كلمة وزير الخارجية المصري عمرو موسى، مدريد، 30/10/1991
Full text: 

السيد جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة السيد بوريس بانكن وزير خارجية الاتحاد السوفياتي:

السادة رؤساء الوفود:

اسمحوا لي في البداية أن أنقل إليكم، وإلى مؤتمر السلام الذي تشكلونه، رسالة التقدير العميق والأماني الصادقة من الرئيس حسني مبارك رئيس جمهورية مصر العربية، بأن تنطلق بانعقاد هذا المؤتمر عملية سلام حقيقي تفتح لشعوب الشرق الأوسط جميعاً آفاق عهد جديد، يستبدل بالظلم العدالة وبالقهر الحرية، وبالاحتلال التحرر، وبالعداء التعايش، وبالشك الثقة، وبالصراع التعاون، وبالحب السلام.

إن المشاعر لتتزاحم ونحن نجتمع اليوم في هذا البلد العريق ـ إسبانيا ـ الذي شهد تاريخه الطويل تفاعلاً إيجابياً بين الثقافتين العربية واللاتينية، هو اليوم أساس لإطار حضاري ثري، ودليل على أنه بتفاعل الحضارات ـ وليس بانفصامها ـ وبتداخل الثقافات ـ وليس بانعزالها ـ يتأكد التعايش ويتدعم التعاون ويعم السلام.

وفي هذا فنحن ـ المصريين ـ نحن العرب ـ أهل تاريخ وأصحاب إسهام في حضارة هذا العالم، وكما كان إسهامنا في ماضي العالم قديمه وقريبه إسهاماً مشهوداً موثقاً، فإن عزمنا لأكيد بأن نسهم في رسم أطر العالم الجديد، التي لا يمكن إلا أن تكون أطر تعاون وتفاعل، طالما كانت قواعد العدالة ومبادئ الشرعية لحمتها والمساواة والتقابل في الحقوق والالتزامات سداها.

إن الجهود العظيمة التي بُذلت حتى ينعقد هذا الاجتماع التاريخي وتنطلق به ومنه عملية السلام في الشرق الأوسط، والقبول الإجماعي بها من كافة الأطراف المعنية، لتمثل دلائل نرجو أن تؤكدها المفاوضات القادمة على بزوغ الإرادة وتمام التصميم، لدى الجميع، من أجل تحقيق تسوية عادلة وشاملة وسليمة للصراع العربي ـ الإسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية.

إننا ونحن أمام هذا المنعطف من تاريخ العالم، وحين تتطلع كافة شعوب الشرق الأوسط يحدوها الأمل والترقب إلى هذا الحدث، الكبير، نشعر مع ملايين العرب والإسرائيليين، مع هؤلاء الذين يتطلعون إلى الحرية وللسلام، بالامتنان العميق لتلك الجهود الشجاعة الدؤوبة، التي لم تعرف الكلل، والتي بذلتها الإدارة الأميركية منذ السادس من مارس [آذار] الماضي حين أطلق الرئيس جورج بوش مبادرته من أجل السلام.

كما أن الدعم الإيجابي والمستمر الذي قدمه الاتحاد السوفياتي قد أسهم في نجاح المهمة التاريخية لوزير الخارجية الأميركي السيد جيمس بيكر والذي أشهد بما لمسته عن قرب من قدراته الدبلوماسية الخلاقة حتى انطلقت عملية السلام.

ولقد استطاع الشعب الفلسطيني من خلال ممثليه أن يتخذ القرار الصعب، ذات القرار الذي اتخذته كل من سوريا والأردن ولبنان، وإسرائيل، وهو قرار تاريخي عظيم الدلالة والمغزى، قرار شجاع بقبول تحدي السلام، ويقيننا أن هذا القرار هو نفسه قرار قبول خيار السلام.

إن التحولات التاريخية في العلاقات الدولية، والتي حطمت جدران العزلة وأنهت أيديولوجيات المواجهة أرست الأسس التي ترتكز عليها التسويات العادلة وتحقيق السلام في مختلف مناطق التوتر والصراع.

لقد طرحت حركة التاريخ في هذه المرحلة أمام الشعوب والدول التي لم تستثمر ـ لظروف معينة ـ فرص السلام في السابق، فرصة جديدة وربما أخيرة لممارسة إيجابية لإرادتها، واستعادة حقوقها واختبار مستقبلها، وفتح آفاق التعاون والاعتراف المتبادل بالحقوق والالتزامات، من أجل إقامة سلام عادل يحسم الدعاوى المتناقضة بروح من المصالحة والمواءمة والتوافق من خلال الحوار والمفاوضات.

