In Memoria: Emile Habibi and the Revival of the Palestinian Memory
Keywords: 
الذاكرة الجماعية
إميل حبيبي
المؤلفون
الروائيون
الأدب العربي
تراجم
In Remembrance
1922 - 1996
Full text: 

للموت مواعيده الدالة، ومنطقة المراوغ الدفين، الذي يتجاوز كثيراً الظاهر، ويضع مع النهاية الباترة بَصْمته الحادة على حياة برمتها. ويتطلب منا أن نتوقف حياله لنتأمل دلالات الموعد ومسار الحياة التي أنهاها معاً. فهل كان موت إميل حبيبي في مطلع شهر المأساة الفلسطينية الدامي فجر الثاني من أيار- مايو وبعد يوم واحد من الجنازة الجماعية المهيبة لشهداء قانا الأبرار الذين تجاوز عددهم المئة، موعداً دالاً يتطلب منها قراءة ما ينطوي عليه من معان؟ أم أن الجسد الذي حارب مرض السرطان العضال لأعوام لم يستطع احتمال سرطان التعنت الصهيوني وعربدة "عناقيد الغضب" في لبنان فآثر الرحيل؟

الواقع أن مفارقة رحيل الكاتب الفلسطيني الكبير إميل حبيبي بعد تصاعد موجات الغضب الشعبي العربي ضد حملة "عناقيد الغضب" الصهيونية الوحشية على لبنان، تؤكد أن المفارقة التي استخدمها إميل حبيبي ببراعة في أعماله الأدبية قد تركت ميسمها على حياته، وعلى موعده مع الموت في آن واحد، لأن الكاتب الذي كرس الأعوام الأخيرة من حياته للدعوة إلى السلام، وناضل من أجل تدعيم ما يسمى "التطبيع" على الرغم من رفض الشعب والمثقفين معاً له، ما كان في استطاعته أن يختار لرحيله وقتاً أسوأ من صبيحة اليوم التالي لجنازة شهداء مذبحة قانا الهمجية، فيغادر عالمنا وقد أصابت حملة "عناقيد الغضب" وضحاياها الكثيرين السلامَِ، الذي دعا إليه، في مقتل، ويترك وراءه واقعاً لم تبلغ إشكالية دعاة السلام فيه خلال الأعوام الأخيرة تلك الحدة التي بلغتها في إبان الاعتداءات الغادرة على لبنان.

 لكن لمواعيد الموت الدالة منطقها المراوغ. فهل ينطوي الموعد نفسه على مفارقة إميل حبيبي الحادة والمترعة بالدلالات؟ لا شك في ذلك، لأن موعد إميل حبيبي مع الموت يدعونا إلى تأمل حياته وقضيته في سياق غير موات، ويدفعنا إلى التوقف أمام حياته بحذر أكبر، ينال من موجة التسامح التي يغدقها الموت عادة على ضحاياه بسخاه. فهل نستطيع الآن أمام وقفة الموت أن نذكر فقط ما لإميل حبيبي ونتناسى ما عليه؟ هيهات أن يحدث ذلك الآن بعد مذبحة قانا، التي تذكرنا بصورة جلية بمجازر العدو المتتابعة، وبعد أن تكشفت دعوات السلام الصهيونية المخادعة عن حقيقتها الدامغة. وهذه هي مفارقة ميعاد الموت المُرة، لأن إنجاز إميل حبيبي الأدبي الضخم كان في حاجة إلى لحظة موت مواتية تتيح لنا أن نغفر للمغفور له خطاياه السياسية، أو ننحيها لنركز على مساهمته الأدبية ودوره الثقافي في بلورة الهوية العربية للفلسطينيين الذين آثروا البقاء في بلدهم بعد النكبة، وتشبثوا بأرضهم على الرغم من فداحة الثمن.

لكن هذه المفارقة المؤسية لم تكن في أية حال من الأحوال أُولى مفارقات حياته، ولا كانت آخرها. فقد أوصى إميل حبيبي قبل أن يوفيه الأجل في الناصرة في 2 أيار/ مايو 1996 أن يُكتب على شاهدة قبره، وتحت اسمه، تلك الكلمات الثلاث البالغة الدلالة "إميل حبيبي: بقي في حيفا". وهي كلمات مترعة بالمفارقة كذلك، ولا تخلو من دلالات عميقة في الوقت نفسه. لأن إميل حبيبي يود من خلال استخدامه الحاذق للغة، وقد كان من أكثر الكتّاب الفلسطينيين دراية بكنوزها المخبوؤة وفضاً لمغاليقها، أن يجعل بقاءً بعدما أعتدنا على تسميته الرحيل. والرحيل عنده هو أعدى أعداء الفلسطيني الذي يتهدده عدوه بالاقتلاع والترحيل. ولذلك، فقد آثر أن تكون وصيته الأخيرة هي تأكيد البقاء وعدم الخروج من الوطن والتخلي عنه لغاصبيه. وهذا الإصرار على البقاء في الوطن، والوعي العميق بأهمية التشبث به، هما جوهر إنجاز إميل حبيبي الأدبي والفكري، وهما في الوقت نفسه سر المفارقات المؤسية التي اتسمت بها حياته التي حفلت بالمفارقات على مدى نصف قرن من العمل السياسي والأدبي العام.

التحول إلى الأدب وسداسية الأيام الستة

 حتى منتصف الستينات، لم يكن إميل حبيبي قد بدأ الكتابة الأدبية؛ إذ انخرط في هموم السياسة، وما أكثرها في وطنه المحتل. لكنه قال لي في لقاء معه منذ عدة أعوام إن الذي دفعه إلى التحول إلى الأدب لم يكن صدمة نكسة سنة 1967 العسكرية وحدها، كما يظن الكثيرون. فقد كان في المقال السياسي كفايته في استيعاب صدمتها، والتصدي لما طرحته على الواقع العربي كله من مراجعة للذات، ونقد لها. لكن السبب كان التحدي والعناد اللذين انبثقا نتيجة نقاش جرى بينه وبين أحد وزراء الدولة العبرية وقتها، وهو يغّال ألون، قال له فيه ألون إن الفلسطينيين الذين بقوا لم يعد لهم وجود، وإلاّ كان لهم أدب يعبّر عنهم، كالأدب العبري الذي بزغ على أرض فلسطين بعد تأسيس الدولة اليهودية فيها. وقد كان من الشائع وقتها أن ينكر الساسة الصهاينة حتى مجرد وجود الشعب الفلسطيني. إذ كان لرئيسة الحكومة الأسبق غولدا مئير تصريح كريه شهير، يتردد على ألسنة الصهاينة كثيراً، تقول فيه "إن الفلسطينيين لا وجود لهم"، فقرر إميل حبيبي التخلي، إلى حد بعيد، عن العمل السياسي، والتحول إلى الكتابة الأدبية.

الواقع أن هذا التحول إلى الكتابة الأدبية كان من حسن حظ الأدب الفلسطيني؛ فقد اكتشف في إميل حبيبي كاتباً متميزاً وموهبة فريدة. فعلى العكس من أغلبية الكتّاب الفلسطينيين المعاصرين خبر معظمهم تجربة النزوح والنفي ومعسكرات اللاجئين، عاش إميل حبيبي طفولته وشبابه في فلسطين مرحلة الانتداب البريطاني، وعرف فلسطين العربية التي يسعى أعداؤه لاستئصالها ومحوها حتى من الذاكرة الفلسطينية والتاريخ الحديث. وخبر تفصيلات المؤامرة البريطانية والصهيونية عليها بسبب وعيه السياسي المبكر، ومشاركته خلال فترة شبابه في المقاومة الفلسطينية، التي اندلعت بعد ثورة عز الدين القسّام سنة 1936، وفي الإضراب الكبير سة 1939. ثم بقي في بلده بعد أن اغتُصب هذا البلد، وعاني ويلات هذا البقاء، وشهد فصول الحفاظ على الهوية العربية في وجه المحاولات الصهيونية الشرسة والمتواصلة لمحوها. ولذلك فإنه لا يمثل جانباً بارزاً من جوانب التجربة الفلسطينية فحسب، بل يجسد أيضاً استمراريتها في المشهد الأدبي الحديث أكثر من غيره من كتّابها البارزين، وهذه الاستمرارية هي رصيد إميل حبيبي الكبير، وسر تميزه بين معاصريه من كتّاب التجربة الفلسطينية وأبرزهم بين أعلام الخطاب السردي، كسميرة عزام وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، وإن كانوا جميعاً من أدباء الشتات.

