The Khiyam Prison: Graveyard of the Living
Keywords: 
معتقل الخيام (لبنان)
المعتقلون
ضحايا التعذيب
شهادات
مقابلات
السجن
الاعتقال
القمع
معاملة السجناء
جنوب لبنان
تهديد لبنان
Full text: 

لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات
ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل

محمود درويش

"كنا أربعة في الزنزانة: داود فرج، محمود رمضان، سعود أبو هدلا وأنا. كان الصمت سيد المكان، ليس لدينا ما نقوله.. شرعت أروي لرفاقي قصة فيلم (الهروب الكبير)، وما إن فرغت حتى عاد الصمت ثانية، قالت العيون: أممكن هنا أيضاً، وأجابت الألسن: لا شيء مستحيلاً.. كل ما لدينا في الزنزانة لا يعدو الجدران الأربعة وأكواباً وإبريق ماء وسطلاً نستعمله كحمام.. والأهم إرادتنا.. فكرنا في وسيلة لتحطيم أول حاجز يفصلنا عن الردهة، وهو باب الزنزانة. نصفه السفلي من الحديد، والعلوي عبارة عن قضبان يفصل الواحد عن الآخر أربعة سنتيمترات. كان لا بد من نزع القضبان، وهذا لا يتم إلاّ من خلال التسخين ليفك عن الباب اللحام. استعنا بالبطانية في هذه العملية. استغرق نزع القضيب الأول أربعة أيام من العمل المتقطع، وحرصنا على إبقاء الطرف العلوي عالقاً حتى لا يكتشف أمرنا.. هذا النجاح الذي حققناه لم يكن يصطدم فقط بالقضبان الباقية، بل أيضاً بعدم معرفتنا للسجن. كل ما نعرفه، رغم مضي أعوام على وجود بعضنا فيه، لا يتعدى الردهة وساحة الشمس، التي كانوا يخرجوننا إليها لمدة خمس دقائق فقط. إذاً، كان هدفنا الأولي من العملية الوصول إلى الساحة، ثم ماذا بعد؟... استغرقت معالجة القضبان الباقية 20 يوماً كاملة، وهكذا باتت عملية الفرار ممكنة... كان ذلك ظهر يوم أحد. أكلنا طعامنا، وانتظرنا هبوط الليل. جهزنا ما نملكه من ثياب سوداء أو داكنة، ولمّا نام الجميع: السجناء والحراس، نزعنا القضيب الأول من مكانه ثم البقية وحملناها كسلاح لحماية أنفسنا.. حاولت الخروج من الفتحة ولكنني علقت. كان علينا أن ننزع قضيباً إضافياً.. رغم الارتباك الذي سبّبه هذا الوضع الناشئ، تمكنا من فعل ذلك في غضون خمس دقائق.. خرجنا إلى الردهة، ومنها إلى ساحة الشمس، فالباب بينهما عادة يكون مفتوحاً.. ما زلنا في السجن، ومع ذلك، نظرنا إلى الفضاء وشعرنا للمرة الأولى بأننا على عتبة الحرية.. كان ممنوعاً علينا النظر إلى السماء خلال دقائق السماح لنا بالتمتع بالشمس. اندفعنا نحو فتحة الشبك التي تفصلنا عن السطح، بواسطة الحبال التي صنعناها من صوف البطانيات. كنت أول من تسلق إلى السطح باعتباري الأنحف جسداً.. زحفنا فوق حائط لا يتجاوز عرضه الأربعين سنتيمتراً، ورأينا برجاً للحراسة، واكتشفنا وجود حقلين من الأسلاك الشائكة والألغام عندما سلطت عليها الأنوار الكاشفة. لم يكن لدينا سلاح، فقط قضبان الحديد القصيرة التي انتزعناها.. نزلنا عن الجدار بواسطة الحبل، وأخذنا نستعمل ما في أيدينا من قضبان لتفحص خلو مواضع أقدامنا من الألغام. نزعنا ثيابنا مخافة أن تعلق بالقضبان، وزحفنا على صدورنا، وشققنا طريقنا بين الألغام المزروعة حول السجن. وصلنا إلى سور جديد من الأسلاك الشائكة وحقل ألغام آخر. كنت أول من اخترقها، وناديت رفاقي هامساً أن يتبعوني للتقدم. تبعني محمود، كانت المسافة بيني وبينه نحو ستة أمتار، وشاهدت وهجاً مباغتاً وسمعت دوي اللغم ومحمود يهوي، رجعت إليه. دعاني ورفاقي إلى الاستمرار.. تابعنا، أبراج الحراسة والجنود يستيقظون. قطعنا مسافة خطرة إضافية تقدر بخمسة عشر متراً، وخلفنا وراءنا محمود جريحاً. كثرت الأضواء المنبعثة من الأبراج، وركضنا باتجاه معين، ووصلنا إلى مكان شعرنا فيه أن الأضواء ستكشفنا لا محالة.. تابعنا. لم يعد سعود يقوى على المشي أو الركض، وأخذنا ندفعه معنا، وكنا نسابق الضوء والطلقات وبزوغ الفجر. بعد ثلاثة - أربعة كيلومترات تقريباً حل الإرهاق بنا جميعاً. توقفنا لالتقاط أنفاسنا وقررنا أن يركض كل منا باتجاه... قبل أن نفترق كان سعود يبدو يائساً من النجاح. أمسكت بوجهه بين يدي. وأدرته صوب السماء قائلاً: هل ترى النجوم.. هل ترى الحرية.. واندفعنا هاربين... علمت لاحقاً أن الإسرائيليين وميليشيا جيش لبنان الجنوبي نجحوا في أسر سعود ثانية."

ليس المقصود من هذه الرواية التي أدلى بها الأسير الرابع في المجموعة، محمود عساف، الحديث عن البطولة التي رافقت عملية فرار من سجن الخيام، وهي العملية اليتيمة في أي حال، بل الانطلاق من هذه الواقعة نحو رواية ما يدور في ذلك السجن، الذي ما زال قائماً حتى اللحظة، وسيظل على ما هو عليه في مراحل لاحقة، على الرغم من التحسينات الجزئية التي نجحت الضغوط في إدخالها عليه، وهي ضغوط جاءت من جانب المعتقلين أولاً، وذويهم ثانياً، والمحافل الدولية والعربية ثالثاً. إن المقصود من الاستهلال برواية الأسير عساف عن عملية الهروب التي تمت في أيلول/سبتمبر 1992 هو أن تشكل المدخل لمقاربة أوسع شمولاً، تتناول هذا السجن الذي يصفه نزلاؤه بأنه مقبرة الأحياء.

يعود أساس البناء إلى ثكنة أنشأتها قوات الانتداب الفرنسية سنة 1933. وكانت الثكنة المذكورة مقراً للقوات المرابطة في منطقة جنوبي الجنوب. واختيار المكان الذي لا يبعد أكثر من مئة متر عن البلدة المعروفة باسم الخيام كان مقصوداً في حد ذاته، ولجملة عوامل سياسية وجغرافية متداخلة. فالخلافات الفرنسية - البريطانية في شأن تخطيط الحدود كان جليّاً بين الدولتين المنتدبتين على لبنان وفلسطين. وبديهي القول إن بريطانيا كانت، ومن ورائها الحركة الصهيونية، تضغط لمدّ نفوذها نحو خط يمتد شرقاً من جنوبي وادي البقاع ويصل غرباً إلى محاذاة صيدا في الحد الأقصى، أي بما يضمن السيطرة على مساقط المياه في مناطق جبل الشيخ وقضاء حاصبيا. وهو ما كان يرفضه الفرنسيون. هذا في الجانب السياسي، أمّا من ناحية الموقع الجغرافي، فالثكنة المذكورة تشرف بصورة كاملة تقريباً على منطقة أصبع الجليل في شمال فلسطين من جهة، وعلى مرتفعات الجولان في جنوب سورية من جهة أُخرى. وعليه، يمكن القول إن الفرنسيين أرادوا الثكنة بمثابة موقع حصين واستراتيجي لتأمين سيطرتهم على الجزء الجنوبي من لبنان والجزء الجنوبي من سورية على حد سواء. وهكذا، تحدد دورها بحماية النفوذ الفرنسي في كل من لبنان وسورية من احتمالات توسع صهيونية أو بريطانية سافرة، ولحماية مؤخرة نفوذهم.

