[.......]
يخضع روبنشتاين للتفسير الصهيوني للواقع في كل مجال يشتغل به - سواء أكان ذلك دراساته الأكاديمية أم نشاطاته السياسية. وهذا التفسير مقبول من تيار مهم في الصهيونية، ينتمي روبنشتاين إليه، وحظي في البلد، من دون وجه حق، بتسمية "اليسار" الصهيوني. وخففت مواقف هذا التيار طوال أعوام كثيرة حدة النقد الخارجي الموجه إلى إسرائيل وسياساتها، وفي الأساس ساهمت في إحلال الهدوء النفسي لدى أعضائه تجاه الأمور غير السارة في أحداث الماضي وفي الأفعال الحالية لدولة إسرائيل.
ومواقف هذا التيار هي فعلاً، وإلى حد كبير، الموضوع الرئيسي للانتقادات "ما بعد الصهيونية". وهذا ليس كراهية مجانية لليسار الصهيوني. إنه حوار بين أولئك الذين وجدوا أنفسهم في الماضي، وسيجدون أنفسهم في المستقبل، شركاء في النضالات التكتية من أجل السلام والعدالة الاجتماعية في دولة إسرائيل، لكن أيضاً مختلفين بشأن الرؤية السياسية والاجتماعية للمستقبل الإسرائيلي.
والنقد هو نتيجة شعور كثيرين من أولئك الملقبين بـ "ما بعد الصهيونيين" بأنهم تحرروا من القيود المزيفة للموقف الليبرالي - القومي أو الاشتراكي الديمقراطي، الذي جعل من الممكن، منذ سنة 1948، تجاهل الأفعال الفظيعة والمظالم اليومية التي نفذتها الدولة ومؤسساتها.
وهذا التحرر ليس تباهياً خلقياً وتظاهراً بالورع، ولا يتم باسم منظومة القيم الخلقية هذه أو تلك. إن هذا التحرر هو، قبل كل شيء، استجابة لواقع نزاع طويل، ولعدم استقرار اجتماعي، ولاغتراب إسرائيل عن العالم المحيط بها [....].
إن تحليل الأزمة الواقعة إسرائيل فيها، على الصعيد الأكاديمي، لم يكن، ولن يكون، في يوم من الأيام، منفصلاً عن الحل المنظور لهذه الأزمة [....].
لذلك فإن "ما بعد الصهيونيين" والصهيونيين [....] جميعهم يحللون الماضي والحاضر من خلال نظرتهم إلى العالم، وفي حالات كثيرة يكون النقاش الأكاديمي قائماً بشأن النظرة، لا بشأن العالم [....].
يكتفي "اليسار الصهيوني" بانتقاد إسرائيل ما بعد سنة 1967. لكن هذا النقد - سواء جرى التعبير عنه في النتاج الأكاديمي "الموضوعي"، أو في الحوار السياسي الإسرائيلي - موجه أيضاً لإيجاد فصل تام بين الفلسطيني واليهودي. ويخفي التطلع إلى الفصل المطلق أيضاً توقاً إلى الانفصال، لو كان ذلك ممكناً، عن المراكشي والشرقي.
واهتم هذا النقد، ولا يزال مهتماً، بتأثيرات الاحتلال الخلقية في نفسية الجنود الإسرائيليين الرقيقة، لكن لا بجروح الأطفال الفلسطينيين الذين أصيبوا برصاص هؤلاء الجنود. لذلك فإن الحل السياسي الذي يقترحه "اليسار" الصهيوني يحل أيضاً المشكلات النفسية لمن كان في الماضي منتمياً إلى جيش احتلال، لكنه لا يقدم جواباً على تطلعات من كانوا واقعين تحت احتلال هذا الجيش وسلطته.
والاهتمام الأكاديمي بالذات، لا الاهتمام السياسي المباشر، هو ما أتاح لمن أراد التعمق في النظر تحديد الصلة بين واقع إسرائيل ما قبل سنة 1967 وبين الاحتلال المفسد. واستخدام أدوات البحث المعترف بها، والاعتماد على مناقشات نظرية في موضوعات مصنفة قومية واستعمارية، هو بالذات ما أتاح الربط بين الواقع الاستعماري في بداية القرن وبين الواقع في نهايته.
لم يكن في وسع من أراد أن يبقى صهيونياً ومحايداً في الوقت نفسه، مثل روبنشتاين، أن يختار سوى واحدة من مقاربتين: إمّا الامتناع من البحث في أمور مجتمعه، وإمّا أن يكون بوقاً للرواية التاريخية القومية السائدة في هذا المجتمع.
[.......]
وهذا ينطبق على كل من يعمل في إنتاج المعرفة والثقافة في هذا البلد. وإذا ما تحرر المواطنون المشتغلون بأمور الثقافة والتعليم من وظيفة المثقف، والمعلم، والفنان، والكاتب المجنَّد، فإنهم سيرون الواقع من خلال وجهات نظر مختلفة عن تلك التي تربوا عليها أو خضعوا لها في الماضي.