إن الشرق الأوسط مهد أعرق الحضارات ومهبط الرسالات السماوية الموحدة، اليهودية والمسيحية والإسلام، قد ابتلى عقوداً طويلة من الدهر بالحروب والعنف والثأر.

لقد قضت المقادير على الشرق الأوسط أكثر مما قضت على منطقة أخرى في العالم، بمآس يندر مثلها، تفيض بالدموع وتنضح بالدماء وتصرخ بالمعاناة الإنسانية. لقد ظلت أشباح اليأس والإحباط والفوضى والموت تعربد في كل بقعة من هذه البقاع المباركة.

ولكن لن يكون هذا هو القدر الأبدي للشرق الأوسط، إننا نؤمن بقدرتنا الجماعية على إعادة توجيه مسار التاريخ، وعلى أن نسطر فصلاً جديداً خالياً من الميراث المرير ميراث الحقد والثأر والخوف والشك، فصلاً يتسم بالتسامح والثقة، وبالجهد الإنساني المشترك من أجل أجيال قادمة من العرب، ومن الإسرائيليين، وعلى مستوى العالم كله.

أيها السادة:

لقد كان السلام هو الرسالة التي انبعثت من الشرق من سيناء أرض مصر، من الناصرة والقدس، من مكة والمدينة، تلك المنارات الخالدة للبشرية جمعاء، ورددت أصداء الدعوة للتوحيد بالله، فهل يكرس أحفاد إبراهيم عليه السلام أنفسهم من جديد لتلك الرسالة السماوية التي تدعوهم للسلام والإخاء؟ إن القرار بأيدينا وسوف نحاسب أمام التاريخ على قرارنا إنْ أخفقنا.. ولكن ليس أمامنا إلا النجاح.

إننا بالنوايا الحسنة، والعزيمة القوية، والإرادة السياسية الإيجابية، قادرون على أن نجعل عام 1991 بداية النهاية لمحن طالت آمادها وآلامها. إن اللحظة هي لحظة القرار التاريخي، لحظة الشجاعة والصبر، لحظة الحكمة والثقة بالنفس، لحظة الرؤية ونفاذ البصيرة.

إن موازين القوة عبر التاريخ، قديماً ووسيطاً وحديثاً، لم تكن أبداً موازين ثابتة، بل هي تتبدل كما أنها تنهار في أنساق متباينة في الزمان والمكان، والتاريخ على ذلك أكبر الشاهدين. والقوة لم تحسم ولن تحسم صراعاً مثل صراع الشرق الأوسط تتداخل فيه اعتبارات ودعاوى ترتكز على تراث من الدين والتاريخ والثقافة والجغرافيا، ولا تقتصر على جانب واحد فقط من أطراف الصراع.

ذلك هو المغزى الكامن وراء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ذلك الصراع الذي تعدى الحسم عن طريق القوة لأنه صراع حول الحقوق والدعاوى والدعاوى المضادة، التي تستحق التوفيق لا الإنكار ولا الإهدار.

أيها السادة:

إن مصر، من أجل هذا كله، وهي الشريك والند الكامل في السعي من أجل السلام لن تترك عقبة لا تزيلها، أو درباً لا تسلكه أو آفاقاً لا ترتادها من أجل النهوض بمسؤولياتها حيال أشقائها العرب والفلسطينيين، بل حيال منطقتها بكاملها، حتى يتم إحلال سلام حقيقي، سلام في ظل الشرف والكرامة للجميع.

إن أواصر التاريخ والحضارة والالتزامات القانونية التي تربط مصر بأشقائها العرب، وعلاقة السلام التي تربطها بإسرائيل، لتسوغ لها تقديم الدعم القوي للمطالب المشروعة بتطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338 وللمساهمة في وضع إطار للسلام والأمن والتعاون لكافة الدول في الشرق الأوسط، الأطراف في النزاع العربي ـ الإسرائيلي. إن مصر لتشعر بالارتياح والطمأنينة العميقة لأن الرعاية بل المشاركة الأميركية السوفياتية في رئاسة المؤتمر وفي المؤتمر نفسه تضع عملية السلام على قاعدة انطلاق أكثر أمناً وأرسخ أساساً، كما أن اشتراك دول المجموعة الأوروبية يشكل ضماناً إضافياً ثميناً ومطلوباً، وبهذه المناسبة أحيّي المواقف الإيجابية للمجموعة من الحقوق المشروعة لأطراف النزاع، وأما وجود الأمم المتحدة فيمثل رمزاً للشرعية الدولية بالإضافة إلى أن قراريها 242 و338 هما أساسا عملية التفاوض، ومبادئ ميثاقها هي الإطار الذي تتم بين ضفتيه أية تسوية عادلة ومقبولة.