مع الاستقلال وجلاء الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية، أخلى الفرنسيون الثكنة المذكورة، شأنها شأن الثكن التي أقاموها في طول البلد وعرضه، وتسلمها الجيش اللبناني سنة 1943. إلاّ إن أهمية الثكنة انخفضت في سنوات الاستقلال، نظراً إلى الموقع الطرفي الذي احتله الجنوب في سياسات الدولة اللبنانية الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. وظل الوضع على هذا النحو حتى آذار/مارس 1978، عندما نفذت القوات الإسرائيلية اجتياحها الأول لأجزاء واسعة من الجنوب، وتعرضت بلدة الخيام لما يشبه التدمير الشامل، وخلت من مواطنيها، بل تحولت، وهي التي كان عدد سكانها ثلاثين ألفاً، إلى مسرح تدريب لوحدات الجيش الإسرائيلي على أعمال النسف والتلغيم وحرب الشوارع. أمّا الثكنة، فقد تسلمتها الميليشيات المتعاملة مع إسرائيل، التي قادها آنذاك الرائد سعد حداد. وعقب الاجتياح الصهيوني للبنان صيف سنة 1982، بدأ الأهالي عودتهم إلى البلدة، التي راحت تخرج من تحت الرماد شيئاً فشيئاً. أمّا الثكنة التي وضعت الميليشيات يدها عليها، فقد باتت مركزاً للتحقيق ليس إلاّ، نظراً إلى وجود معتقل أنصار، الذي جرى افتتاحه في 14 تموز/يوليو 1982، وتم زج الألوف من اللبنانيين والفلسطينيين فيه. وظلت الثكنة محافظة على دورها ما دام معتقل أنصار قائماً، إلاّ إن اتساع ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية أدى إلى تنفيذ القوات الإسرائيلية انسحابات اضطرارية متتابعة من بيروت والجبل وصيدا والزهراني وصور والبقاع الغربي، واكتمل عقد التراجع الإسرائيلي في 4 نيسان/أبريل 1985 بإقفال معتقل أنصار، وهو ما دفع القوات الإسرائيلية إلى تحويل ثكنة الخيام إلى بديل من أنصار في عملية الاحتجاز والأسر. وقد تم ترميم وتأهيل وتوسيع الثكنة منذ مطلع سنة 1985، وباتت أكثر استعداداً للقيام بمهمتها الجديدة بعد أن أصبحت لا تختلف عن السجون الإسرائيلية في قليل أو كثير.

يتألف السجن من عدة مبان تضم أكثر من 67 زنزانة جماعية وأكثر من 20 زنزانة إفرادية، وكل الزنازين مرقمة بالأرقام العادية، وهي تختلف طولاً وعرضاً وارتفاعاً تبعاً للمهمة المناطة بها. فالزنازين الجماعية لا تتعدى المترين أو الثلاثة أمتار طولاً وعرضاً، وبارتفاع مترين لا أكثر. وهي تطل على ممر تشغل الجانب الآخر منه زنازين أُخرى في القسم ذاته، إلاّ إن هذا لا يعني أن هناك إمكاناً لرؤية السجناء الآخرين في الغرف الملاصقة أو المقابلة، إذ إن الفتحة الموجودة في أعلى الغرفة لا تسمح بأكثر من مرور الصوت، ولهذا محاذيره في ظل حركة المراقبة الدائمة والحراسة المستمرة. وفي مساحة لا تتعدى المترين × مترين أو ثلاثة أمتار، يتم حشر نحو عشرة معتقلين (لا ينقص العدد عن 7 في أي حال من الأحوال). وتتحدد الأعداد لإشغال الزنازين الجماعية تبعاً لكثافة حملات الاعتقال. أمّا الزنازين الإفرادية فهي متباينة المساحة أيضاً، إذ تتراوح بين 50 × 50 سم، بارتفاع لا يصل إلى المتر الواحد، أو 90 × 90 سم في أحسن الأحوال. وفي هذه المساحة الضيقة يمضي بعض السجناء أشهراً طويلة من دون رؤية ضوء الشمس، ويقضون حاجاتهم في أماكنهم (الزنازين الإفرادية)، أو في سطول موضوعة داخل "الغرف".

هذا من حيث البناء، أمّا من حيث الجهاز البشري المشرف على السجن، فهو عبارة عن رتب عسكرية عليا إسرائيلية في مقابل أغلبية تنتمي إلى الميليشيات الحدودية. وقد أشرفت الاستخبارات الإسرائيلية على معتقل الخيام منذ إقامته في أوائل سنة 1985، واستمرت في توليها المسؤولية عنه إلى أواخر سنة 1988، عندما نُقلت هذه المهمة إلى جهاز الأمن القومي الإسرائيلي والموساد"، وفي الغالب ما يكون المسؤول الأول عن السجن برتبة عقيد، يعاونه فريق من المحققين من رتب متعددة. أمّا الجهاز اللبناني، فيتولاه عدد من مسؤولي ما يسمى "جيش لبنان الجنوبي"، بمشاركة من عناصر الأمن المحلية في القرى. ويقوم فريق من المحققين، يتحدرون في أغلبيتهم من المؤسسة العسكرية النظامية، بهذه المهمة، إضافة إلى عمليات التعذيب التي يمارسها الحرس والجنود المولجون بالعمل في المعتقل. ويستعمل معظم المحققين والمشرفين على السجن أسماء حركية، إلاّ إن كثيرين منهم معروفون بالأسماء. وهم في معظمهم من أبناء قرى المنطقة أو من الذين التحقوا بالميليشيات الحدودية في غضون الأعوام السابقة، وبعضهم من قرى خارج منطقة الشريط المحتل. ويتم في بعض الحالات المحددة سوق معتقلين إلى مرجعيون كي يستكمل ضباط إسرائيليون التحقيق.

ويرتبط معتقل الخيام بشبكة من مراكز التحقيق الأولي والاعتقال القصير الأمد في المنطقة الحدودية، وأبرزها: ثكنة مرجعيون؛ مقر قيادة الميليشيات في الطيبة (قرب المشروع)؛ ثكنة حولا؛ ثكنة البيطار؛ معتقل الـ 17 في بنت جبيل؛ مركز القليعة، وهو قريب من مستشفى مرجعيون، وسواها...

غير أن المعتقلين اللبنانيين لا يقتصرون على أسرى سجن الخيام، إذ يوجد بالإضافة إلى هؤلاء سجناء لبنانيون في السجون الإسرائيلية. فمثلاً، خلال الاجتياح الصهيوني في آذار/مارس 1978 فُقد ما يقارب 165 مواطناً، بعضهم من أعضاء "القوات المشتركة الفلسطينية - اللبنانية التقدمية"، ورفضت إسرائيل الاعتراف بأسرهم أو الكشف عن مصيرهم. وإضافة إلى ذلك، هناك 175 مفقوداً في إبان الغزو الإسرائيلي للبنان صيف سنة 1982، وما زال مصيرهم أيضاً مجهولاً، مع العلم بأن كثيرين من المواطنين، وضمنهم أسرى تم تحريرهم، أدلوا بشهادات عن إلقاء القوات الإسرائيلية القبض على بعضهم في وضح النهار، منهم من كان أُصيب بجروح خلال القتال، ومنهم من كان في حالة سليمة. ويُعتقد أن قسماً من هؤلاء المفقودين موجود في السجون الإسرائيلية.

