Sayigh, Too Many Enemies: The Palestinian Experience in Lebanon
Full text: 

 

مرة أُخرى، كتبت روزماري صايغ كتاباً قيماً ومميزاً بعد دراستها السوسيولوجية الرائدة والمميزة "الفلاحون الفلسطينيون: من الاقتلاع إلى الثورة". وقد استخدمت الكاتبة منهجاً يندر استخدامه في الكتابة بشأن تجربة الشعب الفلسطيني ومعاناته ومحنته ونضاله، سواء في الشتات أو في الوطن المحتل، وهو منهج التاريخ السوسيولوجي الشفهي، الذي يوفر مادة لا توفرها المناهج البحثية الأُخرى، ويتيح المجال واسعاً لنقل التجربة حية إلى حد بعيد، كما يتيح للقراء رؤية مختلف الأحداث والتجارب من خلال عيون الجماهير التي عاشت تلك الأحداث وصنعت ذلك التاريخ.

عمدت المؤلفة في مقدمة كتابها إلى ذكر الأسباب التي حدت بها إلى استخدام منهج التاريخ الشفهي. ونحن نعتقد أنها تعمدت ذلك لإدراكها أن الكثير من غير الملمين بهذا المنهج وبفضائله سيلجأ إلى التقليل من قيمة الكتاب ككل، استناداً إلى كونه تاريخاً شفهياً رواه عدد من الفلسطينيين رجالاً ونساء، يحتلون مواقع ويؤدون أدواراً مختلفة في البنية الاجتماعية الفلسطينية في لبنان. وقد ركزتْ في معرض دفاعها عن منهجها على أنه يمثل أداة مهمة لتسجيل النضالات الجماعية لشعب ما من ناحية، وأنه يعطي من ناحية أُخرى صورة أكثر شمولاً للأحداث من المنهج التاريخي التقليدي، الذي يرى أن وصف وتحليل الأحداث التاريخية وخلفيتاتها وتفسيراتها يجب أن يؤخذا من القادة ومن الزعماء السياسيين. كما تؤكد الكاتبة على أهمية التاريخ الشفهي في إبراز النضالات الاجتماعية التي يحويها تاريخ الدول وحركات التحرر الوطني، وهي تُطمس عادة من قبل المحللين السياسيين الأكاديميين والمؤرخين التقليديين. وتعطي أمثلة لذلك الاحتجاج على التفاوت الطبقي والتذمر منه، وإبراز دور المرأة ومساهماتها في النضال الجماعي لشعبها. وتؤكد الكاتبة أخيراً أنها تعمدت أن تقصر دورها البحثي على المشاهدة والاستماع إلى الناس الذين عاشوا الأحداث يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، وحقبة بعد حقبة. وتعي المؤلفة تماماً نقاط الضعف والعيوب التي تشوب بدرجاب متفاوتة تذكّر أحداث الماضي وتَصوُّرها، كالانفعال العاطفي وضعف الذاكرة والموقف العقائدي والواقع الطبقي للأفراد المعنيين. ولذا، فهي تعمد إلى تسجيل النضال الشعبي على المستويين الجمعي المحلي والفردي.

غير أن ما قدمته المؤلفة من وصف وتحليل ليس عبارة عن تسجيل مباشر وأصم لما سمعته وشاهدته، أي أنه ليس مجرد توثيق لشهادات شهود عيان. ولو كان كذلك فقط، لفقد الكثير من قيمته. فالمؤلفة تأخذ تلك المادة وتصوغها ضمن تصور شامل وفهم عميق للإطار التاريخي والسياسي، الذي تمخضت في داخله تلك الأحداث وجرت ضمنه تلك التفاعلات. ومن هنا كان لقدرة الكاتبة التحليلية ولنظرتها الثاقبة إلى الأحداث التاريخية – السياسية في أطرها المحلية والإقليمية والدولية أبلغ الأثر في وضع تجربة مخيم شاتيلا، وعبرها التجربة الفلسطينية في لبنان، في إطار تفسيري سليم، وبأسلوب علمي يتصف بالموضوعية ويخلو من أية مبالغات أو تفسيرات ذاتية بوجه عام.

