ذُكر في ثلاثة قوانين أساسية على الأقل (القانون الأساسي الخاص بالكنيست؛ القانون الأساسي الخاص بحرية العمل؛ القانون الأساسي الخاص بكرامة الإنسان وحريته) أن إسرائيل هي "دولة يهودية وديمقراطية". لكن التعريف الذي تبنته الدولة نفسها فيما يتعلق بصيغة "يهوديتها" يجعل من هذين المفهومين، الديمقراطية واليهودية، نقيضين. ونتيجة ذلك فإن جزءاً مهماً من التطبيقات العملية في ممارسة دولة إسرائيل لهما لا ينسجم مع أي تصور لديمقراطية غربية - ليبرالية ومستنيرة.
لقد ورثت إسرائيل من الحكم العثماني ومن الحكم الاستعماري البريطاني نظام المِلَل، أي استقلال الطوائف "الدينية - الإثنية" عن الدولة، في قوانين الأحوال الشخصية والقضاء الشرعي. وقد قررت الدولة الإسرائيلية، قبل تأسيسها ككيان ذي سيادة، الاستمرار في تبني التنظيم الملّي والمؤسسات المِلِّية، وبذلك أنشأت مواطنة مِلِّية. وبالتالي أُخضع المواطنون لنظامين قانونيين وقضائيين، لا يقتصر أمرهما على أنهما منفصلان، وإنما أيضاً يعملان وفقاً لمبادئ مختلفة، بل حتى متناقضة: الأول علماني، "غربي" وإنساني؛ الثاني ديني - بدائي، يُدار - فيما يتعلق باليهود - على وجه العموم، وفقاً للتفسير الأورثوذكسي للشريعة الدينية. كذلك أُرغمت الأقليات، التي عُرفت سلفاً كأقليات دينية، على إدارة شؤونها "المستقلة ذاتياً" بحسب هذا النظام المزدوج. وقد تنازل الكنيست سلفاً عن مجالات تشريع رئيسية، واعترف بنظام مواز قانوني وقضائي يقع خارج نطاق سيطرته. وعملياً تعهدت الدولة بالتعامل مع قوانين الشريعة الدينية، اليهودية والإسلامية، في مجال الأحوال الشخصية كأنها قوانينها هي.
وأيضاً في مجالات تشريع أُخرى، مثل قانون المناسبات الرسمية وأيام العطل، والقانون الأساسي الخاص بحرية العمل وما شابه ذلك، أُدخلت في القوانين عناصر دينية - يهودية. في مقابل ذلك، كان قانونا العودة والجنسية، اللذان كانا أشبه بقوانين الهجرة وهدفا إلى إيجاد نوع من "تمييز تصحيحي" لمصلحة اليهود في العالم بعد "الكارثة" [التي حلت باليهود على يد النازيين]، ليبراليين نسبياً، مع أنه يجب أن نتحفظ تجاه هذا الوصف، لأن هذين القانونين هما أيضاً قانونا تمييز ضد الفلسطينيين الذين هربوا، أو أُرغموا على الهرب، من الأراضي التي وقعت تحت سيطرة الدولة، وضد أولئك الذين بقوا داخلها ومُنعوا في معظمهم من لمّ شمل عائلاتهم.
[.......]
ثمة قانون آخر مكمل لقانوني العودة والجنسية هو قانون مكانة الهستدروت الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية، الذي أتاح منح منافع خاصة فقط لمواطني الدولة اليهود. كما هناك ترتيب قانوني آخر مخفي في قانون الخدمة الأمنية، استكمل خلال أعوام كثيرة بسلسلة قوانين خاصة بمنافع اجتماعية حُصرت الاستفادة منها بـ "المسرَّحين من الخدمة العسكرية" وعائلاتهم [....]، والقصد منه التفرقة بين المواطنين اليهود والمواطنين العرب. وهناك أيضاً الاتفاق بين الصندوق القومي اليهودي (هكيرن هكييمت ليسرائيل) وبين إدارة أراضي إسرائيل، الذي يمنع تأجير أراضي الدولة، البالغة مساحتها 93 في المئة من الأراضي الواقعة داخل "الخط الأخضر"، لغير اليهود.
