من المعروف جيداً أن الآثار الأدبية التي يشترك في وضعها أكثر من مؤلف، تتفاوت عادة في نوعيتها إلى حدّ كبير. لكن على الرغم من تفاوت المقالات الثماني عشرة التي يتكون منها هذا المؤلَّف من حيث اتساع المجال والمنهاج، فإن أغلبيتها الساحقة تتميز بالجودة والنوعية العالية. إن هذه المقالات عربون تقدير واحترام لذكرى مالكوم كير، تاسع رئيس للجامعة الأميركية في بيروت، الذي اغتيل سنة 1984 في أوج حياته وعطائه خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
يُسْتَهل المجلَّد بمقدمة تمهيدية بقلم س. م. صيقلي، المحرر الرئيسي، وافتتاحية بقلم بيتر سي. دود. لكن المجلد لا يزودنا بأي بحث في حياة مالكوم كير عدا ما نوّه "دود" به في الافتتاحية. ويبدو أن هذا الأخير شاء، قبل تركه الجامعة الأميركية في بيروت، أن يكتب دراسة موجزة عن حياة مالكوم كير، كباحث ودارس. ففي الرسائل المتبادلة بيننا، طلب مني "دود" أن أساهم في وضع دراسة عن تقديمات مالكوم كير عندما كان طالباً في الدراسات العليا في جامعة "جونز هوبكنز" للدراسات العليا في الشؤون الدولية، خلال فترة 1955 – 1956. وبما أن ملفّات الطلاب من خرّيجي هذه الجامعة أُتلفت، فقد وضعتُ مذكرة مقتضبة مبنية على ذكرياتي عن مالكوم وبعثتُ بها إلى "دود" سنة 1985. ويبدو أن "دود" ترك المذكرة في الجامعة الأميركية في بيروت، وأن خليفته لم يستخدمها. وفي أية حال، كتب صيقلي مقالة ممتازة عن "الإنجازات الفكرية" لمالكوم، استناداً إلى كتابيْ مالكوم: "الإصلاح الإسلامي" و"الحرب العربية الباردة"، وإلى دراسات أُخرى قليلة تعالج موضوع النزاع العربي – الإسرائيلي. واكتفى صيقلي، في مقالته، بهذه المراجع فقط لأنه لم تتوفر لديه المصادر الكافية عن حياة مالكوم، كما لم تكن كتب مالكوم الأُخرى المنشورة في متناول يده في بيروت.
لكنْ ليس هذا كل ما في الأمر؛ فعندما يشير صيقلي إلى البحّاثة الذين يعترف مالكوم بأنه مدين لهم، يُبدي الملاحظة التالية: "إنهم جميعاً [فيليب حِتي، نبيه فارس، ماجد خدوري، هـ. أ. ر. غِب، ألبرت حوراني] مسيحيون أو، على أقل تعديل، غير مسلمين" (ص xx). إن ملاحظة صيقلي هذه بشأن الهوية الدينية لعائلات أساتذة مالكوم غير متصلة بالموضوع، ومن دون أهمية إلاّ في حال وجود تحفظات تجاه موضوعية هؤلاء الأساتذة واستقامتهم. زد على ذلك، إن مالكوم لم يكن بعيداً عن أجواء البحّاثة المسلمين الذين اجتمع إلى عدد لا بأس فيه منهم، وناقشهم في الشؤون الإسلامية خلال أسفاره في العالم العربي.
كما أن صيقلي يستخدم تعبير "الاستشراق" في الإشارة إلى أبحاث مالكوم في الدراسات الإسلامية. فالمستشرقون الذين تخصّصوا بالدراسات الإسلامية اتُّهموا بالتحامل العرقي والسياسي وأشكال أُخرى منه. وهم، ككل البحّاثة في حقول أُخرى، معرضون لأن يكشفوا عن نزعة وآراء غير موضوعية في السياسة أو خلافها. لكنّ عدداً منهم ساهم مساهمة قيّمة جداً وموضوعية في الدراسات الخاصة بهذا المجال. ومنذ عهد قريب، أدخل البحّاثة الغربيون الأساليب والمناهج الجديدة في اختصاصاتهم، في موضوع الدراسات الإسلامية، بحيث لم يعودوا يدعون مستشرقين وإنما "بحّاثة في الشؤون الإسلامية." وبهذا المعنى، فإن في الإمكان تسمية مالكوم بحاثة في الشؤون الإسلامية في مجال العلم السياسي.
