مقدمة
كان العامان الأولان من عمر السلطة الفلسطينية عامرين بأحداث وفوضى وارتياب، تقلب فيها المزاج العام للناس، وجنح أحياناً إلى التطرف في النشوة والاكتئاب وأحاسيس العجز. وفي المحصلة، استطاعت السلطة الفلسطينية، بزعامة ياسر عرفات، أن تحقق وجوداً على الأرض، وأن تؤمّن هذا الوجود محلياً ودولياً، وأن تحافظ على مستوى معقول من الخدمات المقدمة إلى الناس في مختلف مجالات الحياة. ويمكن اعتبار تلك الإنجازات متواضعة إذا قيست بمقياس التوقعات، وجامحة إذا قيست بمقياس الإمكانات.
وعلى الرغم من هذه الإنجازات، فقد تصاعدت الشكوى جراء الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان على أيدي مختلف أجهزة الأمن الفلسطينية. وتراوحت الانتهاكات بين التعذيب والقتل، وبين الحرمان من الحق في التعبير، وبين ملاحقة العاملين في منظمات حقوق الإنسان والتحرش بهم.
إن الفرحة الأُولى بقدوم السلطة الفلسطينية، وما تلا هذه الفرحة من نشوة، لم يستمرا طويلاً؛ إذ أفاق الناس في غزة يوماً فإذا هناك أربعة عشر قتيلاً فلسطينياً برصاص الشرطة الفلسطينية خارج مسجد فلسطين (كان ذلك بعد صلاة الجمعة في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1994). وفي إثر الحادث المفجع، تبادلت السلطة وحركة "حماس" التّهم بشأن المتسبب به. وتعهدت السلطة التحقيق في ملابساته، لكنها لم تنشر النتائج التي توصلت إليها، وهو ما عزز الشكوك حول السلطة واتهامها بأنها هي التي كانت وراء ذلك.
وبسبب الحادث، تسربت سموم كثيرة إلى أجواء العلاقة بين المجتمع والسلطة، وحل الارتياب محل الثقة المتبادلة. إلا إن الحادث كشف أول وهلة مدى خوف السلطة وأجهزتها المتنوعة من إفلات الزمام من أيديها، ومدى إحساسها بالخطر على وجودها من داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، ولا سيما من الجماعات الإسلامية المعارضة بشدة لاتفاق أوسلو وما نجم عنه من إنشاء للسلطة. وكانت تلك الجماعات صريحة وواضحة حين أطلقت الصرخات معلِنة، في عدة نشرات، أن السلطة الفلسطينية تعمل بأمر من الإسرائيليين، وأنها ـ أي السلطة ـ تصنَّف مع الأعداء.
وظهر في تلك الآونة أيضاً مدى الضغوط التي تمارسها كل من أميركا وإسرائيل على السلطة الفلسطينية تحت شعار "مقاومة الإرهاب". ونتيجة هذه الأوضاع كلها، أعلنت السلطة إقامة محكمة أمن الدولة في 7 شباط/فبراير 1995، استناداً إلى المادة 23 من النظام الدستوري لقطاع غزة الصادر في آذار/مارس 1962، وإلى القرار رقم 55 لسنة 1964 بشأن إقامة المحاكم العسكرية وصلاحياتها. وعلى الرغم من الاحتجاجات المحلية والدولية على إنشاء هذه المحاكم، فقد مضت السلطة في خطتها.
وفي زيارة لنائب الرئيس الأميركي، آل غور، إلى أريحا، التي جاءت فور صدور قرار إنشاء المحاكم، هنأ آل غور السلطة علانية على ما قامت به.