وكانت باكورة أعماله الأدبية "سداسية الأيام الستة"، التي كتبها عقب هزيمة سنة 1967. وهي عمل أدبي على درجة كبيرة من الشفافية والشاعرية، يتحول فيه النص إلى أداة لرفض الواقع الذي تمخضت الحرب عنه، وإلى نص مناوئ لخطاب العدو الرسمي الذي يسعى لبث اليأس في قلب العرب عامة، والفلسطينيين خاصة. ويعمد الكاتب في هذا النص إلى خلق رؤية بانورامية للحرب ومتناقضاتها، ووقْع هذه المتناقضات على الفلسطينيين. ويستخدم السرد لزعزعة هيمنة الخطاب الرسمي الرمزية، ودرء شر الواقع الكابوسي المبهظ عن أبناء شعبه. وقد ابتكر إميل حبيبي في عمله الأول ذاك بنية سردية شائقة وجديدة كلياً على السرد العربي. وجدّة البنية السردية من الأمور التي يتميز إبداعه بها منذ بداياته الأدبية تلك حتى آخر نص له. وهي جدة ترفدها خبرة حياتية عميقة من ناحية، ووعي موهف بصفاء اللغة وتراثها العريق من ناحية أُخرى. فالسداسية تتكون من ستة نصوص، لكل منها استقلاليته الخاصة التي يمكننا معها قراءته كعمل مستقل. لكن النصوص جميعها تكون نوعاً من العمل الروائي المتماسك الذي ينتمي إلى ما يعرف باسم الحلقات القصصية، على الرغم من الافتقاد للرابطة العضوية المباشرة بينها. فقصص هذا العمل الست ("حين سعد مسعود بابن عمه"؛ "وأخيراً نوَّر اللوز"؛ "أم الروبابيكا"؛ "العودة"؛ "الخرزة الزرقاء وعودة جبينة"؛ "الحب في قلبي") تربطها مجموعة من الأواصر غير المنظورة التي تضفي على العمل وحدته.[1]

غير أن الوحدة التي تربط هذه الحلقات في عمل كلّي ليست هي وحدة البطل، أو وحدة الشخصية التي تقدم لنا القصص المتعددة تجاربها المتنوعية عادة، كما هي الحال في المقامات، ولا هي حتى وحدة المكان الذي تدور فيه مجموعة من الأحداث والتجارب المتداخلة والمتحاورة، كما يفعل بعض الحلقات القصصية. وإنْ كان ثمة وحدة فضفاضة للزمن، وهو زمن ما بعد النكسة وما تمخض عنها من تبدل، فإنها وحدة من نوع جديد وفريد، تتجاوب فيها الوحدات المستقلة وتتحاور في بنية تعتمد على الجدل والمفارقة، تخلق "سداسية الأيام الستة" بها وحدتها العضوية من دون الاعتماد على التتابع أو التكامل، كما في الحلقات القصصية التقليدية، وإنما من خلال التجاوب الإنساني بين الهموم الفلسطينية، وبين الصيغ المتعددة للتعبير عن الهوية العربية الفلسطينية، والتغلب على محاولات طمسها. ومن خلال الحوار الجدلي الضمني بين أجواء القصص الست، وعوالمها المشحونة بهواجس مرحلة ما بعد الهزيمة وآمالها المحطمة، فقد حققت هذه المرحلة حلم "العودة" الذي يصبو الفلسطينيون إليه، لكن بطريقة مقلوبة، تنطوي على مفارقة درامية مرّة. وعندما سقط ما بقي من الأرض الفلسطينية في قبضة الاحتلال الصهيوني البغيض، عاد كل شطر إلى شطره المفقود، وما أفدحها من عودة.

التشبث بأرض فلسطين

 كتب إميل حبيبي بعد ذلك عدة أعمال أدبية مهمة، بل تفرغ كلياً للكتابة عندما تخلى عن مقعده في الكنيست سنة 1972. وظل حريصاً على التميز والتفرد في نصوصه الأدبية/ وبما لهذا السبب كان شحيح الإنتاج، لأنه لم يكتب خلال ثلاثين عاماً من ممارسة الكتابة إلا حفنة من الأعمال الأدبية المتميزة هي "المتشائل" سنة 1974، و "لكع ابن لكع" سنة 1979، و "أخطية" سنة 1985، و "سرايا بنت الغول" سنة 1992، ثم مسرحيته "أم الروبابيكا" سنة 1992، وهي مأخوذة عن إحدى قصص السداسية، بالإضافة إلى كتاب "نحو عالم بلا أقفاص" سنة 1993، الذي يضم مجموعة من الرسائل والمقالات. هذا فضلاً عن عدد وفير من المقالات والكتابات الصحافية. كما أسس دار نشر "عربسك" في حيفا سنة 1990 لنشر الأعمال الأدبية العربية التي تصدر في فلسطين المحتلة. وأسس أخيراً مجلة أدبية هي مجلة "مشارف" التي صدر منها عدة أعداد، كان آخرها العدد الذي صدر قبيل وفاته.

وكان إميل حبيبي أيضاً من الأعضاء البارزين في لجنة الدفاع عن المبعدين من الفلسطينيين بسبب مقاومتهم للاحتلال، والعمل على إعادتهم إلى أرضهم، لأن البقاء في الوطن والتشبث بالأرض هما الخط الأساسي الذي يربط نشاطه السياسي والأدبي كله؛ إذ إنه عمل منذ مطلع حياته العامة سنة 1948 على دعوة الفلسطينيين إلى عدم الرحيل من مدنهم وقراهم، على الرغم من المجازر التي كانت العصابات الصهيونية ترتكبها لحملهم على الرحيل، ومن مذابح الجيش الإسرائيلي في دير ياسين، وكفرقاسم، وسياسة الترحيل الجماعي التي اعتمدتها الدولة العبرية إزاءهم منذ البدابة حتى الآن. وكان التشبث بالأرض وبالهوية العربية لفلسطين مدار نضاله السياسي ونشاطه الأدبي على السواء. ومن دون وعي أن هذا التشبث هو الفكرة المحورية في عالمه الأدبي، فإننا نغفل جانباً مهماً فيه، ومستوى أساسياً من مستويات المعنى والدلالة التي تنطوي هذه الأعمال كلها عليها، ولا نستطيع أيضاً فهم الكثير من التناقضات التي عاشها طوال حياته. بل يمكننا القول إن تسلط فكرة البقاء تلك عليه هي وراء دعوته الملحة إلى السلام، بعدما تتابعت الضربات، وأحكم الزمن الرديء قبضته على كل شيء، وتسرب الشك إلى نفس "المتشائل" القديم، وسرى اليأس في روحه. وقد يكون استحواذ هذه الفكرة عليه، مع وعيه تردي الوضع العربي يوماً بعد يوم إزاء تنامي الصلف الصهيوني المدعوم بالتحيز الأميركي، هو الذي أدى في الأعوام الأخيرة إلى إسرافه في الدعوة إلى أرائه في السلام والتطبيع إلى حد التخبط، وهو ما دفع البعض إلى التهجم عليه بشدة، والشك في دوافعه.

لكن وصيته الأخيرة تؤكد لنا أنه ظل مخلصاً لفكرة البقاء الأساسية حتى آخر رمق في حياته. وتحملنا هذه الوصية على دخول قصة حياته ومفارقة موته من خلال هذا البقاءفي حيفا قبل الموت وبعده. فقد كان البقاء مدار حياته و "إنجيلها" القدس، بل إنه يحيلنا بطريقة غير مباشرة على أهم أعماله الأدبية قاطبة، وهي الرواية البديعة المدهشة ("الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل")، [2]لنعيد قراءتها من جديد في ضوء هذه الوصية الدالة. فالقسم الثاني منها، وهو القسم المركزي بين أقسام الرواية الثلاثة، يحمل عنوان "باقية"، وهو اسم المرأة التي ترمز إلى فلسطين والتي بقيت وحافظت على هويتها العربية في وجه الصعاب كلها، أو بتعبير سعيد أبي النحس نفسه في مطلع الرواية: "لقد اختفيت، ولكني لم أمت." [3]لأن هذه الرواية الجميلة هي رواية التعامل، كما يقول مطلعها، مع "أعجب ما وقع لإنسان منذ عصا موسى وقيامة عيسى": [4]أن يختفي وطنه من على الخريطة، وأن يتحتم عليه الاختفاء مع أنه لم يمت، وهي رواية تصدي الفلسطيني لعمليات المحو الجهنمية التي مورست ضده منذ عام النكبة حتى اليوم.

 بنية "المتشائل" الفريدة

تُرجمت رواية "المتشائل"، وهي واحدة من أهم الروايات العربية التي صدرت في العقود الثلاثة الأخيرة من هذا القرن، إلى ست عشرة لغة من اللغات الأوروبية وغير الأوروبية، ولقيت في عدد منها نجاحاً كبيراً لأنها استطاعت أن تتجاوز الهم الفلسطيني الخاص، وأن تصبح رواية إنسانية عامة بسبب تعمقها في هذا الهم واستبطانها دقائقه. كما أن هذه الرواية البديعة المترعة بالتهكم وروح السخرية الشعرية الشفيفة استطاعت أن تنحت مفردة جديدة وجميلة في اللغة العربية لتلائم الوضع العربي الجديد وهي مفردة "المتشائل" التي تجمع بين مفردتي التفاؤل والتشاؤم، وإن قدمت التشاؤم على التفاؤل حتى يرفد الأول الآخر بقدر أكبر من الحرص والحيطة والتأمل. فالحالة التي تبلورها الرواية هي حالة تشاؤم شعبي مبنية على واقع رديء، لكنها مفتوحة في الوقت نفسه على أمل ضمني مضمر، يشي به الحرفان الأخيران من الكلمة والمستمدان من مفردة التفاؤل. إذ إن الحالة التي تقدمها الرواية، وهي الحالة الفلسطينية، بل العربية برمتها، تنطوي على أمل عميق نابع من إيمانها القوي بحقها.