يجب أن نضيف إلى ذلك مهمة المحاكم ومحكمة العدل العليا. لقد بذلت هذه المحاكم في الواقع مجهوداً كبيراً، وخصوصاً في الأعوام الأخيرة، لتأسيس دولة "قانون" مستنيرة وعصرية، لكن كل ذلك في إطار الحدود اليهودية للدولة. وهكذا، فإن المحاكم كانت في الخمسينات والستينات وسيلة من الوسائل المستخدمة لسلب المواطنين العرب أراضيهم ولم تقدم أية مساعدة للمتضررين من الحكم العسكري السيئ الذكر. وعقب حرب الأيام الستة، والاستمرار في احتلال [الضفة الغربية وقطاع غزة] بادرت محكمة العدل العليا إلى توسيع نطاق صلاحياتها لتطول أفعال الحكم الإسرائيلي في المناطق [المحتلة]، لكن في معظم القضايا التي أحيلت عليها، والتي ادعى الحكم أن الأمر يتعلق بـ "أمن الدولة"، مالت محكمة العدل العليا إلى قبول هذا الادعاء من دون تمحيص، ومن دون محاولة لتعريف هذا المفهوم ومضمونه. وهكذا أصبح كل أمر قابلاً للنظر فيه قضائياً، باستثناء ما حددت الدولة أنه يقع ضمن نطاق الأمن.
ولعل المثال الأبرز لذلك هو الخرق الفاضح للقانون الدولي الذي ساندته محكمة العدل العليا بصورة منهجية. فالقانون الدولي لا يسمح لقوة محتلة بأن تدخل تغييرات جوهرية في وضع المناطق المحتلة، إلاّ لأسباب أمنية. وبحسب الوضع القائم، فإن جميع المستعمرات التي أقيمت في المنطقة المحتلة إنما أقيمت من وجهة نظر محكمة العدل العليا لأغراض أمنية. وهذا، في الواقع، توسيع غريب وشائك جداً لهذا المفهوم. وينطبق ذلك على الطرد الفردي والجماعي والإذن الذي منحته محكمة العدل العليا في استخدام التعذيب [لإجبار المعتقلين الفلسطينيين على الاعتراف].
كل هذا ونحن ما زلنا في المستوى الأرسخ من المأسسة - الذي يمكن الإشارة إليه بالمستوى الدستوري - من دون أن نأخذ في الاعتبار الثقافة السياسية، التي يوجد فيها عدد كبير من الثوابت التي لا تنسجم مع ما يُعتقد بصورة عامة أنه أسس الديمقراطية. فعلى سبيل المثال، لا يُعتبر أمراً شرعياً إقامة ائتلاف حكومي تدخل فيه أحزاب يُنظر إليها أنها "عربية"، أو سن قوانين اعتماداً على "أصوات غير يهودية." ومن هذه الناحية، فإن المبدأ الأساسي المتمثل في تساوي "أصوات" الناخبين يجري خرقه خرقاً فظاً.
ويجب الانتباه إلى ظاهرة مثيرة جداً للاهتمام جرى التلميح إليها، ولا إمكان من دونها لفهم ما يجري في الميدان الاجتماعي - السياسي الإسرائيلي. وهذه الظاهرة هي كثرة الحدود السياسية والاجتماعية للدولة الإسرائيلية. وتتيح هذه الكثرة، وإمكان رسم حدود متعددة في سياقات متنوعة، إضفاء "مظهر ديمقراطي" على النظام الإسرائيلي، ومَنْح النظام والدولة شرعية. فبالإضافة إلى الحدود الفرعية، يمكن ملاحظة أربعة حدود رئيسية، تشتمل على مجموعات سكانية بينها تطابق جزئي:
(أ) حد المواطنة اليهودية: يشتمل هذا الحدّ على جميع المواطنين اليهود في الدولة. والاعتقاد الشائع هو أن إسرائيل هي، في إطار هذا الحد، دولة ديمقراطية "كاملة" و"مستنيرة". لكنْ في ضوء المزج القانوني والأيديولوجي بين الدين والدولة، فإن الأجزاء غير المتدينة من المجموعة السكانية [اليهودية]، التي تشكل الأغلبية داخل هذا الحد، تخضع أيضاً لأنظمة قانونية وقضائية لا تقوم على فرضيات أساسية ديمقراطية. وبالتالي، فإنه حتى المجموعة السكانية المركزية في الدولة الإسرائيلية لا تتمتع بكامل الحقوق الديمقراطية.
(ب) حد المواطنة الإسرائيلية: يشتمل هذا الحد على اليهود والعرب (أو الفلسطينيين) في إسرائيل. والميل هنا هو في اتجاه منح عرب إسرائيل وبقية الأقليات حقوق مواطنة مساوية لتلك التي يتمتع اليهود بها - باستثناء الحقوق المذكورة أعلاه - لكنْ على أساس فردي لا جماعي. وهكذا، على سبيل المثال، يُعتبر أمراً شرعياً منح استقلال ذاتي في التعليم لليهود الحريديم، وللدينيين القوميين، وربما لليهود العلمانيين، لكن لا للعرب.
