عرف القراء العرب الدكتور فهمي جدعان، أكاديمياً ومفكراً عربياً رفيع المستوى، في ثلاثة كتب رئيسية هي: "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" (الطبعة الأولى 1979، الطبعة الثالثة 1988)؛ "نظرية التراث ـ ودراسات عربية وإسلامية أُخرى" (1985)؛ "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام" (1989). أمّا أبحاثه في غير العربية، ولا سيما في الفرنسية، فقد أحلته في مكانة مرموقة في أوساط الدراسات العربية والإسلامية العربية. وبإقرار جمهرة الباحثين، بات كتاباه "أسس التقدم..." و "المحنة..." مرجعين أساسيين راسخين في الفكر العربي والإسلامي الكلاسي والحديث في قرننا الحالي.
لقد عرفتُ الدكتور جدعان، من خلال مؤلفاته العربية، مفكراً عقلانياً نقدياً وباحثاً أكاديمياً رصيناً مسكوناً بهاجس الحفر العقلي المحض، ومشغولاً بتجلية وجوه من النظر الفلسفي البحت، وها أنذا اليوم أتعرف إليه ـ كما سيتعرف جمهور المثقفين العرب إليه ـ مفكراً خُلُقياً عملياً ومحللاً اجتماعياً في كتابه الأحدث "الطريق إلى المستقبل"، الذي لا أتردد في اعتباره تأشيرة مرور إلى القرن الحادي والعشرين، وذلك لما ينطوي عليه من تكثيف موضوعي عال لسيرة فكرية ذاتية، ولما يمتاز به على صعيد الشكل من تخفف من التوثيق ومن النمط الإنشائي في الكتابة. إنه يتخذ من أسلوب الاستطراد المنطقي والتأمل الذاتي العميق منوالاً جديداً، لم نألفه في المساهمات الفلسفية العربية. كما أنه يلم ـ على صعيد المضمون ـ بجملة موضوعات، ليعيد تأصيل بعضها وليطلق الجديد، ليكون "أفكاراً ـ قوىً للأزمنة العربية المنظورة."
بيد أن المثير في هذا الكتاب، وهو ليس بالأمر الغريب، يتمثل في أنه يخص موضوعة "التواصل" بفصل يستأنف فيه البحث في ما هو إنساني واجتماعي وعائلي وشخصي جداً، كالزواج والحب، على نحو يذكرنا بالحوار الذي تم في مجلس يحيى بن خالد البرمكي، راداً بذلك الاعتبار إلى موضوعات أهملتها الثقافة العربية الحديثة "العالمة" إهمالاً فاجعاً. بيد أن الأجدر بالتقدير في هذا الكتاب عنايته بإضاءة المدحور والموارى والمؤجَّل والمخجول منه والمسكوت عنه، وابتعاده عن الاعتصام بأي من الواقيات الفكرية الشمولية ذات القدرة على إطفاء حريق التساؤل والنقد بما تمتلكه من سلطات، وتحرره من وهم الاعتقاد بتقديم مشروع استراتيجي كلاني وشامل. والحقيقة أن الراصد لما كتبه الدكتور جدعان ونشره بالعربية لا يملك أمام هذا الكتاب الجديد إلا أن يؤخذ بالدهشة. ومبعث هذه الدهشة لا يتمثل في ما انطوى الكتاب عليه من أفكار جريئة (إذ واظب الدكتور جدعان على هذه الجرأة منذ صدور كتابه "أسس التقدم")، وإنما في اطراحه مسوح الفلاسفة ولبوس الأكاديميين، واتجاهه إلى الكلام بصوت عال، كمفكر متحرر من المناهج المتزمنة، والمصادرات المجانية، والهوامش الثقيلة.
إن هذا الملحظ، الذي قد يبدو شكلياً محضاً، هو من الأهمية بمكان، لأنه يؤكد تطابق المضمون الفكري للكتاب (المناقض للنفاق والحذلقة) مع الأسلوب الذي اندرج فيه (الاستطراد الحر)، على نحو يذكر بقول هربرت ماركيوز: "لا بد لكل مضمون من أن يتطور ليغدو شكلاً." وفيما أرى، فإن أطروحة هذا الكتاب كانت ستغدو محض صرخة في واد، لو لم تتعمق وعي كاتبها تعمقاً أدى بها إلى أن تغدو هاجساً ملحاً وجد في "الطريق إلى المستقبل" التعبير المباشر عنه، على ما ستجهد هذه المراجعة العامة في الإبانة عنه.