وهي رواية مجالدة الذين بقوا في الأرض الفلسطينية بعد إنشاء الدولة العبرية عليها، لأن البقاء فيها شارة لتجذر الفلسطيني في أرضه، لكنه في الوقت ذاته بقاء مشحون بالتنافسات ومثقل بالمفارقات التي يجد الفلسطيني نفسه عرضة لها بعدما سُلبت منه أرضه، وتُرك وحده لسلطة محتلة غاشمة. وتستخدم هذه الرواية مجموعة من الاستراتيجيات السردية المهمة التي تجعلها نصاً متفرداً في الرواية العريبة، حيث تنطلق من استراتيجيا الراوي الضمني، ومن بنية الرواية داخل الرواية، وتعتمد على المفارقة كأداة أساسية لبلورة بنيتها وتوليد دلالاتها. وتبلغ بهذه المفارقة حداً تشكك في نهايتها في وجود صاحب الرسائل التي صاغت بنيتها، وهو تشكيك يفتح النص على الواقع كله، ليجعل سعيداً هو الرمز العام للفلسطيني الذي بقي في وطنه، ولتفاعله مع الذين نزحوا. وتنسج الرواية سردها الشائق بطريقة أقرب إلى طريقة التطريز المشغول بالتداعيات التاريخية والشعبية. وتطور الأحداث والشخصيات فيها بأسلوب يمزج السرد التراثي العربي القديم بتقنيات الحكاية الشعبية والمفارقة الواقعية معاً. وتقدم لنا من خلال هذه كله حكاية سعيد أبي النحس المتشائل، وهو فلسطيني من جيل إميل حبيبي نفسه، بالصورة التي تنطوي معها الرواية على إحالات واضحة على سيرة كاتبها الذاتية.

تتكون الرواية من ثلاثة كتب يجسد كل منها مرحلة أساسية من مراحل التاريخ الفلسطيني الحديث، ويحمل اسم امرأة من النساء اللواتي ارتبط سيعد بهن في مختلف مراحل حياته، لكنهن يمثلن في الوقت نفسه ثلاثة وجوه لفلسطين، أو ثلاث طبقات لشخصيتها الرمزية المتراكبة، حيث تمثل أُولاهن، "يعاد" المرحلة السابقة للنكبة، والأحداث التي أدت إليها وصاحبت فصولها الدامية، لذلك كانت "يعاد" بنت التخبط وسلامة النية والمآسي التي أدت إلى النكبة الدامية. بينما تمثل ثانيتهن، "باقية"، روح المقاومة والتشبث بالأرض والهوية العربية في وجه محاولات الاقتلاع والترحيل غب النكبة حتى وقوع باقي الأرض الفلسطينية في الأسر مع هزيمة سنة 1967. وهي مقاومة من نوع فريد يكتسب الحفاظ على الهوية فيها دوراً نضالياً متزايداً، وتصبح فيه صيغ الرفض المراوغة أداة لتأكيد الذات وزعزعة تجذر الآخر فيها. أمّا الثالثة، "يعاد الثانية"، فإنها تجسد المرحلة الجديدة من الوعي الفلسطيني التي تبلورت بعد نكسة سنة 1967، وانطلاق المقاومة وأخذها زمام المبادأة في يدها.

 المراحل الثلاث وكتبها الثلاثة

يتسم الكتاب الأول [5] من الرواية، والذي يتكون بدوره من عشرين فصلاً أو عشرين حكاية هي أقرب إلى حكايات المقامات الساخرة منها إلى السرد الروائي التقليدي، بسمتين أساسيتين: أُولاهما هي التركيز على الماضي المستعاد، وطرح الذاكرة الفلسطينية والتجذر في الوطن في مواجهة أحداث الاقتلاع، ووحشية إجراءات الاستيطان الصهيوني في الأرض الفلسطينية. وثانيهما هي سعي النص لاقتناص حالة السيولة والتخبط التي تركت بصمتها الواضحة على الواقع والسرد معاً، أو بمعنى آخر تحويل السرد إلى معادل نصي لحالة السيولة العبثية في الواقع، لأن زمن النص في هذا الكتاب هو سنة النكبة، سنة 1948، وتأسيسي الدولة الصهيونية على أنقاض عالم قديم تم تدميره بإحكام ووحشية. لكننا لا نستطيع حصر زمن النص في هذه السنة، لأن سيولة السرد تتيح له الإشارة إلى أحداث لاحقة دارت بعد ربع قرن منه، أي بعد نكسة سنة 1967.فاستباق الأحداث هو من أدوات السرد التهكمي التجريبي الذي ينطوي النص عليه، فضلاً عن تطرق السرد إلى الأحداث التي دارت قبل عام النكبة الدامي، والتي يتكفلها الزمن المستعاد.

لكن هم النص الرئيسي في هذا القسم هو سرد وقائع البقاء بعد النكبة، وقد تحولت إلى فصول من البطولة المقلوبة. فالبطل الذي يكتب للكاتب، ويطالبه بنقل قصته إلى العالم، في إيحاء ضمني بأن هذه ليست إلا قصة من آلاف، بل ملايين القصص الفلسطينية التي تنتظر كاتبها، يجد أن عليه أن يمارس شتى صنوف التحايل للبقاء في أرضه التي عُدّ متسللاً إليها، وأن يواجه تهم الخيانة من الذين يعتبرونه "رأس الخيش" الواشي بهم إلى المحتل، وأن يحفظ في ذاكرته جميع الأماكن التي اختفت من الخريطة، وجميع تفصيلات  عملية محو الصهيونية لتضاريس الواقع والجغرافيا وتزييفها للتاريخ، وأن يعيش فصول اغتراب بلده عنه، وتحوله إلى غريب فيه. ويتسم هذا القسم بما يمكن دعوته الفعل المسلوب أو ردات الفعل الشرطية التي يتجسد عبرها كابوس انتزاع فلسطين من بنيها، أو يمكن تسميته المقاومة السلبية، على الرغم من ان البطل لا يعي إلا ضرورة البقاء وحدها، أو المحافظة على نفسه بأي ثمن، وليس له شرف التفكير فيما عدا ذلك. فليس هناك وعي للمقاومة في هذه المرحلة، وإن تمت ممارستها في كل صغيرة وكبيرة. فالبطل في هذا القسم واقع في قبضة أحداث تبدو للوهلة الأُولى مستعصية على الفهم. وليس لدية سلاح إلا براءته المتناهية، وتسليمه المطلق بعجزه عن مواجهة منطقها اللامنطقي والمتعسف معاً.

وما أن نصل إلى الكتاب الثاني، "باقية" [6]حتى نلمس تحولاً في البنية السردية يجعل سعيداً – وقد تمت تربيته الجديدة في الكتاب الأول كمواطن بلا وطن – يسيطر على الموقف بدهائه الفطري، بعدما كان الموقف يسيطر عليه بآلياته الشائهة. فإذا كان سعيد قد أخفق في الكتاب الأول في الزواج من حبيبته "يعاد"، التي اعتُبرت متسللة وانتُزعت من بين أحضانه وأُلقي بها خارج الحدود، فإنه استطاع في هذا الكتاب أن يتزوج من "باقية"، بنت قرية الطنطورة التي أزالتها الجرافات الصهيونية من الخريطة، وإنْ نجح النص في الحفاظ عليها، والكشف عن آليات عملية تدميرها تلك وفضحها. وينجب سعيد منها ولداً وحيداً يسمية "ولاء" لا يلبث أن يتحول في نهاية هذا الكتاب إلى مقاوم يرفض منهج أبيه في الاستسلام لما جرى له، لأن الولاء الوحيد الذي يحقق شرط وجوده هو الولاء لفلسطين. بل إنه يختفي مع أمه في نهاية الكتاب أمام مطاردة الشرطة له، ليصبح اختفاؤه الجديد نظيراً لاختفاء سعيد في مطلع النص ونقيضاً له في آن واحد.

لكن ليس المهم في هذا الكتاب – كما هي الحال في الكتاب السابق – حكاية سعيد الشخصية وما جرى له من أحداث، وإنما الحكايات الكثيرة التي يعيشها كل يوم، والمواقف اليومية العبثية التي يتعرض لها ويثبت فيها بقاءه على الدوام، والقصص التي يسمع بها أو التي تصادفه في حياته اليومية، ويتحول عبرها النص إلى سجل للذاكرة الجمعية، أو إلى تاريخ سردي بديل من التاريخ الرسمي الزائف. لذلك، بيدو هذا الكتاب أقرب ما يكون إلى كتب المقامات العربية القديمة، حيث يحاول البطل بالحيلة والسخرية الكشف عما في الواقع من سلبيات. ويعي الكاتب أن ثمة تناظراً بين بطلة سعيد المتشائل، وبين "متشائل" آخر هو بطل فولتير الشهير في (كانديد) من حيث قدرته على أن يواجه ببراءته المطلقة التي تبلغ حد السذاجة عالماً مدججاً بالشر والخديعة. ويقيم في هذا الكتاب حواراً تناصياً بين البطلين نتعرف إلى دلالاته كلما توغلنا في النص الذي يكشف لنا آليات عمل الصهاينة لإقامة حواجز من الدم بين العربي وشقيقه، ونهْبهم ميراث الفلسطيني الحضاري والثقافي والاقتصادي معاً.