أما بقية المقالات فتقسم إلى ثلاثة فئات كبرى: 1) مقالات عن لبنان؛ 2) مقالات في سياسة الشرق الأوسط الحديث؛ 3) مقالات في موضوعات إسلامية. وبما أن مالكوم كير وُلد في لبنان إذ عمل والداه في هيئة التعليم في الجامعة الأميركية، فإن ست مقالات تشكل القسم الأول من المجلَّد المخصَّص لإحياء ذكراه. وتعالج كل مقالة إمّا حقبة معينة من التاريخ اللبناني مثل "جبل لبنان تحت حكم المماليك" بقلم كمال الصليبي، وإمّا موضوعات معينة تدور حول النظام الحكومي أو حول عائلة مالكة، شأن "النظام الإقطاعي في لبنان كما صوره ناصيب اليازجي" بقلم عبد الرحمن أبو حسين. يلي ذلك مقالتان تحليليتان لأفكار وإنجازات إثنين من الكتّاب: سليمان البستاني كرجل الدولة المفكّر بقلم ألبرت حوراني، ومادية شبلي شميل بقلم ماجد فخري. أمّا آخر مقالة في هذا القسم، وعنوانها "رأس بيروت في مهب الرياح: جماعة متحررة مهددة بالخطر" بقلم سمير خلف، فهي تحليل اجتماعي رائع لتطور جماعة صغيرة نسبياً في الشطر الغربي من بيروت حيث توجد الجامعة الأميركية. وتعكس هذه المقالة تأثير الإيديولوجيات المتضاربة في حياة الجماعة المتغيرة، منذ أن بدأت تتبدل وتزدهر في أواسط القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر، عندما اندلعت الحرب الأقلية في أواسط السبعينات.
القسم الثاني من المجلد، الذي يتألف من أربع مقالات عن السياسة في الشرق الأوسط الحديث، هو حقل ساهم مالكوم فيه بعدد من المؤلفات. المقالة الأولى وعنوانها "التدخل الخارجي في لبنان: الدينامية التاريخية" بقلم رشيد الخالدي، تتناول أسباب التدخل الأجنبي. وفي الأساس، كما أسلف الكاتب عن حق، فإن التشرذم الداخلي في لبنان، على أساس طائفي واجتماعي وعرقي، أدى غلى قيام نظام حكم ضعيف كان عرضة لاجتذاب التدخل الخارجي. لكن في الإمكان إضافة القوى الجيو – سياسية أيضاً كعامل، إذ إنه حتى بلد متماسك مثل مصر أُخضع أيضاً للتدخل الأجنبي عندما أَمْلَت فرنسا سنة 1798 وبريطانيا سنة 1882 – سعياً وراء حماية مصالحهما الأمبراطورية – إرادتهما على مصر، على الرغم من المقاومة القومية القوية.
وبما أن كير كان مهتماً أيضاً بدول عربية أُخرى، فقد أُفردت مقالتان لمعالجة موضوعي تورط مصر في النزاع العربي – الإسرائيلي، وسياسات مصر الإقليمية والخارجية. المقالة الأولى، وعنوانها "ناصر وحرب حزيران/يونيو 1967: خطةأم ارتجال"، بقلم ل. كارل براون؛ والمقالة الثانية وعنوانها "سيناريوات كير عن مصر: عملية إعادة تقويم"، بقلم محمد سيد أحمد؛ وهناك مقالة ثالثة عنوانها "الاستراتيجية الأميركية في مفاوضات كامب ديفيد"، بقلم و. ب. كوانت، تعالج المشاركة الأميركية في أول عملية سلام بين إسرائيل والعرب.
ويتألف القسم الثالث من المجلَّد من سبع مقالات تعالج موضوع التراث الإسلامي. لكن مقالتين فقط – الأولى بعنوان "أنواع من التجارب الدينية في القرىن" بقلم فريدريك م. دني، والثانية بعنوان "السيادة والتراصف الاجتماعي في الإسلام" بقلم فؤاد أ. خوري – تبقيان وثيقتي الصلة بالدراسات الإسلامية. أما المقالات الأربع الباقية، في هذا القسم، فتعالج موضوعات دراسية في التنجيم والفلك والآثار، وهذه موضوعات بعيدة جداً عن اهتمامات وحقل دراسة مالكوم، على الرغم من أنها دراسات بحث متخصّصة وذات مستوى عال. أمّا المقالة السابعة والأخيرة، وهي بعنوان "وليم هنري وادينغتون: مستشرق ودبلوماسي" وبقلم هنري ماك آدام، فهي دراسة رائعة عن حياة رجل دولة ودبلوماسي فرنسي اهتم كثيراً بالنقود الإغريقية والرومانية. غير أن معظم المقالة يدور حول حياة وادينغتون السياسية، وخصوصاً تورطه في المسألة الشرقية ومؤتمر برلين سنة 1878، الذي شارك في أعماله. وبما أن مقالة هنري ماك آدام تتضمن القليل عن مجموعات وادينغتون النقدية، فإنه يبدو منطقياً تصنيفها في فئة الدراسات عن السياسة في الشرق الأوسط الحديث، لا في فئة الدراسات الإسلامية.
إن "بحثاً عن الفهم..." مجلَّد أُحسن البحث فيه ولاءمته للموضوع، الأمر الذي من أجله نقدم الشكر والتهنئة إلى المحررين والمساهمين على حد سواء.