ويمكن تفصيل انتهاكات مختلف أجهزة السلطة الفلسطينية تحت عدة عناوين، هي:
أولاً: التعذيب
جاء في تقرير منظمة العفو الدولية لسنة 1995، صفحة 66: "وردت أنباء وقوع التعذيب في المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية، وكان الضرب من الأساليب المتّبعة في التعذيب. ففي يوليو/تموز توفي فريد جربوع في مركز التحقيق في سجن غزة، حيث ظل محتجزاً بمعزل عن العالم الخارجي نحو أسبوعين للاشتباه في تعاونه مع السلطات الإسرائيلية. وأقرت السلطة الفلسطينية بأنه توفي نتيجة لاستخدام العنف، وشرعت في إجراء تحقيق رسمي، كما ألقت القبض على أربعة من المسؤولين، لصلتهم بوفاته. وورد أنهم جميعاً أُفرج عنهم ولم تجر أية محاكمة لهم حتى نهاية العام."
يبدو أن استخدام الأجهزة الأمنية الفلسطينية أسلوب التعذيب أصبح ظاهرة. ومما يخيف في ملاحظة هذه الظاهرة أن هذه الأجهزة كلها متورطة فيها، وهو ما يدعو إلى دق ناقوس خطر أن تصبح هذه الظاهرة مرضاً يصعب معالجته؛ إذ إن بعض الأجهزة الأمنية تجاوز كل الحدود، مستخدماً أساليب قاسية غير متصورة من ضروب التعذيب أدت في نتيجتها إلى وفاة سجناء في أثناء التحقيق معهم.
ومن الحالات التي أثارت ضجة كبيرة، حادثة مقتل محمود إجميل (28 عاماً) خلال التحقيق. والمرحوم إجميل من سكان نابلس، اعتقله جهاز المخابرات العامة في أريحا في بداية سنة 1996، وبُلِّغ أنه موقوف بقرار من الرئيس. وأُبقي على ذمة التوقيف حتى 26 تموز/يوليو 1996، ثم نقل إلى سجن آخر في نابلس بواسطة جهاز أمن البحرية. وفي اليوم التالي نُقل إلى قسم العناية المركزة في مستشفى رفيديا، بعد تعرضه لأنواع عدة من التعذيب أدت إلى إصابته بشلل دماغي، كما أشارت التقارير الطبية. وقد مَنع رجال الشرطة الموجودين هناك زيارته في المستشفى، وادعوا أن جهاز الأمن الوقائي هو الذي أحضره إلى المستشفى. ولدى مراجعة هذا الجهاز أجاب، برسالة خطية تحمل تاريخ 30 تموز/يوليو، أن لا علاقة له بإجميل، وأنه لم يسبق أن قام باعتقاله أو حجزه أو استجوابه، أو حتى استدعائه. ويُذكر هنا أن إجميل أُعطي خليل وجوده في المستشفى اسماً آخر هو أحمد صباح، الأمر الذي يشير إلى محاولة أمن البحرية منذ البداية إخفاء جريمة التعذيب التي اقترفها أفراده في حق إجميل.
ومن مظاهر التعذيب التي بدت على جسم إجميل: حروق سببها الكيّ بواسطة سيخ محمَّى؛ آثار ضرب أماكن عدة من الجسم بالسياط؛ آثار ضرب الرأس مباشرة (بأداة حادة، على ما يبدو)، الأمر الذي أدى إلى وفاة الدماغ.
إن حوادث الوفيات نتيجة التعذيب تدل على أن التعذيب أسلوب دائم تمارسه الأجهزة الأمنية، وهو أمر غير مقبول لدينا أياً يكن سبب الاعتقال. فوفاة عشرة معتقلين حتى اليوم في مراكز التحقيق يمكن اعتبارها مؤشراً خطراً لإمكان تكرار الحوادث، إذا لم نعالج هذه الظاهرة بالطرق القانونية والمهنية والخُلُقية.
