إن الإجابة عن السؤال هل ستقوم دولة فلسطينية هي بـ "الإيجاب". ستقوم دولة فلسطينية، وأكاد أقول إن الملامح الرئيسية للدولة تبينت مباشرة بعد انتخابات المجلس التشريعي؛ فالأرض صارت موجودة، والسلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) موجودة، والمؤسسات في طريقها إلى التكوّن أو أنها تكونت فعلاً. لكن هذه الدولة ما زالت بحاجة إلى استكمال بعض عناصرها الأساسية. وبالمقارنة التاريخية منذ بدء المفاوضات حتى الآن، نرى أن مفهوم الدولة قطع شوطاً بعيداً؛ فمنظمة التحرير معترف بها من جميع الأطراف أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأنها هي التي تفاوض إسرائيل، وأن هياكل المنظمة وعناصرها التي دخل الإسرائيليون لبنان سنة 1982 للقضاء عليها عادت إلى الأرض الفلسطينية. وليس في استطاعتنا التأمل في السؤال "هل الدولة الفلسطينية قادمة؟" من دون النظر فيما كانت الأحوال عليه قبل أربعة أعوام، وفيما آلت إليه في الوقت الحاضر.
ويثور السؤال الكبير: لكن الدعوة إلى المفاوضات السلمية بين العرب وإسرائيل لم تنص على ضرورة الانتهاء من المفاوضات بدولة فلسطينية مستقلة. وما نراه من تطور على الأرض الفلسطينية حتى الآن ليس إلا ترجمة للفترة الانتقالية التي نصت عليها دعوة مدريد إلى المفاوضات سنة 1991. فكيف نفسر أن المرحلة النهائية ومفاوضاتها ستؤدي بالضرورة إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة؟
وقد أثار الملك حسين مع الرئيس عرفات السؤال التالي: "هذه الانتقالية هي انتقالية إلى ماذا؟". ولذلك سعى المفاوض الفلسطيني في أوسلو وبعد أوسلو لربط المرحلة الانتقالية من المفاوضات بالمرحلة النهائية، وبذل لهذا الغرض جهوداً جبارة قبل أوسلو تحديداً. لكن الإسرائيليين لم يقبلوا بهذا الربط على الإطلاق، وصمموا على أن جدول الأعمال الذي يمكن أن يقبلوا به يجب أن يبقى محصوراً في المرحلة الانتقالية.
لكن مخالفات إسرائيل لشروط المرحلة الانتقالية هي التي أتاحت أمام الفلسطينيين فرصة، لأن إجراءات إسرائيل على الأرض كانت تسعى بصورة دائمة لاستباق المرحلة النهائية، وتركيز واقع غير قابل للتغيير على الأرض، مثل التوسع في بناء المستوطنات، وتأكيد مفهوم القدس الموحَّدة تحت السيادة الإسرائيلية، وعدم السماح للمبعدين والغائبين بالعودة على الرغم من حصولهم على تصاريح إسرائيلية، وتضييق وسائل العيش على السكان، والاستمرار في مصادرة الأراضي والمياه، والعقوبات الجماعية. ولذلك، كانت ردة فعل المفاوض الفلسطيني أن الإجراءات الإسرائيلية كانت تؤثر في الوضع النهائي، وهو ما هيأ له الفرصة والحق ليربط المرحلة الانتقالية بالمرحلة النهائية.
وبعد توقيع "إعلان المبادئ" الفلسطيني - الإسرائيلي، وجدول الأعمال الأردني - الإسرائيلي في أيلول/سبتمبر 1993، وكذلك بعد توقيع اتفاق أوسلو، تأكد لحكومة العمل الإسرائيلية أن الأردن لا يمكن أن يقبل بالتفاوض نيابة عن الوفد الفلسطيني، أو أن يوقع بصورة مشتركة مع الجانب الفلسطيني أي اتفاق فلسطيني - إسرائيلي. وهكذا، تكون إسرائيل قد قبلت بأن تكون منظمة التحرير الشريك المفاوض. وبمعنى آخر، كان قبول إسرائيل بالتفاوض مع الممثل الشرعي والوحيد يعني قبولها بفكرة الدولة الفلسطينية، لأن الممثل الشرعي لا يمكن أن يقبل بأدنى من ذلك، انسجاماً مع رغبة الشعب الذي يمثله. أمّا قبل ذلك، فقد كان التفاوض يجري مع وفد فلسطيني لا يمثل - بصفة أفراده - الشعب الفلسطيني، ولا يتمتع بأية قوة تخوله توقيع أية ورقة أو وثيقة سلام مع إسرائيل.
