Talhami, Palestine and the Egyptian National Identity
Full text: 

منذ العهد الفرعوني، اعتبر حكام مصر السيطرة على فلسطين وسوريا الطبيعية أمراً حاسماً لضمان الأمن الجيوستراتيجي لبلدهم. ويمكن، على نحو يبدو معقولاً، أن يعاد تاريخ أصول الارتباط المصري الحديث بفلسطين إلى سنة 1831. ففي تلك السنة، قام ابراهيم باشا، وهو إبن محمد علي، الحاكم العثماني الذي يُعتبر بصورة عامة "مؤسس مصر الحديثة"، بغزو واحتلال فلسطين ولبنان وسوريا، التي بقيت في ظل الحكم المصري حتى نهاية ذلك العقد. وكانت طموحات محمد علي في فلسطين استُحثت جزئياً بالمصالح نفسها التي استثارت الفراعنة وكثيرين من خلفائهم. وكان ابراهيم باشا يتكلم العربية. وقد اعتبر البعض أعماله في سوريا إيذاناً بالعروبة؛ غير ان محمد علي كان ألباني المولد، وكان لا يعرف شيئاً من اللغة العربية، وقد بدأ سيرته ضابطاً في الجيش العثماني. وفي ظل حكمه، قلما كانت أهداف مصر في فلسطين مدفوعة بقومية مصرية، أو بقومية عربية، أو بأية نزعة مماثلة. وفي القرن العشرين فقط، ولا سيما منذ أواخر الثلاثينات، أخذ مثل هذه الاعتبارات السياسية والثقافية يؤثر في العلاقة بين مصر وفلسطين، ويقوم بدور تكوين التصورات للذات المصرية.

يعرض كتاب غادة تلحمي، "فلسطين والهوية القومية المصرية"، مجموعة المواقف المصرية من فلسطين، وذلك بتفحص ما صدر من كتابات القادة المفكرين لشتى النزعات المتنافسة في حركة القرن العشرين القومية: الليبرالية العلمانية، والفرعونية، والإسلامية، والماركسية، والناصرية، وما قام السادات به من إعادة توكيد النزعة المصرية المحلية مع مظهر عربي هزيل. والقسم الأمتن في الكتاب هو النظر في مجموعة الآراء في حقبة ما بعد سنة 1967. ودعوى تلحمي هي أن فلسطين كانت منذ الثلاثينات جزءاً مهماً – حتى أهم من السودان – في تكوين هوية مصر القومية. وبينما تقر تلحمي بالوزن الكبير للتوجهات المصرية القومية المحلية، المعبَّر عنها بالنزعات القومية الليبرالية والفرعونية في الفترة المبكرة من القرن العشرين، وبالتوجه المتركز حول مصر الذي سلكه أنور السادات، فإنها تحاجج بأنه "مع حلول الثمانينات، بدأ معارضو أنصار التورط الفلسطيني يفقدون القوة. فأغلبية المصريين أقرت بحتمية التورط الفلسطيني من دون الاتفاق بالضرورة على طريقة العمل الفضلى" (ص vii-viii). وهذا استنتاج فيه عزاء بالنسبة إلى الفلسطينيين، لكن وضع الأمور على هذا النحو قد يكون مضلِّلاً.

لولا عدة لحظات استثنائية، مثل انتفاضة 1919، أو التعبئة الوطنية في مطلع سنة 1946، أو الاضطرابات التي نجمت عن رفع أسعار المواد الغذائية في كانون الثاني/ يناير 1977، لما شاركت "أغلبية المصريين" مشاركة مباشرة في السياسة على مستوى الدولة، نظراً إلى أن أياً من أنظمة مصر السياسية في القرن العشرين لم يكن له مؤسسات راسخة تشجع مثل هذه المشاركة. والدراسات  التاريخية التقليدية للأفكار المدوِّنة للنُخَب وأعمالها السياسية، كدراسة تلحمي، لا تكشف الكثير بالضرورة عما يدور في خلد الطبقات الدنيا من السكان، ولا سيما في بلد كمصر، حيث الأمية تسود أغلبية الشعب التي درجت على النظر إلى الحكومة كعدو يجدر التحفظ حياله. وقد تكون الوسيلة الأفضل لمعرفة وجهة الرأي العام درس طريقة انعكاس النزاع العربي – الإسرائيلي في السينما والموسيقى، وفي أشكال أُخرى من الثقافة الشعبية.

