- البئر الأولى
- شارع الأميرات
جبرا إبراهيم جبرا
بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993 و1994.
270 و266 صفحة (على التوالي).
من بيت لحم إلى مقبرة السكران[1] رحلة مضنية في الزمن اجتازها جبرا إبراهيم جبرا ساطعاً كشمس الهاجرة، خاطفاً كالضياء، باهراً كالدهشة، هادراً كاللذة. كان أشبه بكائن عجيب ساقط من كوكب متوحش؛ متألقٍ دوماً، مكتظٍ بالجمال في كل لحظة، مبدعٍ في كل حين. إنه الناقد والشاعر والفنان والروائي والمترجم والذواقة والأستاذ والعاشق والمنشّط الثقافي والمناضل بالفكر والموقف. عاش "شقياً" كطفل جميل، ومات يصارع شقاءه في بلد مسيج بالحصار والألم والشقاء.
كان فارساً نبيلاً بلا سلاح، وقائداً مهيباً بلا فرسان. اكتفى من دهره بثمانية وعشرين حرفاً فقط هي حروف الهجاء العربية، فحشدها وأقام منها جيشاً ولا أبهى، قهر به آلام الحياة وتقلبات الأحوال وخيبات العمر وصروف السنين.
"أيامنا كالشتاءِ القطبي:
ساعات الفرح فيها، كالضياءِ، خاطفةٌ
والفواجعُ، كالليل، لا تنتهي.
للإشراقات أوقاتٌ ما أسرَع ركضها
وللظلماتِ المواسمُ المقيمة".
شُغِل عن الدقائق والصغائر فانصرف عنها ذاهلاً إلى ما ينفع اليوم والأمس، فسما فوق حطام الكلمات ومادية الحس نحو عالم مكتظٍ بالمخيلة والروعة والفتنة. كانت أيامه كلها بدعة وجمالاً وغرابة، فأبدع في فضائها شموساً وأقماراً وعصافير، ثم شكلها قصائد وروايات ولوحات ونصوصاً وقصصاً، غير أن إبداعه الحقيقي تجلى في حياته اللاهبة اللاهية التي عاشها بتوتر وتحفز وانتباه. كانت حياته كلها قصيدة عشق طويلة للوطن الذي تناءى، وللأماكن التي استقر فيها، وللنساء اللواتي أحب، وللأزمنة الجميلة والحزينة التي عبقت بها تفصيلات عمره، وللمعبد الشعري الذي أقامه لروحه الثائرة المتوثبة.
لم يتسن له أن يكتب سيرته كاملة، فظلت ناقصة. لعل، إذن، في هذا النقصان ما يغري بمتعة التنقيب ولذة المحاولة وروعة الاكتمال. وربما تسنى لهذا النقصان أن يستحضر، بقوة الضدية، الرغبة في الامتلاء فيدفع مَن صحَّ منهم العزم إلى إكمال هذه السيرة المذهلة: سيرة إنسان مدهش حقاً ومبدع حقاً. إنه العبقري بكل ما تحمله هذه الكلمة من مضامين ورموز ومعانٍ.
السيرة العجيبة
والحكاية الغريبة
أصدر جبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى" سنة 1993، ثم "شارع الأميرات" سنة 1994. ويروي هذان الكتابان الأحداث التي عصفت بالكاتب منذ مولده في بيت لحم سنة 1920 حتى سنة 1953. ثمة، إذن، أكثر من أربعين سنة أُخرى لم يتمكن جبرا من سردها، لكأن "شمس" العمر "لوّعته"[2] في حياته وقبل مماته فلم يتمكن من إقفال محيط الدائرة. وكأن صوته ما زال "صارخاً في ليل طويل"[3] يعارك الورق و"العرق"[4] والكلمات كمن "يعايش نمرة"[5] تمنعه من الوصول بالذاكرة ولحظات العمر إلى نهاياتها وخواتيمها.
