والمشاعر الغامضة حزناً وافتخاراً، كما في وصفه لعملية قرر أن يقوم بها مع رفيقه سامي الأنصاري في سينما أديسون، أو كما في وصفه لعملية استشهاد عبد القادر الحسيني في القسطل، على سبيل المثال لا الحصر. وهذه من أبرز سمات هذه المذكرات.

وثمة سمة تميز مذكرات أبو غربية تتمثل في وضوح الرؤية السياسية التي تبدو في مواقع عديدة من الكتاب، وهو ما لا نجده في كثير من كتب المذكرات التي تكتفي بالسرد المحايد أو السلبي الرؤية للأحداث. وعلى الرغم من انعدام المنهجية في الكتاب، فإننا نستطيع أن نلمس قدرة على ربط الوقائع بطريقة تنم عن وعي ورؤية واضحين.

لذلك كله، ولغيره من أسباب، تستحق مذكرات المناضل بهجت أبو غربية قراءة أوسع ووقفة ذات طبيعة مختلفة عما تحتمله هذه القراءة؛ فهناك الكثير من الأسئلة والملاحظات، وهي في حاجة إلى دراسة، بل إلى دراسات لجوانب عدة تضمنها هذا الكتاب القيِّم.

Author biography: 

عمر شبانه: كاتب فلسطيني في الأردن.