الغضب والأمل: مسيرة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال: مذكرات المحامية فيليتسيا لانغر
(ترجمة أحمد خليفة، خالد عايد، سمير صراص. مراجعة صبري جريس)
بيروت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1993.
ينطوي كتاب المحامية الإسرائيلية فيليتسيا لانغر على أهمية خاصة، واستثنائية، لكونه أولاً: يمثل شهادة حقيقية، مجتثة من صميم الواقع المعاش؛ شهادة تنبض بالدم والصدق، على ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي اللاإنسانية ضد أبناء الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة. وثانياً: لكونه شهادة مكتوبة بقلم غير فلسطيني، وبذلك لا يمكن اتهامها بالانحياز.
فالمحامية لانغر يهودية الأصل، وتعيش في إسرائيل منذ الخمسينات، بعيد إنشاء الدولة العبرية، وقد عاصرت وعايشت الأحداث والصراع منذ بدايات مرحلته الثانية بعد سنة 1948، وتلمست بنبضها... ودموعها المعاناة الكبيرة التي يعيشها أبناء الشعب الفلسطيني جراء سطوة الاحتلال وقسوته وجبروته.
وفضلاً عن هذا وذاك، يشكل الكتاب أيضاً وثيقة تاريخية ضد سلطات الاحتلال وممارساتها القمعية، بالإضافة إلى اعتباره وثيقة قانونية مهمة، تكشف حقيقة القانون الإسرائيلي، وانحيازه الواضح والصريح، في مختلف قضايا الأحوال المدنية والعسكرية، وملكية الأراضي، إلى الطرف الإسرائيلي، منطلقاً، هذا القانون، من النظرة العدائية إلى الفلسطيني بوصفه يمثل الضد، أو الآخر، النقيض، المحكوم عليه مسبقاً بنظرة عنصرية، حتى من وجهة نظر القانون.
وسواء كان الأمر يتعلق بالمحاكم المدنية الإسرائيلية أو بالمحاكم العسكرية، فالأمر سيان بالنسبة إلى الفلسطيني الذي هو "مجرم" سلفاً في نظر القانون، وأحياناً يظل مجرماً حتى لو ثبتت براءته.
من هنا، كانت المهمة الملقاة على كاهل المحامية لانغر مهمة صعبة وشاقة، إذ إنها أول محامية إسرائيلية تبنت قضايا الدفاع عن الفلسطينيين أمام سلطة الاحتلال وجبروته، وذلك منذ نهاية الستينات حتى أيامنا هذه.
تكتسب هذه التجربة الفريدة والطويلة التي عاشتها وعايشتها المحامية لانغر أبعاداً إنسانية وقانونية خاصة في آن واحد. ومرد ذلك كامن أساساً في طبيعة فيليتسيا لانغر وتكوينها وتربيتها الأُولى التي جاءت على يد أب اعتُبر من طبقة الانتلجنسيا الأوروبية في الثلث الأول من قرننا الحالي.
وتنطلق لانغر من جملة تجارب ومفاهيم تشكل في النهاية قناعاتها ومنهجها الحياتي، ومواقفها الإنسانية. وقد اكتسبت هذه التجارب والمفاهيم من مصدرين أساسيين: الأول، والدها الذي عني بتربيتها وفتح عينيها على عوالم الأدب الإنساني العالمي، بالإضافة إلى قيم العدل والخير والمحبة، لأنه رجل قانون أيضاً. والمصدر الثاني هو الواقع المرير التي عاشته عائلتها مع الكثير من العائلات اليهودية، في تلك الفترة التي امتلأت رعباً وموتاً على يد النازية الأوروبية. هذان المصدران شكلا العجينة الأساسية التي صنعت لانغر منها مبادئها ومواقفها في الحياة، تلك التي آمنت بها نبراساً ومعياراً تحكم بحسبه على أعمالها وأعمال الآخرين، ومن هذه المبادىء: "أنا إنسان ولا شيء إنسانياً غريب عني" (ص 17)، وهي بهذا الصدد تعترف أيضاً بأن "أروع القيم التي اكتسبتها من والديّ هي الإنسانية ومحبة الإنسان." (ص 17)
وباعتبار أن المعاناة تصقل الذات وترشد الحواس إلى المشكلات الحقيقية في الحياة، وخصوصاً إذا كانت هذه المعاناة ذات طبيعة متشابهة في التجارب الإنسانية، إذ إن فيليتسيا لانغر حملت منذ طفولتها معاناة حقيقية كيهودية عاشت الرعب والقسوة والموت ضد اليهود في أوروبا في الثلث الأول من قرننا الحالي، فهي تحمل في ذاكرتها صوراً ومشاهد للمعاناة الحقيقية التي تعبِّر عن الخوف والحرمان والاضطهاد. وكانت، بحسب ما ورد في مذكراتها، قد رأت أباها سجيناً، ورأت خلال قيامها بزيارته كيف كان المرض والوحدة يعضان جسده وروحه.