يضاف إلى ذلك رفات 150 شهيداً من شهداء المقاومة ترفض إسرائيل تسليمهم إلى ذويهم أو إلى المؤسسات الإنسانية. ويقال إن هؤلاء دُفنوا في الأرض المحتلة، في مكان يطلق عليه اسم مزرعة غادوت قرب نهر الأردن. وقد اعترفت إسرائيل سنة 1990 بتسلمها ستة معتقلين من القوات اللبنانية. وتبين أن هؤلاء كانوا قد خطفوا على حواجز "القوات" في المونتي فردي [موقع قريب من مخيم تل الزعتر] ومرفأ بيروت، وبعد أن وُضِعوا في سجن الكرنتينا قرابة الثمانية أشهر، سلمتهم "القوات" قبل حلها إلى إسرائيل في أيار/مايو 1990.

ويبلغ العدد المتداول (غير المؤكد) للأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية نحو 75 أسيراً، موزعين على السجون التالية: عسقلان، بئر السبع، نفحة، الجلمة، الرملة، العفولة. وقد اختُطف بعض هؤلاء من الأراضي اللبنانية في عمليات عسكرية جوية أو بحرية، أو خلال مواجهات، وتم نقله إلى داخل الكيان الإسرائيلي، في مخالفة صريحة للمادتين 49 و76 من معاهدة جنيف الرابعة الصادرة سنة 1949، والتي تنص على أن "اعتقال الأفراد والجماعات ونقلهم خارج المناطق المحتلة إلى مناطق الدولة المحتلة ممنوع مهما كانت الأسباب والدواعي"، إلاّ إذا تم هذا النقل لأسباب تتعلق بسلامة المعتقلين جراء توسع العمليات الحربية. بيد أن إسرائيل لم تكتف بنقل المعتقلين إلى أراضيها، بل أجرت أيضاً محاكمات صورية لعدد كبير من المناضلين، وأصدرت بحقهم أحكاماً جائرة طويلة الأمد. فقد حكم، مثلاً، بالسجن المؤبد على علي بلحص وجواد قصفي، وبالسجن 30 عاماً على فانور ياسين، و20 عاماً على كايد بندر، و14 عاماً على إبراهيم السقي، و10 أعوام على عادل ترمس. وقد انتهت فترات أحكام البعض، وخصوصاً بعض أسرى سجن بئر السبع، ومع ذلك ما زالوا محتجزين إدارياً من دون أي مبرر قانوني. كما أن هناك ستة أسرى في السجن المذكور لم توجَّه إليهم أي تهمة، ولم يُخضعوا حتى لمحاكمة صورية. وتمنع سلطات الاحتلال الصليب الأحمر من زيارة الأسيرين الشيخ عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني. ويعاني المعتقلون أوضاعاً صحية ونفسية سيئة، وخصوصاً أن زيارة ذويهم لهم ممنوعة. وقد ورد من المعتقلين في السجون الإسرائيلية رسائل كثيرة، تقول إحداها، وهي من أسرى سجن بئر السبع موجهة إلى لجنة المتابعة: "نحن بحاجة إلى عمل فوري وسريع من قِبلكم لأجل إنهاء الحكم الإداري المتخذ بحقنا من دون أي مبرر شرعي أو قانوني، وخصوصاً أننا أنهينا فترة حكمنا منذ سنوات عديدة، نطالب بالعمل الفوري لإطلاق سراحنا وسراح جميع المعتقلين." وتدل رسالة أُخرى على أن بعض سجناء بئر السبع هم من الذين أمضوا فترة اعتقال في سجن الخيام: "لقد مر معظمنا بهذه التجربة في بداية الاعتقال عندما كنا في سجن الخيام."

من الصعب إعطاء رقم دقيق لعدد المعتقلين في سجن الخيام؛ ومصدر الصعوبة هو أن الجهة التي تتولى عملية الاعتقال لا تعترف رسمياً بمسؤوليتها عن الذين يتم اقتيادهم إلى ذلك المكان. هذا أولاً، وثانياً، لأن الرقم متغير، ويرجع ذلك إلى كثافة العمليات الأمنية التي تستهدف المواطنين، بصرف النظر عن علاقتهم بالمقاومة، إذ إن مجرد الشك كاف لتنفيذ الاقتياد والتحقيق والاحتجاز. هذا مع العلم بأن المنطقة المحتلة خضعت منذ سنة 1978، إن لم يكن قبل هذه السنة، لعملية "تنظيف" و"تصفية" متواصلة، أدت فيما أدت إليه إلى طرد مجموعات كبيرة من السكان، وإلى وضع غير المتعاونين مع إسرائيل إمّا في السجون، وإمّا تحت المراقبة الدائمة. غير أن المهم في استحالة تحديد الرقم الحقيقي يعود في جانب منه إلى حملات الاعتقال الجماعية التي تستهدف القرى "المتمردة" أو "العاصية" على أوامر العملاء وتعليمات الإدارة المدنية، أو تلك التي تشهد المناطق المحيطة بها عمليات فدائية. فإذاً، تتضافر هذه العوامل مجتمعة، بدءاً بالوضع اللاقانوني لمعتقل الخيام ومراكز التحقيق المساندة، ورفض دخول الصليب الأحمر الدولي إليه، وصولاً إلى عمليات الاعتقال التي لا تصل أخبارها إلى لجنة المتابعة، فضلاً عن الحملات العامة.. هذه كلها تؤدي إلى هذا الوضع، وخصوصاً أن المعلومات التي ترد عن المعتقلين تصل من طرق متعرجة وبطيئة، إذ تعتمد في جانب منها على الأسرى المحررين، أو ذوي المعتقلين، أو ما يحمله القادمون من المناطق المحتلة معهم من أنباء. لكن الرقم المتداول لعدد الأسرى في سجن الخيام حالياً، بعد حسم عدد الذين أُفرج عنهم مؤخراً، يصل إلى نحو 250 معتقلاً. ويتوزع المعتقلون من ناحية أصلهم على 70 قرية لبنانية، إضافة إلى 12 آخرين من جنسيات عربية. وتتراوح أعمار المعتقلين في سجن الخيام بين 12 عاماً و65 عاماً، إلاّ إن هناك أولاداً تقل أعمارهم عن 12 عاماً، وطاعنين في السن ممن تجاوزوا الخامسة والستين من أعمارهم. أمّا المعتقلات فأغلبيتهن العظمى من الفتيات، علماً بأن هناك سيدات أُلقي القبض عليهن مع أزواجهن، وقد أنجبت إحداهن في السجن. ووصل عدد السجينات في سجن الخيام في وقت ما إلى 30 سجينة، أي ما نسبته 10٪ من العدد الإجمالي قبل عملية الإفراج الأخيرة.

أمّا التوزع المهني للمعتقلين، فيقدم نموذجاً للتشكيلة الاجتماعية لما هو عليه الوضع في المنطقة المحتلة، حيث الفئات الأكثر تعاطياً بالعمل السياسي هي الطلاب والمدرسون. والنسبة الأساسية من السجناء هي من الطلاب والأساتذة ومديري المدارس. ويُستدل من نسب التوزع المهني للمعتقلين أن 60٪ منهم هم من هذه الفئة. ويأتي بعدها مباشرة عسكريون في الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، إذ إن مَن يتردد منهم على المنطقة عرضة، كالآخرين، للاعتقال وما يرتبط به من أعمال التحقيق والتعذيب. ولعل الدافع الأساسي لذلك من جانب سلطات الاحتلال والعملاء كون هؤلاء يقدمون نموذجاً مغايراً لما هو عليه وحدات المنطقة الحدودية التي باتت جزءاً من الأداء الإسرائيلي.. وأمّا باقي المعتقلين فيتوزعون بين مختلف الشرائح، منها: فلاحون، عمال، باعة صغار وموظفون. ولا تقتصر مبررات الاعتقال على الجانب الأمني المرتبط بنشاط المقاومة، بل تتعداها إلى كل ما من شأنه اتخاذ موقف مضاد لما هو سائد في منطقة الشريط الحدودي المحتل. فمثلاً، يتبين أن ذريعة الاعتقال التي تم بموجبها زجّ أكبر عدد من المدرّسين تتعلق بالمسألة الأمنية، إذ إنها تمت بسبب رفض تعلم وتدريس اللغة العبرية التي فرضتها الإدارة المدنية. أمّا بالنسبة إلى الطلاب، فيتأكد من خلال المعلومات أن رفض المشاركة في الرحلات والمخيمات الطلابية والكشفية والسياحية إلى إسرائيل كان أحياناً بمثابة مبرر كاف للاعتقال.

