إن مسارعة الأردن إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل قد فاجأت القيادة الفلسطينية، التي كانت تتوقع أن يوقع الملك حسين اتفاق إعلان مبادئ انتقالياً، وانتظار حدوث تقدم في المسارات العربية الأُخرى، كما ردد العاهل الأردني مراراً.
وأعربت القيادة الفلسطينية عن غضبها حيال الأردن لتوقيعه المعاهدة السلمية التي مهّد الملك حسين لها منذ لقائه رئيس حكومة إسرائيل يتسحاق رابين في واشنطن في يوليو/تموز الماضي. كما غضبت القيادة الفلسطينية بسبب بعض بنود المعاهدة التي عالجت قضايا تتعلق بحقوق الفلسطينيين ثنائياً بين إسرائيل والأردن، وتجاهلت دور منظمة التحرير الفلسطينية في إيجاد حلول للمشكلات ذات الطابع الفلسطيني، كحقوق الفلسطينيين في المياه والتجارة، وتجاهل المعاهدة لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
أما بشأن قضية القدس، فإن القيادة الفلسطينية قد اعتبرت أن ما جاء في المعاهدة، من اعتراف بدور أردني في الإشراف على المقدسات الإسلامية في المدينة المقدسة وإعطاء الأردن الأولوية في البحث في قضية القدس عندما تبدأ مفاوضات المرحلة النهائية، بمثابة تحد لها وبداية معركة سياسية مع كل من الأردن وإسرائيل.
واستطاعت القيادة الفلسطينية إثارة مشاعر الغضب لدى الشعب الفلسطيني ضد المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية انطلاقاً من البند المتعلق بالقدس. واستجاب الشعب الفلسطيني، بشتى توجهاته السياسية، بالتنديد بالمعاهدة التي اعتبر أنها اعترفت - ضمناً - بسيادة إسرائيل السياسية على القدس، وتقسيم القدس إلى سيادة سياسية وسيادة دينية.
وقد شعرت القيادة الفلسطينية بأنها خُدعت من قِبل إسرائيل والأردن معاً. فإسرائيل، شريكة منظمة التحرير في اتفاق "إعلان المبادئ" الانتقالي، تعهدت البحث في قضية القدس في بناية العام الثالث من بدء تطبيق اتفاق غزة - أريحا، الذي منح الفلسطينيين حكماً ذاتيا في مناطق السلطة الفلسطينية، ووافقت قيادة منظمة التحرير على تأجيل قضية القدس إلى المرحلة الثانية، بحسب الاتفاق. كما أنها تسلمت رسائل من إسرائيل تتعهد الحكومة الإسرائيلي فيها الإبقاء على المؤسسات الفلسطينية والوضع في القدس الشرقية إلى أن تبدأ مفاوضات المرحلة النهائية.
وجاء توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية - الأردنية، بما تضمنته من إشارة إلى القدس، صفعة للمنظمة، واعتبرها رئيس منظمة التحرير انتهاكاً للاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي؛ حيث بدأت إسرائيل حل موضوع القدس - بحسب رأيه - بتجاهل الفلسطينيين، ومع طرف آخر.
هنا خرج الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عن صمته الطويل وتوجه يوم التوقيع إلى الشعب في غزة وأكد - بانفعال وغضب - أن القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين. وأطلق عبارته التي يتداولها ويرددها الجميع - "القدس عاصمة الدولة الفلسطينية. ومن لم يعجبه فليشرب بحر غزة، شاء من شاء وأبى من أبى."
وانتقد مسؤولون فلسطينيون المعاهدة، لا بسبب توقيعها، بل لأنها تضمنت بنوداً اعتبروها مجحفة في حق الفلسطينيين. أما قضية القدس، فقد أثارت مشاعر الغضب لدى قطاع واسع من الشعب الفلسطيني، الذي تخوّف من مصير مجهول ينتظره، وفي مقدمة سكان القدس الذين يبقى مصيرهم معلقاً: هل يتبعون السلطة الفلسطينية، مثل أهل الضفة الغربية وقطاع غزة، بحسب الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي، أم هل أنه على الرغم من تأجيل البحث في قضية القدس فإن المدينة المقدسة ستبقى العاصمة الموحدة الأبدية لإسرائيل؟ ثم جاءت المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية لتعترف بدور المملكة وبإعطائها أولوية في الإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس. وتساءل أهل القدس عن مصيرهم ومستقبلهم، وهم الذين يعتبرون أنفسهم أكثر من قدم تضحيات للإبقاء على هوية القدس العربية والإسلامية. فكيف يأتي الأردن - من دون مقدمات، وبجرة قلم - ليمنح إسرائيل، بحسب اعتقادهم، حق الاعتراف بسيادة سياسية إسرائيلية على المدينة؟
وخرجت إلى الشوارع تظاهرات شعبية - منظمة في معظمها من قِبل حركة "فتح" - لتدين المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية. وشاركت "حماس" في الإدانة وفي تنظيم مسيرات شعبية وإعلان إضراب يوم توقيع المعاهدة. وقام بعض الشبان بحرق الأعلام الأردنية وصور للعاهل الأردني.
يوم توقيع المعاهدة، ساد جو من التوتر العام في الشارع الفلسطيني. ونظر الفلسطينيون إلى مراسيم توقيع المعاهدة التي بثتها التلفزة الإسرائيلية بشيء من التخوف والتشكك.