ونشير هنا إلى تجاهل الجهات المسؤولة لأغلب الشكاوى التي أرسلت بشأن حالات تعذيب تعرض لها معتقلون في أثناء توقيفهم في مختلف مراكز التحقيق. ونود الإشارة إلى بعض الشكاوى المتعلقة بالموضوع، لا لشيء سوى وضع النقاط على الحروف، واستخلاص التوصيات والعبر في نهاية التقرير. وفيما يلي قائمة بالمعتقلين العشرة الذين توفوا في سجون السلطة الفلسطينية ومراكز الاعتقال التابعة لمختلف الأجهزة الأمنية، منذ قيام السلطة في منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني:
الاسم |
الجهاز الأمني |
تاريخ الوفاة |
فريد جربوع |
المخابرات العامة، سجن غزة |
5/7/1994 |
سلمان جلايطة |
الأمن الوقائي، مركز التوقيف في أريحا |
17/1/1995 |
يوسف الشعراوي |
المخابرات العامة، مركز الاعتقال في البريج |
24/5/1995 |
توفيق سواركه |
الأمن الوقائي، سجن غزة |
28/8/1995 |
عزام مصلح |
المخابرات العامة، سجن أريحا |
28/9/1995 |
محمود إجميل |
أمن قوات البحرية، سجن نابلس |
27/7/1996 |
ناهض دحلان |
المخابرات العامة، سجن الزوايدة |
7/8/1996 |
رشيد الفتياني |
المخابرات العامة، سجن أريحا المركزي |
3/12/1996 |
فايز قمصيه |
المخابرات العامة، سجن بيت لحم |
17/1/1997 |
يوسف البابا |
الاستخبارات العسكرية، سجن نابلس |
1/2/1997 |
الجدير بالملاحظة أن السلطة الفلسطينية كانت تعلن، عقب كل حادث وفاة، أنها ألّفت لجنة تحقيق. غير أن أية لجنة من تلك اللجان لم تنشر شيئاً عن أعمالها أو عما توصلت إليه من نتائج، وهو ما يضع السلطة في موضع حرج أمام الجمهور الفلسطيني، والمجتمع الإنساني عامة.
وليس صعباً بعد ذلك كله استنتاج أن التعذيب كان ـ أو أصبح ـ سياسة منظمة ومنهاجاً لدى بعض الأجهزة الأمنية الفلسطينية. ومع ذلك، فمن الملاحظ أن هناك تراجعاً كبيراً في عدد الشكاوى الموجهة ضد بعض الأجهزة الأمنية، مثل جهاز الأمن الوقائي والشرطة الفلسطينية، خلال الأشهر القليلة الماضية؛ وهو ما يوحي بأن هناك تعليمات من قيادات هذه الأجهزة تقضي بمنع التعذيب، وبأن هناك انضباطاً والتزاماً بهذه التعليمات.
وخلال كتابة هذه السطور، أعلن وزير العدل في السلطة الفلسطينية، في اعتراف شجاع لا سابق له، أن المواطن يوسف البابا اعتُقل في أوائل كانون الثاني/يناير 1997 بصورة غير قانونية، وأنه توفي في نابلس في إثر التعذيب الشديد على أيدي أفراد من جهاز الاستخبارات العسكرية الفلسطينية، الذي يرئسه العميد موسى عرفات.
خلال العامين الماضيين، كنتُ وقفتُ على عدة حوادث تعذيب، وظهر لي أن بعض الأجهزة لا يتورع عن استعمال أساليب شديدة وخطرة، إلى جانب الضرب، مثل الكيّ بالنار أو بأعقاب السجائر، والاغتصاب الجنسي، ونزع الأظافر، وإرغام المعتقل على شرب البول والوقوف مدة طويلة.
