[.......]
"ما بعد الصهيونية" اسم مشترك لعدد من المقاربات الجديدة، المنتشرة مؤخراً بين مجموعة من المؤرخين الملقبين بالجدد ومن علماء الاجتماع الملقبين بالانتقاديين. وتتميز هذه المجموعة بنظرة ذاتية تجديدية وانقلابية، وباستعداد لشجب كل مبدأ من مبادئ الصهيونية. وقسم فقط من هؤلاء الكتّاب هو ماركسي أو ماركسي جديد، لكن معظمهم، إن لم يكن كلهم، من أنصار النزعة المسماة ما بعد الحداثة: لا يوجد تاريخ موضوعي يسعى الباحث لمعرفته، حتى لو لم يتوصل إليه دائماً، وإنما هناك سلسلة من الروايات التاريخية (narratives) تعبر عن مجموعات متنوعة لم يأبه التاريخ الرسمي لرؤيتها للأحداث. وينبغي للمؤرخ المعاصر أن ينتبه لكل هذه الروايات وألاّ يكتفي بالشهادات والوثائق، لأنه يوجد دائماً شك في أن هذه قررتها النخب بصورة منحازة وأملاها موقع هذه النخب الاجتماعي.
إضافة إلى ذلك، فإن المقاربة الـ "ما بعد صهيونية" ليست موحدة. قسم من النقد مؤسس على نجاح التجربة، وخلاصة ما يقوله هي: إن اليوم الذي ستكون فيه أغلبية الشعب اليهودي قاطنة في إسرائيل اقترب، وبما أن الجماعات اليهودية لا تعيش اليوم حالة ضائقة شديدة، وبما أن كل من أراد أن يهاجر إلى إسرائيل [....] فعل ذلك، أو في وسعه أن يفعل ذلك خلال فترة قصيرة، ففي الإمكان استكمال عملية التطبيع: تحويل إسرائيل إلى دولة لا تتسم بفرادة يهودية؛ أي أن تكف إسرائيل عن أن تكون دولة يهودية وتصبح دولة اعتيادية، دولة "كل مواطنيها" فحسب، ولا يعود لها أي صلة خاصة ورسمية بيهود الشتات. وترى هذه المقاربة أن قانون العودة مضى زمانه، ولا ضرورة عملية أو فكرية له، وأنه يعكر الجوّ لكونه قانوناً تمييزياً ومجحفاً بالحقوق المتساوية لعرب إسرائيل (أو، بالنسبة إلى مؤيدي "حق العودة"، بحقوق اللاجئين الفلسطينيين).
مع ذلك، لا ينكر أصحاب هذه المقاربة شرعية القومية اليهودية، التي أدت إلى إقامة الدولة. لكنهم يطالبون بإنهاء الرابطة النفسية والعائلية التي تربط بين يهود إسرائيل والجماعات اليهودية في الخارج، وجعلها شبيهة بالروابط القائمة في دول الهجرة الأُخرى - مثل ارتباط الأميركيين - الإيرلنديين بإيرلندا. وباختصار: الادعاء هو أن الصهيونية نجحت في مشروعها إلى حد أنه لم يعد لها لزوم. لكن لا يوجد هنا لائحة اتهام بأن ولادتها كانت لاخلقية، ولا توجد محاولة لإنكار عدالة طموحاتها ونضالاتها بمفعول رجعي.
في الإمكان، طبعاً، مهاجمة الأسس التي يقوم هذا الادعاء عليها. عندما لا يعود هناك يهود يعانون ضائقة [الاضطهاد]، لا يعود هناك حقاً "فائدة" من قانون العودة، لكنه أيضاً لن يسبب "ضرراً" لمبدأ المساواة.
وثمة في دول، مثل اليونان وأرمينيا، قوانين لإعادة التوطين، وفي دستور الجمهورية الاتحادية الألمانية، من دون أن يعترض أحد عليها أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان [....].
لكن قانون العودة هو مجرد مثال واحد لمشكلات "ما بعد الصهيونية". إن نموذج المجتمع الذي لا يقوم على تماسك حول فكرة مركزية مرتبطة بثقافة معينة وبتقاليد تكونت طوال أعوام كثيرة، هو مجتمع لا وجود له تقريباً على أرض الواقع؛ والنموذج الأميركي، الذي يتبناه إسرائيليون كثيرون، ليس بسيطاً كما يُصوَّر أحياناً. وبالتأكيد ليس هناك فرصة، ولا يوجد أي معنى، لتطبيق نموذج مبسط كهذا في منطقة تتصادم فيها ديانتان توحيديتان وحركتان قوميتان بقوة كبيرة [....].