أمّا الكتاب الثالث، "يعا الثانية" [7] فهو كتاب من كابوس النكسة ومن كابوس الاستنامة للواقع القديم معاً. وهو في الوقت نفسه كتاب التحول صوب المقاومة الجديدة. فقد استبدل سعيد فيه بسجن المذلة الواسع سجن الجدران الضيق، فلم يخسر إلا قيوده. والتقى فيه سعيداً الفدائي العائد من لبنان والذي يجسد كبرياءه جلال المقاومة وجبروتها. وعلى أبوابه يلتقي سعيد أبي النحس شقيقته التي جاءت من لبنان بحثاً عن أخباره، فيحسبها "يعاد" لأنها صورة طبق الأصل عن حبيبته الأُولى. ونجد أن اسمها "يعاد" فعلاً فتعرّفها الرواية باسم "يعاد الثانية"، التي تجلت فيها سمات "يعاد" الأُولى كلها، وأسفرت عن وعودها المخبوءة. وما أن يخرج سعيد أبي النحس من السجن ويلتقي "يعاد" حتى ينتقل بنا إلى عالم مغاير لذلك الذي عاشه قبل السجن، وهو عالم الأسرار الفلسطينية التي تحفظ شبكتها التحتية هوية الفلسطيني من التبدد والضياع.

وينهض عالم الأسرار الفلسطينية ذلك على ما يمكن تسميته فلسفة الاعتماد المتبادل بين الأسرار نفسها، والاعتماد المتبادل بين الأسرار والبشر. إذ من يفشي سراً منها يجد أن عملية الإفشاء تلك تطاله شخصياً في نهاية الأمر. فشبكة الأسرار متشابكة ومتداخلة بطريقة يعتمد كل منها على الآخر في الحفاظ على سريته وعلى فاعليته معاً. وتبلغ هذه الآلية ذروتها عندما نجد أن الموت نفسه لا يُحل الفلسطيني من الحفاظ على سر الراحل، ولا يتيح له البوح به، لأن إفشاء سر من رحل يهدد أسرار الباقين، لأن الحبل السري الذي يربط بين الأموات والأحياء يستمر من دون أن ينقطع بالوفاة، وأيضاً بالصورة التي تبدو هذه الشبكة فيها معادلاً استعارياً لبنية الحياة الفلسطينية التحتية التي تقاوم عوادي الدمار الصهيونية المستمرة، حيث تطرح الرواية هذه الشبكة على صعيد البنية السردية في مواجهة شبكة الإجراءات الصهيونية الهمجية لقهر الفلسطيني والإجهاز على هويته. بل إن نهاية هذا الكتاب، ببحثها المخفق عن مصدر نصه وصاحب رسائله، تجعل النص كله جزءاً من شبكة الأسرار التي لا يمكن إماطة اللثام عنها.

ويكتشف سعيد، من دون أن يدري أنه متورط في شبكة الأسرار تلك، تورطه في فلسطينيته، عندما تبدأ "يعاد الثانية" إماطة اللثام عن تاريخها السري، فتبوح له بسر أمها "يعاد الأُولى، وبأنها ابنة "يعاد" لا مجر تجل شاب لها. كما أن سعيداً الفدائي الجريح الذي خلفه سعيد أبي النحس في سجن "شطة" المخيف هو ابنها الذي سمّته على اسم حبيبها سعيد، كما سمّت ابنتها على اسمها هي، "حتى إذا عدت يا يعاد ستقولين له لم تغيرنا الغربة." [8]وكأن الرواية تريد من خلال هذا التكرار الدال لا التشديد على أن الغربة لم تغير الفلسطيني أو على أن فلسطيني الشتات ليس إلا الوجه الآخر لفلسطيني الأسر فحسب، بل أيضاً على أن دورة الحياة الفلسطينية تؤكد ذاتها على الرغم من كل ما يواجهه الفلسطيني من صعاب وعداء. وأهم من هذا كله هو أنه يشدد على أن الدورة الثانية تعي كل أخطاء الدورة الأولى وتسعى لتجاوزها، لأن للبنية التكرارية في الرواية طبيعة حلزونية تتكرر الدورة فيها، لكن على مستوى أعلى من ذلك الذي تعرفنا إليه في الدورة الأُولى.

 "المتشائل": ذاكرة وطن

غير أن المسيرة التي تقدمها لنا الرواية لحياة سعيد، ولما جرى للفلسطيني عبره، سرعان ما تحيل الرواية إلى رواية القضية الفلسطينية بلا نزاع، إذ إنها لا تسعى فقط لتحويل بطلها إلى نموذج استعاري للوضع الفلسطيني، وإنما أيضاً لفتح نصها على الذاكرة التاريخية والقومية برمتها. فنجد أن نابلس تظل نابلس على الرغم من تغييرهم اسمها إلى شخيم، وأن عين جالوت لن تصبح عين حارود، وأن مرج ابن عامر لن يصبح سهل يزرعيل، وأن البيارات القديمة ستظل على حالها وإنْ حولوها إلى كيبوتسات، وستعتمد، على الرغم من تغير الدولة، على سواعد أصحابها الأصليين في الحفاظ على اخضرارها ورونقها على الرغم من تغييبهم عن واجهة الأمور قسراً. كما نجد في الرواية إحالات على شخصيات تاريخية وأدبية، ومقتطفات من أشعار فلسطينية، وكتابات تراثية وعربية، من الجاحظ حتى محمود درويش ومن ابن عربي حتى سميح القاسم ومن الحسن بن الهيثم حتى مطلق عبد الخالق ومن سلامة حجازي وسيد درويش حتى سالم جبران ومن تيمورلنك حتى صلاح الدين ومن قطز حتى أبوحنيك (غلوب باشا) ومن بيبرس حتى فيصل الأول ومن ريتشارد قلب الأسد حتى الصهيوني المعاصر.

ونكتشف في هذا الكتاب كيف يتحول الوطن إلى متاهة يتخبط البطل فيها، وقد استحالت الفضاءات الأليفة إلى فدافد غريبة عليه إلى درجة أنه ما أن ينادي أحد باسمه، حتى يستحوذ عليه "شعور الذي يسترق النظر من ثقب المفتاح إلى عذراء في خدرها." [9]ويتسم النص، على الصعيد اللغوي، بوعي أن الفن يستطيع استخدام اللغة بطريقة إبلاغية واستعارية في آن واحد، وأن الفصل بين المفردة ودلالاتها الإبلاغية وطرحها في أفق رمزي يغنياتها على الصعيد الفني ويُكسبها المزيد من الدلالات اللغوية. كما أنه يتسم بولع بازدواجيات المفارقة، مثل "فانتصبت واقفاً والماءان يتصببان من وجهي، ماء الوجه وماء المرحاض." [10]لا يكتفي النص باستخدام اللغة وحدها بهذه الطريقة، وإنما يستخدم أيضاً بعض الأمثولات القديمة المستقاة عادة من التراث العربي، كتلك الأمثولة التي أخذها عن الجاحظ والتي تقول: "سمعت في بلاد فارس عن فأس ليس عود أُلقيت بين الشجر. فقال الشجر لبعض ما ألقيت هذه هنا لخير! فقالت شجرة عادية: إن لم يدخل في إست هذه عود منكن فلا تخفنها." [11]وهي أمثولة توشك أن تتحول من خلال السرد إلى استعارة لكل ما يدور في هذا الكتاب كله.

وفي النص عشرات من هذه الأمثولات التي ينهض بعضها على قصص واقعية، كقصة "ثرياء العروس التي دهمتها النكبة فدفنت حُليّها في صفيحة في جدار دارها في اللد، ونزحت مع النازحين، وهي تؤكد لنفسها "غداً أعود"، فلمّا عادت بعد ثلاثة وعشرين عاماً، أمضت معظمها في المخيم، وأقلها في البيت الذي شيده ابناها بعد عملهما في الكويت، "أقبل أيلول الأسود، عام 1970، على صورة دبابة هاشمية نقية تقية من طراز شيرمان هدمته فلم يخرج من تحت الأنقاض سالماً سوى الثريا وطويتها السليمة"، [12] تذكرت عزها الدارس في فردوسها المفقود في اللد. وفي صيف سنة 1971 "عبرت الجسر المفتوح. فضيعت اللبن. ولما أرادت أن تدخل بينها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية، من عهد نوح، الباب في وجهها. فلم تفاجأ حيت أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة. فنصحها ذوو القربى، المقيمون في إسرائيل، أن تلتجئ إلى قبضة الأمن وعسس النظام، أي إلى الشرطة الإسرائيلية. فعملت بالنصيحة. فأرسلوا معها رجل شرطة ورجلاً قيماً على أراضي إسرائيل... فأشارت إلى مكان في الجدار، فحفروا عميقاً. فوجدوا صفائح المصوغات. ثم أشارت إلى مكان آخر. فحفروا. فوجدوا المفتاح. فهللوا وكبّروا. واغرورقت عيون الجمع... ولكن، حين مدت الأم الثكلى، الثريا، يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيم على أراضي إسرائيل (شهادة بالذهب)، وأخذ الذهب وذهب. وأمّا الثريا فأخذت (شهادة الذهب)، وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة لتسف الثرى في مخيم الوحدات." [13]

 الأمثولة والمرايا

تضعنا هذه الأمثولة الدالة وجهاً لوجه أمام ممارسات الدولة الصهيونية، التي ينهض النص بمهمة فضحها للقارئ وللعالم على السواء. لكنها تقدم لنا في الوقت نفسه جانباً مهماً من جوانب البنية السردية في هذه الرواية الجميلة. فثريا في براءتها الفلسطينية تلك، والتي تعتقد أنها ما أن تبرهن عن حقها حتى تحصل عليه، ليست إلا واحدة من مرايا المفارقات المتتابعة التي ينطوي النص عليها، والتي تتشكل عبرها شخصيته الأساسية. فهي واحدة من مرايا سعيد بقدر ما هي واحدة من مرايا الشخصيات النسائية الثلاث التي منحت للكتب عناوينها. فهذه الشخصيات النسائية هي الأُخرى مرايا تتشكل عبرها ملامح شخصية بطلها اللابطولي "سعيد أبي النحس المتشائل"، الذي كان في العشرينات من عمره عندما وقعت النكبة سنة 1948، لكنه كان لا يزال في طفولة الوعي وبراءته.