شهادات عن التعذيب

يقول سعيد الأخرس، الذي أمضى عشرة أعوام في سجن الخيام، أنه أُحضر في الصباح الباكر إلى الثكنة، بعد أن اعتُقل في منزله، ونُقل في صندوق سيارة. ولدى الوصول إلى السجن أُخرج من صندوق السيارة وغُطّي رأسه بكيس من الخيش تنبعث منه رائحة كريهة "وهناك تم إيقافي على الحائط، في هذا الوقت كانت عملية تسليمي وتسلّمي تتم بين عناصر المخابرات المحلية التي ألقت القبض عليَّ وبين مسؤولي السجن، أمّا حراس السجن الذين لم يحتملوا هذا الانتظار، فكانوا يضربونني ريثما تنتهي الإجراءات.. بدأت عملية التحقيق لحظة انتهاء الإجراءات، وكانت مقرونة بالضرب والتهديد. كانت الأسئلة التي توجّه إليّ منوعة، تبدأ بتاريخ الميلاد، والنشأة، والدراسة، والأقارب والأصدقاء، والوضع الصحي، والانتماء.. وكانت الأجوبة التي لا تعجب المحققين يُرد عليها بالضرب والمطالبة بأجوبة أكثر وضوحاً.. تتوسع الأسئلة عن الجوانب الشخصية إلى المحيط والمعارف في القرى المجاورة.. ويتم هنا إشعار المتهم بأنه عالق مع أهم جهاز استخبارات في العالم، وبأن المعلومات التفصيلية والدقيقة عن المعتقل هي في حيازة هذا الجهاز، الذي لا يتوخى من طرح الأسئلة الإلحاح عليها سوى تثبيتها بواسطة الاعتراف.. هذه الجولة الأولى من التحقيق مجرد بداية، إذ يتم إخراج المتهم من غرفة التحقيق وتسليمه إلى عناصر الشرطة، وهؤلاء من المتخصصين بعمليات الضرب. يمضي المتهم وقته واقفاً أو راكعاً، أو يُلقى به على الأرض والقفز عليه مع الركل والضرب.. تستغرق هذه العملية بعض الوقت، وعندما يشعر هؤلاء بأن المتهم أُنهك، يتم إدخاله إلى المحقق ثانية.. يعتمد التعامل في هذه المرحلة على طبيعة الأجوبة، فإذا كان المتهم أدرك الدرس الذي شهد فصوله، يجري التعامل معه بهدوء في مقابل المعلومات التي يدلي بها. هنا تُعتمد عملية الترهيب والترغيب؛ فالاعتراف ثمنه الرجوع إلى الأهل، وقبله وقف الضرب والركل و.. تترك فرصة للمتهم المتردد لـ (التفكير والقول)، على أن تأتي وتعترف عن الرفاق والأصدقاء وتدلي بما لديك من معلومات.. أمّا الرفض، فيُرد عليه برفع وتيرة التعذيب.. فإذا ردّ المتهم بأن لا شيء لديه ليقوله، يتم اعتماد المرحلة الثانية، وبدايتها تعليقه على عمود كهرباء وسط المعتقل.. وتختلف وضعية التعليق ومدته تبعاً لطبيعة التهمة وخطورة المعتقل. أمّا عن وضعية التعليق، فتتم باليدين الاثنتين إلى الأعلى، أو بيد واحدة، أو بالرِجل، والرأس إلى الأسفل.. كل هذا وسط الضرب المتقطع والتعرض للطقس البارد أو الحار، ومن دون طعام أو شراب أو الحد الأدنى منهما، الذي يُبقي المتهم على قيد الحياة لا أكثر."

أمّا توفيق منصور، الذي أمضى في المعتقل خمسة أعوام تقريباً، فيصف التحقيق الذي تعرض له على النحو التالي: "تعرضت للتحقيق لمدة لا تقل عن 15 ساعة، ضُربت خلالها بعصا غليظة، لم تترك مكاناً من جسمي إلاّ أصابته. وقد تركز الضرب على ظهري، مما تسبب في كسر ثلاث فقرات من عمودي الفقري. كانوا يحاولون تأكيد علاقتي بالمقاومة، وقد أخبرتهم أنني مجرد نقابي أتابع قضايا المزارعين، إلاّ إن هذا لم يقنع المحقق الذي رأى في بيان وزعته في آذار/مارس 1989، ونطالب فيه بزيادة أسعار التبغ للفلاحين دليلاً على ارتباطي بالمقاومة." وقد أمضى منصور ثمانية أشهر في "حبس المشاغبين"، وهو عبارة عن غرفة رطبة ومعتمة لا تدخلها أشعة الشمس بتاتاً.

واقتاد الجنود طاهر نصر الله في 7 نيسان/أبريل 1992 من مدرسة كفركلا الرسمية، ومن الصف الذي يتولى تدريسه، "وعندما وصلت بدأوا بضربي بالعصا، وعلقوني على العمود، ووضعوا أسلاكاً كهربائية في أصابعي ثم صبّوا عليَّ الماء البارد حيث بقيت أربعة أيام وثيابي مبللة بالماء، ومن شدة الضرب والتيار الكهربائي انتشرت بقع سوداء في أجزاء جسمي وأُصبت بغثيان دائم بسبب طبيعة الطعام، كما أُصبت بفقر حاد في الدم، وأصبحت عاجزاً عن الوقوف، ثم تدهور وضعي الصحي أكثر فنُقلت إلى مستشفى مرجعيون، وقد أعطوني هناك وحدتيْ دم سحبوها من زملائي المعتقلين، إلاّ إن وضعي لم يتحسن كثيراً، فأفرجوا عني بعد أن أُصبت بالتهاب حاد في جهاز التنفس، وذهبت مباشرة إلى مستشفى حمود في صيدا، ثم إلى مستشفى بحنّس المتخصص بالأمراض الصدرية، ومع أني أتلقى علاجي منذ عام تقريباً، فإني لا أزال أعاني من جراء اعتقال قارب العامين."

هذه النماذج الثلاثة، التي تضم مواطناً ونقابياً ومدرّساً، تستتبع نماذج أُخرى. كميل ضاهر كان تلميذاً في المرحلة المتوسطة عندما اعتُقل في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1989. ويقول عن وقائع التحقيق معه: "تركوني أولاً قرب حائط المعتقل حتى ساعة متأخرة من الليل. جاء أحد الحراس وأمرني بالركوع على الأرض. وعندما فعلت أخذ يضربني لمدة ثلاث ساعات متواصلة، أُغمي عليّ عندها، فسحبني من رجلي كما أخبرني رفاقي، وأمر زملاءه بتعليقي على العمود، وأخذ يصب الماء عليّ، ماء بارد ثم ماء ساخن.. بعد هذا التعذيب نقلوني إلى زنزانة إفرادية لا يدخلها الضوء لمدة أسبوع، ثم أعادوني منها للمرحلة الثانية من التحقيق أو التعذيب: لفّوا سلكاً معدنياً على أصابعي، وأمروني بالركوع، وصبوا الماء البارد على جسمي، ثم وصلوا التيار الكهربائي.. بعد الصدمة هذه نقلوا السلك إلى فمي وعضوي الجنسي.. ضربوني أيضاً بالعصا على جميع أجزاء جسمي من دون استثناء بما في ذلك رأسي، وأخذت أعاني نوبات عصبية، ولم أعد أرى بوضوح. عندما خرجت من السجن في الشهر الأخير من سنة 1991 حاولت متابعة الدروس، إلاّ إني فشلت بسبب الاهتراء الذي أصاب شبكية عيني، ولم أعد أستطيع قراءة ما يكتب على اللوح، ولا أحتمل مشاهدة ضوء الكهرباء.. قال الطبيب إني مهدد بالعمى كلياً، ومعدل الرؤية الآن لا يتعدى العشرة في المئة."