ثانياً: انتهاك القانون وعدم اتباع الإجراءات القانونية
من الأمثلة لانتهاك القانون وعدم اتباع الإجراءات القانونية قضية المواطن رافع أحمد بدوي عنبتاوي، من نابلس:
تعرض هذا المواطن للاعتداء والخطف والتعذيب من قِبل بعض الشبان في نابلس. وعند مراجعته أجهزة السلطة، تبين أن هؤلاء الشبان ينتمون إلى حركة "فتح"، فتقدم بشكوى رسمية بهدف معاقبة الذين اعتدوا عليه. وقد قطع بعض المسؤولين له وعوداً باتخاذ إجراءات، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، بل تم توظيف بعض الذين شاركوا في الاعتداء عليه في أجهزة السلطة. وقامت هذه الأجهزة، وبالتحديد قوات الـ 17 وأمن الرئاسة في نابلس، بتكليف مسؤول برتبة رائد التحقيق في حادثة الاعتداء. وأخذ هذا المسؤول يتقرب من المعتدى عليه حتى أقنعه بإقامة مشروع مشترك هو كناية عن فتح مقهى (كافيتريا)، وأخذ منه 3100 دينار، على أي يبدأ العمل في المقهى في أوائل شباط/فبراير 1995. وتبين بعد ذلك أن المواطن وقع ضحية جريمة نصب واحتيال، فتقدم في 24 آذار/مارس 1996 بشكوى إلى محكمة صلح نابلس، غير أن المحكمة لم تستطع بدورها السير بالدعوى لكون المسؤول موضوع الشكوى أحد أفراد الأجهزة الأمنية، ولعدم تمكن شرطة نابلس من استدعائه، فأسقطت المحكمة الدعوى بعد أن توصل محامي المدعي ومحامي المدعى عليه إلى اتفاق يقضي بأن يرد المدعى عليه المال إلى صاحب الشكوى بالتقسيط بموجب سندات. ولم يتمكن المواطن من استرداد ماله إلا في 9 آب/أغسطس 1996، بعد تدخل قيادة الأمن الوطني في نابلس.
وجدّد رافع عنبتاوي في 22 أيار/مايو 1996 شكواه ضد الشبان الذين اعتدوا عليه لدى محكمة صلح نابلس، وأصدرت المحكمة أمراً إلى شرطة نابلس بإحضار المتهمين، لكن أمر المحكمة لم ينفَّذلأن المتهمين يتمتعون بحماية أجهزتهم الأمنية.
وبذلك نرى كيف أن السلطة التنفيذية تعطّل دور القضاء بعدم احترامها له، علماً بأنها هي المسؤولة عن تطبيق أحكامه على الجميع مهما تكن المراكز أو الوظائف والمناصب التي يشغلونها.
وثمة مثال آخر هو قضية طلبة جامعة بيرزيت العشرة، الذين اعتقلتهم أجهزة السلطة الفلسطينية في آذار/مارس 1996 من دون أن توجه إليهم أية تهمة. فقد أصدرت محكمة العدل العليا الفلسطينية في 18 آب/أغسطس 1996 قراراً يقضي بعدم قانونية استمرار اعتقال هؤلاء الطلبة، وأمرت بالإفراج عنهم فوراً. وتم تسليم القرار باليد إلى مدير سجن رام الله، حيث كان الطلبة محتجزين. وقد وقّع مدير السجن الإشعار بتسلّم القرار، وبلَّغ المحامين أن الإفراج عن الطلبة سيتم مساء اليوم نفسه. لكن هذا الأمر لم يتم إلا بعد مضي عدة أشهر واشتداد الضغوط على السلطة. ويُذكر هنا أن قاضي المحكمة العليا أمين عبد السلام أحيل على التقاعد بسبب تلك القضية.
وهناك عدد كبير من المواطنين الذين اعتُقلوا واحتُجزوا أو فُتشت بيوتهم أو تم توقيفهم من دون أوامر من النائب العام. كما استمر اعتقال كثيرين من دون أوامر من المحكمة، وما زال عدد منهم، يتراوح بين 50 أو 150 شخصاً، معتقلاً أو محتجزاً أو موقوفاً في سجون السلطة الفلسطينية. وفي أثناء كتابة هذا المقال، وبالتحديد في 10 كانون الثاني/يناير 1997، قامت قوات الشرطة الجنائية في غزة باعتقال الشيخ حجازي البربار، ثم أطلقته يوم 31 من الشهر ذاته، بعد أن تدخل النائب العام الذي أوضح أن الشيخ البربار اعتُقل من دون إذن النيابة العامة نفسها. ويُذكر أن الشيخ عينه اعتُقل مرة أُخرى من دون اتباع الإجراءات القانونية، وما زال رهن الاعتقال. ويدّعي أخوه أن الشرطة تطلب منه توقيع تعهد بعدم الصلاة في مسجد الكتيبة في غزة.
