هذا الكتاب إضافة في غاية الأهمية إلى مؤلَّفات متنامية، لكنها لا تزال يافعة جداً، عن الخروج على الإجماع اليهودي، ولا سيما أنه يعنى بالنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. وهو ليس، كما يتوقع المرء، عرضاً للخلافات السياسية في أوساط اليسار الإسرائيلي، بل هو سلسلة من المقالات قام بكتابتها على نحو حاد يهود إسرائيليون بصورة رئيسية، أثاروا بشجاعة ومعاناة كبيرتين أسئلة وهموماً ومخاوف لا تزال تُعتبر من المحرمات داخل مجتمعهم. وبفعلهم هذا، لم يقم هؤلاء الأشخاص المميزون، الصهيونيون منهم والمناوئون للصهيونية على السواء، بالمشي على الخط الأحمر الذي أعلنوه لأنفسهم "حداً بين الاحتجاج والمواجهة" فحسب، بل تخطوه أيضاً. وما يظهر هو بنية تحتية من القيم والمعتقدات مختلفة جداً عما هو سائد، حيث التعبير السياسي عن اليهودية ينظر إليه باعتباره مضطرباً وناقصاً، وحيث تُعتبر المعاناة بنيوية ونفسانية على حد سواء.
يوحي تقديم الحاخام مارشال ت. ميير للكتاب بما ستفصح عنه الفصول التالية له. فالحاخام ميير، الصهيوني، يدعو إلى حل الدولتين (لليهود والفلسطينيين)، ويحاجج بأن هذا أمر لا بد منه خلقياً وسياسياً، إذا أُريد تحقيق السلام في المنطقة. وتوفِّر المقدمة التي وضعتها دينا هوروفيتس إطاراً مفيداً أيّما إفادة، ومطلوباً بإلحاح، لفهم منشأ الانشقاق اليهودي في إسرائيل، والعلاقة المتشابكة المعقدة بين السبيل السياسي المغاير والمعاناة الشخصية اللذين اتسم بهما الخروج على الإجماع منذ فترة طويلة. وبسبب ذلك، فإن الصوتين العربيين اللذين يضمهما هذا الكتاب يبدوان، نوعاً ما، في غير موضعهما، وعَرَضيين بالنسبة إلى الموضوعات الأساسية المعبَّر عنها في المقالات الأخرى، وإنْ كانا بليغين ومطروحين بقوة.
إن ثمن الخروج على الإجماع داخل المجتمع اليهودي عال جداً، وكان كذلك دوماً. وسواء كان الأمر زواجاً من الأغيار في مدن أوروبا الشرقية الصغيرة، أو نقداً صادراً عن دوافع خلقية للدولة الصهيونية، فليس هناك مثله عمل ينظر إليه باعتباره هرطقة وضلالاً، وليس هناك ما ينطوي على المقدار نفسه من العاقبة بالنسبة إلى الفرد: النبذ الكامل والمبرم في أغلب الأحيان. من الناحية التاريخية، كان هناك أسباب وجيهة جداً لذلك. إذ لم يكن لأقلية يهودية مضطهَدة داخل البيئات السياسية والاجتماعية العدوانية سبيل آخر للبقاء سالمة وصامدة. لكن داخل الحدود الوطنية، فإن الثمن المقرون بالمروق يصبح أعلى كثيراً، لا بالنسبة إلى الفرد فحسب، بل بالنسبة إلى الدولة نفسها أيضاً. وتغدو العقوبة على الخروج على الإجماع، عملياً، نعياً للقدرة على البقاء سياسياً وللاستقامة الخلقية للدولة. وهذا ما توضحه مقالات هذا الكتاب، وهذا هو سبب كونها مهمة جداً.