علي فواز مقاوم أُسر في 31 أيار/مايو 1987، وأُفرج عنه في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1991، يقول: "قلت للجندي الإسرائيلي أني جريح، وكانت قدمي اليسرى، حيث استقرت الرصاصة، تنزف.. أمسك بيديه رجلي المصابة وأخذ يجذبها لإيلامي.. كنت أصرخ من الوجع.. تقدم جنود آخرون مني وأشبعوني ضرباً.. قال لي أحدهم أنت ممسحة للأحذية، ووقف على صدري وراح يفركه بحذائه العسكري، وداس على وجهي فشج شفتي السفلى.. أدخلوني إلى المستشفى، ثم أخرجوني منه إلى سجن الجلمة في منطقة حيفا قبل أن تبرأ جروحي، وطوال إقامتي في المستشفى لم ينظفوا لي الجروح، ولم أستحم، مما سبب لي التهابات وروائح كريهة وتقيؤاً دائماً. تنقلت بين سجن الرملة والمستشفى الملحق به وسجن شطة ومستشفى العفولة."

رباح شحرور.. في أثناء وجودي في السجن، وبعد أن أخذوني من الصف الثاني المتوسط الذي أدرس فيه، اعتقلوا والدتي البالغة من العمر 55 عاماً وشقيقتيّ ناديا وجميلة، كما اعتقلوا ابنة خالتي وعشرات البنات من البلدة.. يومها كنت المعتقل الأصغر في السجن، إذ لم يكن عمري يتعدى 11 عاماً.. عندما أفرجوا عني أبعدوني وعائلتي عن القرية والمنطقة.. بعد خمسة أشهر أفرجوا عن شقيقتيّ وأبعدوهما أيضاً.

مأمون ياسين: اختطفوني من المنزل.. توقفوا على مسافة قريبة من المنزل، وقالوا لي اُنظر إلى بيتك للمرة الأخيرة، لأنه لن يبقى على وجه الأرض.. نزعوا العصابة عن عيني وشاهدت النار ودوي الانفجار. أمضيت في السجن فترة 35 يوماً، وأنا أعتقد أن عائلتي أبيدت تحت الأنقاض، لكن عندما خرجت علمت بأن طفلتي استُشهدت، فقد قتلوها بمسدس مزود بكاتم للصوت ليلة اختطافي، كما تسببوا ببتر ساق طفلتي الأُخرى..

.. ولا يختلف وضع الأسيرات عن وضع رفاقهن. تقول جميلة شحرور: اعتقلوني في حقل قريب من البلدة، قيدوا يديّ، وبعد أن أدخلوني إلى السجن اقتادوني إلى غرفة المحقق الذي سألني عن شقيقي. أكدت أني لا أعرف عنه شيئاً، فكرر السؤال وكررت النفي. بدأ يعاملني بشدة وقسوة، واستعمل الضرب والشد بالشعر ورماني على الأرض، عاد إليَّ يضربني، ثم تركني فترة رجع بعدها يوجّه إليّ الأسئلة نفسها، فلم أجبه، ضاعف من استخدام العنف، ثم نادى على الحراس فألقوني في زنزانة إفرادية لمدة خمسة أيام، كنت خلالها لا أخرج إلاّ إلى المحقق، حيث أُخضعت لتحقيقات قاسية جداً، مقرونة بجميع وسائل الضغط والإكراه.. ولمّا لم أجب أعادوني إلى الزنزانة، ثم إلى التحقيق، وهكذا حتى وضعوني في سجن النساء، حيث أمضيت في المعتقل، إجمالاً الفترة الممتدة ما بين 26 نيسان/أبريل 1989 و2 تشرين الثاني/نوفمبر 1989.

أمّا أحلام عواضة فتقول: تتراوح أعمار الأسيرات في الخيام بين 14 عاماً و65 عاماً، كالأسيرتين المحررتين مريم زراقط ورقية شرف الدين. أمّا خديجة الأسمر فعمرها سبعون عاماً. بعض الأسيرات أُدخلن المعتقل وهن حوامل، كالأسيرتين لينا مصطفى وأمية عكاشة. والعديدات من الأسيرات اعتقلن مع أزواجهن، كالأسيرة المحررة سحر زعيتر، التي ما زال زوجها في المعتقل.. نجاح عليق اعتُقلت مع أمها البالغة من العمر 65 عاماُ، كما اعتقل والدها، وهو في عمر مماثل. كما اعتقل العدو في منزل واحد ثلاث شقيقات هن نزهة وفاطمة ومنى شرف الدين، وأخاهم الصغير هادي، الذي كان عمره 4 أعوام.. مدد الاعتقال، تضيف عواضة، للسجينات تراوحت بين شهر وسبع سنوات، واعتُمدت معنا خلال التحقيق الأساليب ذاتها التي اعتمدت مع الشبان، كالضرب بالكرباج، والتركيع، والتعليق، والتعذيب بالكهرباء، وتمزيق الثياب، وسكب الماء، والاحتجاز في زنازين إفرادية.

وبالإضافة إلى التعذيب الجسدي، يُخضع المعتقلون لتعذيب نفسي يُجمع الأسرى المحررون على أنه لا يقل وطأة عن التعذيب الجسدي.

وفيات وأمراض دائمة

هذا المزيج المركب من التعذيب الجسدي والنفسي فعل في الأسرى فعله، إذ بلغت الوفيات حتى حزيران/يونيو 1995، بناء على معلومات لجنة المتابعة، 14 سجيناً. وكان آخر هؤلاء الأسير هيثم دباجة، الذي توفي داخل زنزانته مطلع العام الحالي. ويروي الأسير سعيد الأخرس الواقعة على النحو التالي: "ساءت حالته الصحية، وبدأ رفاقه الصراخ ومناداة الحراس لنقله إلى مستشفى مرجعيون، وضجت الزنازين مطالبة بإسعافه، من دون أن يتحرك أحد، حتى توفي." ومن الشهداء الذين قضوا في المعتقل أيضاً: عبد الله غملوش (شقرا)، زكريا نظر وعلي حمزة (الجميجمة)، لبيب أبو غيدا (حاصبيا)، حسين علي محمود (حولا)، الحاج أحمد ترمس (طلوسة.. توفي نتيجة نوبة قلبية وله من العمر 65 عاماً)، أسعد بزي (بنت جبيل، أصيب بمرض السرطان، ولم يُطلق لتلقي العلاج)، بلال السلمان وإبراهيم أبو عزة (استشهدا في انتفاضة المعتقلين في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، وقد تُرك الأخير ينزف من دون مساعدة أو من دون أن يُنقل إلى المستشفى، إلى أن توفي أمام رفاقه)، شوقي خنافر، إبراهيم فرحات. كما توفي آخرون في مراكز التحقيق قبل أن يصلوا إلى المعتقل، مثل يوسف سعد، وصالح غرغر. وهناك من اعتقل ولم تظهر له آثار في الخيام أو في سواه من المعتقلات.

