هل أنا من تلك القلة القليلة من أهل القلم على وجه هذه البسيطة (ويقال إن وليم فولكنر كان أحدهم) الذين لا يكلّفون أنسهم عناء قراءة ما يكتبه النقاد عنهم؟ أبداً، والعياذ بالله. فأنا أقرأ ما يكتبونه بشغف، وحين لا أحظى بنقد يمجدني تمجيداً فإن أُخرج لعبتي السحرية (من سحر "الفودو") وأسهر الليل بكامله أغرز فيها إبرة خياطة حادّة قائلاً "خُذها وخزة أيها الجاهل التافه - هنا، وهنا وهنالك!"، بينما أنا أترنم باسم الناقد مراراً.
هذا ما يبلغه مدى الغيظ عندي، ومدى العقوبة التي أرجو أن ينالها الناقد الذي يجرؤ على تجريح أي من كتبي الجديدة.
لذا، فبيني وبين شريف الموسى، الذي عرض كتابي*، خصام. وليس السبب في ذلك أنه انتقد كتابي، فهذا من واجب الناقد، بل لأنه، وبكل بساطة، لم يفهم المرام.
على امتداد ربع قرن مضى، كانت حرفتي حرفة الكاتب الذي يكتب عن الذات، مستلهماً رماد تجاربي ومخلفاتها الجارحة لكوني تائهاً بلا بيت، وفلسطينياً نُفي من مخيمات اللاجئين، كان همُّه أن يوسّع تفصيلات حياته الخاصة كي تشمل في طيّاته عالمية الحالة الفلسطينية عموماً. ولم أُولِ اهتماماً سوى لتلك الأحداث التي رأيتها ذات شأن كبير وذات صلة وثيقة بنسيج تلك الحالة الأوسع، فهذه وحدها كانت تشكل مادتي الأساسية.
ومن المعروف، في الأدب الغربي على الأقل، أن كتابة هذا النوع من السيرة الذاتية يبدّل عند قارئه، وعلى نحو عميق أحياناً، طبيعة الوعي وتعريفات الهوية. وفي أفضل الحالات، فإن هذا الصنف من الأدب يجلب معه شحنة أقوى من الملاحظة، وتبصّراً أكثر حساسية للإمكانات البشرية مما قد نجده مثلاً عند عالم اجتماع أو عالم سياسي يهتم بإيصال مثل هذه الأمور، أو يطمح إلى إيصالها إلى قارئه.
عندما جلست لأكتب كتاب "عودة المنفي"، كنت أنوي، وأنا هنا أضع التواضع جانباً، أن أصوغ كل مشهد من مشاهده بحيث أجعل منه كمن ينحت شيئاً ما من مقلع تجربة المنفى الفلسطيني، وأن أجعل العالم من حولي إطاراً (حتى في أماكن مثل أوستراليا والنيبال وباريس وواشنطن) كمثل المرآة الحية، أو الصدى لنسيج فلسطينيتي وجذورها. وكان أملي أن هذا الأمر سيتبين في كتابي لدى إنجازه.
يبدأ الكتاب ليروي قصة زيارتي الأُولى إلى فلسطين منذ أن غادرتها طفلاً، غير أن هذه القصة تتشابك عن قصد مع نظرات خاطفة إلى الوراء باتجاه حياتي في المنفى. وكنت أقصد هنا إلى تبيان المكان الذي تلتقي فيه تجارب المنفى، وتجارب أرض الوطن، والمكان الذي فيه تفترق.