وتصبحنا الرواية في رحلة معه في شعاب حياة تقدم للقارئ تفصيلات المأساة التي عاشها فلسطينيو الأَسر، بالصورة التي نتأكد معها من أن حتمية المقاومة هي الموضوع الرئيسي للرواية، إذ مهما يذعن الفلسطيني لسلطة المحتل، ومهما يتواطأ معه، فلا أمل له بأي خلاص؛ فعدوه لا يقنع يغير محوه والإجهاز عليه كلية. وتكتسب المقاومة في الرواية صيغاً متعددة لا تقتصر على جانبها القتالي المسلح وحده، إن تضمنته،ولا على أعمال التمرد والاحتجاج، وإن دعت إليها. وإنما تتجاوزها إلى كل ما يحافظ على الهوية الفلسطينية قدراً من التسليم أو الإذعان.وقد حشدت الرواية في شخصية بطلها اللابطولي سعيد أبي النحس جميع الخصال العربية المتناقضة، وفي متن نصها جميع مكونات الذاكرة العربية والشخصية العربية من أشعار وأمثال وطقوس. فأصبحت خصال "المتشائل" هي خصال شعب برمته، يظل يبحث تحت قدميه عن كنز مفقود، فلا ينال غير العثرات، لأنه لا يتطلع إلى المستقبل، ولا أفق له. وحوّل المؤلف روايته إلى مستودع كبير للذاكرة الشعبية الفلسطينية، والذاكرة التاريخية العربية، بالصورة التي أصبح "المتشائل: معها نمطاً لا للإنسان الفلسطيني وحده، وإنما أيضاً للإنسان العربي الذي استحكمت من حوله حلقات الزمن الرديء، وللإنسان المقهور في كل زمان ومكان. وهذا هو سر نجاحها الكبير، لأنها حققت عموميتها من دون أن تتخلى عن خصوصيتها، بل عن إغراقها في تلك الخصوصية إلى أقصى حد.

الثلاثية التي لم تكتمل

من السمات السردية المهمة في "المتشائل" هذا الولع بالجمل والفقرات الاعتراضية، والحكايات الاعتراضية التي تتخلل مسرى الحكاية الأساسية، وحتى بالهوامش، وهي سمة بلغت ذروة الإحكام والتطور في روايته الأخيرة "سرايا بنت الغول"، [14] وهي الرواية الثانية في ثلاثية روائية بدأها إميل حبيبي في "أخطية" ولم يمهله الموت لكتابة الجزء الثالث منها. بل إنه يكشف في جزئها الثاني، "خرافية سرايا بين الغول"، عن خوفه من ألا يمهله الموت لإكمالها عندما يقول: "إلى متى تطلبون مني يا أحبائي، الأحياء منهم والغائبين، التمهل في إنجاز هذه الخرافية؟ فلولا إدراكي أن الموت حق لمضيت في التمهل حتى العدم، ولما كانت هذه المسيرة وما فيها من خيانات الذاكرة، ومن الأمانة في خيبة الآمال." [15] بل إنه يوشك أن يتنبأ في جزئها الثاني ذلك بأنه لن يستطيع إكمالها، فقد عذبته كتابتها إلى حد أنه لم يعد له بها طاقة؛ إذ تحولت الرواية بين يديه إلى أتون "وهذا الأتون هو هذه الخرافية، السيرة والمسيرة، وكدت أن أصف هذا الأتون بنار جهنم الحمراء، من شدة ما أقاسيه من آلام محرقة، لولا أن أعادت إلى ذاكرتي ما كنت تعلمته من الصغر عن حكمة كهف أفلاطون الفلسفي، وما يسببه نور المعرفة من آلام محرقة في العينين لأول مرة كأنها محاريق جهنم الحمراء."[16]

ويتحول هذا كله إلى نبوءة داخل الرواية ذاتها بأنها آخر أعماله، إذ يفتتح القسم الرابع منها بــ: "قال لي صاحبي، حين أخبرته بما ألاقيه من عسر في إتمام نقمة هذه الرواية على نفسي – وهو ما لم ألاق أشد منه أو مثيلاً له في وضع سابق – هذا لاعتقادك أنها آخر ما تضع ثم تقعد"، [17] مستعيراً هنا ألفاظ الوضع والقعود، بمعنى القاعد التي بلغت سن العقم ولم يعد في طاقتها الإنجاب، ليكشف عن جدلية العقم والإخصاب التي ينطوي هذا العمل عليها ويشي بها في حياة المؤلف. وهذا هو ما دفع صديقنا الأستاذ فاروق عبد القادر إلى التنبؤ حقاً بأنها آخر أعماله، وبأنه كان "ثمة هاجس يهجس للكاتب هذا آخر أعماله. وأنه قد لا يقوى بعد على مجالدة عمل آخر. وربما كان هذا الهاجس وراء ما نجده في الخرافية من حضور واضح لذات الكاتب وحياته وعائلته، على نحو يجعل منها أقرب شيء إلى سيرة ذاتية مفننة. ليست سيرة تنحو منحى تاريخياً أو موضوعياً أو تلتزم إطاراً محددا سلفاً، لكنها فيض من الصور والحكايات الصغيرة والوقوف أمام الأماكن، ونبش الذكريات، ومحاولة صياغة هذا كله في سياق متسق." [18]

لكنها قبل هذا كله "خرافية"، كما يقول عنوانها لنا، وكما يتحدث كاتبها عن أسرارها. وهي تنهض على "خرافية" أو أسطورة شعبية حكتها جدته مريم الحيفاوية له في صيغ وتنويعات لا تنتهي، لأن مريم الحيفاوية هنا هي الجدة الفعلية للبطل /الرواي/ الكاتب، وهي الجدة الاستعارية للكاتب القاص الذي ينحدر من أصلاب شهرزاد، مؤسٍّسة القص الأُولى. ويكشف لنا هذا المقتطف عن تراكب شخصيتها عندما يقول: "وحكاية سرايا بنت الغول، في روايات جدتي مريم الحيفاوية، حكاية مثيرة للدهشة في تعدد بداياتها وتعدد أواخراها واختلاف تفاصيلها. وأراني في هذه الخرافية وفي ما قبلها ذا عرق دساس يرجع إلى جدتي مريم الحيفاوية في رواياتها المتناقضة والمنفتحة على رواية منفتحة على رواية وهلم جراً. كأنها شهرزاد وقد شاخت بعد ألف ليلة وليلة ولم يبق لها في الليالي سوى أحفادها تحكي لهم حكاياتها حتى يناموا أو تنام."[19]

ويكشف لنا إميل حبيبي في هذا المقتطف عن سر السرد عنده، وعن أهم خصائصه، وهي هذا التوالد المستمر للحكايات بمنطق أقرب إلى المنطق الشهرزادي الذي تتوالد الحكايات فيه من بعضها البعض، وكأننا أمام بنية أقرب إلى شكل العروسة الروسية، التي كلما فتحتها وجدت في داخلها عروسة أُخرى، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. ومن هنا، فإن بنية السرد الأساسية عند إميل حبيبي بنية سرد توليدي مفتوح في مقابل بنية السرد المغلق ذي البداية والوسط والنهاية. وهي بنية تتحول فيها سرايا وهي ابنة إبراهيم، ولعله إبراهيم الخليل أول الأنبياء وجذر الساميين جميعاً، إلى استعارة للوضع الفلسطيني برمته وإلى تقطير لشخصيات سابقة طالعتنا في أعماله من "يعاد" و "المتشائل" حتى "أخطية". إذ تقول لنا الأسطورة أن سرايا، وهي فتاة فلسطينية جميلة، كانت مشهورة بجدائل شعرها الطويلة التي لم يمسها مقص. وكانت تخرج كل يوم تقطف أكواز الصنوبر وتجمع الزهور وتعود إلى أمها قبل غروب الشمس. وفي يوم من الأيام غابت الشمس ولم تعد سرايا. فهام ابن عمها على وجهه يبحث عنها، وأخبره الحراثون أن غولاً يقيم في أعالي جبل الكرمل قد خطفها وحبسها في قصره المشيد على شواهق الجبال. لكن ابن عمها الذي كان مدلهاً بها راح يبحث عنها ويناديها "يا سرايا يا بنت الغول، دلى لي شعرك لأطول"، فسمعته ودلت له جديلة من شعرها، فتعلق بها وصعد إليها.