1 - البئر الأولى: البئر جزء من تراث العرب الأسطوري والديني. ففي الجاهلية عظّموا "هبل" إله الآبار، وكان مقامه على بئر في مكة بُنيت الكعبة عليها ودُعيت، في ما بعد، بئر زمزم. وثمة، في التراث الديني القديم، "بئر يوسف" أو "جب يوسف"، وكذلك البئر التي أُلقي فيها الملك البابلي دانيال. والماء رمز ديني شديد القداسة في الديانات الوثنية والهندوسية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلامية. فطقوس الخصب المقدسة والعمادة والاغتسال والوضوء والتطهر شائعة في هذه الديانات كلها. واستلهم الشعراء، ولا سيما التموزيون منهم، هذه الرموز بكثافة. فكتب يوسف الخال الشاعر السوري الأصل، اللبناني في ما بعد، ديوان "البئر المهجورة". ومثله كتب توفيق صايغ الشاعر الفلسطيني، السوري الأصل، قصيدته "جب الأسود". والمعروف أن ليوسف الخال وتوفيق صايغ تجربة دينية عميقة وملتبسة في آن. ولجبرا إبراهيم جبرا قصيدة بعنوان: "خرزة البئر" عن إلقاء اليهود جثث شهداء دير ياسين في بئر القرية، كذلك كتب رواية بعنوان "يوميات سراب عفان". وللسراب، كما هو مأنوس، علاقة إيهامية بالماء. كذلك نشر جبرا "الحرية والطوفان" و"عرق وقصص أُخرى" و"السفينة" و"ينابيع الرؤيا" و"أيلول بلا مطر"، وكل هذه العناوين ذات صلة بالماء. فهل تشير هذه الرموز إلى عمق التجربة الدينية لدى جبرا؟
ليس ثمة ما يدل، دلالة جازمة، على هذا الأمر وهو المسيحي الأرثوذكسي الذي تحوّل إلى الإسلام كي يتزوج محبوبته لميعة برقي العسكري. غير أن لهذه الرموز الدينية أثراً، بلا ريب، في تكوين وعيه واكتمال شخصيته، فهو يقول: "لقد عشت في صغري نوعاً من التماهي بيني وبين المسيح، لأنه ولد في المهد الذي كنت أزوره كثيراً في طفولتي، فكنت أتخيل أني أرى المسيح يمشي في طرقاتنا. وكان لهذا أثر مهم في حياتي." وفي مجال آخر يوضح: "طفولتي ما زالت هي ينبوعي الأغزر (...) كنا أيام الصغر في بيت لحم نعتمد في حياتنا على مصدرين للماء: عين القناة والبئر المحفورة قرب كل دار. وفي طفولتي كثيراً ما حملنا الماء من العين وصعدنا بالدلو من البئر. هكذا بالضبط هي طفولتي بالنسبة إلى الكثير من كتاباتي. إنها البئر أو العين التي تمدني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من نبت الخيال." ("الفن والحلم والعقل"، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1988، ص 393).
إنها عجيبة ومدهشة حقاً هذه الذاكرة التي ظلت سبعين سنة تقريباً تحتفظ بأدق التفصيلات عن سنوات الطفولة الأولى. فمن هذه البئر يغرف جبرا إبراهيم جبرا حكايات الفقر والعذاب والمعاناة والأرجل الحافية وسني الدراسة. ويروي، بفرح ولذة، قصص "الفرّارة" و"النقافة" و"الطقّاعات" و"تقريق الدجاجة" و"الهيطلية" و"بابور البريموس" وكيف تعلم "ألف باء بوباية نص رغيف وكوساية"، ويسرد بكثير من الشجن أحوال الرهبان والمباخر والملائكة وأيام "الشيطنة" عندما كان أشبه بِـ "سعدان مسمِّط داير بالأزقة" من شارع راس افطيس حتى حارة العناترة وساحة المهد وجبل خريطون ودير أبونا أنطون ومقهى أبو شمعون والباسيليكا ومزبلة الفرير. وكم هي قاسية حكاية الحذاء الذي تلقاه هدية من المدرسة لتفوقه في دروسه؛ فقد أطار هذا "البوتين" الجديد الذي لم يحتذ مثله في حياته، لبابه وعقله، فخبّأه إلى يوم العيد. لكن والدته الحريصة والمدبرة باعت الحذاء بعشرين قرشاً واشترت له حذاء مرقّعاً بقرشين من حارة اليهود في القدس. فأي خيبة وأي لوعة وأي وجع جثم على مشاعر هذا الطفل!