ومثل كل كاتب للسيرة الذاتية، أخضع للانتقائية في الذاكرة. إن التبدلات الأساسية في فحوى حساسيتي الفكرية في أية لحظة من لحظات البداهة من حياتي هي التي تحدد المادة التي أستخرجها لأعمل فيها. ولأعوام عدة، لم أشعر بالحاجة إلى إشراك قارئي، ولا حتى أصدقائي، في حادثة وقعت عندما كنت فتى يافعاً وتتعلق بمقتل شقيقتي "غسلاً للعار". كان الحدث مروعاً ومدمراً لجغرافية روحي بحيث أنني كثيراً ما عمدت إلى لمسه في أعماق عقلي. وفي أعمال السابقة، حيث لم يكن لشقيقتي حضور بارز، أو لم تكن تستأهل دوراً لها في الموضوع، لمّحت إلى مصيرها تلميحاً. وبالإضافة، فإن الكشف عما حل بها كان من شانه أن يعني الحاجة إلى تفسير الأهوال الطقسية التي تسم قواعد السلوك في الثقافة العربية، كما يعني تشويه سمعة أولئك الناس وسمعة ذاك المجتمع الذي كنت آنئذٍ، وفي غياب أي توقد فكري لدي، أضفى عليه بلا خجل، هالة من الرومانسية. وفوق كل هذا وذاك، كنت أكتب باللغة الإنكليزية وإلى أبنائها. كنت أحاضر أمام مستمعين أميركيين، باعتداد هادئ بالنفس في غالب الأحيان، بشأن مناقب النضال الفلسطيني.
كانت تلك الأيام أيام "الوحدة الوطنية" التي تأسر الألباب. لم نكن ننتقد شعبنا حتى فيما بيننا من هو رئيس التحرير الذي كانت الصفاقة تبلغ به إلى حد أن ينشر آنذاك، أو من هو الكاتب الذي كانت الوقاحة تبلغ به إلى حد أن يكتب آنذاك، في مجلة عربية واسعة الانتشار باللغة الإنكليزية، مقالاً نقدياً صريحاً ومطولاً بشأن أنماط السلوك البالية في الثقافة العربية مثلاً، أو بشأن غياب المثالية وتفشي الفساد والحماقة في صفوف فئة موظفي منظمة التحرير الفلسطينية؟ (وقد حُذفت من مقالة كتبتُها لهذه المجلة منذ أعوام طويلة إشارةٌ عابرة إلى أحد ممثلي منظمة التحرير جاء فيها أنه "كان بديناً ولم يكن يلائم صورة الرجل الثوري.").
أجل، كانت تلك فعلاً أياماً تأسر الألباب، غير أنها كانت أياماً شهدت قيام تحالف بين فئة موظفي المنظمة ومجموعة أهل الفكر سرعان ما ابتذل القضية الفلسطينية وكان بمثابة تواطؤ خفي بين المثقف المناضل وبين "الكوميسار" الفاسد، إرضاء للشهوة الشيطانية المنحرفة لما كان يُسمى "الوحدة الوطنية". وبمعنى ما، كان الأمر بمثابة عقد مع الشيطان. فالشيطان من جهته سهّل للمثقفين، أو للراغبين منهم، الوصول إلى الجاه والسلطة والمال، والمثقفون من جهتهم أشاحوا بأنظارهم عن تجاوزات الشيطان.
ومنذ توقيع اتفاق أوسلو، والشيطان في ذهاب وإياب يطالب بدفع أجره. وبعد أفول المنظمة، وبعد أن بلغت السلطة الفلسطينية أوجها، ها هو الشيطان يقرع أبوابنا بشدة. ومن منا يريد أن يتناطح مع قرون الشيطان؟
وحين شرعت في كتابة "عودة المنفي" سنة 1991، كان اغترابي عن الثقافة العربية عامةً، والفلسطينية خاصةً، ولأعوام عدة، جزءاً من شكل يتبدّى أو من نموذج يتكوّن في وجداني الفكري. وأصبحت آنئذ على استعداد للحديث عن شقيقتي لأن مصيرها أضحى يلائم روايتي ويتناغم معها. وكانت تلك الرواية في جزء منها مكرسة للنظر في كيف تقضم سلامةَ العقل الإنساني اللصوصيةُ المظلمة والساديةُ الممأسسة اللتان تجتاحان عالمنا حالياً.
غير أن ناقد الكتاب في مجلتكم لم يكترث لأي من هذه الأمور. فقد شكك في صدقيتي ككاتب من خلال التلميح البذيء (ولا يوجد أي نعت آخر يلائم المقام) بأن مقتل شقيقتي ربما لم يحدث حقاً، وإن كان قد حدث فعلاً فإنه يريد أن يعرف لماذا لزمت الصمت حيال هذا الأمر في كتاباتي السابقة، فيقول: "مهما يكن الأمر، فالشكوك تلقي ظلالها على حقيقة أجزاء أُخرى من روايته."
