كتب وليم فوكنر: "إن الماضي لا يموت أبداً، بل إنه ليس ماضياً." بدأ المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا وسواهم يعتنقون هذه الفكرة، خلال العقدين الماضيين، بكثير من الحيوية؛ ثم إن سياسة الماضي، بما في ذلك سياسة الذاكرة التاريخية، أصبحت ميداناً خصباً وحيوياً في البحث العلمي. وفي "ذكريات الثورة"، يعتمد تيد سويدنبرغ أفكاراً نظرية ثاقبة وأساليب تحليل طُورت في هذا الميدان لتطبيقها على تاريخ فلسطين الحديث. فكانت النتيجة أحد الكتب المهمة والممتعة والمبتكرة والواضحة عن تاريخ فلسطين وقضاياها السياسية وحضارتها في القرن العشرين، التي نُشرت في الأعوام الأخيرة.
وكتاب سويدنبرغ الذي يستند، إلى حد كبير، إلى أبحاث جرت، في أواسط الثمانينات، في الضفة الغربية وغزة المحتلتين هو استكشاف للأساليب التي بها لا يزال قدامى ثورة فلسطين 1936 - 1939 ضد الحكم الاستعماري البريطاني والمشروع الصهيوني الذي حماه، يتذكرون ذلك الحدث التاريخي. على أن "ذكريات الثورة" ليس في الواقع، ولا يزعم أنه تاريخ شفهي، أو عمل هدفه الاعتماد على ذكريات أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة، لإعداد رواية تاريخية أكثر دقة وكمالاً. فسويدنبرغ ليس معنياً، بالدرجة الأولى، بتحديد صحة أو دقة ما ذكره الذين قابلهم ورووه عن الثورة، ولا فيما إذا كانت تلك الذكريات تتفق، أو لا تتفق، مع روايات أُخرى. وبدلاً من ذلك، فإن همه في الأساس هو أن يرى كيف فهم هؤلاء القرويون المسنون (وأغلبيتهم من الرجال) ما جربوه في أثناء أعوام الثورة تلك، ثم ما يمكن لذكرياتهم أن ترويه لنا عن التيارات والصراعات في الوعي الشعبي الفلسطيني، في الماضي والحاضر.
وهكذا فإن كتاب "ذكريات الثورة" يستكشف الطرق المعقدة (والمتناقضة أحياناً)، التي بها كانت الذكريات الفردية والجماعية في الثورة (بما في ذلك تصورات هذه الفترة التاريخية التي أنتجها العلماء الفلسطينيون والإسرائيليون وغيرهم من الباحثين، بالإضافة إلى الزعماء السياسيين) قد نُظِّمت ونُقحت وعُدِّلت تحت تأثير التطورات والخبرات التاريخية اللاحقة، وغيرها من الموضوعات المتعددة (بما في ذلك الروايات الصهيونية التاريخية وأنماط الوطنية الفلسطينيةالمتنوعة). ولمشروع سويدنبرغ بعد طبقي مهم، أيضاً، فهو يشير إلى أن أغلبية الروايات عن الثورة، المؤيدة منها أو المعادية، ركزت على ما فعلته النخبة العربية الفلسطينية وعلى ما قالته. في المقابل، فإن "ذكريات الثورة" يركز على الأكثرية الفلاحية الفلسطينية قبل سنة 1948، التي من صفوفها كان معظم الذين حملوا السلاح في ثورة 1936 - 1939، في محاولة للكشف عن سياسة الذاكرة والوعي التاريخيين عند غير النخبة.