بيد أن هذه الوفيات لا تختصر معاناة السجناء، وحتى المحررين منهم، ومهما تبلغ قدرة أجسادهم على الاحتمال وطاقة صمودهم المعنوية، يظلون يحملون آثاراً لا تمحى جراء التعذيب. ولعل من الصعوبة بمكان حصر النتائج الصحية التي يعانيها المعتقلون الذين ما زالوا في السجون، إلاّ إن الذين أُطلقوا يعانون جملة "اشتراكات"، وأمراضاً ثابتة بمعاينات الأطباء اللبنانيين الذين يتابعون قضاياهم، منها:

انحلال الأعصاب؛ فقر الدم؛ نقص العناصر الأساسية في الجسم؛ التهابات صدرية؛ تبقع في الجسم جراء التعذيب؛ كسور في العمود الفقري والأضلاع والأطراف؛ ترك الجروح من دون تنظيف الأملا الذي يؤدي إلى التهابات وروائح؛ اهتراء في شبكيات العيون تؤدي إلى فقدان البصر لاحقاً؛ نوبات عصبية؛ ثقوب في طبلتي الأذن؛ أمراض روماتيزم؛ تورم؛ فقدان الذاكرة؛ السل؛ السرطان الرئوي؛ القرحة وأمراض الجهاز الهضمي؛ التهابات الجهاز البولي؛ الديسك؛ الهلوسة؛ الربو وأمراض جهاز التنفس؛ الشلل النصفي؛ ارتجاجات في الدماغ؛ الأمراض الجلدية بمختلف أنواعها (جرب...)؛ انتشار القمل؛ إلخ.

إلاّ إن هناك ما هو أكثر من هذه القائمة، ومن المؤكد أن عمليات الإفراج عن المعتقلين تعود في جانب منها إلى اعتقاد المحققين الإسرائيليين أن المعتقلين باتت حالتهم الصحية سيئة، ولا ضرورة لاستبقائهم في المعتقل، باعتبار أن وفاتهم داخله يمكن أن تؤدي إلى حملات التضامن والإدانة لإسرائيل والميليشيات، تقوم بها المنظمات والهيئات الحقوقية والصحية والإنسانية المحلية والعالمية.

وما يلي قائمة جزئية بالأمراض والتشوهات التي يعانيها بعض الأسرى:

- الشيخ زيد حرب، الذي أُطلق وهو مصاب بشلل نصفي نتيجة ضربه بآلة حادة على رأسه.

- الشيخ محمد أمين كوراني، الذي أصيبت رجله بالغرغرينا جراء الالتهابات.

- سعيد حيدورة، الذي يعاني انهياراً عصبياً وأوجاعاً في الظهر.

- نعمة بزي، أمراض مفاصل وعظام.

- عفيف حمود، كسور في الأضلاع.

- سعيد الأخرس، أمراض في القلب والمفاصل والجهازين السمعي والبصري.

- كميل ضاهر، اهتراء في شبكية العين قد يؤدي إلى فقدانه البصر.

- محمود رمضان، يد مقطوعة وفقد إحدى عينيه.

- علي أيوب، فقدان حاسة النظر واختفاء صوته.

- لافي رمضان، فقدان الذاكرة وارتخاء في الأعصاب.

- الفتاة كفاح عفيفي، أمراض جلدية.

- محمد جرادي، حالته الصحية متدهورة جراء ثلاثة جروح في المعدة.

- علي حجازي، بترت إحدى رجليه، ورجله الأُخرى عرضة لمصير مماثل جراء غياب المعالجة.

- سليم بزي، فقد إحدى عينيه.

- نعمة بزي، فقد إحدى عينيه، وهو لا يعرف النوم جراء الانهيار العصبي.

- علي يحيى، فقد عينيه.

- رفيق دباجة، ديسك وهلوسة.

- سليمان رمضان، بترت إحدى رجليه في المعتقل.

- ناصر خرفان، جريح.

- حسين هريش، أعصاب.

- عبد خليفة، أُصيبت إحدى رجليه بالتعفن جراء سوء العلاج.

- عماد عواضة، فقد إحدى عينيه.

- عمر الأحمد، فقد إحدى عينيه.

- محمد جواد، فقد إحدى عينيه.

- بدر الدين النواس، إسهال وربو.

- محمد ضناوي، أوجاع ظهر ومفاصل.

- رياض كلاكش، أمراض مفاصل.

- يوسف ترمس، أوجاع ظهر ومفاصل.

بين "أنصار" والخيام

هنا يجدر عقد مقارنة، ولو سريعة، بين معتقل أنصار ومعتقل الخيام، وخصوصاً أن المعتقلَين أُقيما على الأرض اللبنانية، وسجناءهما من اللبنانيين في أغلبيتهم. أُقيم معتقل أنصار على أرض خلاء قرب بلدة أنصار، في حين أن معتقل الخيام يشغل موقعاً عسكرياً بني منذ الثلاثينات. ولهذا أهميته سلباً؛ إذ إن كثيراً من الزنازين الجماعية في الخيام هو أصلاً إسطبلات للخيول. أمّا الإضافات التي أُدخلت على المعتقل، فقد اعتمدت مواصفات تهدف إلى مضاعفة تعذيب المعتقل، بينما في أنصار كانت الخيم منصوبة في الهواء الطلق، ويتمتع المعتقلون فيه بإمكانات كاملة لرؤية الضوء والشمس، علماً بأن عمليات التحقيق كانت تتم في كثير من المراكز، بينها شركة الريجي قرب النبطية وفي صور وصيدا وأماكن أُخرى.

غير أن الفارق الأكثر أهمية هو أن الصليب الأحمر الدولي كان يشرف على معتقل أنصار، وكانت هوية الجهة التي أنشأته ونظمت أموره واضحة لا لبس فيها: إسرائيل. ولا شك في أن إشراف هذه الهيئة الدولية يؤدي عادة، كما هو معلوم، إلى تحسين نوعي في أوضاع الاعتقال. فمثلاً، تمتع المعتقلون في أنصار بضمانات هذه الجهة، وحصلوا تبعاً لذلك على أدوات تسلية، ونظموا أنفسهم، مستفيدين من التغطية الدولية لهم، ونجحوا في الصمود إلى أن أُزيل المعتقل.

يقول عضو لجنة المتابعة علي سرور، الذي أمضى نحو عامين في أنصار وسجون الأرض المحتلة، إن معتقل الخيام بكامله هو عبارة عن زنازين، بما في ذلك الغرف الجماعية، ثم إن نوعية الطعام رديئة والإشراف الطبي مفقود، وزيارات الأهل ممنوعة - حتى الفترة الأخيرة - ووسائل الترفيه لا يسمح بها، بينما كان الجهاز المشرف على معتقل أنصار إسرائيلياً، وهو ما حسم الأمور في اتجاه أكثر نظامية من تلك الوضعية الملتبسة القائمة في الخيام. وبالنسبة إلى نوعية الطعام في معتقل أنصار، فقد كان السجناء يطهون ما يحصلون عليه من مواد بإشراف الجيش الإسرائيلي. وكانت الرعاية الصحية متوفرة بحدود مقبولة، بدليل أنه لم تحدث وفيات داخله، باستثناء محاولة الفرار الشهيرة. ثم إن أعمال التعذيب لم تصل يوماً إلى إطلاق النار أو التسبب بأعطاب دائمة للمعتقلين. ويعتبر الأسير المحرر رياض عيسى أن الوضع في الخيام معاكس ومغاير جملة وتفصيلاً لما كانت الحال عليه في أنصار. تحسين الطعام لم يأت إلاّ بعد انتفاضات دفع الأسرى ثمنها دماً. وكل محاولة للحصول، ولو على بعض المكاسب، كانت تجابه بالقمع والتعذيب. ويضرب مثلاً لذلك حق الاستحمام، التعرض للشمس، رؤية الضوء والتحدث إلى الرفاق. ويضيف عيسى، مثلاً، إن السماح بصنع ورق لعب في المعتقل اعتبر نصراً كبيراً.