إن الذكريات هي مرساة مغزى الوجود الفردي. وأنا أقول إن هناك ذكريات تكون أحياناً جارحة جداً، وخارج نطاق رغبة الكاتب في جعلها جزءاً من خطوط صورة علنية - ذكريات يلوذ حيالها بالصمت.
وبكلام آخر، فإن ناقد كتابي قد أخطأ الهدف. كما أنه لم يفهم مغزى انتقادي للغة العربية، أو على الأصح للعربية الرسمية التي تتميز عن الفصحى القديمة واللغة المحكية معاً. فالعربية الرسمية هي اللغة التي نستعملها اليوم لنجعل نظرتنا إلى العالم وأدبنا الحديث وهويتنا كلها رسمية. ويشكو قائلاً "والعربية الفصحى هي أيضاً موضع سخرية [عند المؤلف]، فهي عنده مفخمة لا أمقل فيها و(لا تلائم التفكير المنطقي)، وهي المسؤولة عن التخلف في العالم العربي."
أجل، لقد عبّرت عن أفكار كهذه، مع أن صيغتها لم تكن مرتبكة كصيغته هو. لدي مشكلة كبرى مع اللغة العربية الرسمية. فاللغة، بلا شك، أكثر من مجرد نقد متداول للتبادل اليومي، إذ هناك تبادل عضوي وحيوي بين الذين يتكلمون لغة ما وبين الحقيقة الملموسة. والواقع إن من البديهي بين علماء اللغة أن الثقافة واللغة هما شيء واحد أحد. إن مجتمعاً يتميز بروحه الميتة وقمعه المتواصل كالمجتمع العربي اليوم لا يمكن أن يتكلم لغة دينامية ذات نكهة تموج بالطاقة واللمعان. إن مجتمعاً قمعياً من شأنه أن يشل لغته ويسفّه الأفكار ويفقرها ويغلّف أنبل المعاني في مستنقع من اللفظ الرومانسي. ولنا أن نسأل: كيف يمكن لألفاظ مثل الدولة، الديمقراطية، الانتخابات، الأم، المعارك، أن تستعيد مغزاها السليم في اللغة العربية بعد أن سفّهتها ألسنة أهل السياسة والمعلقين السياسيين الرخيصة؟
ومنذ أن نالت البلاد العربية "استقلالها" - وهذه لفظة أُخرى ذات دلالة - فاللغة العربية لم تفعل شيئاً سوى أن تتنصل بالتدريج من المتطلبات الصارمة التي يتطلبها البيان في المعنى وسلامة التفكير. وأنا أقول إن اللغة العربية الرسمية، شأنها شأن الثقافة المغروسة فيها لغوياً، منقطعة عن أية جذور محددة جيداً للحياة الأخلاقية. فهي متحجرة ومسفَّهة، وفاسدة، وتعكس التدهور في المجتمع السياسي، وانحلال المعايير الأخلاقية، والتراجع عن الفكر الحر الملآن نشطاً وحيوية. فحين تعمد ثقافة ما إلى تقليص النطاق الذي يتم التعبير فيه عن خطابها، فهي إنما تقلص لغتها بالذات فتحولها إلى لغط وجهل وتفاهة طنانة. وعند نقطة ما من هذه المسيرة، تنفصم العلاقة بين الحقيقة والفكر وبين العالَم والكلمة.
وفي هذا العالم المنفصم، حين نسعى لرؤية أنفسنا في مرآة اللغة، نرى المرآة قد انصدعت والصورة قد علتها غشاوة.
هذا الناقد الذي عرض كتابي ورمى بثقله ضد انتقادي العنيف للثقافة الشعبية الفلسطينية (ولو كتبت الكتاب ذاك في يومنا هذا لازداد انتقادي عنفاً) يقدم لنا الصورة الفضلى التي يرى فيها المرء وطنه. ويرد ذلك في بيت لأحد شعراء العرب لا يذكر اسمه.