جاء "الطريق إلى المستقبل" في 452 صفحة من القطع المتوسط: مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. والفصول الخمسة هي:
- هواجس التفسير والجدوى (ص 17 ـ 52).
- نقد الفعل (ص 53 ـ 112).
- المؤتلف والمختلف (ص 113 ـ 205).
- الإسلام في العاصفة (ص 207 ـ 342).
- التواصل (ص 343 ـ 429).
أمّا العنوان الفرعي للكتاب، فينهض منذ البداية ليكون رائداً لكل من أراد قراءة الكتاب.
فـ "الطريق إلى المستقبل" رهن باحتياز مجموعة من الأفكار الجديدة أو الثاوية، وإطلاقها أو إعادة بعثها في الواقع العربي بعثاً يصل بها إلى حدود الفعل أو القوة المادية المؤثرة، حيثما تتموضع في مؤسسات السلطة والنظام والسلوك الاجتماعي، على هيئة قوانين وتشريعات ونيات. ولمّا كان الواقع العربي، الطامح إلى الاهتداء إلى الطريق نحو المستقبل، جملة وقائع متفاوتة الحظ من الإمكانات والوعي، فإن من البديهي أن يتخذ التعبير عنه صيغة التعدد المضمّن في عبارة "الأزمنة العربية"، التي سبق أن جلاها المؤلف وفرغ من الكلام عليها في كتابه "أسس التقدم". كما أن لفظة "المنظورة" تبدو لازمة، للحيلولة دون الظن بالمؤلف أنه ينصب من كتابه أطروحة صالحة لكل زمان ومكان، في حين أنه لا يطمح في الواقع إلى أكثر من تشخيص الواقعة الحضارية القائمة، وما يمكن أن يستدل عليه منها من واقعات مقبلة. ولهذا، فقد بدت مسارعة المؤلف إلى القطع بأنه لا يقدم مشروعاً شمولياً ضرورية جداً على صعيد الإجراء والمضمون؛ إذ لا يعقل أن يلح في أمر الحوار وأهمية الاعتقاد بنسبية الحقيقة، ثم يعمد إلى اجتثاث ما بشّر به بالجنوح إلى زعم احتياز الحل.
ومن نافل الحديث القول إن مبدأ الحوار المؤسس على تلك القيمة السامية الثاوية في قوله تعالى: "ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَة وَجَادِلْهُم بالَّتِي هِيَ أَحسَن" يستدعي اطراح التوسل بكل العصبيات التي يمكن التمترس خلفها في سبيل الترويج لفكرة ما. فالعشيرة والحزب والسلطة السياسية، كلها شوكات قادرة على فرض الأفكار، لكنها عاجزة، بحكم جوهرها الإرغامي، عن بناء دولة ذات نظام حضاري حديث، يتضايف ويتعاظم من خلال تنوير الجماهير، وتثقيفها، ومحاورتها، ومساعدتها في تصيير الأفكار المجمع عليها، من خلال السلوك العملي، قوانين تمتلك سلطة القانون ونفاذه. ولا ريب في أن هذا التوجه التنويري الحواري الجماهيري يتطلب اطراح تلك النزعات المتعالية في المعرفة، وهجر تلك الصومعة الباردة، التي احتجز المفكر العربي نفسه فيها منذ منتصف القرن الثاني للهجرة، فغدت المعرفة الفلسفية حكراً على خاصة الخاصة، وضرباً من المضنون به على غير أهله (ولمن عساها تنتج إذاً؟!)، وغدا الفلاسفة والمفكرون في واد والناس في واد آخر، إلى الحد الذي لم يحرّك الناس فيه ساكنا كلما عنّ للسلطان أن يقلم أظفار أحد المشتغلين بالفلسفة أو أن يقطع رأسه!