هذه الصورة لوالدها السجين خلف القضبان والأسوار المرصودة بالجنود المدججين بالسلاح أمام الأبواب الحديدة الصلدة، هذه الصورة ظلت تعيش وتنمو في ذاكرتها وعقلها:
"ما حملته في ذاكرتي هو أبي بابتسامته الرائعة وهو ينزل من عربة القطار، أو يلاقيني في ساحة السجن، أو ينكب على تلقيني المعرفة بما تبقى لديه من قوة." (ص 18)
ومن أروع وأنبل الأشياء الحميمة التي تعلمتها لانغر عن أبيها الذي كان يوصف بين أصدقائه بـ "المحقق الظريف": "أنه لا يوجد ما هو أسمى من النضال ضد استغلال الضعيف من جانب القوي." (ص 18)
ومع مرور الأعوام، وهجرتها وزوجها إلى إسرائيل في بداية الخمسينات، ثم إصرارها على متابعة دراستها بعد انقطاع دام أعواماً، حققت طموحها بدراسة القانون، وأصبحت محامية لتتولى فيما بعد الدفاع عن حقوق أبناء الشعب الفلسطيني، وتطلب له العدالة داخل الأراضي المحتلة، حتى أطلق الشعب الإسرائيلي، شعبها، عليها لقب "عدوّة الشعب رقم 1".
من هنا يمكن تصنيف الكتاب، من حيث المضمون، إلى محورين أساسيين:
ـ الأول: وهو ما يمكن أن نطلق عليه محور أعوام التكوين، أي تلك الفترة الممتدة منذ الطفولة الشقية المريرة، التي كونت شخصية لانغر وجبلتها. وهي تتبدى مزيجاً من المحبة والعطف، إلى جانب المعرفة والثقافة في بيئة فقر واغتراب وعذاب. ومثل هذه الصفات تنبت في المحصلة النهائية شخصية قوية، ورصينة، ومثقفة، وعادلة، وحنون، في آن معاً.
ـ أما المحور الثاني، وهو ما يظهر من خلال مذكرات لانغر الشخصية ومن خلال عملها القانوني، من أحداث وتجارب هي بالضرورة جزء أساسي من تاريخ الشعب الفلسطيني.
صحيح أن هذا الجزء لا يعبِّر عن التاريخ الواسع للشعب الفلسطيني بكل فئاته، بل إنه يدون تجارب شريحة كبيرة من أبناء المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، من خلال تجاربها في القضايا القانونية التي تبنّتها أمام المحاكم الإسرائيلية.
من هنا يبدو أن من الغبن بمكان النظر إلى المذكرات هذه بوصفها تدويناً لأحداث تاريخية محدَّدة (بحسب ما يشي به العنوان العريض الشمولي للكتاب)، بل يجب النظر إليها من خلال الإطار الخاص في علاقة المحامية لانغر بهذا التاريخ، من خلال الأحداث والمآسي التي عاشها أفراد من الشعب الفلسطيني، وبالتالي خصوصية هذه العلاقة في كونها تعكس تجارب واقعية شاخصة للعيان، عاشت في ملفات القضايا والمحاكم الإسرائيلية، كما عاشها عدد كبير من أفراد الشعب الفلسطيني.