وإسرائيل تقبل، حتى هذه اللحظة، بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً، لا وحيداً. ولا بد من أن يبقى هذا الأمر مثاراً للتفاوض بين الطرفين. ومن المتوقع أن تقايض إسرائيل كلمة "الوحيد" بالتعديلات التي تطلب إدخالها على ميثاق المنظمة.
أمّا الأردن، فقد قدم من ناحيته ما كان مطلوباً منه دعماً للقضية الفلسطينية؛ لقد قبل بقرار قمة الرباط المتخذ سنة 1974، وهو قرار عربي، وقام في سنة 1988 بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، الأمر الذي مكن الجانب الفلسطيني من أن يتفاوض كوحدة مستقلة بشأن أرض الضفة التي كانت متوحدة مع الأردن وفيه. كما أن المفاوض الأردني رفض جميع دعوات أن ينوب عن الفلسطيني، أو أن يقبل بأي إطار تفاوضي يبخس الفلسطينيين حقهم. وكذلك استمر الأردن في دعم الموقف الفلسطيني على كل صعيد وفي كل محفل وتجمع.
لذلك، فإن استقلال الأرض الفلسطينية والقرار الفلسطيني جاء بدعم من الأردن، لا على الرغم منه. وينبغي للسلطة الفلسطينية، وهي منتشية باستقلالها، ألا تجعل هذا الاستقلال عن إسرائيل موازياً لانفصالها عن الأردن. ولربما كان هذا مفهوماً وليس مبرراً عندما كان الفلسطينيون ينازعون إسرائيل في حقهم في تمثيل أنفسهم، حتى لا يعطوها ذريعة لعدم التجاوب مع مطلبهم الاستقلالي. أمّا وقد حدث هذا كله، فلا داعي إلى تأكيد ما ليس بحاجة إلى تأكيد؛ إذ إن ضرره أكبر من نفعه. وإلى أن تستكمل عناصر الدولة، تبقى القضية الفلسطينية قضية تفاوض مع إسرائيل. وفي هذا المضمار، فإن الأردن قادر على أن يقوم بدور إيجابي كبير.
ولو نظرنا إلى العناصر الباقية لاستكمال الدولة الفلسطينية، لتمكّنا من تلخيصها بالأمور التالية:
أولاً: استكمال ترسيم الحدود؛ فالحدود كلها بحاجة إلى ترسيم مع الأردن ومصر وسورية وإسرائيل. ولا أتوقع أية إشكالات بالنسبة إلى الحدود المصرية، لكن الضمانات التي تشترط إسرائيل توفرها في وادي الأردن قد لا تُحل إلا باتفاق أردني - فلسطيني عليها. والدولة الفلسطينية لها حدود على النهر والبحر؛ والأردن ضروري جداً للمفاوض الفلسطيني في هذا المجال شرط أن يعترف المفاوض الفلسطيني بهذا الدور ويقبل به بحسن نية وطيبة خاطر. أمّا على الجانب الإسرائيلي، فهنالك موضوع القدس الشائك، وموضوع إعادة تسوية الحدود، وخصوصاً في بعض الأماكن التي جرى تقاسمها بين الطرفين سنة 1948، مثل مناطق قلقيلية وبيت صفافا وطولكرم، وأماكن غيرها.
ثانياً: العاصمة: لا بد لأية دولة من عاصمة، والقدس هي المرشحة، وستبقى القدس قضية عويصة، لكنْ لها حل ولها تصور أردني غير رسمي، وآخر رسمي ما زال بحاجة إلى مزيد من التوضيح. والمهم أن المطلوب أيضاً دور فلسطيني للتفاهم مع الأردن خاصة ومع باقي الدول الإسلامية عامة، ليتم الوصول إلى أن القدس عاصمة لفلسطين.
إن القدس تشكل عائقاً أساسياً، إذ لا يجوز لأحد أن يتنازل عن أي حق للعرب والمسلمين فيها، مهما تتنوع طبيعة التعبير المستخدم في الإشارة إلى القدس، سواء أكان القدس الشرقية أم القدس الغربية أم القدس الكبرى أم الأماكن المقدسة في القدس، أم غير ذلك. ومسؤولية التفريط في أي حق فيها لن تنحصر في الأردن أو السلطة الوطنية الفلسطينية، بل إنها ستقع على جميع دول العالم. ولهذا، فإن التقارب الذي تم في الآونة الأخيرة بين الأردن والسلطة أفاد موضوع القدس من حيث تجاذب الأطراف وشد الحبل فيه، لكن هذا الموضوع بحاجة إلى توعية، وإلى اتفاق تفصيلي على المواقف والمفردات المستخدمة والاقتراحات التفاوضية بشأن القدس التي قد تصدر عن أي من الجانبين.