لقد امتثل الدكتور جدعان لذلك كله امتثالاً خالصاً. ويمكننا القول، قياساً بما بُذل من جهود في الفكر العربي المعاصر، حتى من قِبل غير الأكاديميين، إن هذه الجهود امتازت بالصرامة التامة، والميل إلى التوثيق الممل، والبعد عن الهموم اليومية وتكاليف المعيشة، والاهتمام بقضايا النخبة، بل بقضايا نخبة النخبة، الأمر الذي أقصى مبحث الفكر العربي عن دائرة اهتمام الناس والمثقف العادي. وعلاوة على ذلك كله، فقد كانت لغة المفكرين العرب المعاصرين سداً منيعاً حائلاً بين ما يكتبون وبين المثقف العادي؛ إذ اتسمت هذه اللغة بالغموض والتكثيف الشديد والتخصص، وهو أمر جعل كثيراً من جهود هؤلاء المفكرين عرضة للتأويل، وبمنأى عن التمثل والإحاطة والفهم والإفادة. في "الطريق إلى المستقبل" استعادة خلاّقة لأسلوب الاستطراد. وقد أتاح ذلك للمؤلف هامشاً واسعاً للحركة الحرة، والانتقال من فكرة إلى فكرة بيسر ورشاقة يصعب إدراكهما وفق أسلوب الكتابة الأكاديمية المثقلة بتقاليد الإنشاء البلاغي. وفيه "تخفف" واضح من الهوامش والحواشي والإحالات التوثيقية، لا استهانة أو جهلاً بها، بل استجابة لمطلب العمل التأسيسي الإبداعي الشخصي. وقد ساهم ذلك، إلى حد بعيد، في شد انتباه القارئ إلى المتن المتدفق بسلاسة ظاهرة. والأهم من هذا وذاك، أنه لم يتحرج من الخوض في "أشياء الحياة" اليومية المشخصة الدقيقة، ومن الإفصاح عن المتواري والمسكوت عنه، وهو ما درج "المفكرون الرصناء" على اجتنابه وعدم الدخول في دقائقه الحساسة.
ويتعاضد الفصلان الأول والثاني من الكتاب: "هواجس التفسير والجدوى" و "نقد الفعل"، على تجلية وتظهير مواطن الخلل في فهم الذات وتشخيص "عطالتها" الحضارية، على نحو جدلي. وفي اعتقادي أنه إذا كان ابن خلدون أعاد أسباب الأفول الحضاري إلى عوامل بيولوجية قارّة في الشخصية العربية، ثم جاء رينان ورمى عن قوسه، ولحق الجابري بهما فقسم العالم العربي إلى قسمين متقابلين متباينين معرفياً، فإن الدكتور جدعان يعيدها إلى عوامل ثقافية استغرقت الكثير من الوقت لتستقر وتترسّخ وتتلبس أنماطها التاريخية وسطوتها المادية، عبر عدد من أشكال الدولة العربية التي فعّلت دور العصبيات على حسب النظام. وهكذا، فإن الطريقة الوحيدة المتاحة لإزاحة قوى وأفعال تلك الأفكار الظلامية، التي تم تنشيطها حتى غدت قوى وأفعالاً تمتلك سلطة القانون والشريعة، إنما تتمثل في استدعاء واستنهاض وبعث وإطلاق ما يقابلها من أفكار تنويرية، ومن ثم إزاحتها، انطلاقاً من نقد الفعل والممارسات السلوكية، المنبثقة في كثير من الأحيان من أفكار تكونت على هامش الأصيل والجوهري، وفي موازاتهما. إن الإنسان العربي كائن منفصم في الدرجة الأُولى، وكلما ازدادت درجة وعيه ودرجة اقترابه من السلطان، ازداد هذا الفصام بروزاً وانفضاحاً. ويحظى المثقف العربي من هذا الفصام بالنصيب الأوفر؛ فهو باطني انتهازي منافق أناني انفعالي تبريري نرجسي، يفتقر إلى المعرفة العلمية الموضوعية، ولا يمتلك الشجاعة الكافية للثبات على رأيه في وجه خصومه، ولذلك فهو ليس أكثر من مطية سهلة رخيصة الثمن، وهو في أحسن الحالات رومانسي بكّاء يثير الشفقة.