قد يكون لـِ"مهمة في تل أبيب" (فيلم سينمائي جاسوسي متدني المستوى جرى عرضه في عدة صالات في القاهرة في منتصف سنة 1992) بعض الجدوى في تقدير المواقف المصرية الراهنة في فلسطين. وفرضية الفيلم، الذي أخرجه محمد مختار وقامت بدور البطولة فيه ناديا الجندي، التي تبرز ملامح شخصية تعتمد على الإثارة الجنسية الرخيصة إلى حد ما، هي أنه على الرغم من اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، فإن بين البلدين نزاعاً مستمراً معبَّراً عنه بعمليات تجسّس متبادلة. وتدل عدة لقطات خاطفة لحوار بالعبرية غير مترجم، ولتفصيلات أُخرى، على أن صانعي الفيلم يتوقعون أن يكون لدى الحضور درجة من المعرفة بإسرائيل، لا يمكن تصورها في أي مكان آخر من العالم العربي عدا فلسطين. وفي الوقت عينه، يروِّج صانعو الفيلم لعدد كبير من الأفكار المغلوط فيها بشأن شخصية المجتمع الإسرائيلي. والأكثر إثارة للانتباه، فيما يخص مشروع تلحمي، هو أنه على الرغم من مركزية النزاع بين مصر وإسرائيل في الفيلم، فقلما تظهر فلسطين وقلما يظهر الفلسطينيون بأي شكل من الأشكال. والاستثناء الأبرز للغياب الفلسطيني في "مهمة في تل أبيب" هو لقطة بانورامية لعرب مستكينين ومضطهدين في شوارع القدس. وموضوع الفيلم الأساسي لا يمت إلى النزاع العربي – الإسرائيلي بصلة، بل يبدو – عوضاً من ذلك – أنه يتناول نساء مصريات ينغمسن في أعمال مشينة في حانات باريسية، ويرتدين تنانير قصيرة، وهنّ مستعدات لفعل أي شيء، حتى التجسّس لحساب إسرائيل. لكن حين يَتُبْن، ويؤكدن توبتهن بالتجسس لحساب مصر وبارتداء تنانير محتشمة، فإنهن يَعُدْن إلى عائلاتهن ووطنهن.

إن فيلم "مهمة في تل أبيب" يعكس صورة ومستوى من الاهتمام شائعين في مصر بشأن فلسطين، وهو ما يفُوت مقاربة تلحمي. فمعظم المصريين يعتبر المشروع الصهيوني تعدياً غير عادل على حياة الفلسطينيين العرب وأرضهم. وهم يتعاطفون مع الفلسطينيين بوصفهم ضحايا سياسة الطرد والقهر الإسرائيلية المستمرة، مع أن كثيرين منهم [من المصريين] لا يفرقون بين التعاطف على قاعدة كونهم إخوانهم العرب، أو (في الغالب) إخوانهم المسلمين. وثمة أعداد كبيرة من المثقفين المصريين غير ملمة إلماماً جيداً بالسياسات الفلسطينية، وبتفصيلات النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، أو حتى بالحقائق الأساسية المتعلقة بجغرافية فلسطين. والمصريون، عادة، لا يعيرون منظمة التحرير الفلسطينية، أو المؤسسات السياسية الفلسطينية، اهتماماً كبيراً. فالمصريون كلهم تقريباً يعتقدون أن النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي يجب حله على أساس ينصف الفلسطينيين. لكن، باستثناء الإسلاميين الراديكاليين والناصريين الجدد (الذين لا يزال نشاطهم في قيد الاختبار)، فإن القليلين جداً يعتقدون أن في وسع مصر، أو أنه يجدر بها أن تقدم مزيداً من التضحيات لتحقيق هذا الهدف.