لعل أبرز سمات هذا الكتاب أنه ينتقل من النقد الليبرالي التقليدي لسياسة الدولة، الصادر عن الرغبة في ضمان ما هو في مصلحة إسرائيل، إلى استيطان مكثف للذات الاجتماعية، وتفحص ذاتي سياسي للحركة الصهيونية وللأثمان المرافقة لبناء الأمة داخل المجتمع الإسرائيلي. بهذه الطريقة، فإن الحوار يتحرك إلى أبعد كثيراً مما هو مقبول حالياً من حدود للجدل السياسي داخل إسرائيل، نحو مجال قلما جرى اختراقه، لكنه أساسي بصورة عميقة. ولا يتعلق الأمر، كما قال أحد المؤلفين، غابي نيتسان – غينزبرغ، "بالكتابة الماثلة على الجدار. [إنه] يتعلق بأُسس الجدار في حد ذاتها" (ص 43). إن قضايا كثيرة قد أُثيرت في المقالات السبع عشرة، والقصيدة الواحدة، والمقابلة الواحدة، التي يتألف الكتاب منها. بيد أن هناك ثلاثة موضوعات تستوقف الانتباه أكثر من سواها: استغلال الهولوكوست* وإساءة استغلالها؛ العلاقة الحساسة بين المشكلة الشرقية (أي النزاع الطبقي بين اليهود الأشكناز واليهود السفاراديم) والحل النهائي للصراع العربي – الإسرائيلي؛ الدور المهم جداً والمتشابك للمنادين بالمساواة بين المرأة والرجل من عرب وإسرائيليين (الذي يستبعد أية صلة بنظرائهم في الغرب) في تحقيق سلام داخلي دائم.
إن معاملة الهولوكوست كمحرَّم (taboo) وما ينطوي عليه ذلك بالنسبة إلى المجتمع اليهودي في إسرائيل وفي غيرها من الأماكن، وبالنسبة إلى النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لربما كانت الـ قضية البالغة الحساسية، أكثر من أية قضية أُخرى، والتي لا يوجد استعداد لدى اليهود الإسرائيليين بصورة خاصة لمواجهتها. وينبع عدم الاستعداد هذا من وعي حقيقي جداً للذات بأنها ضحية، ومن الحاجة إلى وعي الذات على هذا النحو. فعلى سبيل المثال، يكشف بعض المقالات عن العلاقة بين الهولو كوست اليهودية والاحتلال الفلسطيني، لا بالمساواة بين الحدثين – والواضح أن هذا ليس هو بيت القصيد – بل بكشف ما بينهما من أوجه تشابه: تجريد الضحية من صفاتها الإنسانية (والخوف من إزالة الصفات الشيطانية عنها)، والحاجة اللاهوتية تقريباً في أوساط الجلادين إلى إشاحة النظر فالمؤلفون يسألون لماذا هو مسموح أن تُساوى منظمة التحرير الفلسطينية بالنازية، وليس مسموحاً أن تُساوى دولة إسرائيل بها؟ هل يجوز الحطّ من قدر الهولوكوست بطريقة معينة، ولا يجوز بطريقة أُخرى؟ بهذا التساؤل، لا يُفضح فقط الدوْران المتناقضان لليهودي بصفته ضحية وجلاداً، واللذان لم يُحَلّ التناقض بينهما بعد، بل تُفضَح أيضاً الطرق التي اتبعتها دولة إسرائيل في استغلال وإساءة استغلال هول ومأساة الماضي اليهودي لأغراضها السياسية الخاصة. فستانلي كوهين يصف كيف قامت عضو الكنيست السابقة، غيئولا كوهين، علانية بمقارنة مؤتمر سلام إقليمي للشرق الأوسط، اعتبرته فخاً لإسرائيل، بالـ"طوابير خارج أفران الغاز في معسكر الاعتقال في ميدانيك، حيث اعتقد الضحايا بسذاجة أنهم يدخلون غرف الاستحمام." (ص 193). لكن تشويه سمعة الماضي اليهودي على هذا النحو ليس محصوراً في مثل هذه المقارنات الفاضحة. إن ما يجب فهمه أيضاً هو أنه في الوقت الذي استغلت الدولة الهولوكوست لمصلحتها السياسية الخاصة من ناحية، فإنها من ناحية أُخرى حقّرت الهولوكوست باعتبارها الكارثة مثلاً للخضوع والضعف اليهوديين. حقاً، لقد نُظر إلى الحياة اليهودية قبل إقامة دولة إسرائيل باستخفاف واستهجنت بصورة متواصلة ومخزية كشيء غير جدير بالاحترام ومخز تقريباً. والآن فقط، يتحدى بعض الإسرائيليين هذا التفسير للتاريخ اليهودي، ويحاول تفهم مضامينه.