وثمة صعوبة أُخرى تتصل بالقول إنه لم يعد هناك ضرورة لإسرائيل كملجأ من كراهية اليهود. بالنسبة إلى "ما بعد الصهيونيين"، ليس هناك لاسامية: في عالمهم القائم على المساواة لا وجود لشيء كهذا [....] لكن فقط من لا يعرف، أو لا يريد أن يعرف، التاريخ المذهل لهذه الظاهرة [....] يستطيع أن يلغي إمكان انبعاث هذا الوحش القديم، التوأم السلبي لقوة الوجود اليهودية، من رماده [....].
لكن الخطأ أعم من ذلك، وهو يشمل تجاهل غريزة الوجود القومي اليهودي، أيضاً بمعزل عن الإطار الديني [....] إن "ما بعد الصهيونيين" لا يقدرون تقديراً صحيحاً القوة الداخلية، الأصيلة، لغريزة الوجود اليهودي، وللروابط التي تشد اليهود إلى إسرائيل.
ثمة تيار آخر في "ما بعد الصهيونية"، لا ينكر هو أيضاً شرعية الصهيونية، لكنه يأخذ في الاعتبار أعمال الظلم تجاه العرب، وأيضاً أمر إخفائها. والمقصود هنا أساساً كتابات بِني موريس عن طرد السكان العرب ومحو قراهم من الوجود، المخالفة لما يرد في التاريخ الرسمي لإسرائيل. ومع الكشف عن الوثائق المحفوظة في أرشيف الدولة بعد مرور 30 عاماً على حفظها، ازداد الميل إلى رؤية الروايات الرسمية عن حرب 1948 في ضوء جديد، وامتد إلى الاتصالات الأولى بالدول العربية ومصادرات الأراضي في أعوام ما بعد قيام الدولة.
بكلمات أُخرى: أمامنا محاولة لإعادة تقويم أحداث الماضي على أساس حقائق جديدة وتفسيرات حديثة من النوع التنقيحي المألوف [....].
فيما يختص بهذه المحاولة في حد ذاتها وبأهميتها، لا أختلف مع أحد. فإسرائيل قوية بما فيه الكفاية لتسمح لنفسها بتفحص الماضي القريب، حتى لو أدى ذلك إلى كشف حقائق قاسية، وحتى لو لم يكن هناك مؤشر إلى وجود عملية من هذا النوع في الجانب العربي [....] وفي إسرائيل لا يحتاج المرء إلى شجاعة عامة كي يفعل ذلك. بل العكس هو الصحيح. ففي حقبة تحطم الأساطير، يحتاج المرء إلى شجاعة كي يجاهر بأنه كان هناك مستنقعات في السهل؛ بأن اليهود عادوا إلى أرض فقيرة وقليلة السكان؛ بأنه حدثت أعمال قتل ومجازر ضد اليهود، وأن الييشوف وقف فعلاً في حرب الاستقلال وحيداً في المعركة، مفتقراً إلى أسلحة جديرة بهذه التسمية في وجه جيوش عربية غازية، منضبطة ومجهزة جيداً؛ بأن إسرائيل قبلت قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وأن العرب رفضوه وغزوا البلد من أجل تصفية الييشوف اليهودي - وهذا هو السبب في نشوء الضائقة الصعبة والمؤلمة التي يعانيها الفلسطينيون.
لكنني لا أستطيع معارضة إعادة تفحص الماضي. فمن الواضح لكل من يتمتع بإحساس مرهف، عندما يتفحص الأمور، أنه كان هناك جانب آخر؛ أنه كان هناك معاناة فلسطينية؛ أنه كان هناك أيضاً، إلى جانب المغادرة الطوعية، طرد للسكان العرب في الحرب، وأسوأ من هذا كله - أيضاً بعد أن انتهت الحرب بالنصر؛ أن الدولة، وبصورة خاصة في الخمسينات؛ تصرفت بحماقة وبصورة منافية للعدل [....] بفرضها حكماً عسكرياً في المناطق العربية، وبمصادرتها الأراضي بصورة جارفة، وبالتسبب بتمييز ضد العرب.