وتستخدم دراسة سويدنبرغ للذاكرة الشعبية وللوعي الشعبي عند الفلسطينيين، مفاهيم وتصنيفات طوَّرها أنطونيو غرامشي، وراناجيت غوها، و"جماعة الذاكرة الشعبية"، ورايموند وليمز، وآخرون. فهو، على سبيل المثال، يدرك انتقادات الذين قابلهم للوجهاء الفلسطينيين الأثرياء لما يُزعم عن فسادهم، وعن انعدام الروح الوطنية، وعن تقصيرهم في التضحية في سبيل النضال الوطني (قياساً بالفلاحين الذين يُصوَّرون باستمرار شرفاء ومناضلين) كمثال لما وصفه غرامشي بـ "النزوع نحو الهدم"، وهو نمط من "الشعور الطبقي السلبي" يتصف بالشجب الخفي أو الظاهر للنخب من قبل الطبقة الدنيا، لكنه لا يتصف بالتعبير الواضح والمتماسك عن مصالح متميزة لدى الطبقات الثانوية. كذلك يعتمد سويدنبرغ على استخدام غرامشي لعبارة "الحس السليم" الذي ظهر في أبحاثه عن الوعي عند الفلاح الإيطالي، ثم يقسمه، كما فعل غوها، إلى "عناصر يستعملها الناس لتقديم التسويات اللازمة للعيش في ظل نظام السيطرة، وعناصر بها يسعون لمعارضة أو مقاومة نظام الحكم السائد ذاك." (ص 76)
يصر سويدنبرغ على أن ذكريات الفلسطينيين عن الثورة قد عُدّلت؛ ولا بد من تفسيرها من زاوية نسيج الحس الشعبي السليم، المعقد والمتغير والمتناقض أحياناً، وكذلك من زاوية الخطابات الوطنية الفلسطينية اللاحقة (التي عملت على تصوير ثورة 1936 - 1939 بطرق تخدم رؤيتها للنضال الوطني) والخطابات الصهيونية/الإسرائيلية الرسمية، التي سعت "لمحو وإسقاط وتهميش الماضي الفلسطيني" (ص 76)، ولا سيما السجل التاريخي للحضور الفلسطيني، والهوية الوطنية، والمقاومة الفلسطينية. ثم إن تحديه للتعارضات الاستقطابية والتقسيمات المبسطة التي تميّز معظم الروايات الوطنية الفلسطينية عن الثورة ذو أهمية ودلالة خاصتين. على سبيل المثال، حين يناقش سويدنبرغ الذكريات عن الرجال الذين كانوا قادة للثورة، ثم انتقلوا إلى التعاون مع البريطانيين، فهو يقيم تمييزاً دقيقاً يدعو إلى الإعجاب ويطرح أن هذا الذي يبدو أول وهلة "تواطؤاً" خيانياًصريحاً إنما هو يحتوي، في الواقع، عناصر انتقاد خفية من المرؤوسين للقيادة الوطنية في الطبقة العليا.
من الواضح أن في كتاب "ذكريات الثورة" نقاط قوة كبيرة. لكن هنالك، على الرغم من ذلك، بعض الأمور التي يمكن مناقشتها. فالفصل الذي عقده سويدنبرغ عن جهود إسرائيل في ترسيخ روايتها الرسمية لتاريخ البلاد باعتبارها الحقيقة الوحيدة، من خلال محو المواقع العربية أو إعادة ترتيبها بحيث تلائم الرواية التاريخية الصهيونية، يغطي مسائل عالجها باحثون آخرون، ولعله أقل إبداعاً من تلك الفصول التي تركز بصورة أكثر مباشرة على الذاكرة التاريخية الفلسطينية. وهنالك مفاهيم استخدمها سويدنبرغ، لتوضيح ما ذكره له الذين قابلهم عن الثورة، غير محددة بوضوح ودقة كما يمكن أن نتمنى، ومن شأنها لدى العابثين أن تؤدي إلى الوعي الفلاحي في حده الأدنى الأساسي، مع أن سويدنبرغ نفسه يعي هذا الخطر بوضوح ويبذل جهده في التشديد على التنوع والتعقيد والتناقض. لقد كان من المفيد إجراء نقاش أكثر تفصيلاً وشمولاً لبعض المسائل النظرية، والقضايا المتعلقة بالأسلوب والمشكلات المرتقبة في وضع التاريخ الشفهي وتفسير الذاكرة الشعبية.
ومع أن هذه القضايا ثانوية، فإن "ذكريات الثورة" يبقى كتاباً شديد الأهمية وإبداعياً، لأنه استعاد، بعد عناء، وكشف ببراعة عن عناصر من الوعي التاريخي الفلسطيني الشعبي كانت حتى الآن دفينة أو مقموعة إلى حد كبير. وهو بذلك لا يؤكد فقط التنوع والتعقيد العظيمين في مواقف الذين اشتركوا في الثورة وحوافزهم وخبراتهم، بل يبرز أيضاً كيف أن إدراكهم لتلك الخبرة التاريخية تأثر بكل ما حدث لهم، وللفلسطينيين كشعب، في نصف القرن المنصرم، بما في ذلك الانتفاضة. وباعتبار "ذكريات الثورة" دراسة رائدة لسياسة الوعي التاريخي الفلسطيني، فإنه يمثل قراءة أساسية للمعنيين بالتاريخ والسياسة الفلسطينيين؛ كذلك يمكن له لا بل يجب أن يقرأه كل معني بكيفية إنتاج الذاكرة التاريخية وتحولها والصراع في شأنها، بصرف النظر عن المنطقة أو الفترة المقصودتين.