لِمَ يختار المؤلفون البقاء في إسرائيل؟ إن كثيرين يطرحون على أنفسهم هذا السؤال، ويجيبون عنه بالقول أنهم لا يرغبون في أن يكونوا مراقبين من بُعد، بل يريدون أن يكونوا مشاركين فعالين من الداخل على الرغم من الثمن الشخصي الذي يشعرون بأنهم يلتزمون دفعه من جراء ذلك. وفي مقالة مؤثرة ومثيرة جداً، توضح ريلا مزالي ما أحدثه قرارها من ألم شخصي ومشقة:
[إ]ذا اخترتُ المغادرة، فإلى أي مدى أكون لا أزال مؤمنة، كما رُبِّينا جميعاً على أن نؤمن، بأن المكان الوحيد الذي أستطيع حقاً أن أعيش فيه بحرية ومساواة، كوني وُلدت يهودية، هو هذا البلد... وبالتالي، إلى أية درجة يمكن أن يكون قراري بالاستمرار في العيش هنا اختياراً تم بحرية، وناجماً عن الروابط العميقة والمتشابكة وعن أنظمة الدعم التي بنيتها، والتي أشعر معها بالراحة؟ وما هي قيمة هذه الأجزاء من حياتي قياساً بالمجازفة في حياة أبنائي؟... أليس من الأكثر عقلانية أن أُخرج عائلتي من هنا قبل أن يغدو لزاماً على إبني البكر الالتحاق بالجندية؟ وأن أوجه انتقادات من موقع أمين عبر المحيط، على أمل إحداث تغيير فيما سأستمر، من دون شك، في الشعور بأني منخرطة فيه، بينما أبقى محافظة على حياتنا وسلامة صحتنا؟.... ثم الهاجس: هل ستجعلني حقيقة محاولتي إحداث تغيير قادرة على الاحتمال إذا ما قُتل إبني أو أصبح عاجزاً؟ إنني لا أخدع نفسي. لا أعتقد أنها ستجعلني قادرة على ذلك. سأعلم أني أنا المسؤولة، جزئياً على الأقل، لأنني كنت أعلم ولأني كنت أملك خياراً ولم أغادر. كيف يمكن تحمل الذنب (حتى جزئياً) لموت ولدك ميتة لا معنى لها؟ لكن مرة أخرى؟ هل سيساعد حقاً إذا اعتقدت أنها لم تكن ميتة بلا معنى؟ (ص 157 – 158).
بالنسبة إلى مزالي، شأن الآخرين الذين قرروا البقاء، ليس الاحتجاج مجرد شكل ضروري من أشكال النشاط، أو الطريقة محتومة من طرق العيش؛ إنه "مطالبتهم الأخيرة" الحقيقية "بالعقلانية" (ص 159). ومن أجل هؤلاء الذين هم بيننا في المجتمع اليهودي، ولا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من الاقتراب من الخط الأحمر، فإننا نحن مدينون بالامتنان لأولئك الذين هم بيننا واختاروا اجتيازه بمحض إرادتهم. ذلك لأنه بالقيام بذلك فقط يمكن أن يتحقق الأمل بالتغيير الذي نسعى له جميعاً.
* التسمية الدارجة لوصف ما حلّ باليهود على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. (المحرر)