العيش معاً بانفصال: العرب واليهود في القدس المعاصرة
Living Together Separately: Arabs and Jews in contemporary Jerusalem
By Michael Romann and Alex Weingrod. Princeton: Princeton University Press, 1991.
القدس مباركة، القدس ملعونة: اليهود والمسيحيون والمسلمون في المدينة المقدسة منذ عهد داود حتى يومنا الحاضر
Jerusalem Blessed, Jerusalem Cursed: Jews, Christians, and Muslims in the Holy City from David’s Time to Our Own
By Thomas A. Idinopulos. Chicago: Ivan R. Dee, 1991.
يستدعي الأمر فقط، زيارة مختصرة إلى القدس اليوم، أو في أي وقت منذ احتلال إسرائيل القدس الشرقية قبل ربع قرن، لكي يتضح أن المدينة المفروض أن تكون موحدة، بقيت فعلياً مجزأة. ومع ذلك فإن أناساً كثيرين لم يذهبوا إلى هناك قط، مستعدون للموافقة على الفكرة التي تروج لها إسرائيل، ولا سيما المحافظ تيدي كوليك، القائلة إن العرب والإسرائيليين يتعايشون هناك في شكل من الانسجام يتحدّى السياسة.
يتحرى أحد هذين الكتابين، بالتفصيل، العلاقات السياسية بين الفلسطينيين الإسرائيليين منذ العام 1967، ويتعقّب الآخر تاريخ التراث الديني للقدس. وكلاهما يكذّب الفكرة القائلة إنه يوجد الآن، تحت الحكم الإسرائيلي، شكل من أشكال التكامل العرقي والديني والسياسي، أو أن شكلاً كهذا وُجد بالفعل، عبر تاريخ القدس الطويل، أكثر المدن انقساماً.
في كتاب "العيش معاً بانفصال"، درس الجغرافي الإسرائيلي مايكل رومان، والأنثروبولوجي الإسرائيلي اليكس واينغرود، التفاعل اليومي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في القدس. درس رومان، الذي بدأ عمله بشكل منفصل، كيف امتزج نظامَيْ المدينة قبل العام 1967 بعضهما مع بعض، وكيف فشلا في الامتزاج خلال فترة ما بعد العام 1967، وتفحص أموراً مثل أنماط مواقع العمل والسكن بالنسبة إلى اليهود والعرب والتطور الاقتصادي في كلا المجموعتين. أما واينغرود فقد درس، من جهته، المناطق التي يعيش فيها، أو يعمل فيها، الإسرائيليون والفلسطينيون عن قرب، وتفحص نوعية التفاعل الاجتماعي والثقافي. وتكمل هاتان المقاربتان ـ الأولى وظيفية، والثانية إنسانية ـ إحداهما الأخرى بشكل جيد.
لم يكن مفاجئاً ألا يعثر المؤلفان، بالنتيجة، على أي إثبات لاندماج حقيقي. فالمصادرة الإسرائيلية للأراضي وعملية البناء في القدس الشرقية، التي كانت سابقاً كلها عربية، جعلت المدينة أشبه برقعة مربعات متقاطعة، وضعت عليها الأحياء الإسرائيلية الواحد إلى جانب الآخر. ولكن النظام الأساسي القائم على الانفصال بقي على حاله. يعيش اليهود والفلسطينيون، في معظمهم، في مناطق متجانسة عرقياً، ولكنها منفصلة؛ وحيث يعيشون معاً، فإن العلاقة في أفضل الأحوال متوترة. وفي حالة اليهود القوميين المتطرفين الذين انتقلوا إلى الحي المسلم للعيش فيه، فإن الهدف، كما يذكر المؤلفان بصراحة، هو السيطرة اليهودية وتجريد الفلسطينيين من أملاكهم في النهاية، وليس الاندماج أو التعايش السلمي. أما في الأحياء النادرة التي يعيش فيها اليهود والعرب معاً منذ عقود، كما في "أبو طور"، وهو حي في الطرف الجنوبي [للقدس] انقسم في العام 1948 وأعيد توحيده في العام 1967، فإن العلاقات ليست سهلة، وتتسم بحدود عرقية "صارمة وصلبة"، وعلاقات اجتماعية "مثقلة بسوء الفهم والتصورات الخاطئة" (ص 80).