إن هذه المشاركة الدولية الواسعة تكرس التأييد الدولي الذي لا يتزعزع لعملية السلام، وهو القوة الدافعة وراء التقدم نحو بلوغ أهدافها.

إن عائد السلام لن يكون حكراً على طرف دون آخر، أو على الأطراف المعنية مباشرة بعملية المفاوضات، فالمنطقة بأسرها، وفي البحر المتوسط، وأوروبا، بل العالم أجمع سوف يكون شريكاً في جني ثمار السلام. إن الدول كافة لها مصلحتها المباشرة والأكيدة في تحقيق تسوية عادلة وشاملة للصراع العربي ـ الإسرائيلي تلبي الحقوق المشروعة والثابتة لكافة الشعوب بما فيها الشعب الفلسطيني وخاصة حقه في تقرير المصير، وتقيم سلاماً يوفر الأمن لكل الدول بما فيها دولة إسرائيل من خلال الاعتراف المتبادل بالحقوق على أساس من التكافؤ والعدالة.

إن مصر في ساعة من أروع ساعات تاريخها عام 1973 دعت إلى السلام، وفي عام 1977 كانت الرائدة في مسيرة السلام، وفي عام 1979 صادقت على السلام مع إسرائيل. إن مصر من خلال جهودها الدؤوبة الجسورة من أجل السلام تمسكت بموقف لا يتغير، يستند إلى التزامها بالشرعية الدولية، وبميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، واليوم فإن مصر أشد ما تكون التزاماً بنفس المبادئ، التي لا تبديل فيها ولا مساومة عليها.

أيها السادة:

إن السلام الذي نسعى لإرسائه وتعزيزه وضمانه، لا بد وأن يؤسس على صيغة الأرض مقابل السلام، التي تتمثل في قرار مجلس الأمن 242، الذي أكد دون لبس، المبدأ الراسخ في ميثاق الأمم المتحدة بعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وضمان حق كل الدول في العيش في أمن وسلام.

هذا السلام له مقوماته وأركانه وعناصره ويعني الحق مقابل الحق، والالتزام مقابل الالتزام، والأمن مقابل الأمن، والسيادة مقابل السيادة، هذا وحده في يقيننا وضميرنا ما يحقق مقولة السلام مقابل السلام.

ولا نتصور أن تكون المبادئ التي صادق عليها العالم وأقرها، موضعاً لتفاوض أو محلاً لتفسير أو مجالاً لمزايدة.

إن الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلت منذ عام 1967 في الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، وغزة ومرتفعات الجولان السورية تنفيذاً لقرار مجلس الأمن 242، وكذلك من جنوب لبنان تنفيذاً لقرار مجلس الأمن 425 هو المدخل الصحيح لإقرار سلام حقيقي على أساس من العدالة والكرامة. لا مساومة على الحقوق العربية في الأراضي العربية. إن الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني هو الضمان الأول للتعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين بل ومع العرب جميعاً في كافة أوطانهم.

إن العرب لم يأتوا للتنازل عن حقوقهم التي حظيت بالقبول والإقرار والتأييد في ظل قواعد القانون الدولي ومبادئ العدالة وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها والإجماع الدولي، ولا هم أتوا للتخلص من التزاماتهم طبقاً لنفس هذه القواعد والمبادئ، وإنما أتوا ليبحثوا، وبالنوايا الحسنة والثقة المتبادلة، عن أرضية مشتركة وعن صياغات مقبولة تستجيب للشواغل وتوفق بين مختلف المطالب، وتحقق الاتفاق حول الترتيبات والأساليب التي تكفل الاحتياجات المشروعة لكل الأطراف، وبشكل عادل ومتكافئ ودون المساس بحقوق أي طرف وإننا ندعو إسرائيل لأن تنتهج نفس النهج.

أيها السادة:

إن انطلاق عملية السلام التاريخية يجب ألا يتعثر فوق عراقيل تعوق تطورها المطرد نحو التسوية الشاملة والدائمة ولا بد من توافر واحترام عدد من المتطلبات الأساسية:

أولاً: إن الوضع القانوني للشعب الفلسطيني لا يقبل الطعن، فالشعب الفلسطيني ليس مجرد سكان أو قاطنين في أراض مفتوحة، بل شعب له تاريخ وحضارة، وشخصية قومية متميزة لها كل خصائص الشعوب الأخرى.