الخيام في المحافل الدولية

خلال العام الحالي أُفرج عن دفعتين من سجناء معتقل الخيام، كما أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر نظمت للأهل حتى الآن ثلاث زيارات للمعتقل. إلاّ إن هذا التطور ما زال محدوداً، ولم يأت مصادفة أو عفو الخاطر، إذ إن ما قرره في النهاية هو ذلك العمل المثابر الذي أدى إلى إرغام سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الاعتراف جزئياً بمسؤوليتها عن معتقل الخيام. والعمل المثابر الذي نشير إليه هو ذلك الذي أطلقته وتابعته "لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين في سجون العدو الصهيوني" داخل لبنان، وبالتعاون مع المنظمات الدولية. هذا مع العلم بأن المعتقلين اللبنانيين لا ينحصر وجودهم في سجن الخيام، بل إن هناك 75 أسيراً في سجون الأرض المحتلة.

وقد ارتبطت قضية المعتقلين بوجود معتقل أنصار، الذي سيق إليه الألوف من المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين خلال الغزو الإسرائيلي للبنان صيف سنة 1982. وكانت القاعدة التي اعتمدت في حينه تتمثل في اعتبار كل من هو قادر على حمل السلاح بمثابة فدائي أو مقاوم محتمل، لذلك برز ما يشبه "الاعتقال الاحترازي" بهدف إخراج ثقل وازن من معادلة الصراع ووضعه في السجن، أو إخضاعه لسلسلة مركبة من التحقيقات، يستطيع من خلالها ومعها معرفة أو إدراك البنية التفصيلية للبنان من مناحيه كافة. إذاً، ما إن أُقيم معتقل أنصار، وبدأت الأفواج تقاد إليه، حتى برزت قضية المعتقلين. وفي أواخر سنة 1983 بدأت مرحلة العمل على تأسيس هيئة باسم تجمع معتقلي أنصار. وكان أقصى الطموح آنذاك التمكن من إثارة قضية ألوف الأسرى هؤلاء على الصعيد المحلي، حيث كان ما يتجاوز ذلك وقتذاك أمراً شبه مستحيل، باعتبار أن الجزء الأساسي من لبنان كان ما زال محتلاً، وعاصمته خاضعة في معظمها لسيطرة القوة المتعددة الجنسيات المؤلفة من أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا. غير أن تحولاً بدأ في ميزان القوى الداخلي كانت له أسبابه الإقليمية والدولية، الأمر الذي دفع بهذه القضية إلى أن تتخذ منحى تصاعدياً، وخصوصاً أن رئيس الحكومة آنذاك كان سليم الحص، الذي شغل في الوقت ذاته حقيبة وزارة الخارجية. وبواسطة الأمين العام لوزارة الخارجية، السفير صلاح ستيتية، رفعت إلى هيئة الأمم المتحدة عدة مذكرات تطالبها بالتدخل لإطلاق المعتقلين في أنصار. وفي ذلك الوقت - كما يروي أمين سر لجنة المتابعة، محمد صفا - جرى توجيه مذكرات إلى المنظمات الحقوقية العربية والدولية. بالتأكيد كان خروج القوة المتعددة الجنسيات من البلد، وأحداث السادس من شباط/فبراير 1984، واضطرار القوات الإسرائيلية إلى تنفيذ انسحابات متتابعة.. كل هذه التطورات كانت مبعث انطلاقة في عمل لجنة المتابعة. ثم أخذت هذه القضية تخرج عن طابعها المحلي شيئاً فشيئاً عندما حضرت المحامية الفرنسية مونيكا بيكار دويل إلى بيروت، ثم ذهبت إلى إسرائيل والتقت بعض الأسرى اللبنانيين، وأعقبت ذلك بتحرك في إطار المجلس الأوروبي.

في خضم التطورات الداخلية، كانت لجنة المتابعة تخرج من إطارها المحدود وتتسع مع استتباب الأمن وإجراء الانتخابات النيابية؛ إذ انضم إليها سبعة نواب. ويقول صفا إن هذا التطور الذي طرأ على قضية المعتقلين حث الدولة اللبنانية على تبني القضية من خلال وزارة الخارجية. ويؤكد كل من صفا وسرور، وهما سجينان سابقان في سجن الخيام، أن القضية أخذت تلقى اهتماماً خاصاً واستثنائياً لدى كل من لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ولجنة العفو الدولية، إضافة إلى النشاط الذي كانت تبذله اللجنة الدولية للصليب الأحمر. إلاّ إن هذه الجهود كانت تصطدم بمحاولات العرقلة من جانب إسرائيل و"جيش لبنان الجنوبي". وعلى حد قول أحد مسؤولي اللجنة، رينو مايستر: كلما كنا نتصل بجيش لبنان الجنوبي لزيارة معتقل الخيام، كنا نتلقى جواباً بضرورة الحصول على إذن مسبق من إسرائيل، وعندما كنا نتوجه إلى الإسرائيليين كانوا يقولون أنهم غير مسؤولين، ويحيلونا على جيش لبنان الجنوبي. وهكذا دواليك.

غير أنه كان من المستحيل أن تستمر هذه القضية إلى ما لا نهاية. وأخذت التقارير الدولية المتعلقة بالوضع في سجن الخيام تتزايد. ففي تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية في 6 أيار/مايو 1992 ذُكر أن المعتقلين في سجن الخيام يتعرضون لتعذيب وحشي بواسطة الأسلاك الكهربائية، بالإضافة إلى أنهم محرومون من الاتصال بعائلاتهم واللجنة الدولية للصليب الأحمر. إلاّ إن الأهم في هذا التقرير هو أنه أشار أول مرة إلى مشاركة إسرائيليين في تعذيب المعتقلين واستجوابهم. ومع أن التقرير ذكر أن المشاركة الإسرائيلية المباشرة في التعذيب والاستجواب حدثت سنة 1988، فقد قال: "من الواضح أنهم [الإسرائيليين] لا يزالون يلعبون دور الإشراف داخل السجن. وعلى هذا الأساس فإننا نؤمن بأن مسؤولية معاملة ومصير المعتقلين في الخيام تقع على عاتق إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي معاً. وفي الحد الأدنى، على إسرائيل العمل على وضع حد لكل أشكال التعذيب وسوء المعاملة، والسماح من دون تأخير للعائلات والمنظمة الدولية للصليب الأحمر بزيارة المعتقل." وأضاف التقرير: "وقد عبّرت منظمة العفو الدولية مراراً، ومنذ سنة 1985، عن قلقها حيال أوضاع المعتقلين إلى كل من السلطات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي، وقد نفت إسرائيل بشكل دائم مسؤوليتها عن المعتقلين برغم الدليل على مشاركة مسؤولين إسرائيليين في المعتقل، ورغم حقيقة أن إسرائيل هي في موقف القادر على إطلاق سراح المعتقلين. كما أنه لا يزال على إسرائيل أن توضح وضع 36 معتقلاً، معظمهم لبنانيون من جنوب لبنان، محتجزون في إسرائيل من دون كلمة أو محاكمة، وبعضهم في مراكز اعتقال مغلقة." وختم التقرير بالقول إن لجنة العفو الدولية أثارت قضية هؤلاء في وقت سابق.

وفي الرد الإسرائيلي على التقرير الذي نقلته "وكالة الصحافة الفرنسية"، نفت إسرائيل وجود "ضباط إسرائيليين في منشآت الخيام، التي يديرها ويسيطر عليها جيش لبنان الجنوبي، المسؤول عن كل ما يجري... وقد شجعت إسرائيل بعلاقاتها الطيبة مع هذه الميليشيا على توفير ظروف إنسانية للمعتقلين، لكن إسرائيل لا تستطيع أن تملي على هذه الميليشيات تصرفاتها." وأضاف الرد الإسرائيلي، الذي صدر يوم نشر التقرير، "إن معلوماتنا تقول إن المعتقلين متورطون في أعمال عنف وإرهاب."

