المشهد الدولي
ولدت قضية فلسطين أصلاً من جراء احتلال المستوطنين الصهاينة لجزء من أرض فلسطين، هو الجزء الذي قامت دولة إسرائيل عليه سنة 1948. وقد تفرع عن هذا الأصل موضوع اللاجئين الفلسطينيين الذين أُبعدوا عن أرضهم، سواء من الجزء الخاص باليهود في قرار التقسيم (الصادر سنة 1947)، أو من الجزء الآخر من الأرض الذي احتلته إسرائيل، متجاوزة حدود قرار التقسيم. وحين اندلعت الحرب العربية - الإسرائيلية الأُولى، أوفدت الأمم المتحدة الدبلوماسي السويدي الكونت برنادوت في أول مهمة لأول تسوية سلمية للصراع. وقد أوصى برنادوت بضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى "منازلهم"، وكان أن دفع حياته ثمناً لهذه التوصية؛ إذ اغتيل في 17 أيلول/سبتمبر 1948 على يد مجموعة إسرائيلية متطرفة كان يتزعمها يتسحاق شمير، الذي أصبح في ما بعد رئيساً لحكومة إسرائيل. وبناء على توصية برنادوت، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948) بتأليف "لجنة توفيق" ثلاثية مكونة من فرنسا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية لمتابعة مهمات برنادوت، وجاء البند الحادي عشر من هذا القرار متعلقاً باللاجئين الفلسطينيين، ونص على ما يلي:
تقرر [الجمعية العامة للأمم المتحدة] وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب، وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف، أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة.
وتصدر [الجمعية العامة] تعليماتها إلى لجنة التوفيق بتسهيل إعادة اللاجئين، وتوطينهم من جديد، وإعادة تأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك دفع التعويضات، وبالمحافظة على الاتصال الوثيق بمدير إغاثة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، ومن خلاله بالهيئات والوكالات المتخصصة المناسبة في منظمة الأمم المتحدة[1]
وقد توقفت "لجنة التوفيق" عن أداء دورها في متابعة قضية اللاجئين، لكنها بقيت قائمة رسمياً كهيئة من هيئات الأمم المتحدة، واقتصر دورها أعواماً طويلة على تقديم توصية دورية بتجديد التذكير بقرار العودة، ممثلاً بالقرار رقم 194. وكانت الولايات المتحدة الأميركية هي التي تتولى رسمياً تقديم هذا الاقتراح لتتم الموافقة عليه (توقفت الولايات المتحدة عن ذلك سنة 1993). ومع اندلاع حرب سنة 1967، وانهزام العرب فيها، واحتلال إسرائيل لما بقي من الأراضي الفلسطينية، وجِد جيل جديد من اللاجئين الفلسطينيين، هو جيل اللاجئين الذين شردتهم الحرب الجديدة، وكان منه لاجئون جدد من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولاجئون قدامى من فلسطينيي أراضي 1948 هُجروا مرة أُخرى إلى الأردن. وحين صدر قرار مجلس الأمن رقم 242 (في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1967) الخاص بتلك الحرب ونتائجها، وردت فيه فقرة نصت بعمومية مقصودة على "تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين" (ثانياً - ب)، وهذا الغموض في نص الفقرة لا يوضح ما إذا كان المقصود حل مشكلة اللاجئين ككل أم حل مشكلة اللاجئين الناتجة من تلك الحرب فقط، وما إذا كان القرار في مجمله يتعلق بتلك الحرب من دون سواها.
بين سنتي 1948 و1967، كانت السياسة الغربية عامة، والسياسة الأميركية خاصة، تدفع باتجاه توطين الفلسطينيين في البلاد العربية عبر وسيلتين: وسيلة غير مباشرة تسعى لقيام اعتراف عربي واقعي بدولة إسرائيل، وذلك من خلال الموافقة على قيام تعاون اقتصادي بين العرب وإسرائيل أساسه مشاريع متعلقة بشؤون المياه، مع وعود بتمويل أميركي لجميع المشاريع الزراعية العربية التي تتولد من مشاريع التعاون المائي مع إسرائيل، على أن تتضمن هذه الخطط موافقة عربية على توطين الفلسطينيين. وقد كان مشروع إريك جونستون، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي أيزنهاور سنة 1953، أبرز المشاريع في هذا السياق. أمّا الوسيلة الأُخرى المباشرة للتوطين فتمثلت في مشروع همرشولد (الأمين العام للأمم المتحدة)، وكذلك في مشروعين آخرين للتوطين في كل من سيناء وليبيا. وقد حظي مشروع سيناء بدراسة ميدانية مفصلة (صدرت في كتاب)، لكن البحث فيه توقف عندما شُن العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، كما توقف البحث في مشروع التوطين في ليبيا في الفترة نفسها.
وبقي هذا المشهد الدولي مستقراً على حاله من دون أي تغيير، حتى جاءت حرب الخليج الثانية، وبدأت بعدها، على امتداد سنة 1991، جهود أميركية لإيجاد صيغة لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي وإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية. وقد تعمّد وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، الذي تولى المفاوضات، أن تجري مفاوضاته مع وفد فلسطيني من المناطق المحتلة سنة 1967 (فيصل الحسيني وحنان عشراوي، وآخرون)، وكان اختياره هذا مقصوداً لمعرفته أن إسرائيل ترفض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، والحجة المعلنة لذلك أن منظمة التحرير منظمة إرهابية. أمّا السبب غير المعلن فهو الخشية من أن تطالِب المنظمة بحل يشمل الشعب الفلسطيني كله، بينما تريد إسرائيل تفاوضاً مع "سكان المناطق" - بحسب تعبيرها - لينحصر التفاوض جغرافياً في الأراضي المحتلة سنة 1967، فتغيب بذلك قضايا كثيرة، من بينها قضية اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948. وقد بذل الوفد الفلسطيني المفاوض آنذاك جهده لتأليف وفد من الداخل تعلنه منظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذا الطلب رُفض. كما بذل المفاوض الفلسطيني جهده لقبول تأليف الوفد من فلسطينيي "الداخل" و"الخارج"، ورُفض طلبه هذا أيضاً. ووُجدت في النهاية ثلاث وثائق تحدد المجرى الجديد للعمل:
الوثيقة الأُولى هي رسالة التطمينات التي بعثت الإدارة الأميركية بها إلى الجانب الفلسطيني، وفيها أن أساس التسوية سيكون السعي من أجل سلام شامل، على أساس قراري مجلس الأمن رقم 242 و338، يوفر الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني، وأن هدف العملية هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وأن آلية التفاوض ستكون عبر محادثات ثنائية مباشرة، وعبر محادثات مشتركة (متعددة) بشأن القضايا الإقليمية. وبالنسبة إلى العضوية، فإن أعضاء الوفد الفلسطيني (المشترك مع وفد الأردن) سيكونون من فلسطينيي المناطق، ويمكنهم أن يثيروا من خلال المفاوضات أية قضية تتعلق بجوهر تلك المفاوضات. وفي إشارة وحيدة وغير مباشرة إلى موضوع اللاجئين، قالت رسالة التطمينات: "تعتقد الولايات المتحدة أن القدس الشرقية والفلسطينيين خارج المناطق المحتلة (أي فلسطينيي الشتات)... يجب أن يكونوا قادرين على المشاركة في مفاوضات المرحلة النهائية."[2]
والوثيقة الثانية هي رسالة التطمينات التي بعثت الإدارة الأميركية بها إلى حكومة إسرائيل، وفيها إقرار أميركي بـ "وجود تفاسير مختلفة لقرار مجلس الأمن"، وإشارة إلى أن المفاوضات المتعددة الأطراف ستدور حول موضوعات إقليمية عامة، من بينها "مسألة اللاجئين".[3]
أمّا الوثيقة الثالثة فهي نص الدعوة إلى مؤتمر مدريد الموجهة إلى الأطراف المعنية من الرئيسين الأميركي (جورج بوش) والروسي (ميخائيل غورباتشوف)، وفيها إشارة إلى أن المفاوضات بين إسرائيل والدول العربية، والمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين سـ "ترتكز على قراري مجلس الأمن... وأنه في المفاوضات المتعددة ستبحث قضايا يعتقد متبنو قرار المؤتمر أنه ينبغي أن تتركز على قضايا مثل الرقابة على الأسلحة، والأمن الإقليمي، والمياه، وقضايا اللاجئين..."[4]
ويلاحَظ بشأن هذه الوثائق الثلاث أنها:
أولاً: ترتكز (وترتكز كلمة غامضة وغير ملزمة) على قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338، أي القرارين الخاصين بنتائج حرب حزيران/يونيو 1967.