يقول هذا الشاعر الصنديد:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
شكراً، لكن لا حمد. بلادي ليست عزيزة عليَّ إنْ جارت، وليذهب أهلي إلى الجحيم إذا ضنوا عليّ. إذا أردنا الدخول في القرن الحادي والعشرين مسلّحين بالمقدرة على معرفة ما يقوّض، وما يعيد ويعزز قبضتنا على الواقع، بحيث نصبح جزءاً من الحوار العالمي بين الثقافات، علينا أن ننبذ جانباً هذه الروح القبلية السخيفة. فإذا كانت بلادي "جائرة" فالواجب يدعو إلى جعل هذه البلاد التعيسة عادلة، وإذا كان قومنا الطفيليون لا يريدون أن يحسنوا التصرف، فالواجب يدعونا إلى طرد هؤلاء الصعاليك إلى خارج المنزل.
ثمة فصل في كتاب حيث يوغل الراوي في رحلة رهيبة من تدمير الذات، فيدخل في دوامة مجنونة، ويلجأ إلى المخدرات والكحول، ساعياً بلا وعي - لكن باطراد - للخروج من محنته من خلال الجنون والموت. وكان الغرض من هذا الفصل، كما من الفصول الأُخرى، أن يوضح أمراً معيناً. لم يُقدَّم هذا الفصل سرداً مجانياً للإسراف. كنت أحاول أن أقول إن الراوي، ولنقل هنا إنه فلان الفلاني الفلسطيني، يشعر بأن قيادته وحركته السياسية وأحلامه قد خانته. ثمة خواء في حياته لا يقدر أن يملأه. وبما أنه، وعلى امتداد ربع قرن كان قد قرن هويته وكرامته بمهنته ككاتب مناضل، فهو يشعر الآن بأنه حُرم أحلامه ومُثُله وسبب وجوده ومعناه. فلا سبيل إلى الخروج من هذا السأم الوجودي، ولا إلى الالتفات من حوله أو المروق من خلاله. وبما أنه لا يمكن أن يسد أُذنيه، ولا أن يشيح ببصره عن العربدة والإهانة التي لحقت بقضية آمن بها على امتداد ذاك الزمن الطويل، فهو مجرد تماماً من أية رغبة في الحياة.
كم فلسطينياً، وخصوصاً من أولئك الذين يعيشون في المنفى، تُركوا على قارعة الطريق من قِبل تلك القيادة، وتلك الحركة بالذات، التي أمضوا حياتهم في الترويج لها؟ كم منهم شعر بمثل هذا الشعور وفعل الأمر ذاته؟ بالنسبة إلى الكثيرين منهم، كانت آلامهم الشخصية التي لا تطاق مثل آلامي تماماً. وقد يكونون ترجموها بطريقة مختلفة فحسب، والاختلاف هنا نوعي لا كمي.
وهنا أيضاً لم يفهم الناقد المرام. فهو يجزم بأنن رجل أضحى "مدمناً على المخدرات والكحول، يبحث بل طائل عن المعنى." ومن خلال استخدامه لصيغة المضارع إنما يضلِّل القارئ لأنه لا يقول له إنني أوضحت في كتابي أن إدماني شغل فترة وجيزة في أواخر الثمانينات، وأن هذا الإدمان لم يعد جزءاً من نمط مقولتي المتغربة.
ومن أين أتى في كتابي بقوله إنني رجلٍ "يبحث بلا طائل عن المعنى"؟ إن كتابي كله في الواقع بحث عن المعنى، وعن اكتشاف الذات، وعن لب الهوية، وفوق كل هذا وذاك عن الدعوة الضرورية إلى شن هجوم على جميع المقدسات في النمط القمعي الذي يتحكم في حياتنا في العالم العربي اليوم - من الأزياء اللغوية السائدة في تصور الأشياء، وصولاً إلى القِيَم السياسية.