لكن النفي الإسرائيلي لمسؤولية إسرائيل عن معتقل الخيام لم يقنع الهيئات الدولية. وأصدرت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تقريراً في 13 آذار/مارس 1993، جاء فيه:

"إن لجنة حقوق الإنسان، إذ يساورها بالغ القلق لممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة في جنوب لبنان، والتي تشكل انتهاكاً لمبادئ القانون الدولي المتعلقة بحماية حقوق الإنسان، ولا سيما للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فضلاً عن انتهاكها الجسيم للأحكام ذات الصلة بالقانون الدولي كما وردت في اتفاقية جنيف الرابعة....

1 - تدين الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الإنسان في جنوب لبنان المتمثلة خصوصاً في الاعتقال التعسفي للسكان المدنيين وتدمير مساكنهم ومصادرة ممتلكاتهم وطردهم من المنطقة المحتلة، وقصف القرى والمناطق المدنية، وغير ذلك من الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان.

2 - تطلب إلى إسرائيل أن تضع على الفور حداً لهذه الممارسات وأن تنفذ قراري مجلس الأمن [الإشارة إلى القرارين 425 و509] اللذين يقضيان بانسحاب إسرائيل الفوري الكامل وغير المشروط من جميع الأراضي اللبنانية واحترام سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه.

3 - تطلب إلى إسرائيل أن تضع حداً على الفور لسياسة الإبعاد القسري وأن تنفذ قرار مجلس الأمن الرقم 779 المؤرخ في 18 كانون الأول [ديسمبر] 1992.

4 - تطلب أيضاً إلى حكومة إسرائيل، وهي الدولة المحتلة للجنوب، أن تمتثل فوراً لاتفاقات جنيف لسنة 1949، خصوصاً المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب.

5 - وأن تسهل المهمة الإنسانية للجنة الدولية للصليب الأحمر والهيئات الإنسانية الأُخرى في هذه المنطقة، خصوصاً أن تسمح لهذه الهيئات بزيارة معتقلي الخيام ومرجعيون، والتحقق من أوضاع المعتقلين فيهما."

وقبل ذلك، كانت منظمة العفو الدولية أصدرت تقريرين، أولهما في 7 شباط/فبراير 1993، والآخر يشمل الفترة الواقعة بين كانون الثاني/يناير وكانون الأول/ديسمبر من سنة 1992، بشأن معتقل الخيام. يقول التقرير الأول: "تعتقد منظمة العفو الدولية أنه ليس بإمكان إسرائيل أن تتنصل من مسؤولية المعاملة السيئة للمعتقلين في الخيام، وأنه على إسرائيل أن توضح الوضع القانوني لهم، وإذا كان توقيفهم مرتبطاً بالإفراج عن العسكريين الأربعة المفقودين من الجيش الإسرائيلي فهم ليسوا معتقلين بل رهائن، وعلى إسرائيل أن تفرج عنهم فوراً ومن دون أي شروط.." وكانت المنظمة الدولية ترد بذلك على ما أورده منسق الأنشطة الإسرائيلية في جنوب لبنان أوري لوبراني، وما سبق أن أورده وزير الدفاع الإسرائيلي يتسحاق رابين، عندما ربط بين مصير المعتقلين اللبنانيين في الخيام وسجون إسرائيل وبين مصير الجنود الإسرائيليين، علماً بأن رابين ربط بقاء المعتقل والمعتقلين بما هو أوسع من ذلك عندما قال "إن الإفراج الكامل عن السجناء اللبنانيين مرتبط بالهدوء في جنوب لبنان." والمقصود بذلك بالتأكيد أعمال المقاومة. أمّا التقرير الآخر، وهو بعنوان "إسرائيل/جنوب لبنان: المعتقلون في الخيام، التعذيب والمعاملة السيئة"، فقد طالب بإطلاق المعتقلين، ووضع حد لسوء المعاملة والتعذيب، والسماح للمعتقلين بتلقي زيارات من ذويهم ومن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وإتاحة المجال للرعاية الطبية لهم.

وعبر الجهود المبذولة في نيويورك ولندن وباريس وجنيف وسواها، دخلت قضية المعتقلين اللبنانيين مرحلة أكثر تقدماً، ويمكن ملاحظة أنه منذ مطلع التسعينات ازداد حضور هذه القضية في المحافل الدولية. ويؤكد محمد صفا أن تبني وزارة الخارجية اللبنانية لها أدى إلى مشاركته في حزيران/يونيو 1993 في أعمال المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا، في إطار وفد وزارة الخارجية. وقد تضمن خطاب الوزير بويز في المؤتمر فقرة مسهبة بشأن الموضوع، كما عقد الوفد اللبناني مؤتمرات صحافية، ووزع وثائق على الوفود الحكومية وغير الحكومية، و"نسجنا علاقات مع منظمة العفو الدولية، إضافة إلى العلاقات العربية مع اتحاد المحامين والمنظمة العربية لحقوق الإنسان." ويضيف صفا أنه حدثت نقلة في تعامل الدولة مع قضية المعتقلين، وبلغ الاهتمام بها درجة اعتبار قضية المعتقلين في سجن الخيام إحدى الركائز الثلاث في سياسة وزارة الخارجية، إلى جانب المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425، وإثارة استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان براً وبحراً وجواً، وتوجيه تعميم إلى جميع البعثات الدبلوماسية اللبنانية لدى الدول الغربية والمنظمات الدولية.. ولم يكن ذلك هو الشكل الوحيد للتحرك اللبناني، إذ إن رئيس الجمهورية الياس الهراوي وجه نداء إلى العالم بأجمعه، وخصوصاً المحافل الدولية التي تهتم بقضية حرية وحقوق الإنسان، للتدخل من أجل المعتقلين، سواء كانوا في منطقة الخيام أو داخل إسرائيل. كما أن الرئيس رفيق الحريري تطرق إلى هذه القضية لدى إلقائه خطاباً أمام الأمم المتحدة.

لقد أدخلت هذه العملية السياسية المتكاملة قضية معتقلي الخيام منذ مطلع سنة 1995 في منحى مختلف، ولا سيما أن استشهاد المناضلين كان ما زال مستمراً حتى حينه، مع سقوط الأسير هيثم دباجة في معتقله... وهكذا، كان صمود الأسرى داخل المعتقل من جهة ونشاط لجنة المتابعة من جهة أُخرى، هما الحافزان اللذان مهدا لموافقة إسرائيل على زيارة الأهالي لأبنائهم في السجن المذكور، من دون أن تصل الأمور بعد إلى إشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر على المعتقل، فضلاً عن الأسرى اللبنانيين داخل سجون الأرض المحتلة. وهذا يعني استمرار المعتقلين رهائن في أيدي إسرائيل وميليشياتها، مثلما أن المنطقة المحتلة من لبنان رهينة تلك السياسة التي وإن كانت تمارس الآن تحت لافتة السلام والتطبيع، فإنها لا تستطيع أن تخفي طابع السيطرة المقصود.

أنصار كان معتقل حرب، أمّا الخيام فهو "مقبرة للأحياء" مسورة بالحقد والعنصرية.

 

* تم الاعتماد في كتابة هذا التحقيق على: "السفير"؛ "النهار"؛ "بيروت المساء"؛ مقابلات شخصية؛ منشورات ووثائق لجنة المتابعة لقضية المعتقلين في سجون العدو؛ كتابات غير منشورة بشأن تحقيقات الضباط الإسرائيليين؛ محمد صفا، "الحرية للمعتقلين" (بيروت: دار الفارابي، 1995)؛ علي سرور، "الخيام: شهادات حية عن الإرهاب الصهيوني" (بيلروت: منشورات تجمع معتقلي أنصار، 1988)؛ تقارير منظمة العفو الدولية.

Author biography: 

زهير هواري: كاتب وصحافي لبناني.