ثانياً: تقر بأن القرار رقم 242 هو للتفاوض لا للتنفيذ، باعتبار أن له تفاسير مختلفة.
ثالثاً: تطرح موضوع اللاجئين من دون إشارة إلى لاجئي سنة 1948، الأمر الذي قد يعني أن البحث قد ينحصر في لاجئي سنة 1967، مع حق أي طرف في أن يثير القضية التي يريد.
رابعاً: تطرح موضوع اللاجئين من دون تحديد، ومن دون ربطه بقضية العودة، الأمر الذي يفسح في المجال أمام مناقشة القضية على أساس إنساني.
خامساً: تفسح بهذا الطرح لموضوع اللاجئين، بصيغة العامة، في المجال أمام طرح موضوع اللاجئين اليهود في مقابل موضوع اللاجئين الفلسطينيين، ملغية الفوارق بين الموضوعين.
سادساً: وهذا هو الأهم، تستبعد موضوع اللاجئين الفلسطينيين، أي أنه لم يعد موضوعاً مطروحاً للبحث فيه كقضية سياسية في المفاوضات الثنائية التي ستدور بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث تكون النتائج ملزمة للطرفين، وإنما هو موضوع مطروح للتداول في المفاوضات المتعددة الأطراف، حيث لا تكون النتائج ملزمة لأحد.
المشهد في أثناء التفاوض
لم يقصّر يتسحاق شمير، رئيس الوفد الإسرائيلي إلى مؤتمر مدريد، الذي افتتح أعماله يوم 30 تشرين الأول/أكتوبر 1991 في التقاط جميع المعاني الموحية والمضمرة بشأن "اللاجئين" والتصريح بها علناً. ففي الكلمة التي ألقاها ركز على اللاجئين اليهود من البلاد العربية إلى إسرائيل، فقال: "بعد فترة وجيزة من إنشاء إسرائيل، تحولت هذه [الأنظمة العربية] ضد الطوائف اليهودية في الدول العربية، وتسببت موجة القهر ومصادرة الممتلكات والطرد في نزوح جماعي لنحو 800 ألف يهودي [أي ما يساوي عدد اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948] من الأراضي التي كانوا يقطنونها منذ ما قبل ظهور الإسلام." وطرح بوضوح أن إسرائيل عملت بنجاح على "توطين" اليهود القادمين إليها، فقال: "معظم هؤلاء النازحين اليهود... رحبت بهم الدولة اليهودية، وتم إيواؤهم ودعمهم واندمجوا في المجتمع الإسرائيلي"، ثم طرح بوضوح أيضاً أن العرب لا الاحتلال الإسرائيلي هم المسؤولون عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وذلك حين قال: "إن العداء العربي لإسرائيل... شجع مئات الآلاف من العرب الذين عاشوا في فلسطين تحت الانتداب البريطاني من قِبل زعمائهم على ترك ديارهم." ثم حمّل العرب مسؤولية التقصير في استيعاب الفلسطينيين وتوطينهم على غرار ما فعلته إسرائيل حيال المهاجرين اليهود، فقال: "إن عدة مئات الآلاف من العرب الفلسطينيين يعيشون في أحياء فقيرة تعرف باسم مخيمات اللاجئين، وعلى عكس اليهود الذين جاؤوا إلى إسرائيل من الدول العربية، لم يلق معظم اللاجئين العرب ترحيباً أو دمجاً في المجتمع من جانب مضيفيهم..."، ثم خاطب شمير المؤتمر برقة متناهية قائلاً: "اسمحوا لنا وللمجتمع الدولي ببناء مساكن لائقة للناس الذين يعيشون الآن في مخيمات اللاجئين"، راسماً بذلك منحى إنسانياً لا سياسياً، لمعالجة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.[5]
وتضمنت كلمة الدكتور حيدر عبد الشافي، باسم الوفد الفلسطيني في المؤتمر، أكثر من إشارة إلى توجه المؤتمر نحو تجزئة الشعب الفلسطيني ونحو تجاوز موضوع اللاجئين، إذ قال: "حتى في الدعوة إلى هذا المؤتمر شوهت سيرتنا ولم يُعترف بحقيقتنا إلا جزئياً.. إن الدعوة لمناقشة السلام.. إنما تأتي إلى جزء فقط من شعبنا، وتتجاهل وحدتنا الوطنية والتاريخية والعضوية، فقد انتُزعنا من أشقائنا وشقيقاتنا في المنفى لكي نأتي إلى هنا أمامكم باعتبارنا الفلسطينيين تحت الاحتلال، برغم إصرارنا على أن الواحد منا يمثل حقوق ومصالح الكل." ثم خاطب اللاجئين "المنفيين" مباشرة فقال: "سوف تعودون، وسوف تبقون، وسوف نسود، لأن قضيتنا عادلة." ثم انتقل إلى الحديث المباشر والقانوني قائلاً: "إن مخيمات اللاجئين ليست وطناً لائقاً بشعب... فالإرادة الدولية قد ضمنت عودته في قرار الأمم المتحدة 194، وهي حقيقة تلقى تجاهلاً وغير منفذة عمداً."[6]
ومن خلال هذا العرض المتناقض للمواقف والكلمات، انتهى البحث في قضية اللاجئين في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد لينتقل بعد ذلك إلى "اللجان المتعددة"، التي هي في حقيقتها لجان للتداول، ولا تستطيع إقرار سياسات ملزمة، إلا ما يتوافق المجتمعون على إنجازه. ومع ذلك، سيحاول الفلسطينيون فيها تقديم أنفسهم بالطريقة التي حُجبت عنهم في مؤتمر مدريد وفي المفاوضات الثنائية، كما سيحاولون طرح القضايا التي لم يرد ذكرها بوضوح أو بصورة كاملة في رسالة التطمينات أو في ورقة الدعوة الرسمية.