لذلك، وخلافاً لما يقوله روبنشتاين، فإن بِني موريس لا يصدمنا بحقائق جديدة، وإنما يصدمنا لأنه يكسر مؤامرة الصمت تجاه الأعمال الإجرامية الإسرائيلية في سنة 1948.
لقد كان الطرد "حقيقة" معروفة للجميع، وأيضاً لأمنون روبنشتاين. ففي نهاية المطاف، أزال الييشوف اليهودي المجتمع الفلسطيني، ولم يُبِدْه. وما زال اليمين والوسط إلى الآن يبرران هذا العمل، ولا يخلّف لديهما إحساساً بعدم الارتياح.
أمّا اليسار الصهيوني فيسجَّل له أنه شعر بعدم ارتياح شديد، إلى درجة أنه قرر طمس وتجاهل هذا العمل الذي كان نصيب أفراده من فعله أكبر من نصيب الذين كانوا منتمين إلى اليمين. ولذا فإن الاهتمام "ما بعد الصهيوني" بسنة 1948 يتجاوز النقاش الخلقي؛ إنه مجهود لتقديم تفسير أكاديمي، لا سياسي فقط، للنضال الفلسطيني المتواصل ضد دولة إسرائيل.
هذه هي حقيقة الأمر، مثلما أن سياسة الاستيعاب في الخمسينات هي التفسير الأكاديمي للوضع المزري ليهود شمال إفريقيا في البلد، ومثلما أن القانون والقضاء الإسرائيليين هما التفسير للإحساس بالاضطهاد لدى الفلسطينيين في دولة إسرائيل. لا يكفي الإتيان إلى ذكر هذه المظالم، كما يفعل روبنشتاين في مقاله، وإنما من المهم البحث في مصدرها.
يثير روبنشتاين، انسجاماً مع إخلاصه للتفسيرات الصهيونية المقبولة، سلسلة من الادعاءات التي تفتقر إلى أساس منطقي. فهو، مثلاً، يشبّه قانون العودة بقوانين إعادة التوطين في أمكنة أُخرى. ويذهلني أن يخطر في بال من هو، في نظري، قانوني لامع أن القراء لا يدركون أن الهدف من قانون العودة الإسرائيلي، خلافاً لقوانين إعادة التوطين في أمكنة أُخرى، هو إقامة تمييز ضد سكان محليين موجودين سُلب منهم حقهم الطبيعي في المواطنة باسم قانون العودة.
كما أن أي قانون إعادة توطين في أي مكان آخر في العالم لا يضمن سلفاً للعائدين حقوقاً تمنحهم أفضلية على مواطني الدولة القانونيين.
[.......]
وباسم تلك الرواية التاريخية [الصهيونية] يعالج روبنشتاين مسألة حجم الطرد (كذا!) في سنة 1948، ويقول إن تحليل الصهيونية بصفتها استعماراً هو صنيع أكاديميين مبتدئين. أمة فلسطينية بأكملها تحولت إلى لاجئين وتطالب لا بإقامة دولة فحسب، بل أيضاً بالعودة إلى وطنها (اليهود أرادوا أن يفعلوا ذلك بعد ألفي عام، والفلسطينيون يطالبون بذلك قبل مرور خمسين عاماً). ولو لم يأت اليهود إلى هنا لما أصبح الفلسطينيون لاجئين. ولم يسع أحد، باستثناء اليهود العائدين، لاقتلاعهم، أو طالب لنفسه بوطنهم. وهذا هو الموضوع، وليس شهادة هذا أو ذاك من قادة السرايا في البلماح.
بالنسبة إلى استخدام المنظور الاستعماري الذي يشهد، بحسب رأي روبنشتاين، على فجاجة دراستي لأنها تنظر من خلال مصطلحات الحاضر إلى حقبة ماضية - هنا مربط الفرس. إن الاستعماريين من تلك الحقبة، سواء أكانوا يهوداً أم مسيحيين، لم يشعروا بضيق خلقي، ولم يُخضعوا أفعالهم لمتطلبات أية قيم إنسانية. وكان ورثتهم في آسيا وإفريقيا هم من وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاعتراف بضحايا الاستعمار.
هناك استعماريون انسحبوا وطردوا؛ وهناك استعماريون أبادوا سكان البلاد التي استعمروها؛ وهناك أمكنة سعت فيها ذريتهم، باسم الحاضر لا باسم الماضي، للتصالح مع ذرية ضحاياهم.
وأستغرب أن يتردد مفهوم غيبي [غريزة البقاء] على لسان [روبنشتاين] [....]. ولماذا يكون هذا المفهوم محظوراً على النقد، كما لو أننا نتحدث عن شأن مقدس؟ إن غريزة البقاء هذه أنقذت يهوداً وطردت عرباً، وطّنت مستوطنين وقتلت أطفالاً فلسطينيين.
إذا كان محظوراً علينا انتقاد غريزة البقاء هذه ومظالمها، فلن نكون مختلفين عن أسوأ من في الشعوب، الذين برروا باسم غريزة البقاء مجازر رهيبة.
إن هذا هو نقد جديد، أكاديمي وعام، ولا علاقة له بموسكو أو بمنظمة التحرير الفلسطينية، كما يدعي روبنشتاين؛ إنه جزء مما يحدث هنا، والآن.