تتسم المدينة وتُحكَم، في الحقيقة، وفقاً لمناطق عرقية متميّزة. وفيما عدا حالات نادرة، لم يحدث أي تغيير في مواقع العمل الفلسطينية واليهودية، وفي شؤون الأحوال الشخصية للفلسطينيين كبطاقات الهوية ووثائق الزواج والميلاد... فإنها كلها تعالجها دائرة إسرائيلية منفصلة في وزارة الداخلية. وهناك أيضاً دليلان للهاتف، ونظامان للباصات، وبنكان للدم، ونظامان للتعليم.
يستنتج المؤلفان أن كل جانب يسعى عمداً إلى الاتصال بالجانب الآخر على نحو يقلل، إلى الحد الأدنى، الروابط فيما بينهما، وينشىء الدرجة الدنيا من التكامل. وهكذا يندر أن تكون مواقع العمل، ولا سيما السكن، في "الجهة الأخرى"، لأن ديمومة مثل هذه المواقع ستكون مؤشراً إلى مستوى شديد من التكامل. وهذا التباعد يسمح لكل جانب بالمحافظة على المبادلات الضرورية، مع تحاشي المزيد من الروابط الواصلة والتقليل من الاحتكاك. ويقول المؤلفان أن "كلاً من المجموعتين تستطيع أن تعيش أساساً ضمن عالمها الاجتماعي الخاص، وحتى أن تتخيل أن المجموعة الأخرى غير موجودة" (ص 224).
ويناقش المؤلفان سياسات رئيس البلدية تيدي كوليك في القدس بأمانة وواقعية بعيداً عن الاستحسان العاطفي الذي تلاقيه، خارج إسرائيل، محاولاته التأكيد على الانسجام العرقي. فقد لاحظا أن مذهبه القائم على التعايش العرقي السّلمي، وسعيه إلى سياسات غير أيديولوجية غايتها تطوير المصالح العملية لليهود والفلسطينيين معاً، لم تغير، كما لم يكن القصد منها أبداً أن تغير الحقيقة الأساسية المتمثلة في السيطرة المادية والسيادة الإسرائيليين. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين قد يفضّلون براغماتية كوليك على التكتيك الإسرائيلي الأقسى المستخدم في الضفة الغربية وغزة، فإن رومان وواينغرود يلاحظان أن هؤلاء ينظرون إلى أيديولوجية التعايش السلمي لديه باعتبارها تكتيكاً للمحافظة على السيطرة الإسرائيلية.
يرعى كوليك نظاماً تعددياً يعتبر أن القدس كانت دائماً متعددة الأعراق والأديان. ويؤمن أن الانسجام ممكن التحقيق بقبول الفروقات الثقافية والدينية والتكيف معها. أي أن الفلسطينيين، باختصار، سيهدأون إذا سُمح لهم بالمحافظة على طرق حياتهم الأساسية واستجيب لحاجتهم الاقتصادية.
إن المشكلة في هذه المقاربة، بحسب رومان وواينغرود، هي في أنها لا تأخذ في الاعتبار أن "المسألة الأساسية في القدس، التي تواجه اليهود والعرب، إنما هي مسألة سياسية وقومية" وليست دينية أو ثقافية أو اقتصادية (ص 229). فتطلعات الفلسطينيين السياسية والقومية لا تتحقق من خلال تحسين وضعهم الاقتصادي، كما أظهر ذلك جليّاً انفجارُ الانتفاضة. فالقدس مستقطبة سياسياً بالعمق، وأيديولوجية التعايش السلمي تهمل النزاع الأساسي حول "الحقوق السياسية الجماعية والهوية الوطنية والسيادة والسيطرة" (ص 243).