ولا يزال الفلسطينيون يشككون في نيات الأردن تجاه إعادة السيطرة على الضفة الغربية والقدس. فعلى الرغم من فك ارتباط الأردن بالضفة الغربية سنة 1988، فإن شريحة واسعة من الشعب الفلسطيني تؤمن بأن الملك حسين، الذي أرغم خلال الانتفاضة على التنازل عن الضفة لمنظمة التحرير، ما زال يحاول إعادة ربط الضفة الغربية بالضفة الشرقية، وجاء البند المتعلق بالقدس في المعاهدة ليزيد في شكوكهم.
وقد اعتبر بعض الأوساط الشعبية والرسمية الفلسطينية أن القدس هي آخر ورقة حاول العاهل الأردني لعبها في محاولة إعادة الضفة الغربية إلى الإشراف الأردني. وجاءت الخطوة الأردنية - الإسرائيلية المفاجئة لتؤكد مخاوف المشككين ضمن القيادة الفلسطينية فيما يُسمى "الخيار الأردني"، ولتعطي المتخوفين ورقة للتشكيك في نيات الأردن تجاه الفلسطينيين. واتخذت الحكومة الأردنية عدة إجراءات زادت في الحساسية والتوتر القائمين بين الفلسطينيين والأردن.
وهنا، وجدت القيادة الفلسطينية أن الأردن الذي كان يمكن الاعتماد عليه في المرحلة الانتقالية لفك ارتباط الفلسطينيين بإسرائيل وإعادتهم إلى الصف والعمق العربيين، قد أصبح تابعاً لإسرائيل وداعماً لها بحكم المعاهدة التي وقعها. ورأت القيادة الفلسطينية أن من الضروري التوجه إلى عمق عربي آخر له مقومات الإسناد، أي مصر.
وفي الوقت نفسه، بدأت القيادة الفلسطينية، بعد ردة الفعل الغاضبة الأولية، التحرك نحو التنسيق مع الأردن حتى لا تترك لإسرائيل مجال القيام بدور الوسيط بين المنظمة والأردن، ونظراً إلى مصالح الشعب الفلسطيني في التنسيق مع حكومة عمان، في ضوء تشابك المصالح والعلاقات التاريخية والمميزة بين الشعبين، إن لم يكن على مستوى القيادتين.
لقد تحوّل الصراع في منطقة الشرق الأوسط من صراع عسكري إلى صراع اقتصادي. وبما أن الفلسطينيين يمرون في مرحلة انتقالية ويسعون للاستقلال، فإن الأردن لم يعد بالنسبة إليهم طوق نجاة. ومع هذا، حرصت القيادة الفلسطينية على أن تتحسن العلاقة بالأردن، على الرغم من التخوفات المتفاوتة في القيادة الفلسطينية حيال هذه العلاقة. فبعض المسؤولين الفلسطينيين يؤمن بأن التنسيق مع الأردن يبدد مخاوف "المتشككين" في القيادة الفلسطينية، وهم الأغلبية. لكن بات واضحاً أن الأردن يتبع سياسة "متأرجحة"؛ فمنذ بدء العملية السلمية، تأرجح الموقف الأردني بين التنسيق مع الفلسطينيين، وانتقل بعد اتفاق أوسلو إلى التنسيق مع سوريا، ثم ابتعد عن التنسيق مع كلا الطرفين حين قام بتوقيع المعاهدة مع إسرائيل.
تعتقد القيادة الفلسطينية أن الأردن كان خلال مرحلة مدريد ووصولاً إلى توقيع المعاهدة مع إسرائيل، يبحث عن دور للمملكة في الشرق الأوسط الجديد، الذي لم تتبلور ملامحه بعد من هنا، كان الأردن يمر في مرحلة من التيه والتعويم. وبتوقيعه المعاهدة، ربما اعتقد الأردن أنه ثبت نفسه دولة في خريطة الشرق الأوسط الجديد. وفي المقابل، قدّم الأردن عدة تنازلات اعتبرها الفلسطينيون خطرة، مثل تأجير أرضه لإسرائيل وإبقاء المستوطنات عليها، وهما سابقة أضعفت الموقفين السوري والفلسطيني، وبدأ التوجه نحو التمسك بالسابقة المصرية - أي تفكيك المستوطنات كما حدث في سيناء. بل إن التنازلات الأردنية أثارت استغراب الكثير من الوزراء الإسرائيليين، الذين اعتقدوا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق رابين، حصل على كل ما كان يطمح إليه، على الرغم من استعداد إسرائيل لتقديم تنازلات للأردن في مقابل توقيعه المعاهدة.
إن القيادة الفلسطينية تتعامل مع المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية كواقع مفروض، وتسعى للاقتراب من الأردن. وقد وجد السيد عرفات، عندما بادر إلى الاتصال بالعاهل الأردني، ترحيباً بعد قطيعة طويلة، ويُعزى الترحيب إلى الوساطات غير الرسمية بين الطرفين.
ومن المتوقع أن يقوم عرفات بزيارة الأردن في محاولة لترطيب الأجواء، ووضع العلاقة الفلسطينية - الأردنية في إطارها الصحيح، ولا سيما بعد قيام الأردن مؤخراً بالتراجع بالتدريج عن مواقفه المتشنجة تجاه القيادة الفلسطينية؛ فقد أعلن الملك حسين فك ارتباط الأردن بالأوقاف الإسلامية في الضفة الغربية، وقال أيضاً إن الأردن سيتنازل عن الإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس للفلسطينيين وللسلطة الفلسطينية عند انتهاء الاحتلال الإسرائيلي.