بدأت اللجان المتعددة أعمالها في موسكو يوم 28 كانون الثاني/يناير 1992 بمؤتمر تنظيمي حضرته 33 دولة عربية وأجنبية. وقد توجه إليها وفد فلسطيني برئاسة فيصل الحسيني، يضم فلسطينيين من "الداخل" ومن القدس، ومن اللاجئين، لكن الوفد منع من دخول قاعة المؤتمر والمشاركة في أعماله بحجة أن تأليف الوفد على ذلك النحو مخالف لصيغة مدريد، بينما كانت حجة الوفد الفلسطيني أن تأليف الوفد من "الداخل" فقط يخص مؤتمر مدريد، ويخص المفاوضات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنه لا يخص مؤتمراً دولياً تشارك فيه هذه الدول كافة. كما أن موضوعاته تخص الشعب الفلسطيني بأكمله في "الداخل" و"الخارج". وكان الوفد الفلسطيني قد أعدّ كلمة تتضمن إشارة إلى "أن الوفد الفلسطيني إلى موسكو يعطي تمثيلاً حقيقياً وشاملاً، فهو يشمل كل الأراضي الفلسطينية المحتلة (بعد 1967) بما فيها القدس، [ويعطي] كذلك تمثيلاً لثلثي الشعب الفلسطيني الموجود في المنفى (اللاجئون). وهذا التمثيل ضروري لغرض هذه المفاوضات المتعددة الأطراف الرامية إلى معالجة قضايا ذات أهمية إقليمية، ومقترحات متصلة بأوضاع دائمة وأمور متعلقة بالشعب الفلسطيني ككل."[7]
وبسبب تفجر هذا الخلاف على بنية الوفد الفلسطيني، عقد وزير الخارجية الأميركي بيكر اجتماعاً مع رئيس الوفد الفلسطيني، وأبلغ إليه موافقة واشنطن (وموسكو) على اشتراك فلسطينيين من خارج الأراضي المحتلة في لجان العمل التي ستجتمع بعد لقاء موسكو (اللجان المتعددة). وكان بيكر يأمل بأن يؤدي هذا الحل الوسط إلى إقناع الوفد بتغيير تركيبته، لكن الوفد أصر عليها، وأصر منظمو المؤتمر، في المقابل، على منعهم.
ثم انعقد الاجتماع الأول للجنة الخاصة باللاجئين في أوتاوا (كندا) يوم 12 أيار/مايو 1992. وكان الوفد الفلسطيني برئاسة الدكتور الياس صنبر، من فلسطينيي الشتات اللاجئين، وقاطعت إسرائيل المؤتمر بسبب ذلك. وألقى صنبر كلمة طرح فيها موضوع اللاجئين الفلسطينيين وموضوع حقهم في العودة بقوة، واستند في طرحه إلى الأفكار التالية:
- إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي الجوهر السياسي للمسألة الفلسطينية، ومخيمات الفلسطينيين هي المهد الذي أعيد منه انبعاث المطالبة السياسية الفلسطينية بتقرير المصير بعد نكبة سنة 1948.
- إن قرار مجلس الأمن رقم 242 هو الإطار المرجعي الأساسي لمجمل عملية السلام. كما ينص هذا القرار بوضوح على توفير حل عادل لمشكلة اللاجئين، وأساس هذا الحل العادل هو تطبيق قرارات الأمم المتحدة الأساسية بشأن اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصاً القرار رقم 194.
- إن اللاجئين الفلسطينيين هم جميع أولئك الفلسطينيين (والمتحدرين منهم) الذين طُردوا أو أُجبروا على ترك بيوتهم بين تشرين الثاني/نوفمبر 1947 (مشروع التقسيم) وكانون الثاني/يناير 1949 (اتفاق الهدنة في رودس)، في الأراضي التي سيطرت إسرائيل عليها في التاريخ الأخير.
- إن تحسين أوضاع حياة اللاجئين مسؤولية خُلُقية تقع على عاتق المجتمع الدولي، وليست مسألة مطروحة للمقايضة أو موضوعاً للتفاوض.[8]
واستطاع الوفد الفلسطيني في ختام هذا الاجتماع أن يدرج القرار رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين أساساً للبحث في الموضوع، إلى جانب قرارات أُخرى للأمم المتحدة.
وحين بدأ البحث في عقد الجولة الثانية للجنة، أصرت إسرائيل على المقاطعة ما دام الوفد الفلسطيني برئاسة فلسطيني من الشتات، وما دام موضوع حق العودة مطروحاً للنقاش في اللجنة. ودخل المصريون والأميركيون في وساطة لإيجاد مخرج للأزمة، فتوصلوا إلى أن "يتغيب" الدكتور الياس صنبر عن الجلسة الثانية، وأن ينوب عنه فلسطيني آخر من المناطق المحتلة، ثم تتم تسوية الأمور بعد ذلك. وقد تم تنفيذ هذه الصيغة، وانعقدت الجلسة الثانية للجنة في أوتاوا يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1992، ورأَس الوفد الفلسطيني الدكتور محمد الحلاج. لكن إسرائيل افتعلت المشكلات مرة أُخرى؛ إذ عند بدء الاجتماع، أعلن رئيس الوفد الإسرائيلي، شلومو بن عامي، أنه سينسحب هو والوفد الإسرائيلي لأن إسرائيل ترفض المفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، والدكتور الحلاج عضو في المجلس الوطني الفلسطيني ومن مؤسسي منظمة التحرير. وجرى مرة أُخرى تدخل أميركي لحل هذا الإشكال، وكانت صيغة الحل تقول إنه قد جرى التأكيد لإسرائيل أن الحلاج حضر في الماضي جلسات المجلس الوطني الفلسطيني، وأن عضويته في المجلس منتهية الآن. ومع بدء أعمال اللجنة، أعاد الوفد الفلسطيني في المداخلة التي قدمها الدكتور الحلاج التركيز على المطالب والأسس القانونية ذاتها لحل قضية اللاجئين على أساس حق العودة بموجب القرار رقم 194، مع تركيز أشد على حق العودة لنازحي سنة 1967، بناء على قرار مجلس الأمن رقم 237، وعلى لمّ شمل العائلات الذي يعتبر أحد جوانب عملية عودة نازحي سنة 1967.
وقد شرح الدكتور الحلاج مجرى المناقشات داخل الاجتماعات بقوله:
- حاول الإسرائيليون الاعتراض على بند لمّ شمل العائلات، وبذلوا كل جهدهم من أجل شطبه، واعتبروا المسألة برمتها شأناً إسرائيلياً لا يجوز للمجتمع الدولي التدخل فيه، وطالبوا بنقل البحث في هذه المسألة إلى المفاوضات الثنائية.
- ركزت إسرائيل على كلام إنساني لتحسين الوضع المعيشي للاجئين، إخفاء للأبعاد السياسية والقانونية لمشكلة اللاجئين.
- أكدنا في كلمتنا أن شعبنا رفض باستمرار جميع مشاريع إعادة التوطين والتجنس في الدول المضيفة.
- حاول الوفد الإسرائيلي إثارة مسألة هجرة اليهود من الدول العربية إلى إسرائيل، محاولاً إضفاء صفة الندية والتعامل بالمثل مع هذه المسألة. ونحن بدورنا كنا جاهزين للرد على هذا الموقف المتوقع، وأوضحنا الفارق بين مهاجر يهودي أغرته الصهيونية لمغادرة مسقط رأسه والقدوم إلى إسرائيل، وبين شعب آمن اقتُلع من أرضه اقتلاعاً بالقوة المسلحة.. ومع ذلك أوضحنا أمام المؤتمر أننا نؤيد حق كل مشرد في العودة إلى وطنه الأصلي، وأننا لا ننكر على أي يهودي العودة إلى موطنه الأصلي، بما في ذلك الأقطار العربية، إلا إنه في المقابل لا يجوز لإسرائيل أن تحجب هذا الحق عن اللاجئين الفلسطينيين.
- حاول الوفد الإسرائيلي التدخل في صيغة محضر الاجتماع، وشطْب جميع المناقشات، التي دارت خلاله بشأن موضوع النازحين (1967) ولمّ شمل العائلات، غير أن هذه المحاولة فشلت أيضاً.[9]
لكن هذا الاجتماع أدى إلى إحداث تغيير جوهري في مرجعيته؛ فبينما كان الاجتماع الأول قد انتهى إلى تثبيت قرار الأمم المتحدة رقم 194 أساساً للبحث في قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين، جرى في الاجتماع الثاني تمييع قضية المرجعية بتأثير من الوفد الإسرائيلي وتلاقي وفود غربية عديدة مع مطالبه.
وقد توالت اجتماعات اللجنة بعد ذلك في كل من تونس والنرويج وتركيا والقاهرة، وعاد الدكتور الياس صنبر ليرئس الوفد الفلسطيني من دون اعتراض. ويلخص الدكتور صنبر جوهر المناقشات بما يلي:
- يركز الوفد الإسرائيلي طويلاً على معالجة موضوع اللاجئين الفلسطينيين من زاوية إنسانية، وخصوصاً ما يتعلق بالسكن. وقد اعترض الوفد الفلسطيني مراراً على هذا المنهج، موافقاً فقط على مشاريع لتحسين حياة اللاجئين من النوع الذي لا يؤسس وضعاً قائماً، ويستطيع اللاجئ أن يحمله معه إذا تحققت عودته، وهي مشاريع تتعلق بالتعليم والصحة والعناية بالأطفال.
- المفاوض الإسرائيلي لا يريد الوصول إلى نتائج. فحين نطرح موضوعات سياسية (حق العودة) في لجنة اللاجئين، يقول إن هذا من اختصاص المفاوضات الثنائية، وحين نطرح الموضوع في المفاوضات الثنائية يرد بضرورة تجزئة البحث في هذا الموضوع بين الفلسطينيين والبلاد العربية، فموضوع اللاجئين في لبنان يبحث فيه مع الحكومة اللبنانية، وموضوعهم في الأردن يبحث فيه مع الحكومة الأردنية، وأنتم كفلسطينيين نبحث معكم في شؤون اللاجئين المقيمين في مناطق الحكم الذاتي.
ويختم الدكتور صنبر ملاحظاته قائلاً: لقد ناضلنا طوال 40 عاماً لإبراز أنفسنا كشعب فلسطيني موحد، وهم يريدون الآن تفتيت الشعب الفلسطيني وفرض البحث في موضوعه كفئات: فئة في لبنان، وفئة في سورية، وفئة في الأردن، وفئة في الحكم الذاتي... وهكذا.[10]
مشهد الاتفاق وما بعده
لقد فُرض على الوفد الفلسطيني المفاوض، برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي، أن يكون ممثلاً لجزء من الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، بذل الوفد جهوداً ملموسة، وبالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية، كي يتمكن من طرح قضية الشعب الفلسطيني ككل، وفي الأساس منها قضية اللاجئين في جميع محافل التفاوض. لكن الأمور سارت باتجاه مفاوضات سرية موازية لمفاوضات واشنطن قادتها منظمة التحرير الفلسطينية بالذات، التي كان محظوراً عليها أي حضور، ولو خفية، في أي وفد كان. وأسفرت تلك المفاوضات السرية عن الاتفاق الشهير الذي عرف باسم "اتفاق أوسلو"، والذي تم توقيعه رسمياً في البيت الأبيض (13 أيلول/سبتمبر 1993)، في احتفال دولي لا مثيل له.
على أي أساس ذهبت منظمة التحرير الفلسطينية إلى المفاوضات؟ تظهر الوقائع أنها لم تذهب إلى هناك بصفتها الحقيقية، وإنما كبديل من الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن، بديل كأشخاص، وبديل كوفد، وبديل كمهمة سياسية. والدليل الذي لا دليل بعده هو اتفاق أوسلو نفسه، الذي جاء تطبيقاً حرفياً لموضوعات التفاوض المرسومة في صيغة مدريد، مع إضافة واحدة فقط تقول، عبر فقرتين، ما يلي:
- سوف تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن ولكن بما لا يتعدى السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
- من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية بما فيها القدس واللاجئون والمستوطنات... (المادة 5، الفقرتان 2 و3).[11] ولأن النتائج كانت على هذه الحال، أُصيب اللاجئون الفلسطينيون بصدمة بفعل الاتفاق؛ إذ شعروا جميعاً، أكان هذا الشعور حقيقياً أم لا، بأن لا دور لهم في هذا الاتفاق، وبأنه قد تم تجاهلهم ونسيانهم في أثناء التفاوض وفي حصيلته، وبأنهم مقبلون بعد ذلك على مصير مجهول، تعززه طروحات إسرائيل، ومجرى المناقشات في اللجان المتعددة، وغياب قرارات الأمم المتحدة عن مرجعية المفاوضات، وسعي الولايات المتحدة الأميركية لإلغاء تلك القرارات منذ بداية الصراع حتى الآن واعتبارها كأنها لم تكن. كما أنهم يشعرون بأن ما سيعرض عليهم في النهاية هو التوطين حيث هم، وهذا يعني بالنسبة إليهم، أن أعواماً طويلة من النضال قد انتهت إلى لا شيء، لأنهم يعتبرون أنفسهم القطاع من الشعب الذي صنع الثورة الفلسطينية، وقدم لها الشهداء بالعشرات، ومهد الأرض التي أتاحت للانتفاضة الشعبية أن تبرز في أواخر سنة 1987 في الداخل.
هل تستند هذه المشاعر وهذه الأحاسيس إلى أي أساس؟
في مقابلة أُجريت مع رئيس اللجنة التنسيقية للوفد المفاوض في محادثات واشنطن الثنائية، الدكتور نبيل شعث، بعد توقيع اتفاق أوسلو، سئل عما إذا كان الاتفاق يتضمن معالجة نهائية للاجئي سنة 1948، فتحدث عن بحث سيفتح الباب أمام عودة نازحي سنة 1967، أمّا لاجئون سنة 1948، فقد طرح بشأنهم فكرتين:
الأُولى: سيتم التفاوض بشأن وضعهم في محادثات الوضع الدائم.
الثانية: إن جزءاً من لاجئي سنة 1948 يتكون من: وحدات القيادة، ومن قوة الشرطة، ومن المستثمرين، سيأتون إلى الضفة وغزة (!!).[12]
وفي مقابلة سئل محمود عباس (أبو مازن): ماذا تقول للاجئي سنة 1948؟ فأجاب:
"نقول لهؤلاء إن قضية اللاجئين موجودة في جدول أعمال الحل النهائي، وستدرس في أقرب وقت ممكن (....) وعندما نقول إن إعلان المبادئ مبني على القرار 242 ففي أحد بنود هذا القرار بند يقول بضرورة إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين، لم يرد (الحل العادل) في أي قرار من قرارات الأمم المتحدة إلا في قرار واحد هو القرار 194 لعام 1948." ثم يضيف أبو مازن تفسيراً غريباً للقرار رقم 194، فيقول: إن ذلك القرار "يقول باختصار: (التعويض على من لا يرغب في العودة)، ونحن متمسكون بهذا القرار، ولذلك نطرحه في اللجان المتعددة، وعندما طرحناه في أوتاوا - كندا، وجدنا للمرة الأولى تأييداً له (؟؟)، فقد وافقت عليه الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من دول العالم."
وسئل أبو مازن عن التوطين، فردَّ بجواب غريب آخر يقول: "لماذا التوطين؟ لا ضرورة للتوطين في حال عدم العودة، لأن أي فلسطيني سيبقى في إحدى الدول العربية سيكون ضمن أقلية فلسطينية، ولكن حقه في وطنه يبقى دائماً، وهو مرتبط بالدولة الفلسطينية."[13]
وينقل جاك أتالي، أبرز مستشاري الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران في كتابه Verbatime 3 أي "حرفياً"، محضراً للقاء الأول بين ميتران وياسر عرفات في أيار/مايو 1989، أي قبل أربعة أعوام وأربعة أشهر من اتفاق أوسلو، فيه الحوار التالي بين الرئيسين:
"- ميتران: حول حق العودة للفلسطينيين إلى فلسطين، أعتقد أن التحوط سيكون مفيداً جداً.
"- عرفات: يتحدث القرار 194 عن تعويضات وهو واضح، ولكن هناك 3 ملايين فلسطيني يعيشون في الأردن. هل يعود هؤلاء إلى فلسطين؟ وأولئك الذين يعيشون في الخليج والعربية السعودية، هؤلاء أيضاً لا يريدون العودة (!!)، وأنا أتمنى أن تتدفق أموالهم على الدولة الفلسطينية وأن يأتوا إليها للزيارة.. طبعاً عليّ أن أحملهم على القول بأنهم مستعدون للقبول بتعويضات، وأنا مستعد للبحث في ذلك على طاولة المفاوضات. القرار 181 (قرار التقسيم) يتحدث عن اقتصاد مترابط، يجب التوصل إلى اتفاق على الاقتصاد والماء وعلى غزة على الأقل."[14]
كيف فهمت إسرائيل اتفاق أوسلو في ما يتعلق بموضوع اللاجئين؟
يجيب عن هذا السؤال رئيس الطاقم الإسرائيلي في المفاوضات مع سورية، إيتمار رابينوفيتش، فيقول:
إن أحد أكبر التنازلات [الفلسطينية] هو أن الاتفاق محصور في المناطق، وفيه بند يتحدث بلغة ضعيفة عن عودة جزء من اللاجئين الذين غادروا عقب حرب 1967، لكن نظراً إلى أن الاتفاق يتحدث عن لاجئي 1967 لا لاجئي 1948، فمعنى ذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية تخلت عن مطلبها بحق العودة... وهذا التخلي يشكل إنجازاً لنا بالغ الدلالة في هذه المفاوضات.[15]
وكيف فهمت الولايات المتحدة الأميركية اتفاق أوسلو في ما يتعلق بموضوع اللاجئين؟
أجابت عن ذلك مادلين أولبرايت، مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة، في 8/8/1994، عندما دعت إلى إلغاء قرارات المنظمة الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وجاء في كلمتها في الأمم المتحدة ما يلي:
"[فـ]ـإن القرارات المثيرة للنزاع التي تبرز الخلافات السياسية من دون أن تشجع على حلول، ينبغي تدعيمها [القرارات المتعلقة بالأونروا]، أو تحسينها [القرار المتعلق بالجولان]، أو إلغاؤها [القرار المتعلق بالتسلح النووي الإسرائيلي وقرار حق تقرير المصير].
"ونعتقد أيضاً أن العبارات في القرارات التي تشير إلى قضايا (الحل النهائي) ينبغي إسقاطها، إذ إن هذه القضايا هي حالياً في قيد التفاوض بين الأطراف نفسها، وهذه تشمل اللاجئين والمستوطنات ووضع القدس."[16]
تثبت هذه المواقف بصورة قاطعة أن القادة الفلسطينيين يائسون من تحقيق أي إنجاز بصدد حق العودة للاجئي سنة 1948، وهم يوافقون سلفاً على التعويض، ويعالجون موضوع التوطين كأمر واقع، ويقترحون له صيغة البقاء في البلاد العربية من دون تجنيس، مع التوجه إلى منح اللاجئين جنسية "الدولة الفلسطينية" في حال قيام هذه الدولة. وتثبت هذه المواقف بصورة قاطعة أيضاً أن إسرائيل والقوى الدولية تنطلق في المعالجة من قاعدة استحالة ممارسة حق العودة، وهي تعمل جاهدة لإلغاء كل ما يذكِّر بها في المواثيق الدولية، بحيث لا يبقى في النهاية سوى بقاء اللاجئين حيث هم، سواء بالتوطين أو عبر التبعية للكيان الفلسطيني كإطار قانوني لوجودهم في المهاجر.
مفاوضات عودة النازحين نموذجاً
وردت في اتفاق أوسلو فقرة واحدة (المادة رقم 12) تتحدث عن عودة نازحي سنة 1967، وكانت صيغتها غامضة للغاية، وهي تقول:
"سيقوم الطرفان بدعوة حكومتي الأردن ومصر للمشاركة في المزيد من ترتيبات الارتباط والتعاون بين حكومة إسرائيل والممثلين الفلسطينيين من جهة وحكومتي الأردن ومصر من جهة أُخرى للنهوض بالتعاون بينهم، وستتضمن هذه الترتيبات إنشاء لجنة مستمرة ستقرر بالاتفاق أشكال الدخول [modalities of admission] للأشخاص المرحّلين من الضفة وقطاع غزة في 1967، مع الإجراءات الضرورية لمنع الفوضى والإخلال بالنظام..."[17]
ووردت في اتفاق القاهرة التنفيذي (4 أيار/مايو 1994)، الذي يرسم تفصيلات تطبيق اتفاق أوسلو، فقرة واحدة بشأن الموضوع نفسه تقول:
"تقرر لجنة المتابعة (الرباعية) بالاتفاق إجراءات قبول الأشخاص المهجرين من الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك مع اتخاذ التدابير الضرورية لمنع الإخلال بالأمن وشيوع الفوضى" (المادة 16، الفقرة 2).[18]
وعلى أساس هذه البنود، اجتمعت لجنة المتابعة الرباعية ست مرات حتى الآن للبحث في عودة النازحين.
وقد عُقد الاجتماع الأول في عمّان في 7 آذار/مارس 1995، وقدمت الوفود العربية الثلاثة ورقة عمل بهذا الشأن أُعدت بإشراف لجنة فنية تضم خبراء من الدول الثلث، ودعت الأطراف العربية إلى إيجاد آلية، وتحديد جدول زمني لعودة النازحين بحسب قرار مجلس الأمن رقم 237 لسنة 1967، وقدم رئيس وفد الأردن (وزير الخارجية عبد الوهاب الكباريتي) اقتراحاً لعودة النازحين وفق المعايير التالية:
- إن لكل مواطن الحق في العودة إلى وطنه الذي خرج منه، بموجب مبادئ القانون الدولي.
- ضمان أولوية حق العودة للنازحين الفلسطينيين، والمبعدين ممن لا يتمتعون بالجنسية الأردنية، أو الذين يحملون جوازات سفر موقتة بجميع فئاتهم.
- إن أي حل متدرج ينبغي أن يشمل جميع اللاجئين من دون استثناء، وأن تحدد أولويات للعودة إلى الضفة وغزة كما يلي:
أ - جمع شمل العائلات.
ب - عودة حملة التصاريح الإسرائيلية المنتهية (من 55 ألفاً إلى 90 ألفاً).
ج - عودة المبعدين (1300 مبعد).
د - عودة من غادروا الضفة وغزة عبر المطارات والموانئ الإسرائيلية بوثائق سفر إسرائيلية، وفقدوا حق العودة إلى مكان إقامتهم الأصلي.
هـ - العائدون من الخليج بعد حرب سنة 1990، الذين كانوا خارج مكان إقامتهم في الضفة الغربية وغزة عند قيام حرب سنة 1967، ولم يتمكنوا من العودة في إثر حرب الخليج، فبقوا في الأردن.
وطرح رئيس الوفد المصري (وزير الخارجية عمرو موسى) في الاجتماع أن حق العودة ليس مسألة مطروحة للتفاوض، بل هو ثابت وأصيل، مدعم بمبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. وطالب بإجراءات عملية سريعة.
وردَّ رئيس الوفد الإسرائيلي، وزير الخارجية آنذاك شمعون بيرس، عارضاً وجهة النظر الإسرائيلية، فدعا إلى الواقعية، وضرورة إيجاد حلول قابلة للتنفيذ، معتبراً أن مشكلة النازحين مشكلة إنسانية تتحمل مسؤوليتها الدول المعنية، إلى جانب إسرائيل. وأشار إلى أن الاتفاقات التي أبرمتها إسرائيل تنص على ضمان إيجاد حل من دون الإخلال بالأمن والنظام، وأيد مبدأ تأليف لجنة متابعة لدراسة جميع الجوانب الفنية لمشكلة النازحين، مشيراً إلى أن إسرائيل لا تعترف بالعدد الذي يعتمده الجانب العربي (نحو 850 ألفاً، إضافة إلى المبعدين). قال إن من واجبات اللجنة التي يقترحها:
- تحديد عدد النازحين الذين يرغبون في العودة.
