تكاد هذه السيرة الذاتية تفصح، أيما إفصاح، عن قدرة أدبية لافتة لكنها مخبوءة. كأن التاريخ السياسي لفواز طرابلسي أهال على هذه القدرة أطناناً من الرمال فكتم إمكان انبثاقها وصيّرها دفينة غائرة. فالكاتب الذي تردد في بداياته الجامعية بين دراسة الرسم ودراسة الاقتصاد، اختار الاقتصاد وظل وجدانه مفعماً برحيق الفن وشهوة الإبداع. وسيرته هذه الموسومة بعنوان: "صورة الفتى بالأحمر" تكاد تنطق بما يريد إخفاءه؛ فهو أقل قليلاً من روائي وأكثر كثيراً من قاص. على أن كُتّاب السيرة، في هذه الأيام، هم في معظمهم إمّا روائيون جف إبداعهم ونضب معين التجديد فيهم، وإمّا مشاريع روائيين لم تكتمل لديهم، لأسباب شتى، الدراية والتجربة والحرفة. وأحسبُ أن فواز طرابلسي هو روائي ناقص، غوّرت إبداع الأحوال السياسي والتقلبات المتسارعة التي عاصرها وساهم في صنعها ثم عصفت به وبالبلاد والعباد معاً.
يقف فواز طرابلسي على أطلاق الأمكنة متذكراً شريط أيامه ومحطاته الحانية: مشغرة بلدته، وبرمانا مكان دراسته، وبيروت مسقطه وملاعب شبابه، ومانشستر جامعته، ثم ظفار واليمن وإثيوبيا ومصر ودمشق وباريس. وكالجاهلي والمعاصر يجول في الأماكن والذكريات والأشخاص متزوداً الكثير من الكلام والقليل من الحنين.
جده عيسى إسكندر المعلوف شيخ المؤرخين اللبنانيين. والمعالفة أصلهم من حوران. حتى أن والده عمل فترة في دمشق وأطلق على ابنه اسم فواز تيمناً بأمير عشيرة الرولى الضاربة في بادية الشام. وأهل مشغرة، والبقاع الغربي عامة، ييمّمون، في العادة، شطر دمشق ولا يهبطون بيروت إلاّ مؤخراً. وهو نفسه درس على نذير العظمة الدمشقي، وعلى حليم بركات من الكفرون. وكان من زملائه في المدرسة رياض نجيب الريس ويوسف العظمة وهما سوريان، ومن أصدقائه الأثيرين عاطف دانيال من اللاذقية وياسين الحافظ من دير الزور ووليد قزيها السوري نزيل القاهرة؛ فهل كان لهذا المناخ السوري ولهؤلاء جميعاً تأثير خفي في انتمائه السياسي اللاحق إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب ذو منشأ سوري؟
لا تكتمل هذه الرحلة الممتعة أبداً. وربما أراد صاحبها ألاّ تكتمل. فالنقصان يغري بالسعي، بينما الاكتمال سكون واسترخاء. ودون الاكتمال مكابدة لا يعرفها إلاّ من عارك الكلمات والعبارات لاشتيار الرحيق من الذاكرة المحجوبة بمئات من الستائر والحجب. ويتجلى هذا النقصان هنا في الطفولة. فالكاتب لا يعطي طفولته مداها من التفصيل، كأنه شب سريعاً، أو كأنه يريد أن يمر بها كالشهاب. فالإيجاز، فيهذه الحال، يضفي غموضاً على انسيابية السرد وجاذبية القص.
ومن علامات النقصان في هذه السيرة أيضاً غياب الحب. فالنساء كلهن، تقريباً، رفيقات وصديقات ومعارف. أمّا الحب المشبوب والخيبات الغرامية ولوعة المحبين فتبدو أنها أخلت مكانها للكلام السياسي وللمنطق المتمهل وللعقلانية الباردة. ويغيب البوح أيضاً عن صفحات هذه السيرة، لكأن صاحبها محافظ في مسلكه، ومقتصد في عواطفه، وشديد التقتير في الإفصاح والكشف. ولولا حرارة الأسلوب في السرد والتذكر لتسربت البرودة إلى أطراف هذه السيرة وإلى أضلاعها معاً.