وقد جاء تخطيط الكتاب منطقياً ومتكاملاً، إذ قسمته المؤلفة إلى ثلاثة أقسام، أولها رسم صورة لتأسيس مخيم شاتيلا وتطوره بين سنتي 1949 و1982، وثانيها قدم وصفاً وتحليلاً شاملاً للمسرح السياسي اللبناني والإقليمي والدولي، الذي هيأ لمعركة المخيمات، وثالثها قدم وصفاً تاريخياً شفهياً للمعركة نفسها بحصاراتها الثلاثة.

إن المؤلفة تهدف من خلال دراستها وتتبعها لتجربة مخيم شاتيلا، منذ إنشائه حتى تدميره، إلى أمرين هما: استخدام تجربة شاتيلا نموذجاً معبّراً أو ممثلاً لتجربة جميع مخيمات الفلسطينيين في لبنان، وتوثيق تجربة شاتيلا نفسها كتجربة قائمة في حد ذاتها وكجزء من تاريخ الشعب الفلسطيني في الشتات. ونحن نعتقد أن الهدف الأول أكثر أهمية من الهدف الثاني، علاوة على أن الإحاطة بالتجربة الفلسطينية الواسعة والطويلة في لبنان، من خلال تجربة مخيم واحد، تتطلب قدرة بحثية رفيعة أثبتت الباحثة امتلاكها بكل جدارة.

تعرض المؤلفة في الفصل الأول لمحة تاريخية – سياسية بشأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وهي ترى أن من الضروري، لفهم تاريخ مخيم واحد، وضع هذا المخيم ضمن إطاره الاجتماعي – السياسي الأوسع لتفسير نشوئه واستمراره وتصدعة. وتتحدث ضمن هذا الفصل عن ثلاث مراحل، أُولاها مرحلة التأسيس (الخمسينات)، حيث تلجأ المؤلفة إلى رسم صورة أنثروبولوجية متكاملة للبيئة الاجتماعية للمخيم، كوحدة سكنية وسكانية وكشبكة علاقات اجتماعية عائلية وقروية، وذلك من خلال وصف حي لمن عاشوا تلك التجربة وكما يتذكرونها. وتتناول في المرحلة الثانية، (المخابرات)، وتعرض ما جرى من تضييق للخناق على الفلسطينيين وإحكام سيطرة الدولة اللبنانية على المخيم الفلسطيني، وخصوصاً بعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية وإعلان الكفاح المسلح. وقد انتهت هذه المرحلة بتطورات إقليمية وعربية مثيرة ومؤلمة أبرزها حزيران/يونيو 1967، وتوقيع اتفاق القاهرة سنة 1969 بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الاتفاق الذي سمح بالعمل الفدائي انطلاقاً من الجنوب اللبناني، وكانت له انعكاسات هائلة على الوضع الفلسطيني في لبنان تمثلت بداية بـ "تحرير" المخيمات. وفي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الثورة والعمل الثوري (السبعينات وأول عامين من الثمانينات)، تحيط المؤلفة بكفاءة بتعقيدات هذه المرحلة من حيث الصراع مع إسرائيل، والصراع الداخلي في لبنان، وإغلاق الاقتصاد اللبناني في وجه الفلسطينيين. وقد انتهت هذه المرحلة بغزو القوات الإسرائيلية للبنان ومحاصرتها بيروت، وخروج م.ت.ف.من لبنان، ومذبحةصبرا وشاتيلا.

ولا تستند الباحثة في الجزء الثاني من كتابها، الذي تتناول فيه الساحة اللبنانية والتفاعلات التي هيأت لحروب المخيمات، إلى التاريخ الشفهي، بل تعمد إلى التحليل السوسيولوجي – السياسي لثلاث ظواهر بارزة، هي: الوضع اللبناني عقب الغزو الإسرائيلي وصولاً إلى سنة 1985؛ التاريخ الاجتماعي للطائفة الشيعية في لبنان، وصعود حركة "أمل" وأهدافها ومواقفها من المقاومة الفلسطينية في لبنان قبل الغزو الإسرائيلي وبعده؛ التدهور المريع الذي أصاب حال الفلسطينيين في لبنان، وخصوصاً سكان المخيمات منهم.