يغطي كتاب "البئر الأولى" الفترة من سنة 1920، أي من تاريخ ميلاده في بيت لحم إلى عتبة سنة 1932، عندما انتقل مع والده إلى القدس وسكنا في "جورة العناب"، حيث راح يكتشف هذه المدينة الجميلة حياً حياً وحجراً حجراً. وهناك فاجأته هذه المدينة بتاريخها وحاضرها وبروعة عمائرها وبجاذبية الصحف المصرية التي تملأ واجهات الدكاكين. وفي القدس تفتحت شهواته وانصرفت روحه إلى الجمال تنشده أينما وُجد، فتعلم الموسيقى وأغوى الفتيات وشارك في التظاهرات التي اندلعت سنة 1936. وفي مدارس القدس تعلم كيف يكون رجلاً وكيف يسمو بطموحه حتى يطاول المحال. فهذا الفتى الذي ولد في بيت لحم (بيت الخبز) لعائلة فقيرة جداً، كان ربها يعمل في البناء فيحمل الحجارة على ظهره كل يوم، تمكن بجهده ومثابرته من أن ينال منحة تؤهله للدراسة في إنكلترا. وفي القدس أيضاً عرف كبار الأساتذة وتتلمذ لهم وأعجب بهم وـاثر بعلمهم أمثال: ياسين الخالدي وأحمد سامح الخالدي ووصفي عنبتاوي وحسن عرفات وعارف البديري وضياء الخطيب وإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وحسن الكرمي وغيرهم.
2 - شارع الأميرات: هو شارع في حي المنصور في بغداد، اكتسب اسمه من الأميرتين بديعة وجليلة ابنتي الملك علي الهاشمي. وكان جبرا ابتنى فيه داراً أشرف بنفسه على تصميمها وزرع جنباتها بالأوراد وأشجار الصنوبر. وهذا الكتاب يكمل السيرة الذاتية التي بدأها في "البئر الأولى"، أي من سنة 1932 إلى سنة 1953. وخلال هذه الفترة تابع جبرا دراسته في المدرسة الرشيدية في القدس، ثم انتقل سنة 1935 إلى الكلية العربية وتخرج فيها سنة 1937، ثم حاز منحة دراسية في بريطانيا فغادر فلسطين في أول رحلة بحرية له مارّاً ببور سعيد ومرسيليا وموانئ غربي أوروبا، ثم التحق بجامعة إكستر سنة واحدة قبل أن ينتقل إلى كامبريدج. وهناك، في أول منفى له، عاش الحرب العالمية الثانية بكل جنونها وصخبها، وانخرط في الأجواء الثقافية متابعاً المسرح الإنكليزي، ولا سيما مسرحيات شكسبير. وفي إنكلترا عرف الحب والنساء، وراح كالنحلة ينتقل من برناديت إلى غلاديس نيوبي إلى جين هاريسون، وجميعهن تركن في روحه وشماً وراء وشم. وعندما عاد إلى فلسطين بعد التخرج، عمل مدرساً للأدب الإنكليزي في المدرسة الرشيدية في القدس، وشارك في تأسيس "نادي الفنون" سنة 1944، وصار أول رئيس له. ولم تكد سنة 1947 تُطل حتى عم الاضطراب فلسطين كلها وفشت البلبلة في المدينة العتيقة، وقادته أقداره إلى دمشق، حيث التقى في السفارة العراقية الدكتور عبد العزيز الدوري الذي كان يشرف على قبول أساتذة ومعلمين للتدريس في العراق. وعندما تقدم جبرا بطلب للعمل في بغداد قَبِلَه الدوري فوراً، وانتُدب ابتداء من أيلول/سبتمبر 1948 لتدريس الأدب الإنكليزي في الكلية التوجيهية، نواة جامعة بغداد.