 النص كمعادل للواقع

ويتحول النص نفسه إلى تجسيد آخر لسرايا الفلسطينية، بينما تتحول سرايا نفسها إلى تجسيد لفلسطين. لأن البطل /الراوي/ الكاتب "يعلم" علم اليقين، بأن سرايا آدمية من لحم ودم. وأنها واحة من ينابيع ماء ومن أشجار دائمة الخضرة ذات ظلال وارفة لا سراب واحة. سرايا موجودة وجود الكرمل بكوزه المعطاء والفياض. تشاهده وتسمعه وتشمه وتذوقه وتلمسه في آن واحد – لا مجرد رؤيا من رؤى الكرمل."[20] ولأن سرايا هي هذا الكيان الإنساني والجغراف معا الذي يتوحد فيه الإنسان بالمكان، تستحيل تفصيلات النص الروائي الدقيقة التي تعيد خلق الواقع الفلسطيني المطموس، وتسعى لطرح توهج الذاكرة وتألق التواريخ في مواجهة معاول الهدم والدمار، إلى التجلي الجديد لشعرها الذي يتعلق به حبيبها لينقذها وينقذ نفسه من الضياع، والذي تنسج عبره "الخرافية" شبكة من التفصيلات التي تنفذ بها الفلسطيني /ابن عمها/ حبيبها/ أباها/ وقبل هذا كله كاتبها المعذب بها. بل إن مهارة الكاتب في خلق حالة نصية من التشابك والتعقيد تناظر تشابك الوضع الفلسطيني وتعقيده، هي التي تجعل الحبيب/ الكاتب يتجلى لنا على شكل الغول أيضاً "ولماذا لا يكون الغول من الإيغال"، [21] بعد أن تصورنا طوال الرواية ان غول "خرافية" إميل حبيبي الجديدة هو هذا المستمعر الاستيطاني البغيض الذي "حرر البلاد من أهلها"، [22] وحال بين سرايا الفلسطينية، وبين حبيبها الفلسطيني الذي تعذب بها، وتعذبت به. ولا تقف مهارة إميل حبيبي الروائية عند هذا الحد، لكنها تسري في ثنايا العمل كله، وتكشف عن نفسها من خلال تحويل فوضاه وحكاياته، التي تبدو للوهلة الأُولى منسابة بلا منطق، إلى نسق بالغ الدلالة، ومترع بالإيحاءات الثرية المعطاء.

 وتبدأ الرواية بعد "خطبة المؤلف"، التي يكشف فيها سر نصه الذي "يرخي فيه العنان للاسترسال الباطني حتى التسيب أحياناً"، [23]ويقيم عبرها تناصه العذب مع السرد العربي القديم، بعد الحرب السادسة التي تقول الحاشية رقم (1)، [24]التي تعدد حروب الدولة العبرية ولعناتها المتلاحقة، إنها اجتياح بيروت المشؤوم الذي انتهى بإلقاء الفلسطينيين في البحر وبمجزرة صبرا وشاتيلا. وهو توقيت مهم، لأنه زمان الأحداث التي دوّنها في نهاية سنة 1983 و"أخفى ما دوّنه... حتى يومنا هذا."[25] ويومنا هذا هو زمن القراءة المتغير أبداً، أو الدائم باستمرار، ليصبح الإخفاء جزءاً لا يتجزأ من أسرار الحكاية، كما كان عاملاً من عوامل الوجود الذي يتجاوز الحياة والموت في "المتشائل". واختيار هذا المنعطف التاريخي لكتابة روايته جزء من نمط يتناظر فيه إبداع إميل حبيبي الروائي مع الأحداث الجسام التي تنتاب وطنه، أو تمس تصور هذا الوطن لذاته وهويته. إذ يعترف لنا في النص نفسه "والآن" الآن فقط، يجد ما رواه من روايات، بعد 1948، محاولات لأن يفك طلاسم هذا الطنين – من حرب إلى حرب." [26]وهو اعتراف يكشف لنا عن غاية الإبداع عند كاتبنا، وهي "فك طلاسم الطنين" الذي تخلفه في العينين والأذنين أهوالُ الحرب العربية – الصهيونية لدى الإنسان العربي عامة، والفلسطيني خاصة.

فللفن عنده وظيفة كشفية تميط اللثام عن الأحداث، وتبلور ما تنطوي عليه من أسرار دفينة، لكن له أيضاً وظيفة أُخرى استشراقية تتنبأ بالمستقبل وتتعرف على أجنته التي تنشأ في رحم الواقع. ويحقق الفن لديه الوظيفتين معاً من خلال تحوله إلى ذاكرة قومية وشعبية من نوع فريد، تسعى لاستحضار الماضي التليد وطرحه في مواجهة الحاضر الكئيب. ولذلك، تختار الرواية مكاناً لها قرية الزيب الفلسطينية "المنسوفة المساكن على ساكنيها." [27]أو بالأحرى خرائب هذه القرية التي تقع، ولا أقول كانت تقع، لأن واقع الرواية أقوى من وقائع التاريخ وأغاليط الجغرافيا، على الساحل ما بين عكا ورأس الناقورة، وما بين مصبي وادي القرن ووادي الصعاليك. وهي قرية قديمة قيل إن العرب الكنعانيين هم الذين أسسوها، وتوقف فيها الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير. وفي هذا الاختيار أكثر من دلالة؛ فبعث القرية المنسوفة المساكن على ساكنيها هو تحد للنص الروائي في القبض على الماضي وحفظه من التبدد والضياع، وإحياء المكان أو استرداده من عوادي النسف والدمار هو الركيزة الأساسية للنص، لأن المكان هو محور النص الروائي عادة. كما أنه موضوع الصراع الأساسي الذي انتزع الصهاينة فيه المكان الفلسطيني وطمسوا ملامحه، فما كان من النص الروائي إلا أن استخدم الإبداع لبعث المكان المطموس والحفاظ على هويته، على الرغم من جميع أفعال النسف الهمجية فيوم الأرض الحقيقي هو اليوم الذي تبقى فيه الأرض حية في وثائق الوعي الفلسطيني، وفي ذاكرة إنسانها معاً.

أمّا البطل /الراوي/ الكاتب عبد الله، فقد ولد على بحر حيفا حين كانت مياه وادي النسناس، وهو أحد أودية الكرمل – حيث ولد وسوف يبعث حياً[28] - تصب في البحر مباشرة. فقد تعلم صيد السمك مثلما تعلم المشي على قدميه، وهوى كتابة الأدب. أمّا السياسة فهي البطيخة الثانية لمن حاول أن يحمل بطيختين في يد واحدة. ومع أنه "قد قيل لا يستطيع المرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة. فكيف بهذه البطيخة الثالثة؟" [29] وهو لهذا صورة للكاتب إميل حبيبي الذي كان يعمل في السياسة والأدب ويهوى صيد السمك، أو على العكس، كما يقول لنا بنفسه: "ويحسبني معارفي مازحاً، وما أنا بمازح، حين أقول لهم إن مهنتي هي صيد السمك، أمّا الأدب فهو هوايتي المحببة." [30]لكنه قبل هذا وبعده، صورة للإنسان الفلسطيني المعذب بحب فلسطين وبما جرى لها من مآس. فالرواية هي رواية العلاقة العضوية بين الفلسطيني وأرضه، أو بين العاشق الفلسطيني والتجلي الأسطوري الجميل لمعشوقته الأبدية سرايا/أقصد فلسطين. والعاشق الحق لا يعرف تنميق الأحاديث، ولا يطيق ذرابة اللسان، وهو لهذا يلجأ إلى هذا السرد الانسيابي السيال الذي يتدفق على الصفحة تدفق الحياة الخصبة العارمة. ولا يعرف ترف الترتيب الدقيق والتتابع المنطقي أو التسلسل السببي. فحركة السرد الحرة تشمل كل الجغرافيا الفلسطينية وكل التاريخ العربي منذ عصر الفراعنة حتى حروب العدوان الصهيونية الغاشمة، والحرب الجهنمية الأخيرة التي عرفت بحرب الخليج الثانية، والتي تجني الدولة العبرية ثمارها حتى اليوم.