ولا يسعنا إلا أن نبدي إعجابنا بقدرة المؤلفة على التعامل مع هذا العدد الكبير من أطراف الصراع ومع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحدد أبعاده ووجهته. وتخلص المؤلفة في تحليل هذا الجزء إلى أنه كان يستحيل عودة وضع الفلسطينيين في لبنان إلى ما كان عليه قبل سنة 1982، وإلى أن مجمل التطورات الداخلية والخارجية بعد تلك السنة كان يشير إلى حتمية الصدام بين حركة "أمل" والفلسطينيين نتيجة الصعود السياسي للحركة وطموحها إلى الهيمنة على بيروت كوسيلة لتعزيز مواقعها ضمن النظام السياسي اللبناني، وبالتالي لم تكن لتسمح بوجود فلسطيني قوي وبعودة ميزان القوى إلى ما كان عليه قبل سنة 1982.

وتختتم المؤلفة كتابها بالجزء الثالث الذي يتألف من ثلاثة فصول، يسجّل كل منها مجريات حصار من الحصارات الثلاثة لمخيم شاتيلا، وبصورة حالة الصمود الخارق الذي أبداه المحاصرون، وروح المقاومة الجماعية التي شارك فيها كل رجل وامرأة وطفل تحت الحصار. والحصارات الثلاثة هي: حصار "رمضان" من 19 أيار/مايو إلى 22 حزيران/يونيو 1985، وحصار "الشهر" من 29 أيار/مايو إلى 27 حزيران/يونيو 1986، وحصار "الخمسة شهور" من 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1986 إلى 6 نيسا/أبريل 1987. وقد استندت المؤلفة في رصدها لهذا التاريخ الحي إلى مصادر أولية تتمثل فيمن عاشوا الحصار ساعة بساعة ويوماً بيوم، وخرجوا منه أحياء، إذ دخلت المؤلفة مخيم شاتيلا يوم 23 حزيران/يونيو 1985، أي بعد مضي يوم واحد على فك حصار "رمضان"، وقامت بتسجيل التاريخ الشفهي لذلك الحصار. وللحصول على صورة غير متحيزة ووصف واقعي للأحداث، تعمدت الحصول على شهادات وتسجيل روايات عدد كبير من الرجال والنساء العاديين، تاركة لهم حرية رواية مشاهداتهم وتجاربهم من الزاوية التي يرتأونها. هذا علاوة على تجارب المقاتلين والجهاز الطبي والقادة السياسيين والعسكريين. وفي اعتقادنا أن هذا السجل التاريخي الشفهي الحي لحروب المخيمات يوفر مادة صادقة وقيّمة لا يمكن توفرها لأي مؤرخ أو عالم اجتماع بغير هذه الطريقة البحثية. ولقد تمكنت المؤلفة من الخروج بصورة حية ومتكاملة عما جرى تُعتبر إضافة مهمة إلى السجل النضالي للشعب الفلسطيني وإلى سجل معاناته الطويل. ومن الإضافات المهمة لهذا البحث إلى الأبحاث التاريخية والسياسية والسوسيولوجية الأُخرى، التقاطه أحاسيس الناس ومشاعرهم الشخصية والوطنية والطبقية والإنسانية كأحد العناصر الرئيسية في السلوك السياسي والاجتماعي لفلسطينيي الشتات، وصراعهم من أجل البقاء واستعادة وطنهم السليب.

وإذا كان لي من توصية كمراجع للكتاب وكناقد، فهي ضرورة ترجمته إلى العربية حيث جمهوره الحقيقي وحيث مردوده الفعلي. ولا يسعني إلا أن أشكر الدكتور روزماري صايغ على إثرائها المكتبة الوطنية والنضالية الفلسطينية بكتاب آخر جديد وبوثيقة تاريخية مهمة.

Author biography: 

باسم سرحان: باحث فلسطيني.