ثالثاً: استكمال مؤسسات البنى التحتية، ولا سيما الكهرباء والمواصلات والمياه والمطارات، وغيرها، وهذا ممكن بهمة فلسطينية. لكن المشكلة هي عدم وحدة الأرض الفلسطينية حتى بعد التحرير الكامل. فمن المتوقع أن تتكون الأرض الفلسطينية من ثلاثة مواقع هي: الحمة في الجولان، إذا تم الاتفاق بشأنها مع الجانب السوري، وقطاع غزة، والضفة الغربية. وفي المقابل، نرى أن إسرائيل ضمنت بواسطة شبكات الطرق المقامة في الضفة الغربية المعبر الآمن في الأرض الفلسطينية، في كل من المرحلتين الانتقالية والنهائية. أمّا المعابر الآمنة للفلسطينيين، فلا تزال غير متوفرة. ولذلك، فإن تكاليف البنى التحتية ستكون عالية، وستظهر ازدواجية في المشاريع في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، فهل يؤدي هذا، في المدى الأطول، إلى فصل بينهما؟
من الواضح أن الاستقلال الاقتصادي للكيان الفلسطيني القائم حالياً لا يزال يواجه صعوبات جمة بسبب الاعتماد المطلق على الاقتصاد الإسرائيلي. ومن هنا، يصبح من الضروري إثارة موضوع التعاون بين الأردن وفلسطين على نحو أكثر جدية في مشاريع البنى التحتية، والخدمات، والمرافق الأساسية كالماء والكهرباء. إن المبررات الاقتصادية لهذا التعاون كبيرة، ولا سيما بالنسبة إلى ميزانية السلطة الوطنية التي تواجه نظام أسعار للطاقة والمحروقات والمياه متقارباً مع النظام السائد في إسرائيل، والمكلف جداً. وإذا تم توفير تلك الخدمات عن طريق الأردن، فإن الفارق في السعر بين ما تدفعه السلطة لإسرائيل وبين ما تدفعه للأردن يتحول إلى رصيد صاف لميزانيتها، وهو أمر تحتاج السلطة إليه بكل قوة.
رابعاً: قضية الاعتراف بالسيادة بدلاً من الولاية. إن ما سيحصل الجانب الفلسطيني عليه في المرحلة الانتقالية هو "الولاية" على الأرض، لا السيادة عليها. وما زالت تقف في طريق السيادة عثرات أهمها المستوطنات والمستوطنون، وتبعية تلك وأولئك للسلطة الوطنية لا للسلطة الإسرائيلية. كما أن السيادة تعني حرية الدولة المعنية في أن تمنح من تشاء حق الدخول إليها والخروج منها، وهذا أمر مهم بالنسبة إلى عودة النازحين واللاجئين.
ولذلك، فإن القضية الأساسية هي "السيادة" بكل معانيها. ولو تأملنا في القضايا المؤجلة إلى المرحلة النهائية، لرأينا أنها تتعلق بهذا الموضوع المهم. والأردن هو الدولة العربية الأكثر وضوحاً من حيث الاعتراف بسيادة الفلسطينيين على الأرض الفلسطينية، كما هو بيِّن من رفض المفاوض الأردني التفاوض في شأن الحدود بين الضفتين الغربية والشرقية، ومن حيث فتح سفارة فلسطين في عمّان، وقبول بمبدأ فرض الرسوم الجمركية على السلع المتبادلة بين الطرفين، والأهم من ذلك كله قرار فك الارتباط الإداري والقانوني بين الضفتين الذي اتخذ سنة 1988. طبعاً، إن مواقف راعي عملية السلام، الولايات المتحدة، وكذلك مواقف روسيا وأوروبا، لا تزال غير واضحة حيال مستقبل السيادة على الأرض الفلسطينية. وغياب مثل هذا الاعتراف الدولي، وتركه ليكون نتيجة من نتائج التفاوض بشأن المرحلة النهائية، يبقيان المجال مفتوحاً لسوء الظن بين الأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية؛ إذ إن كل طرف يشكك أحياناً في إمكان زحف الآخر على جغرافيته أو سيادته، وهذا أيضاً بحاجة إلى تداول مستمر بين الطرفين، لأن كلاً منهما يعاني غموضاً في هذا الجانب من العلاقة بينهما، ويحتاج إلى إنهاء أسبابه.