وإذا كانت الأزمنة العربية المعطوبة أنتجت نموذجاً إنسانياً مستلباً يمثل النفاقُ أبرز قيمه، فإن السير على طريق المستقبل يستدعي استنهاض نموذج إنساني تمثِّل النزاهة معدنه الأساسي، لأنها رأس الفضائل التي ستدفع به إلى اطّراح العصبية والأهواء والتبرير، وإلى التزام أقصى درجات الإنتاج والموضوعية والتجرد للحقيقة. وإذا كان المجتمع مندوباً للتخلق بهذه القيمة الجديدة، فإن المثقفين عامة، والمفكرين خاصة، أجدر الناس بالسعي لاحتيازها؛ إذ هم أدلاّء الطريق المفضية إلى المستقبل وقادته.
أمّا الفصلان الثالث والرابع، "المؤتلف والمختلف" و "الإسلام في العاصفة"، فيقصدان إلى تشكيل حوار مع الذات العربية الإسلامية من وجه، ومع "الأغيار"، وخصوصاً "الغير الأوروبي"، من وجه آخر، تحظى فيه الحداثة وما بعد الحداثة بنصيب وافر من التحديد والمراجعة والنظر في تاريخ المواجهة ومفاصلها الرئيسية وحدودها الممكنة وحقائقها وأوهامها، وفي استشراف الوسائل العلمية الواقعية المأمونة التي تأذن في استيعاب المعطيات الموضوعية وتجاوزها إلى آفاق ذات معنى وجودي وفاعلية. والواقع أن وجوه هذا التقابل وتلك المواجهة تتمثل في الغلبة الساحقة للحضارة الغربية قبالة الواقع العربي الرسمي، الذي يوجه جل فعله إلى تدمير ذاته وبعثرة قواه وإمكاناته، بسبب من عدوانية أفكاره وأنانيتها ومن نشدانه للخير الخاص وسيره على طرق مسدودة، تيسر في القواعد الشعبية والمتوسطة نمو الحركات الإسلامية وتعاظمها واتجاهها إلى صيغ راديكالية من الفعل باتت تهدد بصعوبةِ الفصل بين الإسلام، من حيث هو دين إنساني متسامح ينطوي على رسالة حضارية سامية، وبين الواجهات الكثيرة المتكاثرة المتصلبة، التي راحت كل واحدة منها تدّعي أنها الممثل الوحيد للإسلام. إن هذا التصعيد الدموي للمواجهة بين الإسلاميين وأنظمتهم العربية من جهة وبين الإسلاميين والغرب من جهة أُخرى، لا يقدم لمنظري الاستعمار الجديد مسوّغ استهداف العالم العربي (فكل ما هو عربي إسلامي، بقطع النظر عن صحة هذه العلاقة) على طبق من فضة فحسب، بل يرسخ أيضاً أحد أوهام المواجهة؛ أعني نظرية "المؤامرة" على الإسلام والمسلمين، وهي نظرية تزيد في وتائر التربص والتوجس والاستعداء، وتهدد المستقبل العربي والإسلامي تهديداً حقيقياً إذ توقع في حالة الصدام غير المتكافئ، وتجفف قنوات الحوار الحضاري والتواصل المعرفي والتقني الذي لا مفر من التسليم به والحرص عليه.
إن إخفاق المشروع الحضاري الحديث ليس سوى الترجمة المادية لإخفاق العرب الفادح في التعاطف، ولافتقارهم إلى التواصل الذي يضطلع الفصل الخامس من الكتاب بتلمسه وإضاءته. فالمجتمعات العربية عدوانية انفصالية انقطاعية، تعتمد أسلوب القمع وتتوسل بأكثر آليات القسوة والعنف في حياتها العامة، ولا يتمتع أفرادها بعاطفة الحنان والحب الخلاق فيما بينهم. ومن الملاحظ أن هذا العطب العاطفي هو من الهيمنة والانتشار بحيث أنه يشمل علاقات الأقطار العربية بعضها ببعض، كما أنه يستغرق علاقة الدولة القطرية الواحدة برعاياها، ومن ثم علاقة بعض الرعايا ببعضهم الآخر عند جميع المستويات. ولعل أخطر ما يبرز هذا النضوب العاطفي اتخاذ الزواج في المجتمع العربي صورة شكلانية وظيفية نفعية، لا مكان فيها لعاطفة الحب في ظل هيمنة الدافع الجنسي الغريزي البحت، وضرورات العيش في حدود الممكن على علاّته. ولا شك في أن حظ المرأة من هذا الجدب العاطفي ـ لأسباب تاريخية معروفة ـ أكثر من حظ الرجل الذي لا تعوزه المعاناة في بعض الحالات، أو في كثير من الحالات.