ثالثاً: الاعتداء على حرية التعبير
قامت الشرطة الفلسطينية بمنع وسائل الإعلام من تغطية أحداث اقتحام جامعة النجاح الوطنية في نابلس في 30 آذار/مارس 1996، وعمدت إلى مصادرة بعض أشرطة الفيديو وآلات التصوير. كما أُسيء إلى الصحافي عبد السلام شحادة، من غزة، وضُيق عليه بواسطة الهاتف، ثم اعتقله ملازم عرّف نفسه بأنه من المباحث. واعتدي عليه بالضرب في مقر شرطة الشجاعية بعد أن اتّهم بأنه يقوم بتفخيخ الأطفال وتحريضهم على القيام بعمليات انتحارية، علماً بأن شحادة كان ينتج فيلماً تحت اسم "الأيدي الصغيرة" لحساب برنامج غزة للصحة النفسية. وقد أُفرج عنه في اليوم نفسه. وادعى ضابط الشرطة أن ما حدث كان بسبب حالة الطوارئ في البلد، حيث لا يُعمل بالقانون في هذه المرحلة، وأن ذلك كان أيضاً لمصلحة الوطن.
ولقد تبخرت أحاسيس التفاؤل والأمل لدى كثير من المثقفين حين أُصدر قرار بإغلاق جريدة "النهار" بسبب نشرها نبأ عن تظاهرة لحركة "حماس"، وبالتحديد لأنها ضخمت فيه أعداد المشاركين في التظاهرة. وتبع ذلك منع جريدة "القدس"، وهي أوسع الجرائد اليومية توزيعاً في الأراضي المحتلة، من دخول غزة لأنها نشرت خبراً عن الرئيس عرفات في صفحتها الثامنة بدلاً من الصفحة الأُولى. ثم اعتُقل المحرر في الجريدة ماهر العلمي. ويومذاك علق أحد الضباط في السلطة على الاعتقال بقوله إن الإجراء كان بسبب الأحوال الجوية!!
إلا إن أكثر القضايا ضجيجاً ووضوحاً كان اعتقال كاتب هذا المقال، المفوض العام لحقوق المواطن في فلسطين، وهو اللقب الذي يحمله رئيس الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، التي أنشئت بقرار رئاسي صدر في 30 أيلول/سبتمبر 1993 ووقعه الرئيس عرفات بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وقد تم اعتقالي ثلاث مرات خلال ستة أشهر بسبب تصريحاتي أو كتاباتي الناقدة لتصرفات السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية. وفي المرة الثالثة (11 حزيران/يونيو 1996) تعرضت للضرب والتنكيل والحبس في زنزانة انفرادية مدة 17 يوماً، ولم يُسمح لي بقابلة محام، ووجهت إليّ تهمة ملفقة هي ضرب شرطي (وهو الشرطي الذي ضربني). وقد أسقط قاضي المحكمة المدنية عني تهمة حيازة مادة الحشيشة لعدم وجود أدلة وعدم قانونية الإجراءات. ويذكر هنا أن ادعاء الشرطة أنها وجدت مادة الحشيشة في أحد أدراج مكتبي في غزة كان مضحكاً؛ إذ ليس في ذلك المكتب بالذات درج واحد.
إلى ذلك، فإن جواً من الخوف انتشر في إثر جميع هذه الحوادث، التي هدفت، على ما يبدو، إلى إيصال الرسالة؛ وهي أن لا مكان للنقد. إلا إن الهدوء عاد نسبياً إلى أوساط المنتقدين، وصار بعض الصحف ينشر التعليقات والمقالات الناقدة، وإن كان بحذر شديد وضمن خطوط حمر، أهمها عدم التعرض لشخص الرئيس، أو للأجهزة الأمنية المختلفة، أو للانتهاكات الخطرة مثل التعذيب. وبالنسبة إلى مجالي الإذاعة والتلفزة، أصبح واضحاً أنهما مقصوران على السلطة، وأن لا مجال للانتقاد عبر هذين المنبرين؛ إذ أُقيلت المذيعة الفلسطينية دانيلا خلف، بعد أن جرؤت على إذاعة شكوى أحد المواطنين بشأن طلبة من جامعة بيرزيت معتقلين وينتمون إلى "حماس". وتخلو برامج التلفزة والإذاعة من الرأي الآخر خلواً كلياً، على الرغم من محاولات إثارة الانطباع في بعض البرامج بأن الآراء فيها تناقَش بحرّية وجرأة ناقدة. ويستطيع المراقب أن يكتشف أن حق النقد مقصور على رجال السلطة نفسها من دون سواهم.