 النص والذاكرة

وهذا ما يجعل الرواية، في مستوى من مستوياتها، رواية الذاكرة الجغرافية الفلسطينية والذاكرة التاريخية والاجتماعية الفلسطينية معاً. ففي هذه الثلاثية، التي لم تكتمل، يتحول الفضاء النصي إلى ساحة لكتابة ما يمكن أن ندعوه البنية التحتية للهوية الفلسطينية: تاريخها وجغرافيتها وموروثها الشفهي وعاداتها وخرافاتها وأساطيرها وثقافتها الشعبية وحكمتها اليومية ومعرفتها المختزنة فيما يتعلق بالطقس والزراعة والنوادر والأمثال ومزق التواريخ المروية والمكتوبة. وتتحول "سرايا بنت الغول" بصورة خاصة إلى سجل لما يمكن تسميته الجغرافيا المنسية أو المطموسة. أو كما يقول النص نفسه جغرافيا "البلاد التي اشتاقت لأهلها" [31] فتذكر أهلها جميع تفصيلاتها وتضاريسها وجميع أودية الكرمل وعيونه ومدنه وقراه: من وادي النسناس ووادي العشاق ووادي القرن ووادي عارة ووادي الصعاليك، إلى حيفا وشفاعمرو ورأس الناقورة وقلعة القرين ومغارة الخضر، ومرتفعات الناصرة وعين السعادة، وعين غزال وعكا وسوق الشوام وساحة الحناطير ونهر المقطع، وتل السمك والقدس وبيت صفافا وشاطئ عتليت وقبة عباس وشط النعامين...إلخ. هذا الحشد الجغرافي الذي تنهض فلسطين عبره من جديد، وقد جلت عنها أدران الطمس والتشويه كلها.

وحتى يكتسب المكان حياته الكاملة، فإن النص لا يفوته أن يذكر نباتاته، من عليق وسريس وبلوط وخبيزة وهندباء وصعتر ونعنع وحورّة وزعرور وعنّاب، وأن يذكر أهله، من مصطفى الدباغ وعبد الكريم الكرمي وفؤاد نصّار إلى حنا نقّارة ومحمد أبو زايد وناصيف المجدلاني وعصام العباسي ومنير حداد وعيسى العوام وحتى أحمد دحبور وأنطوان شماس وسميح القاسم. ولا يكتفي النص بجميع هذه الشخصيات الفلسطينية الحقيقية، إلى جانب الشخصيات الروائية التي تنتمي إلى أُسرة البطل/ الراوي/ الكاتب، لكنه عامر أيضاً بإحالات على شخصيات عربية ونصوص عربية تراثية عديدة؛ إشارات إلى قصائد المتبني الشهيرة عن مصر، و"المنقذ من الضلال" لأسامة بن منقذ، و "حي بن يقظان" لابن طفيل، و"رحلة" للرحالة الأندلسي ابن جبير، و"مروج الذهب" للمسعودي، و"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، وميمية ابن الرومي عن اكتساح الزنج لمدينة البصرة، ويائية ابن الفارض، وقصائد أمية بن الصلت، بل حتى إحالات على روايته الشهيرة "المتشائل" وعلى أول نصوص هذه الثلاثية غير الكاملة، "أخطية". كما يموضع النص نفسه في ساحة النصوص الإنسانية، فيشير إلى فلاديمير إلييتش لينين و"ما العمل"، وليو تولستوي و"مذكراته"، ومكسيم غوركي و"جامعاته"، وأوسكار وايلد و"شبح كانترفيل" و "صورة دوريان غراي"، وإميلي برونتي و"مرتفعات وذرينغ"، وحتى كتّاب اليونان وفلاسفتها من هوميروس و"إلياذته" إلى أفلاطون و"جمهوريته" والأساطير اليونانية، وشخصيات عديدة منها، من زيوس إلى أخيل.

وتردّنا هذه الشبكة الثرية من النصوص والإحالات إلى جدته "مريم الحيفاوية" التي كانت خرافياتها تنفتح، وهي ترويها لأحفادها، على خرافيات جديدة، وتتوالد القصص فيها من رحم بعضها البعض. فهي بحق وارثة شهرزاد يسردها التوليدي، وهو بالتالي وارث جدته الحيفاوية وأجداده الناثرين العرب القدامى، الذي كانوا لا يأبهون كثيراً لقضايا الشكل، فينفتح النص لديهم على النصوص جميعاً. وهذه الشبكة النصية الثرية هي ثمرة انفتاح النص الروائي عند إميل حبيبي على النصوص العربية أولاً والإنسانية ثانياً. وهي أيضاً ثمرة حب للغة يتخلل أعماله الروائية كلها؛ حيث يقول لنا في النص نفسه: "حبي للغة هو حب طاغ متوارث عن أجدادنا الأقدمين، الكنعانيين، الذين كانوا أول من اهتدى إلى مفتاح الحضارة وهو حروف الأبجدية. ولما كان اكتشاف النار هو مفتاح الحضارة البيولوجي – ظهور الحيوان المتميز بالمادة التي تفكر – فإن اكتشاف الحرف هو مفتاح الحضارة السيكولوجي – ظهور الإنسان النبي." [32]

ويرافق حب اللغة هذا حب مماثل للحكي، وقدرة بارعة على استقطاره من أكثر المواقف صعوبة، ومن أشد النصوص جفافاً. فبراعة إميل حبيبي، الحكاء التقليدي، هي التي تجعله يعثر على أمثولة، وكأنها "الخرافية" التي ترجع أصداء خرافيته، وترسم لهاسبيل الخلاص في نص سياسي وفكري مثل كتاب لينين "ما العمل"، يردُّ بها على أمثولة مشابهة استخرجها من "جمهورية" أفلاطون ودعاها "كهف أفلاطون"، بصورة تتجاوب الأمثولتان بها وتتحاوران مع النص كله المشغول بمختلف تجليات خرافية سرايا وحكايتها مع الغول ومع ابن عمها الفلسطيني. أمّا أمثولة لينين، أو حكاية المستنقع، والتي آثر تسميتها "كهف لينين" حتى تتجاوت هذه الكهوف جميعاً مع كهف "المتشائل"، فإنها تحكي بضمير المتكلم:

ها نحن سائرون، في جماعة متراصة، عبر ممر وعر وشديد الارتفاع ويأخذ الواحد منا بيد الآخر أخذاً ثابتاً. محاصرون نحن بالأعداء من كل جانب. وعلينا التقدم إلى الأمام على الرغم من قصف نيرانهم غير المتوقف تقريباً. كنا اجتمعنا باختيارنا الحر وراء هدف النضال ضد العدو، لا وراء التراجع عائدين إلى المستنقع تحتنا، الذي لم ينفك سكانه عن تقريعنا منذ اللحظة الأُولى على انفصالنا عنهم في جماعة متميزة، وعلى اختيارنا طريق الكفاح عوضاً عن طريق التراضي. وفي لحظة من اللحظات يأخذ أفراد من بيننا في الصراخ: دعونا نعود إلى المستنقع، فنعيب عليهم هذا الوهن، فيردون علينا معاتبين: ما أشد جهلكم! ألا تخجلون من إنكاركم حريتنا في ندائنا إليكم أن تسلكوا طريقاً أهون وأسلم! بلى، أيها السادة، فإنكم أحرار، لا في توجيه هذا النداء إلينا فقط، بل في أن تذهبوا أنتم أنفسكم حيثما شئتم الذهاب حتى العودة إلى المستنقع! وصراحة نعتقد ان المستنقع هو المكان الجدير بكم، ونحن مستعدون لأن نقدم إليكم كل عون في تحقيق مبتغاكم هذا. ولكن، فكّوا أيديكم من أيدينا، ولا تتشبثوا بنا، ولا تلوثوا كلمة الحرية السامية. فإننا نحن أيضاً أحرار في النضال ضد المستنقع، وليس ضده فقط، بل ضد أولئك الذين يعودون إلى المستنقع."[33]

بهذه الأمثولة، يؤكد هذا النص الأخير لإميل حبيبي ما أكدته "المتشائل" من قبل، من حتمية النضال بالنسبة إلى الفلسطيني، لأن كل تقاعس عنه لن ينشأ منه إلا الولوغ من جديد في مباءة المستنقع الذي تريد الصهيونية الإبقاء عليه في أوحاله. وأُولى خطوات هذا النضال لدى كاتبنا هي الاعتصام بالأرض والتشبث بالحق. وهذا ما يتغلغل في نصوصه الأدبية كلها. فالثقافة الجمعية التي تتخلل سرد الحياة اليومية بقدر ما تتغلغل في الجمحات الخيالية والفانتازيا السردية هي همّ هذه النصوص جميعاً، وهي كذلك مدار اهتمام هذه الثلاثية التي لم يقيض لها الاكتمال. لكن ما صدر منها حتى الآن يكشف لنا عن تميزها وخصوصيتها كعمل روائي عربي منفرد. وإذا كان فضاء هذه الثلاثية التي لم تكتمل هو حاضر فلسطين المحتلة الآن بسياساتها العنصرية إزاء الفلسطينيين الذي بقوا في بلدهم منذ سنة 1948، أو الذين وقعوا تحت وطأة الاحتلال عقب سنة 1967ـ فإنها استطاعت أن تجسد خلف فضاء الحاضر المشوه فلسطين الراسخة خلف كل حجر ووراء كل اسم تحول من خلال استثارة طاقات الحنين المتفجرة للماضي.