إنما هناك خلافات في الرأي بالنسبة إلى حجم كل ذلك. هناك خلافات في الرأي بشأن الصورة العامة للطرد، تشمل الوقائع وتفسيرها [....]. والادعاء أن إسرائيل كانت، استناداً إلى الوثائق، أقوى من الجيوش العربية المدرعة الغازية في اتجاه القلب، يتجاهل أن الأمر لم يكن معروفاً للمدافعين عن نِغْبا، وللذين شقوا الطريق إلى القدس، ولسكان دغانيا الذين أوقفوا الدبابات السورية في غرف بيوتهم. (منهج البحث لدى "ما بعد الصهيونيين" يختلف عندما يتعلق الأمر بهجوم إسرائيلي. من ناحيتهم، لا يوجد تدقيق نسبي - شخصي في الرواية الإسرائيلية، التي بحسبها كانت حرب 1948 حرب قلة ضد كثرة، حرب ضعفاء ضد أقوياء، والثمن الذي دُفع نتيجتها كان باهظاً جداً. هنا، فجأة، لا توجد رواية تاريخية - وإنما وثائق ومعطيات جافة فقط). لكن، كما ذكرنا، لا يوجد شك في أن الجميع، في الجانب الإسرائيلي، لم يكونوا أبراراً، وأنه حدثت أعمال جور وظلم كثيرة ومؤلمة في حرب التحرير وبعدها.
إن الجدل مع "ما بعد الصهيونيين" لا يدور فيما يتعلق بهذا الأمر. كثيرون بيننا عالجوا هذه الموضوعات وطالبوا بتصحيح الظلم قبل أن يوجه "ما بعد الصهيونيين" أصابع الاتهام [....].
إن الجدل يدور بشأن التفسيرات المرافقة لهذه الكشوفات، والتي بحسبها تبرهن هذه الأفعال أن إسرائيل ولدت بخطيئة، وأن الصهيونية - تبعاً لذلك - فشلت دائماً وحان وقت التخلي عنها [....].
غير أن الرواية التاريخية "ما بعد الصهيونية" تشكو عيباً إضافياً. إذ إنه تحت ستار تبني الرواية الفلسطينية يُحذف كل ما هو ليس مريحاً للفلسطينيين: لا تُذكر اعتداءات الفلسطينيين على اليهود - بما في ذلك مجازر مثل تلك التي نفذت سنة 1929 ضد سكان الخليل المسالمين العزل من السلاح؛ ولا يُذكر تعاون الحاج أمين الحسيني الإجرامي مع هتلر، ولا نداءات التحريض العنصرية من إذاعة برلين التي دعت إلى قتل يهود أرض إسرائيل وإبادتهم، ولا المقاطعة العربية المطلقة لأية مفاوضات مع إسرائيل.
لا توجد حقائق غير مريحة عندما يتعلق الأمر برواية تاريخية [....]. وهنا نصل إلى النوع الثالث من النقد، الذي يتحول من "ما بعد صهيوني" إلى معاد للصهيونية: تحامل لا يتورع عن استخدام أي تكتيك من أجل إظهار الصهيونية وإسرائيل كأنهما ملطَّختان منذ البداية. وهذا ما يتباهى به المحاضرون الشبان - "الجدد والانتقاديون". إنهم غير معنيين بكشف مظالم الماضي وتصحيحها في الحاضر، وإنما بهجوم جبهوي على جوهر وحق وجود وطن قومي للشعب اليهودي بالذات. وما نتحدث عنه ليس تاريخاً جديداً، وإنما دعاية قديمة. وفي هذا الشأن ليس هناك شهادة أصدق من مقال إيلان بابِه "نقد ما بعد صهيوني لإسرائيل والفلسطينيين" [....].
[.......]
وُلدت الصهيونية كانبجاس صغير جداً وسط تيارات تاريخية عارمة. ولا يفصل بين وعد بلفور وثورة تشرين الأول/أكتوبر سوى أيام معدودة. الثورة فشلت. الصهيونية نجحت. والآن، في ذروة نجاحها، ثمة خطر كبير يتربص بها. وفي هذا الصراع بشأن روح الصهيونية يناوش "ما بعد الصهيونيين" والمعادون للصهيونية مؤخرة المعسكر [معسكر اليسار] الذي ابتدأ بإخراجنا من الحرب إلى السلام؛ السلام الذي سيمثل الانتصار النهائي لتلك الحركة الصغيرة التي بدأت في بازل قبل 100 عام.