- تحديد عدد النازحين الذين قرروا البقاء في الدول التي يقيمون فيها.
- التوصل إلى "إجماع" على الطريقة الفضلى لحل مشكلتهم (رافضاً بذلك قرارات الشرعية الدولية).
واقترح بيرس دعوة هيئة دولية تتولى إحصاء النازحين، ووضع برنامج لعودتهم بمعدل 4 آلاف - 5 آلاف شخص سنوياً.
وبعد انتهاء عمل اللجنة، قال بيرس للإذاعة الإسرائيلية: إن إسرائيل تتحدث فقط عن النازحين بعد حرب سنة 1967 وترفض مفهوم حق عودة اللاجئين (1948). وقال إن إسرائيل تجهل عدد النازحين الفلسطينيين الذين يجري البحث في مصيرهم، وإن هذا العدد يتراوح بين 300 ألف و600 ألف ومليون، ولا أحد يعرف العدد الدقيق؛ إذ إن الفلسطينيين يحسبون الآن أفراد العائلات أيضاً. وذكر بيرس أن البنية التحتية والوضع الاقتصادي في الأراضي المحتلة لا يمكنهما استيعاب قادمين جدد، ولا يجب أن تُحل مشكلة بإثارة مشكلات جديدة.
وانتهى الاجتماع الأول للجنة الرباعية بالاتفاق فقط على تأليف لجنة دائمة ذات طبيعة فنية لا سياسية، مهمتها تحديد عدد النازحين، وأماكن إقامتهم، وتطلعاتهم.
ثم عُقد الاجتماع الثاني في 6 تموز/يوليو 1995 على مستوى اللجنة الفنية في القاهرة، وجرى تبادل الاقتراحات بشأن أسلوب العمل. فاقترحت إسرائيل تعريف من هو النازح أولاً، وقالت إن الجانب الفلسطيني يبالغ في تقدير أعدادهم بإضافة مواليد سنة 1967 فصاعداً حتى الآن، ويفترض رغبة الجميع في العودة. ودعت مجدداً إلى تأليف لجنة لحصر عدد النازحين، ليتم بعد ذلك إعادة النازحين بمعدل 5 آلاف نازح سنوياً، تحسباً لمشكلة البطالة والانعكاسات الأمنية. ويقدر الجانب الإسرائيلي عددهم بين 150 ألفاً و200 ألف نازح.
واقترح الجانب المصري في ما يتعلق بتعريف النازح اتخاذ قاعدة البعد الجغرافي لا قاعدة تاريخ مغادرة الأراضي المحتلة، شرط أن ينسحب هذا التعريف على النازح وزوجته ونسله (أطفاله وأحفاده) إنْ وجدوا، على أن تحدد للعودة مدة 3 أعوام - 5 أعوام، وتتحمل إسرائيل خلالها المسؤولية القانونية والمالية (التعويضات)، والمساهمة في تكلفة عمليات الاستيعاب داخل وطنهم.
وانفض الاجتماع من دون اتفاق.
أمّا الاجتماع الثالث للجنة فعُقد في عمّان في 13 أيلول/سبتمبر 1995، واقتصرت وقائعه على تبادل الاقتراحات من جديد، واستمرار الاختلاف بشأن تعريف من هو النازح.
وكان من المفترض عقد الاجتماع الرابع للجنة الفنية في إسرائيل في 6 تشرين الثاني/نوفمبر !995، لكن ذلك لم يتم بسبب اغتيال يتسحاق رابين.
وعُقد الاجتماع الخامس للجنة في حيفا في 3 كانون الثاني/يناير 1996، واستمر الجدل فيه بشأن تعريف كلمة "نازحون"، ولقي هذا الاجتماع تجاهلاً شبه كامل من الصحافة العربية، ويبدو أنه انفض من دون أية نتائج.
وعُقد الاجتماع السادس في القاهرة في 12 شبا/فبراير 1996، وحدث فيه تغير في الشكل من دون المضمون؛ إذ اقترح الوفد المصري آلية جديدة للتفاوض بعد فشل الجولات الأربع السابقة التي تركزت حول تعريف "من هو النازح". وتقضي الآلية الجديدة بمناقشة الحجج التي يطرحها كل من الطرفين العربي والإسرائيلي بشأن جميع البنود المطروحة في جدول الأعمال، بدلاً من التفاوض في شأن كل بند على حدة، وعدم الانتقال إلى أي بند آخر من دون بت البند الأول والاتفاق عليه. والبنود المقصودة أربعة هي: تعريف من هو النازح؛ تحديد أرقام النازحين وفق أُسس مرجعية يتفق الطرفان عليها؛ آلية العودة وترتيباتها؛ الجدول الزمني لعودة النازحين. وتم بموجب هذا الاقتراح التوجه نحو تداول الآراء بشأن قضيتي تحديد أرقام النازحين وآلية العودة وترتيباتها. وتم تأجيل التداول بشأن قضيتي تعريف من هو النازح والجدول الزمني للعودة. وأسفر هذا الاقتراح المصري الجديد عن تأليف لجنة فرعية (جديدة) لحصر أعداد النازحين من خلال البحث في مصادر البيانات المتاحة، ومنها: بيانات الدول العربية المضيفة للاجئين، وبيانات الأونروا، وبيانات الصليب الأحمر، والتقدير الإسرائيلي لعدد النازحين.
ومن اللافت للنظر هنا، أن الصحافيين المصريين الذين نقلوا أنباء الاجتماع السادس عن المصادر الرسمية المصرية أوردوا نقداً صريحاً لما ورد في اتفاق أوسلو بشأن موضوع النازحين، فقالوا: "تستند إسرائيل في تعريفها للنازح، وفي تقدير الأعداد، على اتفاق أوسلو، الذي تحدث عن عودة الذين (تشردوا) بعد حرب العام 1967 شرط (عدم الإخلال بالأمن)، وهو سند يشكل عقبة أمام المفاوض العربي لأنه يعتمد تعريفاً قاصراً وجزئياً للنازح، وأعطى الإسرائيليين ميزة التحقق من الملف الأمني للعائد، وتحاول الأطراف العربية تجاوز صيغة الاتفاق الجزئية بطرح القرارات الدولية في هذا الشأن كأسس مرجعية نصت على حق العودة دون قيد أو شرط."[19]
وهكذا، يكون قد مضى على اتفاق أوسلو أكثر من عامين، ولا يزال البحث في عودة النازحين (المتفق عليه رسمياً) يراوح عند نقطة تعريف من هو النازح، والاختلاف بشأن العدد، واستنكار الطلب العربي بأن يشمل العدد الأبناء والأحفاد، مع إصرار إسرائيل على قادة الإجماع، وتجاهل قرارات الشرعية الدولية. وحتى لو تم الاتفاق كاملاً على جميع نقاط الاختلاف، وبحسب الرقم الإسرائيلي لعدد النازحين، فإن عودتهم ستستغرق أربعين عاماً، ويحدث هذا في قضية متفق عليها ومشمولة في ثلاثة اتفاقات وقّعتها إسرائيل مع مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية والأردن، فكيف ستكون الحال في قضية مختلف بشأنها هي قضية اللاجئين منذ سنة 1948؟[20]
واقع اللاجئين الآن
قبل مؤتمر مدريد وخلاله وبعده، مارست منظمة التحرير الفلسطينية سياسة تجاهل اللاجئين الفلسطينيين في البلاد العربية، ولا سيما لبنان وسورية والأردن. وقد اتخذ هذا التجاهل أشكالاً متعددة؛ فكان في البداية ذا مظهر مالي، حين بدأت قيادة المنظمة تقلص الحقوق المترتبة عليها تجاه الكوادر المتفرغة وتجاه عائلات الشهداء والأسرى، ثم تمادى التقليص إلى حد الإلغاء، وأصبح من المناظر المألوفة تجمع المئات، وأحياناً الآلاف، من العائلات أمام مكاتب المنظمة طلباً للمخصصات التي لا تصل. وأعلنت المنظمة أن لديها أزمة مالية، وأن الدول العربية توقفت عن تقديم المساعدات لها، واكتفت بذلك. ولم تبذل أي جهد لمواجهة هذا الوضع، فلم تتشاور مع الحكومات العربية الممولة، ولم تتشاور مع الفصائل الفدائية، ولم تتشاور مع القوى المالية الفلسطينية. وسرعان ما تطور الوضع ليتخذ شكل التجاهل الاجتماعي، حيث تم إغلاق المؤسسات التي كانت تقدم منظمة التحرير للفلسطينيين مساعدات تعليمية أو صحية أو فرص عمل على نطاق محدود. وقد أنجزت منظمة التحرير فعل ذلك كله بصمت، ومن دون أية مخاطبة لجمهورها لشرح الوضع أو تفسيره أو تبريره.