لم أشعر يوماً بأن بحثي عن الوسائل، أو عن المعنى، فيه شيء من "انعدام الجدوى". أنا نزيل الفنادق، رحّالة، متعدد اللغات، عضو في حزب "الدادا" الذي لا يكن احتراماً لشيء؛ وفي مجال السعي نحو "تحطيم الأيقونات"، فإني أتمتع بأن أكون في طبيعة أي تيار راهن، مهما يكن، يعارض كل ما هو موجود في محيطي. وإذا كنت تعلمت أية عبرة من تجاربي حين كنت أعمل في جزّ صوف الغنم في مجاهل أوستراليا، أو حين كنت من "الهيبيين" المخدَّرين في النيبال، أو حين كنت شاعراً أسعى لكسب لقمة العيش في باريس، أو كاتباً على شفير الموت جوعاً في مأوى للمشردين في واشنطن، أو تائهاً في "ديبون سيركل" ربطته أواصر الصداقة بغيره من التائهين ممن كانوا مثالاً رائعاً لنظرية أنطونيو غرامشي بشأن المثقف العضوي، فالعبرة هي التالي: الأفكار لا قيمة لها، إلا إذا عاشها صاحبها.
وكل ما أعرفه، وكل ما أكتبه، هما أمر عشته. وهذا السبب هو الذي يجعلني كاتباً اعترافياً. إن أية ومضة فكرية، إذا كانت ربيبة صاحبها فعلاً وتعبر عن مشاعره الحقيقية، تترجم نفسها، ومن دون جهد، إلى مغزاها الذاتي. وهذا النوع من المغزى بعيد جداً عن المغزى الذي "لا طائل فيه".
في هذه المرحلة من حياتي، إني أعتبر نفسي من العالم العربي، غير أنني لا أنتمي إليه. أنا من، لكن لا أنتمي إلى، ذاك المجتمع الفلسطيني الذي يريدني ناقد كتابي أن أحبه "وإنْ جار". إنه مجتمع تعمل وتتشارك وتنسق القيم والقادة والتراث وأنماط السلوك جميعاً فيه لشن هجوم يهدف إلى تدمير المسارات التي يسعى الفلسطينيون من خلالها لتأكيد هويتهم الذاتية كأفراد، ولأن يسمعوا أصداء هويتهم الوطنية الصادقة، ولأن يهربوا من وحشية ورتابة "البطركية"، ولأن يجدوا في نهاية الأمر الفسحة التي يمكن لهم أن يلملموا فيها شتات كيانهم الاجتماعي المبعثر، ويقيموا نوعاً من النظام الذي لا يمكن العبث بمقدساته؛ أي بكلام آخر: أن يخلقوا ثقافة شعبية متحررة تؤدي إلى دولة فلسطينية متحررة حقاً عندما يحين زمن الاستقلال. وإذا لم نصفع أهلنا "الكرام" حين "يضنّون" علينا ويحتقرون إنسانيتنا بمثل هذه السهولة، فما النفع من الانتماء إليهم، من الانتماء إلى جماعة عاجزة ممزقة على هذا النحو، إلى قوم مستبدين لا يشعرون بالأمان، إلى قوم يسجنون ويعذبون ويخرسون الكتّاب والشعراء وأصحاب الفكر الحر والمبدعين؟
إن مجتمعاً يسدد مثل هذا الطعن المميت إلى مثل هؤلاء الناس، تاركاً إياهم على قارعة الطريق وكأنهم نفايات يتناسى الدرس الأخير الذي علّمه زرادشت: "والآن، تدبروا أمركم من دوني." ومن دونه، أي من دون الكاتب والشاعر والمفكر الحر والمبدع، يبقى المجتمع أبكم، بل مخبولاً.
وأخيراً، فقد عرّفني الناقد بأنني الآن "في خريف العمر". وبما أنني أعشق الألفاظ الطريفة، فسأمر بهذا الوصف مرور الكرام. غير أنه عرّفني بأنني شخص "لا يخفي لؤمه". وأنا أقول له: آمين. أجل، إني لئيم ولا جال. أنا لئيم وغاضب ومحبط.
وإذا كنتَ فلسطينياً يعيش في التسعينات، فينبغي أن تكون أنت أيضاً كذلك.