المسكوت عنه
لم يكتب أحد، بحسب علمي، كتاباً متكاملاً يؤرخ فيه نشأة منظمة العمل الشيوعي في لبنان وتجربتها السياسية وانشطاراتها الكثيرة ثم انزواءها اللاحق. وهذا الكتاب محاولة للتعرف على المناخات الأولى التي حاقت بالوضع السياسي في لبنان عشية تأسيس هذه المنظمة. فنقرأ كيف صار فواز شيوعياً في الشعر وعروبيا في السياسة واشتراكياً في الاقتصاد ووجودياً في الفلسفة (ص 31)، وكيف اقترب من حركة القوميين العرب ثم لم يلبث أن انفكّ عنها، وكيف أسس مع كلوفيس مقصود وآخرين "رابطة الدراسات الاشتراكية"، وكيف انحلت هذه الرابطة واندثرت بسفر الأخير إلى الهند. لعل من حقي، في هذا الموقف الناقد، أن أشير إلى نوع من الإدانة الخفية لتجربة منظمة العمل الشيوعي التي كانت تجربة هلامية احتوت في ظلالها الكثير من الأفكار المتنافرة، وأخفت في داخلها نزعات وطموحات شخصية شتى، وهي، على أهميتها، لم تتطور كي تؤسس تياراً راسخاً يترك آثاره اللاحقة حتى على من تخلى عن هذه التجربة. ثمة انقلابات مذهلة في المواقع الفكرية حدثت للكثيرين ممن انتموا إلى هذه التجربة، وهي انقلابات غير مبررة البتة. ويورد فواز طرابلسي أسماء الكثيرين ممن انضموا إلى المنظمة، لكنه لا يذكر كيف انتهت مصائر هؤلاء الذين حملوا لواء التقدمية والتقدم والتفكير العلمي والعلمانية فإذا بهم، بعد سقوط تجربتهم وسطوع طموحاتهم الفردية، يلجأون إلى معازلهم القديمة. فالصديق سعود المولى الماوي، على سبيل المثال، عاد إلى أحضان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ووليد نويهض السوري القومي صار مسلماً سنياً مع استقلاله عن المذاهب، ومحمد عبد الحميد بيضون قال في أفياء حركة "أمل"، وجورج ناصيف عاد إلى عباءة الأورثوذكس، وحازم صاغية صديقنا الذي تتلمذ على ياسين الحافظ ثم تردد بين الناصرية والخمينية، صار المدافع الأول عن الليبرالية ضد "همجية" القومية العربية، والأسماء كثيرة والقائمة تطول جداً جداً.
أليس في هذه المصائر إدانة خفية لتجربة منظمة العمل الشيوعي؟ ولمزيد من الإيضاح أقول إن الكثيرين تركوا الحزب الشيوعي على سبيل المثال. لكنهم، إلاّ القليل جداً جداً، ظلوا، إلى حد بعيد، خارج طوائفهم ومذاهبهم وعاشوا كأفراد مستقلين عن هذه البنى المعوقة. وحتى عندما أراد هؤلاء الالتحاق بإحدى القوى السياسية اختاروا البعث أو الحزب التقدمي الاشتراكي مثلاً، وهما حزبان عَلمانيان في الأساس. والكثيرون، أيضاً، تركوا الحزب السوري القومي الاجتماعي لكنهم، إلاّ القليلين، ظلوا على مسافة بعيدة من طوائفهم واحتفظوا ببعض من العَلمانية في المسلك والقول. فما بالنا نجد في تجربة المنظمة أن الكثيرين ممن تركوها ارتدّوا بسرعة فلكية إلى مواقعهم [إقرأ: قواقعهم] الطائفية والمذهبية؟ إن هذا الأمر يتطلب تعليلاً ثاقباً يخرج الآن عن إطار هذه القراءة.
قصارى القول: إن فواز طرابلسي نفسه، بعدما انسحب من المنظمة، تجاهل، تجاهُل العارف، الكلام على أسباب انسحابه، ولم يُشِر إليه البتة. وقد كان عليه إمّا أن ينقد تجربة المنظمة من منظاره الجديد، وإمّا أن ينقد ذاته وتجربته معاً. لكنه لم يفعل، وهذا من أبواب المسكوت عنه، وفي ذلك ريبة لا شك فيها، وعسى المانع خيراً كما يقول المؤمنون.
إخفاء ما هو مكشوف
لا يصرح فواز طرابلسي بأسماء الكثيرين ممن أتت هذه السيرة إلى ذكرهم، علماً بأن لا ضير من التصريح بأسمائهم في هذا المقام مثلما لا خير من التلميح. ولا نكاد نعثر على أي حكمة في إخفاء اسم الفندق الذي امتلكه والده في بحمدون، مع أنه يكرر أكثر من مرة أن اسمه مطابق لاسم إحدى آلهات الأشوريين (ص 17). ليته أفصح فأوضح أن اسم الفندق هو "سميراميس". كذلك يتحدث عن "ابن خال الملك حسين الذي سوف يتولى لاحقاً رئاسة الوزارة في بلاده" (ص 36). فما ضرّه لو صرح به تحاشياً للالتباس، وذكره باسمه؟ أليس هو عبد الحميد شرف؟
يقول فواز طرابلسي في الصفحة 52 إن "سبعة بينهم امرأتان أسسوا [منظمة] لبنان الاشتراكي." مَن هم؟ هل من الجائز بعد هذه الأعوام المتأخرة أن نعمد إلى تجهيل الفاعل في معرض التأريخ لهذه المرحلة، علماً بأن لا ضرر ولا ضرار بالتصريح والإيضاح؟ ويقول في الصفحة 232: "مقاوم (...) يتقدم بثبات نحو رصيف مقهى الويمبي، يشهر مسدسه ويفرغ ما فيه من رصاص وسط مجموعة من جنود الاحتلال." والمعروف للجميع قاطبة أن هذه العملية من أشهر عمليات المقاومة في لبنان في إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، وبطلها هو خالد علوان. أما كان عليه أن يعطي هذا المقاوم حقه في أن تُنسب هذه العملية إليه؟ وعلى هذا المنوال يورد أسماء أشخاص كثيرين كالتالي: سمير ح. (ص 38)؛ مكي ع. (ص 41)؛ زميل سوري من أحفاد عبد القادر الجزائري (ص 43)؛ رفيقة كانت توقع باسم رجل في مجلة "الأحد" لرياض طه (ص 45). وكان الأجدر والأجدى أن يذكر أسماءهم الكاملة، فلعل في ذلك فائدة لمن يرغب في تتبع هذه التجربة بأشخاصها ومواقف أفرادها وملابساتها.
أغلاط
ثمة هنات هينات انتشرت في بعض صفحات هذا الكتاب. إن قليلاً من التدقيق كان من شأنه أن يكشف هذه الأغلاط ويقومها ويصححها. فالمصارعة الحرة هي غير المصارعة الرومانية (ص 14). ووليد قزيحا يجب كتابة اسمه كالتالي: "وليد قزيها" (ص 87). والرئيس السادات زار القدس لا تل أبيب (ص 190). والعفيف الأخضر، وهو صديق حميم لفواز طرابلسي، لم يكن ماركسياً – لينينياً ومعجباً بتروتسكي كما ورد في الصفحة 149، وإنما كان ماركسياً غير لينيني. ألم يصدر كتابه "التنظيم الثوري الحديث"[1] الذي يعارض فيه كتاب لينين "ما العمل"؟ كذلك لم يكن معجباً بتروتسكي البتة، فقد كتب مقالته المشهورة "كومونة كرونشطاط: الثورة الروسية الثالثة المجهولة"[2] ودان فيها تروتسكي ودوره في قمع عمال كرونشطاط الذين انتفضوا على الأوضاع حينذاك.
- · ·
بعيداً من هذه الملاحظات، فإن كتاب "صورة الفتى بالأحمر" كتاب مهم وممتع ومفيد في آن واحد. فهو مطالعة علمية ورصينة في أحوال لبنان الستينات والسبعينات، وتحليل للأوضاع السياسية والثقافية ولنمط الإنتاج اللبناني الذي كان سائداً قبل اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975. وقد حاول الكاتب أن يمزج التجربة الموضوعية بالوجدان الفردي بالتطلع إلى المستقبل في رؤية راقية وحاذقة، مستفيداً من التقلبات التي عصفت بصاحبها والتي عاشها، وعشناها نحن أيضاً، لكن في ظروف مختلفة.
[1] بيروت: دار الطليعة، 1974.
[2] مجلة "دراسات عربية"، آذار/ مارس 1973.