إن كتاب "فلسطين والهوية القومية المصرية"، علاوة على نقائصه المنهجية، زاخر بأخطاء صغيرة، فيما يتعلق بالوقائع المورَدة، وبترجمات شاذة لأسماء، الأمر الذي يلقي ظلاً من الشك على تمكن المؤلفة من الموضوع المعالج، ويدفع إلى الشعور بأن بحثها العلمي أقل من متقن. وسيكون إدراجها كلها في قائمة أمراً مملاً ومتحذلقاً، لكن ها هنا نموذج بسيط: إن حزب الأمة، الذي أُسس سنة 1907، لم يكن حزب محمد عبده الذي توفي سنة 1905 (ص 10)؛ إن الترجمة المعتادة لإسمي أحمد زيوار باشا واسماعيل صدقي هي Ahmad Ziwar Pasha and Isma’il Sidqi Ziyour and Sudqi  (ص 11، 15)؛ لم يكن بنك مصر بنك مصر الوطني، بل كان مؤسسة خاصة عملت أيضاً للمصالح القومية (ص 34)؛ تم تعليق عمل الأحزاب السياسية سنة 1953 لا سنة 1954 (ص 40)؛ أنطون مرزون (Antun Marzon) يجب أن يكون أنطون مرون (Antun Marun) (ص 53)؛ بول جاكوبي كوب (Paul Jacoby Coup) يجب أن يكون بول جاكو ديكومب (Paul Jacot Descombes) (ص 55)؛ إن جزءاً كبيراً من التاريخ الموجز للحركة الشيوعية المصرية، الذي يظهر هذان الإسمان الأخيران فيه، قد أُعد بصورة غير متقنة؛ إن عبد العظيم رمضان (Ramadan) (الذي حوِّل إلى عبد العثيم رمضان- Ramadhan) ليس قومياً عربياً (ص 121) على الرغم من أنه كان كذلك في مرحلة مبكرة جداً من سيرته؛ إن عنوان كتاب محمد عبد السلام فرج هو "الفريضة الغائبة" لا "الفريضة الضائعة" (ص 136)؛ إن "عودة الوعي" لتوفيق الحكيم ليس رواية (ص 147)؛ وهلم جرا.

إن نقطة الضعف الأساسية في مقاربة تلحمي هي الافتراض الغائي بأن العروبة هي الشكل الطبيعي والصحيح للهوية القومية المصرية. فهذا يؤدي، ضمن ما يؤدي إليه، إلى سوء فهم لموقع كامب ديفيد في رحيل أنور السادات الذي هو غير مفيد سياسياً ولا صحيح تاريخياً. لقد كانت اتفاقية السلام مع إسرائيل تحظى عند توقيعها بشعبية في أوساط عديدة، مع أن الحماسة تضاءلت أمام التعنت الإسرائيلي في شأن قضايا أساسية، وأمام عجز الحكومة المصرية عن تقديم الرخاء الذي كان مفترضاً أن يصاحب السلام. وكان تفاقم التمايز الطبقي جرّاء سياسة الانفتاح، والقمع المخالف للديمقراطية ضد المعارضة السياسية، والاستياء العام من انتشار الثقافة الغربية النخبوية التوجه (المتماهية بجيهان السادات بصورة خاصة)، أمراً مهماً، بأهمية كامب ديفيد على الأقل، في نشوء معارضة شعبية لنظام السادات. وعلاوة على ذلك، ليس انتقاد الإسلاميين لتخلي السادات عن القدس هو نفسه انتقاد العروبة العلمانية لذلك. والذين يتجاهلون هذا الفارق إنما يلعبون بالنار.

Author biography: 

جويل باينن: أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد