مقدمة
إن الرد على من يزعم أن تركيا ليست بلداً أوروبياً لأنها بلد شرق أوسطي هو بالنفي؛ فهي لا يمكن أن تكون بلداً شرق أوسطي لأنها بلد أوروبي. طبعاً، إن في كل من الحجتين نصف الحقيقة؛ فتركيا تقع على الحدود بين أوروبا والشرق الأوسط معاً. لذا، فإن الحديث عمّا إذا كانت بلداً أوروبياً أو شرق أوسطي غير ذي طائل. لكن، من وجهة النظر الأمنية، كانت تركيا، حتى الآن على الأقل، أوروبية أكثر مما هي شرق أوسطية. وبكلام آخر، لم يكن الشرق الأوسط منطقة ذات أولوية عالية في حسابات تركيا الأمنية. وهذا لا ينبع فقط من التصورات بشأن الأخطار المقارنة بل أيضاً من أن الأمن التركي كان، ولا يزال يرتبط بالغرب ارتباطاً عميقاً.
أوجه الأمن التركي في الشرق الأوسط
إذا توخينا الجزم، هناك ثلاثة أوجه للأمن التركي فيما يتعلق بالشرق الأوسط:
- العلاقات بدول الشرق الأوسط المجاورة، أي سورية والعراق وإيران.
- الاستقرار في الشرق الأوسط، أي القضايا التي تتضمن أخطاراً وتهديدات للأمن، كالصراع العربي - الإسرائيلية، والقومية العربية، والأصولية الإسلامية، وتكديس الأسلحة.
- التدخل الخارجي والتنافس بشأن القوة في الشرق الأوسط.
العلاقات بالجيران في الشرق الأوسط
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حين بدأت علاقاتنا بجيراننا في الشرق الأوسط تتخذ شكلها على أساس الاستقلال، سلكت هذه العلاقات طريقاً بطيئاً ومترددا. فالتراث العثماني لتركيا، وإصلاحاتها ذات الطابع الغربي، والآمال القومية المتفاوتة كانت تكفي وضع مسافة بينها وبين الجيران. وهذه العلاقات، التي لم تكن حميمة كما لم تكن عدائية، لم تخلق أي اهتمام أمني جدي لتركيا، وكانت الانتشار العسكري في مواجهة الجيران، الذي ظل ضئيلاً للغاية على امتداد عدة عقود من الزمن، يعكس هذه الحقيقة. وفي تركيا، وحتى الأعوام الأخيرة، كانت مهمة حماية الحدود مع الجيران في الشرق الأوسط منوطة بالجندرمة (الدرك) لا بالجيش.
وتعاظمت هذه المسافة حين التحقت تركيا بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وحين وقفت سورية والعراق مع الاتحاد السوفياتي. غير أن سورية كانت منهمكة بالنزاع ضد إسرائيل، وكانت علاقاتها بالعراق أسوأ من علاقاتها بتركيا، وكان على العراق الواقع بين سورية وإيران أن يصل إلى تفاهم مع تركيا. كذلك، وبغياب أي سبب للنزاع سوى معاملة الأقلية التركمانية في العراق وبوجود حوافز عدة للتعاون، ازدهرت العلاقة مع العراق ووصلت إلى ذروتها في إبان أعوام الحرب العراقية - الإيرانية الثمانية. وحتى الزمن الذي بدأ فيه صدّام يظهر نيات عدائية بعد أن حشد قواته المسلحة ليصل بها إلى مستويات تهدد الأمن، لم تكن تركيا بحاجة إلى أن تقلق كثيراً بصدد أمنها إزاء العراق. وحدث تبدل مفاجئ حين احتل العراق الكويت. والعراق هو الآن مصدر القلق الأمني رقم واحد بالنسبة إلى تركيا. وعلى الرغم من أن العراق ليس في موضع يسمح له بتهديد تركيا وعلى امتداد فترة طويلة مقبلة، فإن الفراغ في السلطة في الشمال العراقي يمثل ملاذاً آمناً للانفصاليين في حزب العمال الكردستاني، ويهدد وحدة العراق التي تعتبرها تركيا أمراً بالغ الأهمية للاستقرار الإقليمي. أمّا الخسارة الاقتصادية، الناجمة عن الصفقات الاقتصادية التي ليست موضع ثقة، فقد أصبحت هي الأُخرى عبْأً ثقيلاً على تركيا.