وأكثر من ذلك، فقد جرى التعتيم عمداً على جلسات المجلس التشريعي ومداولاته، وذلك على الرغم من طلب المجلس إذاعة وقائع جلساته لإطلاع المواطنين. كما تم مصادرة كتب عديدة للبروفيسور إدوارد سعيد من المكتبات، وقد تنصلت وزارة الثقافة والإعلام من مسؤولية المصادرة ونفت علمها بما جرى.
التعدي على حرمة الجامعات والمعاهد التعليمية
نورد أمثلة لهذه الانتهاكات على النحو التالي:
1 ـ الجامعة الإسلامية في غزة: في 6 آذار/مارس 1996، دهمت قوة كبيرة من الشرطة الفلسطينية الجامعة الإسلامية، وحطمت أبوابها وفتشتها، واقتحمت مجلس الطلبة وكسرت الأقفال وحفرت جزءاً من أرضية الجامعة. كما أنها اعتقلت بعض الأذنة. وحين توجه كبير الأذنة إليها قائلاً: يوجد مفاتيح للأبواب، أجابت بأنها تعرف كيف تفتح الأبواب.
2 ـ جامعة النجاح في نابلس: في 30 آذار/مارس 1996، عقد مجلس الطلبة حواراً مفتوحاً تحت عنوان "أطلقوا سراح أساتذتنا وزملائنا"، بناءً على إذن رسمي من مجلس طلبة الجامعة وإدارتها، وطبقاً للتعليمات الخاصة بعقد ندوات مفتوحة في الساحة العامة للجامعة. وقد طالب الحضور بإطلاق مؤيدي حركتي "حماس" و "الجهاد الإسلامي" المعتقلين لدى السلطات الإسرائيلية والفلسطينية. لكن بناء على قرار من مدير شرطة نابلس في حينه، اقتحم الجامعة عدد كبير من رجال الشرطة وأطلق أعيرة نارية وغازات مسيلة للدموع، واعتدى على الطلبة، ذكوراً وإناثاً، بالضرب بالهراوات. وأسفر الاعتداء عن إصابة عدد كبير من الطلبة. وأصدر الرئيس ياسر عرفات قراراً يقضي بتأليف لجنة تحقيق في أحداث الجامعة.
وبغض النظر عن مجريات التحقيق، فإن القرار المتخذ باقتحام هاتين الجامعتين كان قراراً غير مشروع، ويشكل انتهاكاً لحرمة الجامعات والمؤسسات التعليمية، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ يحرم على الجهات الأمنية دخول حرم الجامعة إلا بعد الحصول على إذن من رئيس الجامعة.
2 ـ يعتبر تعدي الجهات الأمنية على حرم الجامعة اعتداء على حرية التعليم وعلى صروح العلم التي تحمل رسالة خالدة.
3 ـ يعتبر هذا التعدي اعتداءاً وانتهاكاً لحرية التعبير عن الرأي والفكر والمعتقد السياسي والديني المكفولة في القوانين الوضعية والدولية.
د ـ يحرم استخدام السلاح الحي وبأي حال من الأحوال، طالما كانت الظروف لا تستدعي ذلك.
خلاصة
إن المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة يواجه تحدياً كبيراً في إرساء قواعد الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. وعلى الرغم من التحسن البادي منذ الأشهر القليلة الماضية في سلوك بعض الأجهزة، فإن الوضع العام يوحي بأن الأمر استفحل، وبأن الأجهزة الأمنية فرضت سيطرتها على السلطة المدنية، حتى بات الأمر يستوجب تدارساً على المستويات كافة، لوضع الأمور في النصاب الصحيح قبل أن تدمَّر العلاقة كلياً بين السلطة والمجتمع.