في خاتمة "الطريق إلى المستقبل" حوار مع اليأس، الذي يكاد يسربل الأفق، لأن ما يلوح من طرق مسدودة أكثر كثيراً من الطرق النافذة. ومع ذلك، فإن المؤلف، وبدافع مثالي يتمثل في الاعتقاد بأن الحياة ضرورة ممكنة، يرفع أشرعة الأمل والرجاء، ويطلقها لتكون دافعاً وقوة محركة إلى الأمام، في اتجاه مستقبل أفضل.
وهكذا، يختتم المؤلف أطروحته بما كان بدأها به، أعني الإعلاء من قيمة التأمل الذاتي في المحيط، وإعادة الاعتبار إلى الحدس، وإمكان الاعتصام بالأمل والرجاء. وإذا كانت هذه المثالية الموضوعية قد حكمت بداية ونهاية جميع الفصول التي انطوى الكتاب عليها، فإن ثمة ما بين البداية والنهاية اعتداداً واضحاً بالحوار والحفر والمساءلة. والدكتور جدعان لا يتنكر لهذه الحدسية الوجدانية. ومع أنني أجد نفسي قريباً جداً من هذا الهاجس، الذي قد يند عن المحاكمة العقلية الصارمة، فإنني لا أستطيع أن أنحّي جانباً ما قد يثور من تساؤلات واعتراضات على "الطريق إلى المستقبل"، من جنس القول إنه، في المقام الأول، مساهمة خُلُقية، تنهض لمعالجة موضوعات عملية وسلوكية بمقولات وحدوس يصعب قياسها واختبارها واقعياً ومنطقياً، في زمن الذرائعية والنفعية. والتساؤل يثور أيضاً في شأن انحياز المؤلف إلى فئة المفكرين، وتنصيبهم قادة للمرحلة المقبلة؛ فهذا التنصيب ظل، على الرغم من جميع احترازات المؤلف، متأثراً بآراء أفلاطون العتيدة في أمر الفيلسوف الحاكم؛ إذ إن كلمة "مفكر"، مهما نحاول إكسابها دلالات جديدة، تظل محملة بظلال حكمية يصعب تجاهلها. ومع أنني أشاطر المؤلف آراءه في الواقع الشخصي المنفصم للمثقف العربي، فإنني أميل إلى أن استبدل بـ "المفكرين" فئة "الخبراء" التكنوقراطيين ذوي التخصصات المحددة، والحائزين رؤى استراتيجية واضحة.