أمّا العلاقات بسورية، فلم تكن من دون أسباب للنزاع. فسورية لم تعترف قط بانضمام هتّاي [لواء الإسكندرون] إلى تركيا. ولكون سورية تستلهم القومية العربية الاشتراكية، وبسبب قلقها من طاقة تركيا الكامنة الأكبر ومن التحسن في العلاقات التركية مع العراق، فإنها حافظت على موقف المنافس (إن لم نقل العدو) تجاه تركيا، وهو موقف مشابه لموقف اليونان، الأمر الذي يجعل منهما شريكين طبيعيين. وهكذا، عندما وقفت سورية إلى جانب الاتحاد السوفياتي، كانت تركيا قلقة بالضرورة. ولم يضع انهيار الاتحاد السوفياتي حداً لهذا القلق. وتمنح سورية الآن دعمها لحزب العمال الكردستاني وتتقدم بمطالب بشأن ملكية مياه الفرات. وما يبعث عن القلق أيضاً تكديس الأسلحة، والحصول على صواريخ، وامتلاك أسلحة كيمياوية. وفي الوقت الراهن، فإن العلاقات بسورية بعيدة جداً عن الثقة، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحزب العمال الكردستاني من جهة وبقضية المياه من جهة أُخرى. وحتى توقيع اتفاق بشأن المياه لا يضمن إحداث تأثير في سورية لتغير موقفها من تركيا. وحين يتم الوصول إلى تسوية في العملية السلمية، هذا إذا تم ذلك، وتتخلص سورية من مواجهتها الأهم مع إسرائيل، فمن الممكن أن تواجه تركيا موقفاً أكثر عدائية من جانب سورية. وستتشجع سورية إلى مدى أبعد في طموحاتها القومية إذا ما تُرك العراق ليبقى مشلولاً ومعزولاً. من هنا، فإن تركيا مهتمة اهتماماً مخلصاً في تطوير نظام أمن إقليمي يتوازى مع العملية السلمية.
"ليست حميمة ولا عدائية"، عبارة ما زالت ملائمة لوصف العلاقات التركية - الإيرانية. وحتى عضوية حلف "السنتو" لم تستطع في الماضي كسر الجليد مع إيران. وتسببت الثورة الإيرانية في فترة من التدهور شوهدت خلالها إيران تمارس جهوداً لتصدير الثورة إلى تركيا. غير أن الحرب الإيرانية - العراقية وموقف تركيا المحايد المتوازن على امتداد الحرب ساهما في حمل إيران على العودة إلى الجو الودي مرة أُخرى. أمّا نهاية الحرب الباردة وصعود الجمهوريات المستقلة المسلمة والتركية في القفقاس وآسيا الوسطى، فقد أديا إلى إدخال عنصر جديد في العلاقات التركية - الإيرانية. وهذا العنصر يتمثل حالياً في منافسة خفية لم تسبب قلقاً حتى الآن. والحكمة المشتركة تقتضي التعاون، لا المجابهة. وكي يقوم التعاون الفعلي، يجب تخطي مكانة إيران الدولية، غير أن مثل هذا التطور قد يؤدي إلى العكس تماماً، أي إلى تأجيج التنافس.
