Doumani, Rediscovering Palestine: Merchants and Peasants in Jabal Nablus, 1700-1900
Full text: 

 

في كتابه "إعادة اكتشاف فلسطين"، يمزج بشارة دوماني بين كل من الحنكة المنهجية، والدقة النظرية، ومصادر أولية مكتشفة حديثاً، والأسلوب الجميل المتدفق، والجرأة والاندفاع نحو الهدف المتوخّى، لينتج عملاً رائعاً. إن كتابة أول تاريخ اجتماعي لفلسطين، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، قادت دوماني إلى إعادة التفكير في نظرته إلى التاريخ الحديث، وهي تعطي صدقية لادعائه إعادة الاكتشاف.

إلى من يردُّ دوماني اكتشاف فلسطين؟ إنه يردُّ اكتشافها أولاً إلى الناس أنفسهم الذين يُدخلهم، إذ يكتب عنهم، في تاريخ البلد. فهؤلاء الذين نظر إليهم المؤرخون الفلسطينيون ثم الصهيونيون القوميون على أنهم ليسوا أكثر من ضحايا منذ زمن بعيد للقمع التركي والتخلف المفضي إلى البلاهة، باتوا الآن يحتلون موقع الصدارة في الرواية التاريخية. وهو يردُّ اكتشافها ثانياً إلى المؤرخين الاجتماعيين، مقدّماً نموذجاً متميزاً للمدى الذي يمكن للمرء أن يبلغه ولما يمكنه الكشف عنه لدى كتابة التاريخ الاجتماعي، بدلاً من التاريخين السائدين: السياسي والدبلوماسي.

ممَّ تتألف إعادة الاكتشاف التي أنجزها دوماني؟ إنه يستخدم هذا العمل لتعديل بؤرة النظر إلى أبعاد تاريخ فلسطين، وذلك عبر اقتراحه حدوداً جديدة في المكان والزمان، إضافة إلى إطار منهجي جديد للتاريخ الاجتماعي.

  1. فهو بتخلّيه، ليس فقط عن السنة المألوفة للبدء في كتابة تاريخ فلسطين الحديث، سنة 1882، بل أيضاً عن السنة التي اعتُمدت لاحقاً، أي سنة الغزو المصري (1831)، إنما يقترح إيلاء الأهمية لدراسة ما حدث قبل هذين التاريخين. كما أن مقاربته تبطل التقسيمات المعتادة لهذا التاريخ إلى فترات زمنية معينة، والمستندة إلى فرضية أن التغيير أُدخل إلى فلسطين من الخارج ومن الأعلى. كما أنه بإظهاره، في الوقت نفسه، أن التحول الاجتماعي ـ الاقتصادي لم يتأسس على قطيعة حادة مع الماضي، إنما يدحض ثنائية التقليد والحداثة.\
  2. وهو بتركيز اهتمامه بعيداً عن القدس ويافا وحيفا، حيث تنامى التمركز العثماني والتوسع الأوروبي، إنما يوجه الاهتمام نحو الداخل الفلسطيني المهمَل، أي نحو قرى جبل نابلس ونحو نابلس نفسها، التي كانت "العاصمة" الاقتصادية والصناعية الرئيسية لفلسطين. فلقد عاش معظم سكان فلسطين في تلك المنطقة الجبلية، وبالتالي فإن تاريخها يعكس ما حدث لمعظم الفلسطينيين.
  3. التركيز المنهجي على التاريخ الاجتماعي للداخل الفلسطيني في القرنين السابع عشر والثامن عشر دفع دوماني إلى دراسة فئات المجتمع المحلي، من فلاحين وتجار، بصورة أساسية، وأيضاً من بدو ونساء وعمال، كانوا لا يتمتعون بعلاقات سياسية بالأوروبيين أو بالإدارة العثمانية. كما أن منظاره الموجَّه من الأسفل إلى الأعلى يكشف مرونة وتكيف التنظيم الاجتماعي والحياة الثقافية لهذه الفئات في حقبة حافلة بالتحولات.

وهو بدمجه هذه العناصر الجديدة، إنما يسعى لسد النقص الناتج من إهمال العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن استبعاد السكان المحليين من الرواية التاريخية، ويوفر لنا بالتالي رؤية جديدة لفلسطين.