أمّا الفصل الأخير الموسوم بـ "التواصل"، فيبدو لي أنه كان ينبغي له أن يكون أول فصول الكتاب، وذلك لما ينطوي عليه من نظر واسع عميق في مبادئ الخلل الإنساني. ولعل من الوجوه التي كانت تستحق مزيداً من التوسع والتوضيح، ما جاء في هذا الفصل من إشارات إلى عدم دقة القوم في مذاهبهم بشأن مسألة اضطهاد المرأة العربية وذكورية المجتمع العربي بإطلاق، وذلك نظراً إلى الأخطاء الفادحة التي وقع فيها كثير من الاجتماعيين والجنسويين العرب؛ إذ إنهم أسقطوا إسقاطاً ميكانيكياً مقولات الجنسويين الغربيين على المجتمع العربي، ووقعوا في رذيلة "الاستقراء الناقص والمنحاز"، ولم يكلفوا أنفسهم عناء متابعة الدور السياسي والاجتماعي الخطر، الذي اضطلعت المرأة العربية به في حقب عدة من التاريخ العربي والإسلامي. وقد أُضيف إلى هذه الوجوه النقدية للعمل أن المبادئ التي جعلها الدكتور جدعان موجِّهة لاجتهاداته وتأملاته (الفصل الأول: "هواجس التفسير والجدوى") جاءت مقتضبة، وقد كان التوسع في بسطها ضرورياً في بعض الأحوال، وخصوصاً حيث يتعلق الأمر بقضايا النسبية والعقلانية المشخصة والبراغماتية العملية والابستمولوجية. ومما يمكن أن يثير اللبس في هذا الباب مسألة العلاقة بين الواقع والممكن، إذ يعول الدكتور جدعان في مشاريع الأفعال المقترحة على "منطق الممكنات" لا على منطق "الضرورات المطلقة"، فيوهم قوله إنه "يتعين علينا أن نكون رواقيين بقدر ما فنرضى بما يمكن أن يكون طالما أن ما ينبغي أن يكون ليس في متناول اليد" (ص 45)، بأن علينا أن نرضى بالواقع وبالممكنات البائسة المكافئة للخنوع والاستسلام النهائي، وهو أمر اقتضى من الدكتور جدعان دفع هذه الشبهة والتمييز بين مراتب وأطياف من الممكنات تتراوح بين قطب المثال الأقصى وقطب الممكن الأدنى، وتقرير القول إن محور الممكنات يشتمل على عدد غير محدد من الممكنات، وإن القصد هو طلب أفضل الممكنات وأقربها إلى الضرورات المطلقة وفق متطلبات "هنا... الآن" (حوار مع زهير أبو شايب، جريدة "الرأي"، عمّان، 21/1/1997). والحقيقة أن الاقتضاب الذي صاحب هذه المبادئ الموجهة يعود إلى وضوحها وبداهتها عنده، وهو أمر قد لا يكون متوفراً لدى جميع قارئيه.
ثم إن من المؤكد أن الدكتور جدعان يتحرك في دائرة ذات آفاق عربية وإسلامية وإنسانية، ويتعلق بالوجوه الجوهرية لهذه الأبعاد، وينكر إنكاراً بيّناً أي نزوع إلى الخصوصيات القطرية أو الإقليمية أو الشوفينية هنا وهناك، لكنه يقر بأن هذه الخصوصيات الذاتية النفعية هي التي تتقدم وتعلو ويحالفها الظفر. فهل يفرض هذا الوجه من النظر التسليم بمجرى التيار، ويرفع راية الظفر لهذه الخصوصيات، أم أن المرجعية "العربية" والغائية القومية والإنسانية للأمة العربية وللوجود العربي تظلان عنده هما الهدف والقصد ومعقد الرجاء؟ لست أشك في أن هذا هو الموقف الحقيقي للدكتور جدعان، لكنني افتقدت ملاحقته لهذا الجانب من المسألة.
وخالص هذه المراجعة العامة الشاملة أن "الطريق إلى المستقبل" كتاب يدعونا كل ما فيه إلى التفكر والتأمل والمراجعة والحفز على الفعل، وإلى إحياء بواعث الوجود والرجاء على الرغم من كل شيء. ومن المؤكد أنها لا تغني أبداً عن العودة إلى الكتاب، ومقاربة أفكاره وقضاياه في تجسداتها المشخصة وتشكلاتها المبتكرة وحيواتها، التي تلزمنا بالاستيقاظ من سباتنا العميق والوقوف عند أمهات المسائل والمشكلات التي تعصف بوجودنا وبعالمنا، وتلزمنا بالتفاعل والمشاركة في النظر والفعل لخيرنا الخاص والعام على السواء، على ما يدعو الدكتور جدعان إليه في كل المواطن من كتابه، الذي يجدر بنا أن نقف عنده طويلاً، لأنه يقدم فعلاً للحاضر الذي نتردد فيه وللمستقبل الذي يمتد أمامنا تجربة شخصية فريدة، ومساهمة حقيقية بارزة في تجسيد غائية التنوير والفعل والتواصل، وفي بث استراتيجيا تنويرية شاملة تتجذر فيها قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والنزاهة والفاعلية والتنمية والخير العام والتواصل والرجاء... تجذراً راسخاً وأصيلاً في حياتنا الشخصية والاجتماعية والقومية.