الاستقرار الإقليمي وقضايا الأمن
تقليدياً، لا تبدي تركيا كثير اهتمام بالشرق الأوسط. ومرد ذلك إلى أن التاريخ والدين، وهما عنصران ينبغي أن يكون مشتركين، هما في الواقع العنصران اللذان يبعدان تركيا عن الشرق الأوسط. فهما، وبكل بساطة، ليسا عضوين في النادي ذاته. وعموماً، تبدو تركيا غير مهتمة بما يجري في مصر أو اليمن أو العربية السعودية. وكان عدم التدخل في النزاعات بين العرب، ولا يزال، معياراً أساسياً في سياسة تركيا حيال الشرق الأوسط. ولربما هذا المعيار هو الذي أتاح لتركيا ألاّ تستعدي أحداً بين أمم الشرق الأوسط، غير أنه من دون شك لم يساهم في صنع أي صديق. وكانت قضية قبرص إشارة جلية إلى هذا الأمر؛ إذا لم يدعم الجانبَ التركي أيُّ بلد من البلاد العربية. ومنذ ذلك الحين، انضمت تركيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي. غير أن هذا لم يحمل تركيا، ولم يكن يهدف إلى حملها على أن تصبح "عضواً في النادي ذاته". فالبلاد العربية ما زالت بعيدة عن تركيا، وتركيا ما زالت غير مهتمة بالبلاد العربية.
وما كان في وسع عدم التدخل أن يكون معياراً ملائماً للقضايا التي لم تكن حصراً تتعلق بشؤون العرب فيما بينهم. ولكون تركيا بلداً شرق أوسطي، لم يكن في استطاعتها أن تتنصل من اتخاذ مواقف بشأن قضايا شرق أوسطية تهم "الآخرين". وكان من الصعوبة بمكان على تركيا أن تختار بين هذا الدور أو ذاك بوصفها عضواً في النادي الغربي ودولة إقليمية في آن واحد. وفي غالب الأحوال، كان الموقف التركي حيال الغرب هو الذي يحدد موقفها من قضية ما. وسياسات تركيا إزاء الصراع العربي - الإسرائيلي وقناة السويس والأزمة اللبنانية سنة 1958 هي أمثلة لذلك. فمن خلال التجربة والخطأ، أصبحت تركيا تعي بمرور الأعوام الحاجة إلى العثور على التوازن الصحيح بين مصالحها المهددة وبين الدور الذي ينبغي أن تقوم به في الشرق الأوسط.
من هنا، وإزاء أية قضية من القضايا، كانت خيارات تركيا تُصاغ استناداً إلى الدور الذي يجب أن تقوم به. ويتراوح طيف هذه الخيارات بين "المراقبة فحسب" و"التورط الكامل". وتتراوح الخيارات المتوسطة بين "الدور المحدود" و"عدم الاستثناء من السياسات الآخذة في التبلور". إن السياسات التركية بشأن قضايا الشرق الأوسط الراهنة والمستقبلية يجب أن تقوّم ضمن هذا السياق.
العراق: في المرحلة التي تلت حرب الخليج، يكمن أن نحدد قضيتين أساسيتين للمعالجة: ضمان أمن الخليج، ومستقبل العراق. إن أمن الخليج، أي النفط الذي هو الاهتمام الأساسي للغرب، لا يكاد يرتبط باهتمامات تركيا الأمنية إلاّ إذا تم تهديده مجدداً من جانب قوة مسيطرة أو راديكالية يمكنها أيضاً أن تشكِّل خطراً محتملاً على المصالح التركية. وفي حين أنه ليس هناك على ما يبدو أية قوة تستطيع في المدى المنظور عرقلة الوصول الحر إلى النفط، فإنه لا بد للمنطقة من أن تبقى عرضة للقلاقل بسبب التفاوض في الحجم والقوة، وبسبب الأساطير القومية والآمال لدى الدول الساحلية وأنماط الأنظمة التي تحكمها. وكما هو الآن، فالخليج أرض خصبة للحركات الراديكالية التي تعارض "الطبقة الحاكمة"، و"السيطرة الأميركية"، و"إعادة دولرة النفط من خلال صادرات السلاح"، و"التفاوت في توزيع الثروة". وتبقى تركيا حساسة تجاه أي تبدل راديكالي الطابع يحمل في طياته المقدرة على التوسع.
ومن جهة أُخرى، وعلى الرغم من أن بلاداً كثيرة تبدو راضية عن الوضع العراقي الراهن، فإن التطورات الجارية هناك أضحت تهدد المصالح التركية الحيوية. ولم تتردد تركيا في التورط في الحرب ضد العراق إلى درجة كادت تصل إلى الاشتراك الفعلي في العمليات القتالية، غير أنها سرعان ما أدركت أن مصالحها كدولة إقليمية لم تكن شبيهة بمصالح الآخرين. إن إمكانات التفسخ وإقامة دولة كردية في العراق تثير القلق البالغ في تركيا، إذ إن من شأن هذه الأمور أن تهدد التوازن والاستقرار في هذه المنطقة. وحزب العمال الكردستاني، الذي يتمتع الآن بفراغ في السلطة ناشئ في الشمال العراقي، سيكتسب دفعاً جديداً مختلفاً. ولعل الأهم من ذلك كله هو أن العراق، بعد فشله في الحفاظ على كرامته الوطنية، قد يتطور ليصبح مركزاً دائماً لـ "حركة معارضة" مستديمة. من هنا، فإن تركيا ملتزمة تماماً هدف المحافظة على وحدة العراق، ومتورطة إلى حد كبير في الاستقرار في الشمال العراقي. ويقتضي الاستقرار في المنطقة امتناع الجيران كافة من القيام بأعمال منفردة، وألاّ يستغلوا الأكراد لأغراض "بيزنطية"، كما شاهدنا خلال الحرب الإيرانية - العراقية والتنافس البعثي العراقي - السوري. ولا ننسى فترة الانتداب البريطاني، حين كان التفاوض بشأن الحدود التركية - العراقية ما زال جارياً.
الصراع العربي - الإسرائيلي: إن التطابق بين الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي أمر قديم إلى درجة أنه مع بلوغ مرحلة تبدو التسوية فيها أمراً ممكناً، يتساءل المرء عن شكل المنطقة من دون ذاك الصراع. وكي نقوّم ما يخبئه السلام لتركيا، ينبغي أن نعرض ما كان هذا الصراع يعني بالنسبة إليها في المقام الأول.
كان الصراع نموذجاً للصراع الذي كان على تركيا أن تتخذ موقفاً إزاءه. ولم تتردد تركيا في الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود في الشرق الأوسط، وكانت من أُولى الدول التي اعترفت بذلك. وبعد حرب الأيام الستة [1967]، حين بدأت تركيا تدعم منظمة التحرير، لم تسحب اعترافها السابق، بل وازنته من خلال الاعتراف بأن للمنظمة الحق ذاته في الوجود. ولم يكن في وسع تركيا أن توافق على احتلال إسرائيل للأراضي العربية، لذا فهي تساند قرار مجلس الأمن رقم 242. غير أن هذه السياسة وضعت حدوداً لعلاقات تركيا بإسرائيل، في حين وصل الاعتراف التركي إلى حده الأدنى. بيد أن البلدين ظلا مرتبطين، ويتفهم كل منها اهتمامات الآخر. لكن العرب والمسلمين من جهة أُخرى، لم يكونوا متفهمين للسياسة التركية. فبالنسبة إليهم، كانت تركيا تقف إلى الجانب الغربي أكثر مما تقف إلى جانبهم. فإذاً، كان للصراع العربي - الإسرائيلي أولاً دور مقيّد بالنسبة إلى تحسين العلاقات التركية الشرق الأوسطية. وثانياً، أوصل الصراع المنطقة إلى تسابق على التسلح يشمل أسلحة الدمار الشامل. فالسباق على التفوق لجمته تقييدات ذاتية فرضتها الدول العظمى، التي كانت هي ذاتها منهمكة في التنافس في النفوذ، الأمر الذي كان يعني، ثالثاً، إمكان تورط القوى الخارجية في الصراع. وفي هذه الحالة، ما كان في وسع تركيا أن تتفادى نتائج موقعها الجغرافي وشراكتها مع الولايات المتحدة.
وهنا، وقبل السؤال عما يمكن للسلام أن يجلبه، تجدر الإشارة إلى أن عملية السلام لم تكن نتاج تغيير واع لحالة ذهنية عند فرقاء النزاع، بقدر ما كانت النتاج السياسي لحرب الخليج ونهاية الحرب الباردة، اللتين أدتا إلى هذا التغيير. وبكلام آخر، فإن الذي حدث هو نتاج تفكير عملاني عقلاني أكثر مما هو قبول صادق للآخر. وهكذا، فالمسيرة ستكون طويلة وشاقة. وفي نهاية الأمر، سيكون السلام مرتبطاً ربما بتطور هوية شرق أوسطية مقبولة لدى الجميع. وهذه الهوية يجب أن تتطور على أساس معايير وأخلاق مشتركة وحول مصالح أمنية مشتركة. إن إمكان تطور مثل هذه الهوية سيشغل بال الذين يهتمون بعلم المستقبل، فهو حالة جديرة بالاهتمام لكنها متعبة للفكر.
وحتى الآن، أزالت العملية السلمية العراقيل التي كانت تعوق العلاقات بين تركيا وإسرائيل. وباستثناء تلك الدول (سورية والعراق وإيران) التي لم تلتزم السلام بعد، فإن الارتباط التركي بالغرب فقد الكثير من سلبيته، هذا إن لم يكن قد تحوّل إلى أمر إيجابي في أعين الكثير من بلاد الشرق الأوسط.
وقد يصح القول إن عملية السلام قد خففت من إمكان نشوب مواجهة عربية - إسرائيلية. من هنا، فإن خطر تطور المجابهة لتشمل دائرة أوسع لم يعد موجوداً. لذا، يمكن القول إن العملية السلمية كان لها تأثير إيجابي حتى الآن في البيئة الأمنية للشرق الأوسط من المنظور التركي.
القضايا الأساسية في الشرق الأوسط: بينما بدأ الصراع العربي - الإسرائيلي مسيرة هبوطه من سلّم أولويات الأمن في الشرق الأوسط، أصبحت المشكلات الكامنة في المنطقة (الصراع على الأرض بسبب حدود تم رسمها عشوائياً، والأصولية الإسلامية، والقومية، واختلاف طبيعة الأنظمة السياسية، والتوزيع الجائر للموارد والثروة، والنمو الكبير للسكان، والتملل الجماهيري والإرهاب) تنال اعترافاً متزايداً بكونها أسباباً ممكنة للنزاع. وهذه هي القضايا التي سنعالجها، ليس فقط اليوم وغداً، بل في الأعوام المقبلة أيضاً. وحتى الآن، برهنت القومية العربية والإسلام الشمولي عن فشلهما. كما أن الالتفاف العربي حول هاتين العقيدتين وحول القضية العربية ضد إسرائيل أُصيب بالشلل على ما يبدو. هل يمكن أن نقول إذاً، وفي هذه الآونة، إن الذي سيسيطر في المنطقة هو على الأرجح المصالح والآمال الوطنية المنفردة؟ من الطبيعي أننا لا نستطيع أن نفعل أكثر من رسم سيناريوهات مختلفة، وطرح الافتراضات.
وفي هذا الصدد، فإن المتغيرات الكبرى التي سيكون لها التأثير الأكبر في مستقبل الشرق الأوسط ستنبع من الديناميات الداخلية لبلاد الشرق الأوسط وتأثير التيارات العالمية، وإمكان إنشاء نظام أمني إقليمي، ومواقف اللاعبين الكبار حيال المنطقة.