وحين بدأت المفاوضات في مدريد وواشنطن، اتسمت علاقات منظمة التحرير بالدول العربية المفاوضة الثلاث بالابتعاد والتوتر، ولم يحدث طوال أعوام التفاوض الثلاثة أن قام وفد فلسطيني بزيارة للمسؤولين في لبنان للتشاور معهم، أو لنسج أي نوع من العلاقة. وكانت العلاقة مع سورية تتسم بالشك والحذر، بينما كانت العلاقة مع الأردن محكومة بالتنافس والتوتر الدائمين، وأدى ذلك إلى غياب المناخ الذي يسمح للمنظمة بأن تبحث مع أية حكومة عربية في أوضاع الفلسطينيين المقيمين على أراضيها، ولم تظهر المنظمة في أية مرحلة أنها تريد هذا البحث أو أنها تسعى إليه.
لكن الصدمة الكبرى وقعت عند توقع اتفاق أوسلو؛ فقد أدرك الجمهور الفلسطيني في هذه الدول الثلاث بالذات، وبحس شعبي عفوي، أن الاتفاق المذكور لا يلبي أدنى تطلعاتهم، وأنه مدخل للتخلي عنهم وخطوة نحو نسيانهم، بل إنه سيؤسس لواقع يدفع نحو التوطين الذي قاتلوا طويلاً لصده ومنعه. وشعر اللاجئون الفلسطينيون بأن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تخلت عنهم سياسياً بعد أن تخلت عنهم مالياً واجتماعياً. وتكشف الحوارات الصحافية مع الفلسطينيين في أماكن وجودهم عن هذه الروحية المحبطة بأجلى صورها.
- يقول مواطن فلسطيني في مخيم برج البراجنة في بيروت عن اتفاق غزة - أريحا: لي أربعة أطفال، فماذا سيكون مصيري ومصيرهم بعد هذا الاتفاق الذي ضيع حتى الأمل؟ ويشدد على ضرورة توفير ملايين الدولارات التي تنفق في المفاوضات لتأمين أُسر الشهداء الذين لا يملكون قوت يومهم. (محمد عبد المعطي حسين، 28 عاماً).
- وتقول مواطنة فلسطينية من المخيم نفسه، وقد استشهد والدها وأخوها الأكبر في صفوف الثورة: الآن لم يعد لنا أي مصير بعد أن أصبحت فلسطين لليهود. (عبير عدنان عدس، 18 عاماً).
- وتقول والدتها: منظمة التحرير أوقفت حتى المخصصات البسيطة عن أُسر الشهداء، فنحن لم نستلم شيئاً منذ أحد عشر شهراً. (فايزة عدس، 47 عاماً).
- ويقول كادر قيادي في المخيم: إن الشيء الفظيع أن ترى قيادتك تتآمر عليك. وبعيداً عن التآمر المقصود وغير المقصود، فإن الأمور تقاس بنتائجها... ما هو مبرر قطع مخصصات أُسر الشهداء ووقف الدعم المالي عن المدارس الثانوية التابعة لمنظمة التحرير، وخصوصاً أننا نرى الأموال التي تنفق على المفاوضات؟ (محمود عباس، أبو مجاهد، 45 عاماً).
- ويقول مواطن فلسطيني من مخيم الرشيدية في صور: إن ما يزيد هذه الأوضاع صعوبة هو انقطاع المخصصات حتى عن المتفرغين في صفوف الثورة الفلسطينية، وتحديداً فتح، حيث يصلهم المخصص مرة كل ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر. (محمد رشيد البجيرمي، 35 عاماً).
- ويشرح مواطن فلسطيني من مخيم شاتيلا الوضع قائلاً: كل يوم جمعة نجمع من المصلين ما تيسر لنرسله إلى أُسرة شهيد جاءت تشكو العوز أو المرض. ماذا نقول لشهدائنا؟ ويقول هذا المواطن نفسه عن اتفاق غزة - أريحا ما يلي: كل أبناء الـ 48 غير راضين عن الاتفاق فهو لا يعنيهم ولا يخصهم... فأنا من منطقة الجليل، وهذا الاتفاق لا يعيدنا لا إلى أريحا ولا إلى غزة. (حسين محمود حسن، 67 عاماً).[21]
إن هذه الأقوال ليست إلا نماذج لقناعات فلسطينيي الشتات في أي مكان. ربما تختلف اللهجة بحسب نوع المعاملة العربية لهم حيث يقيمون، لكن المضمون يبقى واحداً.
وقد يمكن الرد والقول إن هناك فعلاً أزمة مالية في منظمة التحرير الفلسطينية، وإن القيادة بالتالي لا تلام على موقفها على الرغم من مشاعر المواطنين العاديين المحقة، وهذا اعتراض وجيه، ومن الضروري أن نتفحصه، وأمامنا شهادة من داخل "المطبخ" السياسي في تونس، ومن داخل خلية "مطبخ" أوسلو بالذات، هو ممدوح نوفل، بعضو قيادة حزب "فدا" المتحالف مع حركة "فتح". يتحدث ممدوح نوفل عن الأزمة المالية في المنظمة وعما إذا كانت حقيقية أم لا، فيقول:[22]
"بعض أعضاء القيادة الفلسطينية، ومعظم أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح وعلى رأسهم أبو مازن، لم يكونوا مقتنعين بإفلاس المنظمة بهذه السرعة، وكان الجميع غير راض عن الطريقة التي تدار بها الأمور المالية... الكل كان يتذمر... وبلغ التذمر ذروته في عدد من الساحات... أبو عمار وحده لم يكن منزعجاً من انتشار أخبار كهذه... وكأنه كان يريد أن يوصل رسالة للأميركان... يقول لهم: لا اتفاق بدون دعم منظمة التحرير الفلسطينية... وذاك الموقف والسلوك كان يزيد من شكوك المقربين منه حول الادعاء بإفلاس المنظمة."
وثمة قضية أُخرى تحتاج إلى تفحص أيضاً هي قضية نسيان القيادة للاجئين الفلسطينيين في البلاد العربية، هل هي حقيقة أم لا؟ نقرأ في كتاب ممدوح نوفل نفسه ما يلي:
"دخلت الغرفة، كان أبو مازن خلف مكتبه شارد الذهن، وكان محسن إبراهيم يتجول في الغرفة... قال أبو مازن... البعض يتصرف وكأننا ذاهبون إلى حفلة عرس أو مهرجان، أنا ذاهب إلى واشنطن [للتوقيع] وأقسم لكم أنني أشعر منذ الآن بالقشعريرة، أنا ذاهب لأوقع على إعطاء إسرائيل أرضنا... أوضاعنا مهترئة ولا تتحمل صراعات... تركنا لأبو عمار كل شيء، أعطيناه المنظمة وحركة فتح. من الآن أقول لكم، إذا دخلت القيادة الفلسطينية إلى غزة فستنسى كل من يتبقى منها في الخارج، ناهيك عن الشعب المنسي منذ سنتين، أعان الله شعبنا على قيادته."
