الخراف الجرباء
Les Brebis Galeuses
Par: Yoram Binur. Paris: Presses de la Cité, 1990.
إسرائيل سذاجة كبرى، أما الفلسطيني فهو حليف الديمومة. تلك هي الخلاصة التي يصل إليها قارئ "الخراف الجرباء" أو "عدو نفسي" وفقاً للاسم الأصلي لكتاب الصحافي الإسرائيلي يورام بينور. والكاتب ضابط إسرائيلي سابق عمل بعد تسريحه سنة 1984 في أسبوعية "كول هاعير" الإسرائيلية. وكانت المهمة التي أوكلت إليه، بالنظر إلى معرفته للعربية، نقل أخبار القطاع العربي من القدس ثم أنباء الضفة الغربية كلها وأنباء قطاع غزة أحياناً. ويبدو أن إتقانه اللهجة الفلسطينية ومعرفته بالعادات المحلية كانا من الجودة بحيث كان الفلسطينيون يظنونه – كلما اصطحب إسرائيليين ليترجم لهم – دليلاً عربياً؛ وهو ما دفعه في النهاية إلى أن يقترح على مجلته أن ينتحل شخصية الفلسطيني بالكامل ليدرس العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية عن كثب.
كان يريد، إذاً، القيام بدور الفلسطيني. حسناً! لكن من هو الفلسطيني؟ إذا كان الجواب صعباً للوهلة الأولى فإنه ليس كذلك في إسرائيل. ذلك بأن الإسرائيليين، فيما عنى الفلسطينيين، قوم سذج، باعتبار أن السذاجة هي القناعة من الأمور بظواهرها. انها سذاجة لا تجعل الإسرائيلي يجهل الفلسطيني الذي يعيش بازائه فحسب، بل تحول دونه ودون معرفة المستقبل. سذاجة تجعله يعتقد أن الفلسطيني مجرد كائن يعمل (بأجر زهيد) ويأكل وينام: "فمنذ عشرين عاماً والفلسطينيون يعيشون بيننا؛ ونحن في النهار مستخدموهم الذين يثرون من عملهم، ويستغلونهم ما استطاعوا؛ ونحن بعد الظهر الشرطة التي تقمعهم؛ وفي المساء الجنود الذين يوقفونهم عند الحواجز في طريق عودتهم إلى بيوتهم؛ ونحن في الليل قوى الأمن التي تدهم منازلهم لإرسالهم إلى السجن؛ ونحن، علاوة على ذلك، نعتقد أن هذا يمكن أن يستمر." وهذه هي السذاجة، أي أن تعتقد أن الفلسطيني يمكن أن يكون كما تحب له أن يكون، وأن الخوف هو حل أبدي. لذا فإن الكاتب أراد لكتابه أن يكون تحذيراً للإسرائيليين، لكنه تحذير من دون طائل. فما أراد الكتاب التنبيه إليه. وقع.. إنه الانتفاضة.
يبقى أن هذه السذاجة لا تقتصر على طرف إسرائيلي واحد (اليمين مثلاً). فاليسار ساذج أيضاً لأنه يعتقد أن الأمور ليست على قدر كبير من السوء بحيث أنه يكفي أن تقوم بتظاهرة في اللطرون مثلاً على حدود سنة 1948 من دون أن تنظر إلى العربي الذي يتظاهر معك. فتضامن اليسار لا يشمل العربي فتحي عوض. فهو هنا أيضاً كالخراف الجرباء أو كالبعير المعبد كما يقول الجاهلي. واليساريون يقنعون بإيمان السوء الذي يستغرقهم والذي يترجم بمزيج من البعد وعدم المبالاة. لهذا، كانت تخيم على التظاهرة "هالة من السذاجة".
والسذاجة تجعل أنه يكفي لتكون فلسطينياً أن تدعي ذلك وتظهر به. فالفلسطيني يعيش في وضع دوني، فلا يعقل أن يدّعي إسرائيلي أنه فلسطيني وإنْ كان العكس صحيحاً، أي أن يدعي الفلسطيني أنه إسرائيلي تخلصاً من المضايقات التي ليس لها أول ولا آخر. يكفي، إذاً، أن تتظاهر بالفلسطينية كي تكون فلسطينياً تتأبط صحيفة عربية، وترتدي ثياباً مهلهلة، وتدخن سيجارة "فريد"، وتستخدم بضع كلمات عبرية بلكنة عربية، ثم وخصوصاً أن تقبل عملاً متواضعاً بأجر زهيد، وتقيم في نزل قميء يأخذ منك ثلث الأجر لقاء السماح لك بأن تغفو فيه، فتصبح فلسطينياً. "بل يكفي أن تتحدث إلى فلسطينيين بالعربية كي تكون فلسطينياً، وإنْ لاحظ البعث أن هذا الفلسطيني لا يحتاج إلى الكثير كي يصبح يهودياً."
لكن الثياب الرثة ليست للفلسطيني، بل بالعكس. فهو حين يريد ارتداء أجمل ثيابه وأزهاها – ثياب العرس – يختار بزة السجين، كما فعل حمدي فرح في مخيم الهيشة. لذلك، ليس الفلسطيني مظهراً؛ فهو في الحقيقة الصمود أو الصبر، استخراجاً من تمثل العامة بقول إن الله مع الصابرين. والصمود ليس العصيان المدني الذي بشّر غاندي به، بل هو الصبر لأنه مقاومة مبدؤها الأساسي أن وجودك – محض وجودك، ومجرد بقائك على أرضك – هو فعل تحد: إنه العيش في أوضاع صعبة من دون قبولها، بل الصبر عليها؛ إنه الجامعي المتخرج الذي يقبل العمل كمياوم "فلسطيني" لدى الإسرائيليين، بل لدى المستوطنين في بناء مستعمراتهم الجديدة؛ إنه الفلسطينيات اللاتي تدركهن الشيخوخة في الثامنة والثلاثين بسبب إنجابهم ثمانية أطفال؛ إنه الزواج في مخيم الدهيشة الذي يتحول إلى فعل مقاومة لمصادرة الأراضي، فتبدو الزفة أنها تدور في فلك القمر.
وحليف الصابر هو الزمن، الدوام.
وأعلى درجات الصبر الانتفاضة، لأنها صيغة أخرى من صيغ الانتظار...
بلى، الصبر! وكان الله مع الصابرين.