التورط/التنافس الخارجي
ليس سراً أن الولايات المتحدة أضحت القوة المهيمنة الوحيدة في الشرق الأوسط، بما لها من مكانة وتأثير وصدقية طاغية، وأن الوصول إلى النفط، الذي كان، ولا يزال الهم الأكبر لأميركا والبلاد العربية، يبدو الآن أمراً أكيداً ثابتاً. والتحدي العسكري للإبقاء على الوضع الراهن حيال منافسين محتملين هو اليوم أقل مما كان مطلوباً لردع التوسع السوفياتي في الشرق الأوسط، بعد أن أُصيبت إيران والعراق بالشلل. وبالإضافة إلى ذلك، وفي الوقت الذي تراجع إمكان نشوب مجابهة عربية - إسرائيلية، تراجعت أيضاً الحاجة إلى دعم أميركا لإسرائيل.
وفي حين أن هذه التحسينات خففت الاهتمامات الأمنية المباشرة، فإن الدول الغربية أسبابها لأن تبقى مهتمة بالشرق الأوسط. فالمخاطر والتهديدات الجديدة التي تراها هذه الدول تنبع في الأساس من الشرق الأوسط. وكعضو في النادي الغربي، تشارك تركيا في هذه الاهتمامات الجديدة وهذا المنظور الجديد. وها هي تركيا تتورط مرة أُخرى في الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، فإن لتركيا اليوم دوراً مركزياً بوصفها جسراً ومتراساً في آن واحد.
إن هذا التورط ليس من نوع المجابهة؛ فهو ليس تورطاً منفرداً، بل هو تورط يأتي في إطار دولي أمني مشترك لتحسين البيئة الأمنية في الشرق الأوسط. إنه ليس تورطاً يهدف إلى التدخل وإلى التأثير، بل إلى التعاون. وتركيا ليست مرغمة على التدخل بل تحدوها الرغبة في ذلك. لكن تركيا تدرك أن المصالح والاهتمامات المشتركة لا تعني بالضرورة أن هذه المصالح والاهتمامات متطابقة.
خلاصات
لا ريب في أن نهايتي حربين، أي الحرب الباردة وحرب الخليج، غيّرتا، وبصورة ملحوظة، البيئة الأمنية في الشرق الأوسط. ومن المنظور التركي، فإن التغييرات التي حدثت لم تكن كلها مطمئنة. قد لا تكون التحديات العسكرية لعصر الاستقطاب الثنائي موجودة الآن. وربما تكون التقييدات التي فرضها الصراع العربي - الإسرائيلي على علاقات تركيا بدول الشرق الأوسط قد فقدت الكثير من أهميتها. ولربما لم تعد توجد أية قوة مهيمنة في المنطقة، أو أي بلد في المنطقة له المقدرة والرغبة في تهديد تركيا بعدوان كبير.
غير أن المنطقة لم تصبح، في أية حال من الأحوال، خالية من أسباب النزاع والصراع والتنافس والإحباط والمعارضة. فالمعارضة تتجه في الجوهر نحو التغيير، وأساسها في الغالب رغبات راديكالية، كالعجز، والانتماء العرقي، والدين. ومصالح تركيا الحيوية مهددة فعلاً الآن من جانب جيرانها وبفعل الأوضاع التي يجدون أنفسهم فيها. ولم تعد علاقات تركيا بجيرانها قضية ثنائية.
لذا، إن على تركيا أن تعنى بالشرق الأوسط. فهي تشارك في العملية السلمية، غير أنها في الوقت ذاته قلقة من أن سورية قد تسيء استخدام هذه العملية. ومن الأهمية البالغة لتركيا أن تصل المسيرة السلمية فعلاً في نهاية الأمر إلى نظام أمني إقليمي. إن بناء الرمز إلى جانب بناء الثقة هما نقطة البداية نحو هذا الهدف.
ولا يمكن لتركيا أن تبقى غير مكترثة للأخطار والتهديدات الجديدة في الشرق الأوسط. كما لا يمكن لها أن تتعامل معها من موقف انعزالي. وفي هذا السياق، فإن تركيا مستعدة للقيام بدورها ضمن مجهود دولي بدأ فعلاً، للوصول إلى عالم أكثر أمناً.