ثانياً: إن الضفة الغربية وغزة والجولان السورية أراض عربية محتلة تخضع للتطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن 242، وهي أيضاً ليست أراضي مفتوحة، ولا هي أراض موعودة لشعوب أخرى، بل إن لها أصحابها الشرعيين، كما أن الدعاوى القائمة على غير مبادئ الشرعية والقانون الدولي لا مكان لها في عالم اليوم.

ثالثاً: إن المستوطنات التي تقام في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس، هي مستوطنات غير مشروعة، والمزيد من المستوطنات يصادر أي تقدم ممكن نحو سلام حقيقي، ويلقي بظلال من الشك على مصداقية العملية ذاتها، ولا بد من إيقافها حتى لا تعرقل مسيرة السلام وتقوض أساسي المفاوضات حول المستقبل النهائي للأراضي المحتلة وتفتت إرادة التعايش.

رابعاً: لمدينة القدس وضعها الخاص، حيث يتعين أن تظل حرة مفتوحة مقدسة لكل المسلمين والمسيحيين واليهود، وألا تمارس قوة الاحتلال أي احتكار أو سيادة غير مشروعة على المدينة المقدسة، كما أن تكريس القرارات المنفردة التي أصدرتها سلطة الاحتلال بضم المدينة لا يمثل بالنسبة لنا قرارات تتمتع بأي مصداقية أو مشروعية، ومن ثم فيجب أن يخضع وضع المدينة للتفاوض ويتقرر بالاتفاق في إطار الشرعية التي صاغتها قرارات أجمع عليها المجتمع الدولي.

إن النزاع العربي ـ الإسرائيلي يتأسس في جوهره على الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ويعتمد في انطلاقه وتقدمه على تسوية المشكلة الفلسطينية أرضاً وحقوقاً. ولكنه يستلزم كذلك إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية التي جرى احتلالها عام 1967 وانسحاب إسرائيل إلى حدود سوريا الدولية.

ومسيرتنا نحو تحقيق ذلك يجب أن تتم بالعقل والحكمة وتستهدف العدالة والإنصاف، وتتم في إطار التوازن في الحقوق والالتزامات وعلى قاعدة الشرعية الدولية ومن منطلق الفهم الصحيح والواعي بحركة التاريخ.

أيها السادة:

إن مؤتمر السلام يبشر بمنعطف جديد في تاريخ الشرق الأوسط فهو يجمع أعداء وخصوم الأمس في لقاء واحد ويسعى لرأب الصدوع الهائلة بينهم، وهو يجسد التطلع واللهفة في نفوس الشعوب العربية والفلسطينيين والإسرائيليين لبلوغ السلام، ونتطلع بالأمل في أن يحسم المؤتمر وما يطلقه من عملية سلام ذلك الصراع التاريخي بين العرب والإسرائيليين.

إن واجبنا ألا نخذل شعوبنا وشعوب العالم، وألا نستسلم للحظات اليأس. نحن لم نأت إلى هنا لنفوز من الغنيمة بالإياب، بل أتينا لنفوز معاً بأعظم الغنائم.. بالسلام وهو جائزة لا يمكن التفريط فيها أو التهوين منها.

إن ملايين الآباء والأمهات.. عرباً وإسرائيليين، بقلوبهم التي انطوت على مشاعر الألم لأبناء فُقدوا، ولأزواج غابوا، وأعزاء ذهبوا ولم يعودوا.. هؤلاء الملايين يتطلعون بعيونهم التي أرهقها القلق وأضناها لهف الانتظار، تجمعها الآن بوارق الأمل.. تلك الملايين هي فيالق السلام.. لا الحرب، ترفع غصن الزيتون، وتتوجه لنا جميعاً بنداء السلام والإخاء لنقتحم بوابة التاريخ الإنساني الجديد.

إن المصاعب هائلة، لكن التوقعات باهرة. إن آفاقاً جديدة من التعاون سوف تنفتح، وقنوات جديدة من الاتصال سوف تؤسس، لقد حان الوقت لإزالة مصادر التوتر وأسلحة الدمار الشامل، ولا سيما الأسلحة النووية من الشرق الأوسط، حتى تكرس موارده التي لا تزال تهدر في سباق التسلح، لاحتياجات التنمية والرخاء المشترك.

لقد حانت لحظة الصدق والالتزام والأمل. ولقد اخترنا السلام الحقيقي هدفاً وغاية.

إن الطريق مليء بالأشواك، والمسيرة مرهقة مضنية والتحديات هائلة، لكن الغاية عظيمة ونبيلة وتستحق مسيرة الحج من أجل السلام.

والسلام عليكم ورحمة الله.

 

المصدر: "الأهرام" (القاهرة)، 31/10/1991.