ولا يسع المرء سوى أن يشعر بالإعجاب للقراءة الحصيفة والشاملة لسجلات المحكمة الإسلامية في القدس، ولمراسلات المجلس الاستشاري لنابلس خلال أعوام خمسة مهمة جداً من عمله، ولمجموعة واسعة من أوراق العائلات الخاصة، التي اكتشف المؤلف نفسه الكثير منها بنتيجة مشروع البحث الذي قام به. وينحبك هذا التاريخ الاجتماعي في الرواية التي يقدمها المؤلف بإحكام في منظور الاقتصاد السياسي. فالعمل يتمحور على ما يسميه دوماني "الحياة الاجتماعية" للسلع الأربع الرئيسية لمنطقة جبل نابلس: النسيج والقطن وزيت الزيتون والصابون. وهو إذ يدرس العلاقات الاجتماعية التي تحيط بإنتاج هذه السلع وتبادلها واستهلاكها، فإنه يرسم علاقتها بالإطار الثقافي للتجارة المحلية بين التجار والفلاحين، والشبكات المحلية للتبادل التجاري، والاقتصاد السياسي للإنتاج الزراعي الداخل في حلقة التبادل التجاري والنقد، وعلاقات الدولة والتصنيع.

ويتتبع الجسم الرئيسي من عمله التحول الجزئي والبطيء، من إنتاج النسيج إلى تصنيع الصابون، الذي اتسم جبل نابلس به في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فبينما كان بيع النسيج يستند إلى شبكة منظمة من العلاقات الشخصية والقروض الصغيرة للفلاحين من أجل شراء القماش في المناسبات والأعياد، فإن إنتاج الصابون كان يتطلب كثافة رأسمالية، ويسمح بالمشاركة في الاستراتيجيات المتصلة بالتراكم الرأسمالي: إقراض المال؛ ملكية الأرض؛ الملكية العقارية المدنية؛ التجارة المِنْطَقية. وفي سياق هذه العملية التحولية، أعادت طبقة وسطى ناشئة من الفلاحين إنتاج المؤسسات المدينية في الريف وأدخلته في مدار المؤسسات المدينية، الإسلامية، القانونية. وفي الوقت نفسه، طالبت هذه الطبقة السلطات العثمانية، من دون جدوى، بمعاملة الفلاحين كمواطنين وفقاً لما وعدت "التنظيمات" به، وذلك من خلال حمايتهم من نهب أعيان المدن.

ويتفق دوماني مع شولش (Schölch) في أن التحديث الاقتصادي في فلسطين لم ينجم عن استخدام التكنولوجيا في الإنتاج بل عن توسع الإنتاج الزراعي ودخوله حلقة التبادل التجاري. فلقد استولى التجار النابلسيون على الفائض الريفي على حساب الفلاحين، وأعادوا اصطفاف النخبة حولهم. وفي أثناء قيادة التجار لعملية التحول الرأسمالي في فلسطين خلال القرن الثامن عشر، مهدوا الطريق للكثير من التطورات التي نربطها عادة بالقرن التاسع عشر، والتي تبدو في الظاهر منقطعة بعضها عن بعض، ويُفترض أنها حدثت لأسباب سياسية وخارجية.

ومن هذه التطورات يعدد دوماني المركزة السياسية، وخصخصة الأرض، وسيطرة المدن على الأرياف، وما رافق ذلك كله من تقويض لمكانة الشيخ الريفي، وأخيراً تحول نخبة الأعيان إلى طبقة اقتصادية جنينية. وبالنسبة إلى من يقرأ كتاب دوماني، فإن تاريخ فلسطين لن يكون على ما كان عليه من قبل.

أمّا نابلس، التي كانت بين سنتي 1730 و 1830 محاصرة ومذلة من قِبل عكا، فقد ابتسم الحظ لها وتغيرت أحوالها إلى الأفضل في ظل الفاتحين المصريين. وقد بلغت في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، تحت زعامة عائلة عبد الهادي، الحد الأقصى من نفوذها وتوسعها. لكن مع حلول سنة 1850، كانت القدس، التي أُخضعت للسلطة العثمانية المركزية من أجل حمايتها من المخططات الأوروبية، قد حلت محلها مركزاً سياسياً وإدارياً لفلسطين، مع احتفاظ نابلس بأهميتها بصفتها العاصمة الاقتصادية. كذلك قوي مركزا مدينتي حيفا ويافا الساحليتين بوصفهما الثغرين الساحليين المستخدمين في التجارة المتنامية مع أوروبا. أمّا تدهور مكانة نابلس فيرجع إلى أنها، على الرغم من أن المصريين اختاروها مركزاً لهم ـ وهو موقع كانت تحتله من قبل بالنسبة إلى الداخل الفلسطيني ـ لم تستطع الاحتفاظ بهذا الموقع في ظل المسيحيين أو اليهود الأوروبيين، الذين كانت لهم دوافعهم الدينية والسياسية الخاصة. وحتى التوسع في إنتاج الصابون إنما حدث في وقت كانت التجارة الحرة مع أوروبا تلحق الضرر بالأقطار العثمانية الأُخرى، ويبدو أن نمو الصناعات القائمة على نمط محلي متميز لم يكن في قدرته أن يقف في وجه عمليات أقوى كثيراً منطلقة من الخارج.

Author biography: 

غرشون شافير: أستاذ علم الاجتماع، جامعة كاليفورنيا، سان دييغو (الولايات المتحدة).