وقال محسن إبراهيم: "لا أريد منكم شيئاً سوى أن تنجحوا في بناء كيانكم وأن تحولوه إلى دولة، وأن لا تنسوا الغلابا اللاجئين الموجودين في لبنان وغير لبنان."[23]
إن الصورة تكاد تكون واحدة، على الرغم من اختلاف التعابير، بين القيادات وبين المواطنين. أمّا الاستنتاجات، فهي شبه متطابقة، وأهمها نسيان اللاجئين.
إن هذا الوضع يفرز، أول مرة، ظواهر خطرة أبرزها ما يلي:
أولاً: نشوء هذا الانقسام النفسي بين "الداخل" الفلسطيني و"الخارج" الفلسطيني، والذي هو في جوهره أول كسر لظاهرة الوحدة الوطنية التي نجحت منظمة التحرير في تكوينها.
ثانياً: استنكاف القيادة عن ممارسة مسؤولياتها القيادية، وتحولها بالتالي إلى قيادة للحكم الذاتي لا إلى قيادة للشعب الفلسطيني.
ثالثاً: غياب فكرة الشعب الفلسطيني الواحد، وبروز واقع التجمعات الفلسطينية، حيث هناك فلسطينيو لبنان، وفلسطينيو سورية، وفلسطينيو الأردن، وفلسطينيو غزة، وتحل مشكلة كل تجمع على حدة، وبمعزل عن المشكلات الأُخرى.
رابعاً: بروز فكرة التوطين، كظاهرة موضوعية، وبغض النظر عن قبول الفلسطينيين بها أو رفضهم لها، وبغض النظر عن قبول الحكومات العربية بها أو رفضها لها.
هل يكون هذا الشتات النفسي والسياسي إكمالاً للشتات الوطني والجغرافي؟
إن الصورة الآن تبدو على هذا الشكل، ويدعمها إحساس الفلسطينيين في الشتات بأن السلطة الفلسطينية المفاوضة عاجزة عن تغيير وجهة التطورات في أثناء المفاوضات المنتظرة.
يبقى سؤال عن المستقبل وعن المخرج، هل هناك إمكانات لسياسات من نوع آخر؟ هل هناك بدائل؟
البدائل تكون أحياناً موجودة لكنها تحتاج إلى الإرادة لتحويلها إلى فعل، وهناك آراء عملية مطروحة علانية بشأن البدائل الممكنة ومستلزماتها السياسية.
إن أول من تحدث عن هذه البدائل وطرحها علانية هو الراحل خالد الحسن (أبو السعيد)، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وكان ذلك بعد إعلان اتفاق أوسلو بأيام. لقد قال في إجابة عن سؤال ما العمل؟:
أولاً: إنشاء حزب جديد للعودة.
ثانياً: إنشاء جبهة ديمقراطية تضم كافة معارضي اتفاق أوسلو.
ثالثاً: شرح مضامين اتفاق أوسلو للشعب بموضوعية لتحقيق إمّا إسقاط الاتفاق ديمقراطياً، وإمّا الوصول إلى قدرة التأثير والسيطرة على منهج المفاوضات المقبلة (مفاوضات الحل النهائي).
رابعاً: (وهذا هو الأهم الآن) أن تعتبر المفاوضات المقبلة وكأنها مفاوضات جديدة بالكامل بالنسبة إلى "إعلان المبادئ" (اتفاق أوسلو)، متذرعين بالغموض الشديد في هذا الإعلان ونتائجه.[24]
وهناك رأي آخر مكمل بشأن البدائل يطرحه الباحث الفلسطيني إيليا زريق، فيقول إن ثمة عدداً من الخطوات التي يمكن اتباعها إذا أُريد للموقف الفلسطيني أن يتجنب الانهيار الشامل في موضوع اللاجئين:
أولاً: بناء جسور من التنسيق مع الدول العربية بهذا الشأن، وخصوصاً مع لبنان والأردن وسورية.
ثانياً: أن تقود القيادة نقاشاً صريحاً مع اللاجئين أنفسهم حيال التصورات المختلفة للحلول.
ثالثاً: بغض النظر عن التصور الذي سيتم اعتماده في نهاية المطاف، فإن على القيادة أن تضمن للاجئين الحصول على الجنسية الفلسطينية أنّى تكن أمكنة الإقامة.
رابعاً: ينبغي ألاّ يفرض على اللاجئين حل ليس في مصلحتهم... مع ضرورة حشدهم لمقاومة الحلول المفروضة من الخارج، وغير العادلة تاريخياً.[25]
إن الحلول غير العادلة تاريخياً تؤسس لانتفاضات وتوترات مقبلة، وهذا هو الوضع الذي يختمر الآن.
باريس 14/12/1995
[1] "قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي"، الطبعة الثانية، المجلد الأول 1947 - 1974 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1993)، ص 19.
[2] نص موزع من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على أعضاء القيادة، بدون تاريخ.
[3] "معاريف"، 21/10/1991، نقلاً عن "القدس العربي" (لندن).
[4] "الحياة" (لندن)، 18/10/1991.
[5] "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 199 - 202.
[6] المصدر نفسه، ص 207 - 213.
[7] "الحياة" (لندن)، 29/1/1992.
[8] مقتطفات أساسية من الكلمة في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 12، خريف 1992، ص 179.
[9] حوار مع الدكتور محمد الحلاج أجراه "مركز إعلام الوفد الفلسطيني في واشنطن"، وصدر في نشرة "الوفد الفلسطيني - أخبار"، 15/11/1992.
[10] خلاصة حوار مع الدكتور الياس صنبر، باريس، 10/12/1995.
[11] "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 16، خريف 1993، ص 176.
[12] مقابلة في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 16، خريف 1993، ص 82.
[13] مقابلة في "الحياة" (لندن)، 21/10/1993. نقلاً عن مجلة "الوسط"، فيصل جلول، لندن، 30/10/1995.
[14] نقلاً عن مجلة "الوسط"، فيصل جلول، لندن، 30/10/1995.
[15] مقابلة، "دافار"، 15/9/1993.
[16]المكتب الصحافي التابع للأمم المتحدة، نقلاً عن "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 21، شتاء 1995، ص 209.
[17] "القدس العربي" (لندن)، 13/9/1993.
[18] نص "وكالة الأنباء الفرنسية"، 4/5/1994.
[19] محمد علام، "الحياة"، القاهرة، 13/2/1996.
[20] وقائع الجلسات الثلاث مأخوذة من صحيفتي "الشرق الأوسط" و"الحياة" (لندن)، 8/3/1995؛ 7/7/1995؛ 14/9/1995.
[21] مقتطفات من مقابلات أجراها عبد السلام عقل: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 17، شتاء 1994، ص 170.
[22] ممدوح نوفل، "قصة السلام الفلسطيني الإسرائيلي بين تونس وأوسلو"، نسخة الكتاب قبل الطباعة، ص 111.
[23] المصدر نفسه، ص 213.
[24] "حول اتفاق غزة - أريحا أولاً، وثائق ودراسات"، تقديم وإشراف خالد الحسن (عمان: دار الشروق، 1995)، ص 4 - 47.
[25]إيليا زريق، "اللاجئون الفلسطينيون وحق العودة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 19، صيف 1994، ص 77.