زعيم المعاضة الإسرائيلي، شمعون بيرس، يحدد ماهية العمق الاستراتيجي الذي تحتاج إسرائيل إليه، 21/2/1991
Full text: 

قررت أوساط اليمين الاحتفال ﺑ "سقوط" هؤلاء الذين يؤمنون بضرورة تسوية النزاع بيننا وبين العرب بالوسائل السلمية. انهم يزعمون ان الآن بالذات ثبتت اهمية "العمق الاستراتيجي"، للاحتفاظ بكل المناطق، وخصوصا في الوقت الذي "يرقص العرب على السطوح لدى مشاهدتهم الصواريخ وهي تسقط على إسرائيل."

ان هذا "الاحتفال" لا علاقة له بالواقع مطلقا. صحيح ان هناك عربا "يرقصون على السطوح"، لكن هناك عربا أيضا يسيرون على الأرض. لقد انضمت ثماني دول عربية، أول مرة في التاريخ، إلى تحالف تقف الولايات المتحدة على رأسه، من أجل دحر نظام عربي وإسلامي متطرف في العراق. انهم ليسوا من "محبي صهيون"، لكنهم ليسوا مسدودي الرؤوس. لقد بقي الرئيس مبارك وفيا لاتفاق السلام مع إسرائيل. وهذه أول مرة في تاريخ النزاع بيننا وبين العرب، يظهر فيها ممثل سعودي ـ هو الأمير بندر ـ ليدلي بأقوال مفاجئة في واقعيتها تجاه إسرائيل. وكان الملك حسين مستعدا للشروع في مفاوضات معنا، لكن يتسحاق شمير حال دون ذلك. كما اقترح وزير الخارجية [الأميركي جيمس] بيكر وفدا فلسطينيا ـ لا ينتمي إلى م.ت.ف. ـ لإِجراء مفاوضات معنا، لكن يتسحاق شمير هو الذي رفض ذلك أيضا.

انني افترض ان المنع والرفض كانا لضمان "عمق استراتيجي"، أي الإِمساك بالمناطق كلها وعدم التنازل ولا خطوة واحدة ولا حتى عن شبر واحد. ماذا يعني هذا الافتراض؟ ان تكون إسرائيل بحاجة إلى "عمق استراتيجي" لتبقى. لأنها إذا حافظت على المناطق كلها، فمن المشكوك فيه ان تحظى بالسلام. هذا هو المنطق الكامن في العمق الاستراتيجي: نعيش مع المناطق كلها من دون فسحة لحل وسط يؤدي إلى السلام.

لكن هل سيحمل لنا "العمق الاستراتيجي" الأمن المرجو؟

إذا احتفظنا بالمناطق كلها، واستمرت حالة الحرب، فسيستمر أيضا سباق التسلح الذي يشمل السلاح غير التقليدي: رؤوسا كيمياوية وبيولوجية اليوم، وربما رؤوسا نووية في المستقبل. ان تدمير البنية التحتية للسلاح غير التقليدي في العراق، لا يضمن سوى مهلة؛ إذ يمكن إعادة إنشاء هذه البنية التحتية، سرا، وبعيدا عن الأنظار، وخلال فترة غير طويلة. كما ان مراقبة مبيعات الأسلحة إلى منطقتنا لا تضمن الكثير. وان قيدا كهذا قد يدفع إلى إقامة صناعات أسلحة في الدول العربية.

ان الدول العربية ستواصل تطوير الصواريخ أيضا؛ وليس من عادة الصواريخ التفكير في مدى "العمق الاستراتيجي" أكثر من اللازم. فعندما يطلق صاروخ من العراق او من سوريا، فانه لن يتعوّق في يهودا والسامرة او في غزة لطلب الإِذن في مواصلة سيره.

ان من يرفع لواء "العمق الاستراتيجي" لكأنما يسلّم، بالتالي، باستمرار سباق التسلح كأمر واقع. ولا يشكل سباق كهذا تهديدا مستقبليا لاسرائيل، وإنما يجبي أيضا ثمنا آنيا من اقتصادنا، لأنه سيكون علينا ان نستثمر أكثر فأكثر من الأموال في ميزانية الأمن. وكلما كان السلاح حديثا غلا ثمنه أكثر. و"القذيفة الذكية" إنتاج مدلل جدا، إذ يكلف إنتاجها وامتلاكها ثروة طائلة.