أما اللاهوتي الأميركي توماس أيدينوبولس، فإنه يقارب مسألة القدس من الزاوية الدينية، ويميل بالنتيجة، إلى إغفال النقطة التي تعتبر أن المشكلة قومية وسياسية أكثر منها دينية. يملك أيدينوبولس حسّاً واضحاً بخصوص انقسامات القدس الدائمة، ويبدي نفاد بصر في حديثه عن طابع المدينة وشخصيتها من خلال تفحّص التواريخ المنفردة لمجموعاتها اليهودية والمسيحية والمسلمة. غير أن ما يشوه الكتاب هو مقاربة تتمحور حول إسرائيل واليهودية وتقلل، تلقائياً، من أهمية المصالح غير اليهودية وغير الإسرائيلية، كما يشوهه الافتراض أن القدس يمكن أن تُشرَح وتوصف في سياق ديني من دون الرجوع إلى السياسة.
ويوضح أيدينوبولس، في سياق الكتاب بأكمله، إيمانه بأن من الطبيعي أن تكون القدس عاصمة يهودية أكثر منها مسيحية أو مسلمة. إنه يناقش المضمون القومي للتفكير والأعمال اليهودية منذ العصور القديمة، في حين أنه يقلل من أهمية القدس عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء. ويقول أيدينوبولس أن مكة والمدينة أهم بكثير للمسلمين، وأن القدس لم تكن يوماً عاصمة إقليمية عندما حكمت الأسر المسلمة فلسطين. أما فيما يتعلق بالمسيحيين، الذين لا يملكون قومية محددة كمسيحيين، فهو يلاحظ مراراً وتكراراً أن العبادة الروحية أكثر أهمية لديهم من الخشوع لمكان محدد.
إن هذا كله صحيح، ولكن لا صلة له بالموضوع، أساساً، في حقبة تشغل فيها القومية حيزاً مركزياً في تكوين الدولة، ولا تقوم فيها الدول في الأغلب، أو لا تقوم حصراً، على الدين. إن ايدينوبولس يغفل البعد القومي للقدس بأكمله، ويغفل حقيقة أن ما يوجه الفلسطينيين ليس، بالأساس، دينهم، وإنما قوميتهم. ويغفل حقيقة أن القدس، بمعزل عن الدين، كانت مدينة عربية لأكثر من ألف عام. ويقول أيضاً "أما بالنسبة إلى المسيحيين، فإن القدس ليست مركزاً قومياً يوحد الأرض والشعب والدين" (ص 203)، متناسياً أنها تمثل بالطبع، مركزاً قومياً للفلسطينيين المسيحيين.
وتبدو رغبة أيدينوبولس في تجاهل السياسة أكثر وضوحاً لدى معالجته القرن العشرين. إنه يمر بسرعة بأحداث تاريخية حديثة وكأنها ذات تأثير قليل، ويعالج الأمور بشكل سريع ومنحاز إلى جانب واحد. ففي تفسيره المشوش للأحداث مثلاً، يعتبر أن معدّل الهجرة اليهودية في الثلاثينات "لم يكن بالتأكيد ينطوي على خطر تغيير الطابع العربي التقليدي للبلد، أو طابع عاصمته" (ص 288) (في الواقع، ارتفعت نسبة السكان اليهود نتيجة لهذه الهجرة من 18% في العام 1930 إلى 30% في منتصف العقد). وبالاستناد إلى روايته عن القتال الذي جرى في القدس سنة 1948، فإن "العرب المنتصرين" سيطروا على البلدة القديمة، وأُجبر السكان اليهود على مغادرتها، وسُلبت المعابد والمدارس والبيوت ونسفت، مما أدى إلى خسارة لا تعوّض في التراث اليهودي في القدس (ص 299).
(في الواقع وعلى الرغم من صحة هذا القول فيما يتعلق بجزء واحد من المدينة، فإن المؤلف يغفل فرار عشرات الألوف من الفلسطينيين من القدس الغربية، ومن أكثر من ثلاثين قرية في الضواحي الغربية).
إن أيدينوبولس لديه نظرة للمستقبل متركزة حول إسرائيل. إنه يدافع عن شكل من السيادة المشتركة على القدس، ويبدو مؤيداً لتقرير المصير للفلسطينيين، ولكن السبب الأكبر في هذه النظرة هو اعتقاده أن الفلسطينيين باتوا يشكلون "عبئاً ساحقاً" يجب أن تزيحه إسرائيل عن كاهلها (ص 336).