في بغداد بدأ مسار جديد تماماً في حياته، وشرعت مرحلة من مراحل عمره تعلن نفسها بصخب وكبرياء وروعة. وكانت البداية أنه سكن في نزل السيدة أمل، ثم راح يختلف إلى مقهى البرازيلية وإلى "كافيه سويس" وإلى مقهى ياسين حيث كان مثقفو بغداد يتجمعون في تلك الفترة. ولم يلبث أن تحلقت حوله مجموعات من الباحثين عن الجديد في الأدب والشعر والتصوير، فكانت حلقة البرازيلية تضم بلند الحيدري وشاذل طاقة وجواد سليم ونزار سليم وشاكر حسن آل سعيد وفرج عبّو وعبد الملك نوري وذو النون أيوب. أما حلقة مقهى ياسين فضمت شاكر حسن آل سعيد وبلند الحيدري أيضاً وحسين مردان. وكان حسين مردان هذا يرى في رواد مقهى البرازيلية برجوازيين يجب قهرهم، وهو الشاعر المتمرد الذي تغزل بأمه في ديوانه "قصائد عارية"، وسُجن بسبب هذا الديوان. كذلك التقى جبرا في بغداد من أبناء فلسطين الشاعر محمود سليم الحوت واللغوي فهد الريماوي والمؤرخ زهدي جارالله، فضلاً عن الروائي والخبير بالشؤون العربية دزموند ستيوارت، وأغاثا كريستي التي تعرف إليها باسم مسز مالوان. وفي جو بغداد المصطخب بالسياسة والثقافة والتجريب، راح جبرا يذيع في إذاعتها أحاديث بالإنكليزية عن مأساة فلسطين وعماي جري فيها من قتل وتشريد واستيلاء على الأرض، وفي الوقت نفسه كان يكتب في مجلة "الأديب" البيروتية ويساهم في تأسيس "جماعة بغداد للفن الحديث" التي أقامت أول معرض لها في 21 نيسان/أبريل 1951.
كانت أيام جبرا في بغداد الخمسينات هي أيام الصخب والخصب والإبداع؛ فكان يُدرِّس في الجامعة وفي كلية الملكة عالية، ويكتب الشعر والنقد والرواية، ويرسم ويقرأ ويقيم الندوات، وينظِّم معارض الفن التشكيلي، ويتابع دروساً في الصولفاج والهارموني، ويعشق النساء، ويختلف إلى الحانات والملاهي ويتعرف، بإعجاب، إلى المطربة الكبيرة عفيفة اسكندر، ويعيش حياته بالطول والعرض. إنه انفجار الشباب إبداعاً وعطاء وأَلَقاً ومتعة. وكانت بغداد يومذاك تضم في أفيائها وأرجائها وحاراتها نفراً من الناس صاروا في ما بعد أعلاماً في الأدب والشعر والفن والعمارة، وشكل هؤلاء حول جبرا إبراهيم جبرا مجالاً دافئاً نَمَت فيه الصداقات الوثيقة والعلائق الحارة وصنوف من أواصر المودة والمحبة، فكان من أصدقائه: علي حيدر الركابي (السوري الأصل)، وعلي كمال (الفلسطيني)، وخلدون ساطع الحصري (السوري الأصل)، وحلمي سمارة (الفلسطيني)، وعبد العزيز الدوري ومظفر النواب وبلند الحيدري وجواد سليم وحسين مردان ونزار سليم وعبد الملك نوري ونجيب المانع ويوسف عبد المسيح ثروت وشاكر حسن آل سعيد وقحطان عوني وبلقيس شرارة وزوجها رفعت الجادرجي وفائق حسن وخالد الرحال وحسين هداوي وعلاء بشير وياسين شاكر وحياة جميل حافظ وفطينة النائب، وغيرهم كثيرون جداً. وعلى الرغم من هذا المناخ الكثيف برجاله ونسائه، اللطيف بالعلائق الإنسانية السائدة فيه، فإن انقطاع جبرا عن بيت لحم والقدس منذ حزيران/يونيو 1967 ترك في نفسه ألماً كبيراً، مثلما ترك انقطاعه عن الاصطياف في لبنان منذ سنة 1975 في وجدانه حرماناً مؤلماً أيضاً.