وبالنسبة إلى موضوع الكونفدرالية، فإن عرض البحث فيه من جانب السلطة الفلسطينية في الوقت الحاضر يثير في الأردن قلق كثيرين من الذين يخافون من فكرة الوطن البديل، أو الذين يعتقدون أن الأردن لا يمكن أن يقدم للفلسطينيين أكثر مما سيقدمونه لأنفسهم، مع فارق الشكوى والتذمر، أو الذين يظنون أنه ينبغي عدم البحث في الكونفدرالية قبل الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة. وفي المقابل، فإن بعض الجهات الفلسطينية يفهم رفض الأردن البحث في الكونفدرالية حالياً بأنه رفض لفلسطين الدولة المستقلة. لكن الإصرار الفلسطيني على البحث فيها الآن يثير لدى بعض الأردنيين الشكوك في أن الفلسطينيين لا يصرون على هذا العرض إلا لطمأنة إسرائيل وزحزحة موقفها المتشدد حيال قضيتي القدس والحدود، وغيرهما من القضايا الأساسية المؤجلة.
لكنني أعتقد أن هذه المعوقات كلها قابلة للزوال لأسباب كثيرة، أهمها دينامية التفاوض وما تؤدي إليه من تغير في المواقف، والبعد الديموغرافي الذي يرهب إسرائيل. ولقد أوجدت الانتخابات الفلسطينية واقعاً فلسطينياً جديداً جعل الإسرائيليين مضطرين إلى إعادة النظر، وهذا ما حدث بعد الانتخابات الإسرائيلية في أيار/مايو الماضي. ومع ذلك، فقد قبل الإسرائيليون بأن جميع القضايا المعوقة لاستكمال شروط السيادة الفلسطينية قابلة للتفاوض. وأقصى ما يمكن للإسرائيليين أن يفعلوه حيال ذلك هو تأخير بتها، أو وضع جداول زمنية للانسحاب وتصفية المستوطنات وترسيم الحدود. إنها قضية وقت فحسب، وإدارة الفلسطينيين شؤونهم بنجاح، وتحقيق النمو، وبناء المؤسسات، واستكمال التشريعات، هي الوسائل التي ستقنع الجميع بأنهم شريك ثابت ومستقر ويعتمد عليه.
أمّا مستقبل العلاقة الأردنية - الفلسطينية، فسيبقى في المدى القصير محكوماً بمقدار الاتفاق بين الطرفين على إقناع إسرائيل برفع القيود عن التبادل التجاري والاستثماري بينهما، وبأن تتم تسوية مظالم الطرفين، والتعامل بينهما وفق أسس من الاحترام المتبادل. وأظن أن مجال التحسين والتنسيق والتعاون في العلاقات الثنائية لا يزال مفتوحاً على مصراعيه، ولم يُستثمر منه حتى الآن إلا جانب بسيط. وتقع على الطرفين معاً مسؤولية جَسْر الفجوة ومد جسور الثقة والتفاهم. وإذا لم يتم الاتفاق، فإن إسرائيل، سعياً منها لتحقيق مصالحها، ستتعامل مع كل طرف على حدة، لكنها ليست في الموقف الحاسم الذي يجعلها قادرة على تقسيم الأدوار عليهما إذا قصدا، كلاهما، التعاون والتفاهم وإزالة مصادر الشك في العلاقات الثنائية الأردنية - الفلسطينية.
إن قضايا الحدود واللاجئين والقدس والمياه، ثم المستوطنات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية، تهم الطرفين الأردني والفلسطيني، اللذين يحتاجان إلى تعزيز التعاون أحدهما مع الآخر لحل هذه القضايا من دون أن تبرز الشكوى من أن أياً منهما يسعى للتدخل في شؤون الطرف الآخر. وقد ثبت بعد وصول الليكود إلى الحكم أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد، نتنياهو، ليس أفضل للأردن ولا للسلطة الوطنية الفلسطينية، إذ إن له أجندة سياسية تؤثر في مصالح الطرفين العربيين معاً. وقد آن الأوان لتجاوز الشك إلى مرحلة الشفافية في العلاقات، وتأليف لجان للموضوعات المهمة للمرحلة النهائية. وإن فك الارتباط القانوني والإداري والتفاوضي الذي أدى أغراضه في تأكيد خصوصية الطرفين وإبراز الهوية الفلسطينية المستقلة، يجب أن يتبعه تنسيق واضح بين الطرفين لتحقيق مصلحتهما المشتركة في الوصول إلى حل نهائي عادل وشامل.