ان "العمق الاستراتيجي" ـ أي سياسة "ولا خطوة ولا حتى شبر" ـ يمكنه ان يشكل أيضا تحالفات جديدة في العالم العربي. وكان الحظ إلى جانب إسرائيل عندما تحاربت إيران والعراق طوال ثمانية أعوام، وبعد مرور عامين انطلق هذا القائد الأخرق صدام حسين لمحاربة الولايات المتحدة. لكن هاتين الحربين ما لبثتا ان انتهتا، وإذا لم نبذل جهدا لنفعل في الشمال ما فعلناه في الجنوب ـ أي تسوية علاقاتنا بالأردن وسوريا والعراق وإيران، او بواحدة منها على الأقل ـ فستبقى متجهة نحو تحالف مقلق في المستقبل.

وهنا يطرح السؤال ثانية، أي طريق هو المفضّل: إعادة سيناء إلى مصر في مقابل تجريد المنطقة من السلاح وإقامة علاقات سلام معها، ام حرب ابدية مع الفلسطينيين، ومع الأردن، ومع آخرين؟ اين لنا "عمق استراتيجي" أكثر، في الجنوب مع مصر ام في الشرق مع الأردن؟

ان معنى "العمق الاستراتيجي" هو أيضا استمرار الاضطراب في المنطقة الواقعة بين الأردن والبحر، والتي يعيش اليوم فيها نحو 6,2 ملاين نسمة ـ 3,7 ملايين من اليهود و2,5 مليون من غير اليهود. لقد أدركت الولايات المتحدة في حربها ضد العراق، ان في الامكان الانتصار في ساحة القتال والانهزام على شاشات التلفزة. ولذلك، فقد اتبعت استراتيجية يمكنها ان تستوعب التلفزة ايضا.

ان الانتفاضة قد ألحقت ضررا كبيرا باسرائيل، لا بسبب الاصابات في الأرواح فقط، بل بسبب إصابة الصورة أيضا. انها قاتلة بالنسبة إلى إسرائيل في انعكاسها على شاشة التلفزة. فاذا استمر النزاع، فان الصورة التي ستصوّر إسرائيل بها ستكون صورة بلد يحاول ان يحكم سكانه من غير اليهود بالقوة.

وان اي "عمق استراتيجي" لن يتحسن أيضا بواسطة "الترانسفير". فهل يمكن تنفيذ نقل 250 مليون عربي من الشرق الأوسط؟ سيكون علينا ان نعيش إلى جانبهم في المستقبل أيضا. وان إقصاء بضع مئات الآلاف من العرب من مكان إلى آخر سيكون فضيحة لا مثيل لها. وهل من قيمة على الاطلاق في إقصاء سكان بكاملهم بضع عشرة كيلومترات شرقا او شمالا في عصر الصواريخ؟

ان إسرائيل تحتاج فعلا إلى "عمق استراتيجي"، لكن إلى عمق استراتيجي من نوع آخر؛ كهذا الذي يمزج بين القدرة الدفاعية والقدرة السياسية. علينا ان نحافظ على قدرة ردعنا وعلى قدرة الجيش الاسرائيلي، وحتى تعزيزهما في ضوء الأخطار الإِضافية. لكن، بالاضافة إلى هذه القدرة ـ وليس على حسابها ـ يجب ان نحاول التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، ومع الأدرنيين، ومع دول عربية اخرى، بشأن ترتيبات سلام مبنية على الحل الوسط؛ حل وسط في الأرض، وحل وسط في السلطة، وحل وسط في المدة، او حل وسط يشمل هذه العناصر الأساسية كلها.

والى حين ولادة جيل شاب للقيادة الفلسطينية، يمكن ان يقبل بوجهة نظر الليكود في شأن "العمق الاستراتيجي" من دون حل وسط ـ حتى يحين ذلك، يجب إجراء مفاوضات مع القيادات الفلسطينية في المناطق، مهما تكن آراؤهم ـ ما داموا ليسوا أعضاء في م.ت.ف. ـ من أجل التوصل إلى "عمق استراتيجي" معناه منع الحرب، عوضا من الحؤول دون وضع يمكنه ان يقود إلى السلام.

 

المصدر: 

"معاريف"، 22/2/1991