جبرا والمرأة
لم يذكر جبرا في "البئر الأولى" شيئاً عن استيقاظ غرائزه وعن انطلاق عواطفه. لكنه أورد، عَرَضاً، أنه أحب في القدس إحدى الفتيات حباً عذرياً خالصاً. وربما كان هذا الحب بداية تفتحه على المرأة. غير أنه كتب في سنة 1938، في القدس، قصة بعنوان: "ابنة السماء"، عن صبية حسناء خلقها في خياله، تقيم في دير عتيق استعداداً للرهبنة. لكنه، لسبب لا يفصح عنه، يندفع إلى انتشال هذه الصبية من المصير الذي ينتظرها، ويروح وإياها في نشوة جبارة بحيث يعيد تأليفها امرأة كاملة الغريزة.
أمّا في إكستر، فعرف الحب فعلاً. لكنه كان "عاصفاً كالريح وجارفاً كالسيل، يضج بالجسد كما يضج بالروح" (ص 27). ثم تنقل، لاهياً تارة لاهباً تارة، من برناديت ذات الستة عشر ربيعاً، إلى جين هاريسون، حتى غلاديس نيوبي التي تركت فيه ندوباً ووعوداً وبروقاً.
ثمة فتنة مركبة تشيع في كلمات جبرا حين يفيض في الحديث عن النساء أو في الكلام على الحب؛ إنها فتنة الألفاظ وفتنة الأجواء في آن. أمّا روعة السرد فيشع منها إغراء لذيذ يستدرج المزيد من القراءة، كأن جبرا عاش في سماوات ملأى بشموس متفجرة فأفاض في وصفها ورسمها. واللافت أن ثمة حلماً لا ينفك يتسلل إلى مخيلته بلا استئذان، فيجد نفسه، دوماً، يحتضن امرأتين: واحدة عارية والأُخرى كاسية، كأن الإثم والفضيلة حاضران في خياله وفي أحلامه، وهما الضاربان عميقاً في وجدانه الديني. غير أن الأمر لم يكن ليتوقف عند حدود الخيال والحلم، بل صار واقعاً فعلاً عندما أحب فتاة كانت تدرس عليه في كلية الآداب في جامعة بغداد وشغفت به أيما شغف. لكنه وقع، في الوقت نفسه، في حب لميعة برقي العسكري، زميلته في التدريس وابنة العائلة المتنفذة (والدها ضابط سابق ثم نائب في البرلمان، وعمها بكر صدقي، أول من قام بانقلاب عسكري في العالم العربي سنة 1936). وتزوج جبرا لميعة في آب/أغسطس 1952 بمهر مُعجّلُه دينار واحد ومؤجله ديناران.
مؤلفاته
تميز جبرا إبراهيم جبرا بفاعلية فكرية وإبداعية ونقدية كبيرة جداً. وكان إبداعه شهوة مشبوبة لا تهدأ كالطوفان[6] فعلاً، ومتعته الوحيدة وجدها في الإبداع فقط.
