أمامنا طريقان لإبداء الرأي في هذا الكتاب: فقد نرى أنه، وبحق، القصة التي لم تُسرد بعد عن الاستخبارات الإسرائيلية في مختلف فروعها، أو أنه على الأقل الرواية الأكثر شمولاً ودقة وصدقاً التي صدرت حتى اليوم؛ وهي، من جهة أخرى، قصة يُعاد سردها إلى حد بعيد، بل تبرز فيها أيضاً فجوتان كبيرتان.
وثمة ما يبرر كلا هذين الرأيين. فالكتاب، ولا ريب، يتفوق تفوقاً كبيراً على جميع الروايات السابقة تقريباً، التي صدرت عن الموساد والشين بيت وغيرهما من المؤسسات المشابهة لهما، والتي لا تتمتع بشهرتهما. فقد نحت الروايات السابقة، ومن دون استثناء تقريباً، نحو الإثارة الرخيصة والدعاية الفجّة؛ إذ نجد فيها الأبطال الإسرائيليين يحققون المعجزات ضد أعدائهم الجبناء من العرب والفلسطينيين، مثل "الأمير الأحمر" وغيره من أصحاب الألقاب المحببة. فالمؤلفان، بلاك وموريس، يقدمان هنا ما هو أقرب كثيراً إلى مفهوم "الدراسة"؛ إذ يجمعان إلى الحس الواقعي والصراحة المزيد من المقاربة الانتقادية. ولا ريب أنهما قد كشفا الستار عن المزيد من التفصيلات والأدلة التي تساند الوقائع من بعض ممن شارك فيها، فإذا بهذا الكتاب يضم بين دفّتيه أكبر وأكمل مجموعة من الروايات تصدر في مؤلَّف واحد.
لكن هذه الجملة التي سبقت ترشدنا إلى أحد أهم نواقص هذا الكتاب؛ فهو يبقى في الواقع مجموعة من الروايات، بغض النظر عن دقة البحث والعرض. فبعد أن يعرض المؤلفان خلفيّة عامة ومفيدة فعلاً لتطور هيئات الاستخبارات الإسرائيلية وصلاتها بالحكومة والسياسة في إسرائيل، يفشلان في توضيح البنيان الداخلي وأنماط العمل في هذه الهيئات. ويشعر القارىء بأن هذا الفشل هو من نوع الاستنكاف المقصود، وكأن المؤلفين حريصان على ألا يكشفا للأعداء في الخارج أكثر مما يجب. لكن النص، في حد ذاته، يتفادى الإجابة عن الأسئلة التي هي أكثر بروزاً.
وتبدو الحوادث التي يسردها الكتاب أنها وقعت مصادفة تقريباً. غير أنه، وكي تحصل إسرائيل على هذا المقدار من المعلومات المفصَّلة عن الأمور السياسية والعسكرية العربية، كان لا بد من وسيلة للوصول إلى أكثر المخابىء سرية في الجيش والحكومة. والأمر الأهم أن إسرائيل كانت، وما زالت، تبذل جهوداً واسعة وحثيثة لبناء شبكات جديدة ولزرع المخبرين، وهي أمور تجري بموجب خطة طويلة الأمد. لكن لا يكاد يبين أي شيء عن هذه الأمور سوى ما قد يستنتجه القارىء. وثمة مصدر أكثر فائدة كثيراً، هو الكتاب المثير للجدل الذي كتبه الهارب من الموساد فكتور أوستروفسكي، والذي يتضمن تفصيلات محددة عن التدريب والتجنيد في هذا الجهاز، على الرغم من التصريحات المتكررة التي تنفي دقته، والصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين.
وثمة خلل كبير آخر لا يغتفر، في هذه الحال، هو تجاهل المجابهة بين الاستخبارات الإسرائيلية وبين الفلسطينيين ومنظمة الحرير. فالكتاب لا يخصص سوى صفحات قليلة جداً – وهذا أمر مستغرب للغاية – لموضوع قد لا يكون من أخطر الموضوعات طرا، غير أنه يمثل إحدى أكثر النواحي تعقيداً وطولاً في "حرب الأشباح". ومن تجربة استمرت أربعين عاماً، يختار المؤلفان بعض الروايات القليلة عن المعركة الإسرائيلية ضد "الإرهاب" الفلسطيني في أوائل السبعينات. وهذه الروايات ليست مبتذلة فحسب، بل إن معظمها أيضاً من مصادر غير مباشرة؛ إذ هناك عدد لا بأس فيه من الأغلاط التي يرتكبها المؤلفان؛ فهذا الموضوع غير ذي أهمية، في رأيهما، على ما يبدو. كما أن معالجة موضوع الانتفاضة ليس فيه أي جديد مقارنة بكتاب شيف ويعاري، أو حتى بمعظم الصحف اليومية. لكن أسوا ما فيه أن النظام الشامل والمتطور للسيطرة على السكان، والذي يشمل الاستخدام المنتظم للتعذيب ضد الفلسطينيين، واضح في قوته الحقيقية فقط لمن يملك المعلومات المسبقة عنه.
أما القارىء الذي يأمل بالحصول على القصة الحقيقية والتي لم تُسرد بعد، أو الذي يرغب في فهم بنيان وطريقة عمل الاستخبارات الإسرائيلية، فسيخيب أمله من هذا الكتاب. غير أنه، ومع ذلك، يُقرأ بسهولة ويسر، وهو أفضل حكاية "محكية" بين دفّتين.