إن السرد في روايتي هذه الثلاثية يتسم بقدر كبير من الحركية والحيوية، حيث لا يتغير من رواية لأُخرى فحسب، لكنه يتبدل عدة مرات داخل الرواية الواحدة أيضاً. ويتحول هذا التبدل والتقطع والمونتاج والتداخل إلى نظير روائي للواقع المترع بالاقتلاع والتشتت. كما تصبح اللغة الملآنة بالجمل الاعتراضية، والسرد الحافل بأحداث السرد الاعتراضية شارة وجود محاصر ومتقطع معاً، لا يتيح لإنسانه حتى ترف إكمال سرد حدث من دون أن يتدخل حدث جديد في الصورة، التي يصبح معها التحول المستمر في المبنى والتبدل الدائم في تقنيات السرد إحدى الخصائص المميزة لسرد الهوية الفلسطينية المتحولة باستمرار إزاء واقع تعاركه باستمرار من أجل الوجود والبقاء. فلا يمكن استيعاب مثل هذه الهوية المتحولة في سرد تقليدي مترابط، له بداية ووسط ونهاية، لأننا بإزاء حالة إنسانية وسياسية فقدت معها الإنسانية منطقها، وفقد معها المنطق عقله؛ حالة الإنسان الذي اختفى، واختفى بلده من الخريطة، وهو لا يزال مثقلاً بالوجود، أو بمعنى آخر بحالة الأنا التي عليها أن تكتب بضمير المتكلم غيابها، وأن تصوغ بضمير الغائب حضورها.

وقد استطاعت روايات إميل حبيبي أن تستقطر من تجربة القهر والظلم، التي يعيشها بطلها، قدراً من السخرية والفكاهة التي جعلت تشاؤمها طريقاً إلى تفاؤل تاريخي لا مناص منه، لأن طبيعة الواقع القاسية استلزمت فيها هذا السرد التهكمي الذي يجعل المقاومة فعلاً حتمياً لا مناص للبطل من التورط فيه من أجل البقاء أو من أجل درء الدمار، وليس عملاً من أعمال البطولة. وجعلت هذه الروايات بطلها الحقيقي جوهر الإنسان العظيم الذي ربما يمكن سحقه لكن هزيمته غير ممكنة، كما يقول لنا الكاتب الأميركي الكبير إرنست همنغواي. لكن مبدع هذا "المتشائل" العظيم، الذي يستوعب شعباً بأكمله، وينفتح على الإنسان المقهور في عالم العقود الأخيرة من القرن العشرين، ما لبث أن سقط في وهاد "التفاؤم" في الأعوام الأخيرة من حياته. و"المتفائم" على عكس "المتشائل"، يقدم التفاؤل المشؤوم، الذي يخفي في جوهره  نبوءة يأس مخذول، على التشاؤم الذي ينطق الواقع الرديء به من حوله، فينفضُّ الناس عنه، ويزوّرون عن دعاواه. لكن هذا "المتفائم" ما لبث أن عاد إلى تشاؤمه وهو علي فراش الموت وجعل وصيته الأخيرة التشبث بالأرض وبـ "التشاؤل" معاً. وهذا آخر مفارقات حياة كاتب كانت نصوصه الأدبية كلها نصوص المفارقة بكل معنى الكلمة، وبكل ما ينطوي هذا التعبير عليه من دلالات نقدية.

فبقاء الفلسطيني في بلده، بعد أن تم محوه من الخريطة، هو بقاء إشكالي ومترع بالمفارقة في وقت واحد، ولا يمكن التعبير عنه إلا من خلال أدب المفارقة ذاته. وقد استطاع إميل حبيبي في أعماله الأدبية جميعاً أن يجعل النص ساحة تعج بما يمكن دعوته البنية التحتية للوجود الفلسطيني والهوية الفلسطينية التي تتميز بخصوصيتها وذاتيتها الثقافية داخل سياق الثقافة العربية العام، لأن أعماله تنطوي على أمشاج من الذاكرة الشعبية الفلسطينية، والتاريخ والتراث الشفهي، والمأثورات الشعبية التي تتعلق بالزراعة والطقس والحياة اليومية، والحكمة الفطرية التي تصوغ أدق ملامح الشخصية الفلسطينية، وتبلور هواجسها كلها؛ فهي أعمال يمتزج فيها التراثي باليومي، والخيال بالواقع، والوهم بالحقيقية، لتؤكد عبر هذا النسيج الثري المتشابك أن الهوية الفلسطينية لا تزال حية على الرغم من جميع محاولات طمسها، وأن فلسطين باقية بقاء إميل حبيبي في حيفا إلى الأبد، كما تقول وصيته الأخيرة، وبقاء كتاباته السردية الجميلة حية وفاعلة في الواقع العربي.

"فهو لا يكتب، يا ملك الموت، إلا مدفوعاً بقوة الجاذبية: حجراً انفلت من موقعه في قمة من قمم الكرمل. فأخذ ينحدر إلى القاع متسارعاً في انحداره، أحياناً، ومنحرفاً عن مساره مرتطماً بحائل في طريقه، أحياناً، فإمّا أن ينزل على رأس مخلوق برداً وسلاماً، وإمّا أن يخترقه دون أن يزحزحه عن مكانه أو أن يستقر حجر أساس لخلق جديد – عمارة يبنيها لكم بعرق جبينه وبهامته التي لن تفك عنكم بعد عودة روحه إلى باريها." [34]ولن تنفك هامته – وهي طائر النفس غير المرئي الذي يخرج من الميت حين تغادره الروح ويهوّم في فضاء بيته، كما كان العرب القدامي يعتقدون، بحسب ما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" – تهوم حول المكان لا تبرحه، لأنه باق في حيفا –كما تقول لنا وصيته – لا يريم، وكما تنبأ في "سرايا بنت الغول" عندما قال "وأمّا هامتي فسوف تحلق في فناء البحر تحت رمال الشاطئ الجنوبي من الكرمل، تحت دير السيّاح. سيدفنوني في الموقع الذي سجّت فيه سرايا قفتها المملوءة بالورود النضرة فوق ضريح سعاد حبيبة الزعرور والعناب." [35]كما يكرر هذا المعنى في معادلته "نمضي فتبقى السيرة، فتبقى الصورة." [36]

فسلام عليك يا "أبا سلام"، وطيّب الله ثراك، وسلام على "المتشائل" فيك، وليغفر الرب ذنوب "المتفائم"، لأن بقاءك في حيفا قد يغفر لك كل ما عداه، ولأن رسالتك الأخيرة التي تنطوي عليها كلمات الشاهدة الموجزة هي رسالة تمسّك بحق لا مماراة فيه، مهما تكن تناقضات الفكر وتنازلات الممارسة، ولأنها تدفعنا جميعاً إلى قرائتك من جديد في ضوء هذه الوصية الأخيرة، وصية التشبث بالأرض/الوطن.

 

[1] إميل حبيبي، "سداسية الأيام الستة والوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (القاهرة: طبعة سلسلة الأدب الفلسطيني، دار الثقافة الجديدة، 1989)، ص 5 – 58.

[2] المصدر نفسه، ص 59 – 211.

[3] المصدر نفسه، ص 65.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه، ص 65 – 120.

[6] المصدر نفسه، ص 121 – 165.

[7] المصدر نفسه، ص 167 – 211.

[8] المصدر نفسه، ص 201.

[9] المصدر نفسه، ص 94.

[10] المصدر نفسه، ص 111.

[11] المصدر نفسه، ص 98.

[12] المصدر نفسه، ص 146.

[13] إميل حبيبي، "الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (بيروت: دار ابن خلدون، ط2، 1974)، ص 120 – 121.

[14] إميل حبيبي، "سرايا بنت الغول" (لندن – قبرص: رياض الريس للكتب والنشر، 1992).

[15] المصدر نفسه، ص 117 – 118.

[16] المصدر نفسه، ص 172 – 1973.

[17] المصدر نفسه، ص 167.

[18] فاروق عبد القادر، "من أوراق الرفض والقبول" (القاهرة: دار شرقيات، 1993) ص 153.

[19] حبيبي، "سرايا..."، مصدر سبق ذكره، ص 187 – 188.

[20] المصدر نفسه، ص 54.

[21] المصدر نفسه، ص 109.

[22] المصدر نفسه، ص 125.

[23] المصدر نفسه، ص 11.

[24] المصدر نفسه،ص 21. تلجأ رواية "سرايا بنت الغول" إلى استخدام الهوامش الكثيرة الضافية، على عكس الروايات عادة. وهي هوامش لها أكثر من وظيفة سردية، بعضها  توضيحي وأكثرها بنيوي، لكن أهمها هنا هي إكساب النص السردي صدقية البحث الموثق. وهي ليست مجرد سمة عابرة، لكنها جزء أساسي من البنية السردية. ففي الفصل الأول وحده 35 هامشاً، وفي الفصل الثاني 51 هامشاً.

[25] حبيبي، "سرايا..."، مصدر سبق ذكره، ص 31.

[26] المصدر نفسه، ص 22.

[27]المصدر نفسه.

[28] المصدر نفسه، ص 28.

[29] المصدر نفسه.

[30] المصدر نفسه، ص 27.

[31] المصدر نفسه، ص 40.

[32]المصدر نفسه، ص 109.

[33] المصدر نفسه، ص 181، والنص مأخوذ من كتاب لينين "ما العمل" الذي صدر أول مرة سنة 1902، حيث ترد حكاية المستنقع في نهاية الفصل الأول منه.

[34] حبيبي، "سرايا...."، مصدر سابق ذكره، ص 82.

[35]المصدر نفسه.

[36] المصدر نفسه، ص 92.

Author biography: 

صبري حافظ :ناقد مصري، وأستاذ كرسي الأدب العربي الحديث في جامعة لندن.