رسم جبرا أولى لوحاته سنة 1941. أمّا آخر لوحاته فرسمها سنة 1967، لكنه استمر يكتب بلا توقف حتى وفاته، فأصدر 63 كتاباً تنوعت بين الرواية والقصة والشعر والترجمة والنقد وتاريخ الفن. وكان، إلى ذلك، ذواقة موسيقى ومبتدع أفكار ومصطلحات؛ فهو أول مَن اقترح سنة 1946 مصطلح "الرومانسية" بدلاً من "الرومانتيكية" أو "الرومانطيقية"، وأول مَن فرّق شعر التفعيلة عن الشعر الحر أو قصيدة النثر. وما زال نقاد كثيرون، في هذه الأيام، يخلطون هذه المصطلحات خلطاً بلا تفريق. أمّا تجربته الروائية المشتركة مع عبد الرحمن منيف في "عالم بلا خرائط" بكل عظمتها وروعتها وبهائها، فإن طه حسين وتوفيق الحكيم سبقاهما في هذه التجربة عندما كتبا معاً "القصر المسحور".
كتب جبرا خمس روايات هي: "البحث عن وليد مسعود"، و"عالم بلا خرائط"، و"صيادون في شارع ضيق"*، و"صراخ في ليل طويل"[7]، و"يوميات سراب عفان"، ومجموعة قصصية واحدة هي: "عرف وقصص أُخرى"، وثلاث مجموعات شعرية هي: "تموز في المدينة"، و"المدار المغلق"، و"لوعة الشمس". وكتب سيناريوين روائيين وأكثر من خمسة عشر كتاباً في النقد، فضلاً عن سيرته الذاتية التي نحن في صددها. وكان للترجمة نصيب كبير في اهتمام جبرا، فهو أستاذ في هذا الحقل، ترجم نحو 30 كتاباً أشهرها، على الإطلاق، مآسي شكسبير الكبرى (هاملت، عطيل، مكبث، الملك لير)؛ "أدونيس أو تموز" (جيس فريزر)؛ "الأمير السعيد" (أوسكار وايلد)؛ "في انتظار غودو" (صموئيل بيكيت)؛ "الصخب والعنف" (وِلْيم فوكنر).
في 12 كانون الأول/ديسمبر 1994 هوى هذا القمر من أقمار الأدب العربي، فكأن السماء العربية بحاجة، بعد، إلى المزيد من الكآبة. أغمض جبرا إبراهيم جبرا عينيه ولم يتمكن من إكمال سيرته الذاتية. وسوف يمر زمن قبل أن يبادر إلى هذه المهمة مَن يتنكب مشقة البحث والتفتيش وينكب على المصادر والمعلومات بشغف وروية، ويكمل ما بدأه جبرا بنفسه. ومن المؤكد أن رسائل جبرا إبراهيم جبرا ستكون مصدراً ثرياً لهذه المهمة الشاقة والشائقة؛ إن هذه الرسائل التي تبلغ الآلاف موزعة في شتى أصقاع العالم لدى أصدقاء جبرا وعارفيه ومحبيه، وهي موجودة لدى الجامعات والمعاهد والصحف ودور النشر والهيئات الثقافية. كما يملك جبرا نفسه، آلاف الرسائل بعث بها مئات الأشخاص من الأعلام والمشاهير تملأ أكياساً وخزائن في منزل جبرا في شارع الأميرات في بغداد. وأظن أن من المشرِّف جداً أن تبادر إحدى الجامعات العربية أو إحدى المؤسسات العربية إلى اقتناء هذا الكنز المهيب، ولعل سدير وياسر [8]يسهلان هذا الأمر.
[1] المقبرة التي دُفن فيها جبرا إبراهيم جبرا. وهي تقع في إحدى ضواحي بغداد.
[2] "لوعة الشمس"، ديوان شعري لجبرا إبراهيم جبرا.
[3] "صراخ في ليل طويل"، إحدى روايات جبرا.
[4]"عرق وقصص أُخرى"، المجموعة القصصية الوحيدة لجبرا.
[5] "معايشة النمرة"، أحد المؤلفات النقدية لجبرا.
[6] "الحرية والطوفان"، أحد مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا. كتبها بالإنكليزية ثم ترجمها الدكتور محمد عصفور.
[7] كتبها بالإنكليزية ثم ترجمها بنفسه.
[8] إبنا جبرا إبراهيم جبرا.