هناك جملة من المؤشرات المهمة التي تظهر في سياق هذه المذكرات، وهي على جانب كبير من الأهمية، لارتباطها بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الماثل والمستمر؛ علماً بأن بعض هذه المؤشرات التي تكشف هذه المذكرات عنها يشكل وثيقة تاريخية مهمة، وهي:
1 - طبيعة القضاء الإسرائيلي في "دولة الديمقراطية"؛ هذا القضاء الذي تحكمه جملة الأمراض المتفشية في أغلب أجهزته المدنية والعسكرية، لأنه ينطلق أساساً من خلال منظور احتلالي عنصري بالنسبة إلى جميع القضايا المتعلقة بأبناء الشعب الفلسطيني، ومن ثم انحيازه السافر إلى المستوطنين وعناصر جهاز الأمن (الشَبَاك) وغيرهم من الإسرائيليين، سواء كان ذلك متعلقاً بحوادث القتل، أو مصادرة الأراضي والمحال التجارية، أو مضايقات المستوطنين الإجرامية التي يتعرض أبناء الشعب الفلسطيني لها في الداخل، مثلا الاعتداءات على المنازل، والمحلات التجارية والممتلكات والأفراد على السواء.
2 - تكشف هذه المذكرات عن حالة العداء المتأصل في النوازع النفسية عند أغلبية الإسرائيليين ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وهذا ما ظهر بوضوح جلي من خلال المضايقات المريرة والمرعبة التي واجهتها المحامية لانغر وعائلتها في تعاملها مع الجمهور الإسرائيلي، بدءاً بالبقال المجاور لمنزل سكناها، مروراً بالجيران، ووصولاً إلى المعارف في كل مكان. لكنها (لانغر) استطاعت، بقوة شخصيتها وثقافتها العالية وثقتها بعدالة القضية التي تناصرها، أن تتغلب على الصعوبات كلها.
3 - تكشف المذكرات أيضاً تواطؤ القضاء الإسرائيلي مع المستوطنين من جهة، والشَبَاك من جهة ثانية، والسلطة السياسية للحكومة من جهة ثالثة، عملاً وأحكاماً. وبذلك، يكون جهاز العدالة هذا مرتهناً وتابعاً، ولا يتمتع باستقلاليته، أبداً بعيداً عن توجهات الشَبَاك، أو متطلبات المستوطنين، أو رغبات السلطة السياسية للدولة.
وتسرد المحامية لانغر، في كتابها الجديد هذا، عشرات التجارب القضائية التي مارستها وعاشتها مع أصحابها الموكلين، بجميع تفصيلاتها، وأحداثها، ونتائجها القضائية، وذلك بأسلوب أدبي رفيع:
"وفي إحدى القضايا، عندما تميّز الحكم الذي صدر بقسوته المفرطة ولم ينجح المدعي العام في إخفاء سروره بذلك، قلت إن ‘هذا ليس حكماً ضد المتهم فقط، بل وضد محاميته.’ وطلب القاضي مني أن أسحب كلامي، لكني رفضت، ولم يصرّ على طلبه. وكنت مستعدّة لأن أُحاكَم بتهمة تحقير المحكمة ولا أُحرم من قول الحقيقة عن هذه العدالة المشوهة." (ص 67)
ويظهر من خلال سياقات نصوص كثيرة في الكتاب جانب الحقد الأسود الموجَّه، لا إلى المتهمين الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً إلى محاميتهم التي كانت كلما تذلل عقبة، تجد نفسها أمام الكثير من العقبات الروتينية والمهنية، علماً بأن هذه العقبات كانت تصل إلى درجة المضايقات الحياتية. وكان ذلك كله لسبب وحيد هو أنها آمنت بعدالة قضية الشعب الفلسطيني، ونذرت نفسها للدفاع عنه وعن قضيته في مختلف المحافل القانونية والحياتية داخل المجتمع الإسرائيلي، وخارجه. وبذلك، كانت فيليتسيا لانغر "أُماً"، بمعنى ما، للكثير من الشبان الفلسطينيين، إضافة إلى كونها الجندي المجهول - المعلوم، الذي كان ولا يزال يؤدي دوراً إنسانياً وقانونياً رفيعاً لنصرة الحق والعدالة الإنسانية في وجه الظلم والطغيان.
باختصار، يمكن القول إن كتاب المحامية لانغر يشكل إضافة لا بديل منها إلى الأدبيات السياسية والقانونية المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لأن الأحداث التي انطوى الكتاب عليها بعيدة، بصورة أو بأخرى، عن عين المؤرخ وقلم الأديب، وبرهة المعالجة السياسية.
شيء آخر جدير بالذكر هو أن ترجمة الكتاب موفقة إلى حدّ كبير، وخصوصاً في صوغ النص الذي حافظ على لُحمته كوحدة متكاملة، وعلى زخمه العاطفي، ودقته القانونية، وهو الأمر الذي يزيد في أهمية هذه النسخة العربية.