(ج) الحد الإثني: يشتمل على كل من هو معرَّف بأنه ينتمي إلى "الشعب اليهودي"، بشتاته ومنفييه. والدولة بالكمون، ومع تقييدات قليلة، هي ملك لكل من هو معرَّف بأنه يهودي بحكم كونه كذلك.
(د) حدود السيطرة الإسرائيلية: إن السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة يعيشون أيضاً حالياً، بعد تأسيس السلطة الوطنية التي تتمتع باستقلال ذاتي، في نطاق القوة والنظام الاقتصادي التابعين للدولة الإسرائيلية. وما دام التوصل إلى حل دائم لم يتم، وما دامت دولة فلسطينية ذات سيادة لم تقم، فإن هذا الوضع لن يتغير من حيث الجوهر. لكنْ حتى لو أقيمت دولة فلسطينية، فمن الصعب جداً تخيل كيف يمكن الفصل بين الكيانين المتداخلين من ناحية جغرافية - سياسية، واللذين سيتسمان بعدم تناظر ضخم من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية والثروة المصرفية. وثمة حالياً، بعد 29 عاماً من السيطرة المباشرة والعنيفة على السكان الفلسطينيين، نوع من السيطرة المختلطة بين السلطة الفلسطينية والسلطة الإسرائيلية. وتستمر إسرائيل في ممارسة هذه السيطرة بوسائل عسكرية وشرطية واقتصادية واستيطانية. وتشكل المستعمرات والحماية العسكرية الممنوحة لها توسعاً (expansion) مباشراً للدولة الإسرائيلية. وفي أية حال، لا مجال حالياً لاعتبار المناطق - لا المنطقة جـ ولا المنطقة ب، ولا حتى المنطقة أ - خارج حدود سيطرة القوة الإسرائيلية والاقتصاد الإسرائيلي، مع أن مستوى هذه السيطرة انخفض، أو نُقل إلى متعهد فرعي. والوضعية ليست وضعية استعمارية تقليدية، وإنما هي بمثابة استعمار داخلي، أيضاً بسبب الوضع الأساسي لكلا الطرفين؛ إذ لا يوجد لأي منهما وطن آخر.
ظاهرياً، يبدو الأمر كأننا نتحدث عن ثلاثة موضوعات منفصلة ومتنوعة: الأول، مصادرة جزء من التشريع والقضاء ونقله من نطاق صلاحية الدولة الشاملة إلى النطاق الخاص الديني والقائم على الشريعة اليهودية، وذلك حتى وفقاً لنظرة وتفسير خاصين بتيار واحد فقط من التيارات الدينية اليهودية [التيار الأورثوذكسي]. وبذلك تتيح الدولة [لهذا التيار] أن يحدد هويتها الجماعية ومعايير الأهلية للانتماء إليها وفقاً لمعايير غير مدنية. ومن هذه الناحية، فإن الدولة ليست حتى يهودية، وإنما هي يهودية أورثوذكسية. إن نقل هذه الصلاحية يحول إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية [خاضعة لحكم رجال الدين] جزئياً، لا تنسجم مع أي تعريف للديمقراطية. ويفرض هذا النظام قيوداً شديدة على المواطنين العلمانيين، أو المواطنين المنتمين إلى تيارات دينية أُخرى.
الموضوع الثاني هو التمييز الراسخ قانونياً ضد الأقليات غير اليهودية في الدولة. والموضوع الثالث هو فرض نظام احتلال مستمر منذ أكثر من جيل على أكثر من مليوني إنسان، مع توسيع حدود الدولة إلى ما هو أبعد من حقل صلاحيتها الشرعية؛ أي إدخال مناطق وسكانها في نطاق قوتها ونظامها الاقتصادي، كاقتصاد فرعي، مع تشجيع كبح تطوره. ويوجد داخل حدود السيطرة والحدود الاقتصادية للدولة سكان لا يتمتعون حتى بالحقوق الممنوحة للسكان الموجودين ضمن حدود المواطنة. وهذا بالضبط هو نموذج "الديمقراطية" الأثينية [نسبة إلى مدينة أثينا] التي كان المواطنون الذكور فيها يتمتعون بكل الحقوق، في حين كانت النسوة الأثينيات، والعبيد وعبيد العبيد، محرومين منها.
نظرياً وعملياً هذه الموضوعات الثلاثة المتنوعة مرتبطة بعضها ببعض، وتنبع من المصدر نفسه: تعريف إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية". هذا التعريف في حد ذاته، وبصورة مبدئية، ما كان لينطوي على أي إشكال لو كان مفهوم "اليهودية" مفهوماً قومياً - علمانياً، كما أراد ذلك قسم من الآباء المؤسسين. لكنْ كما ذكرنا أعلاه، فإن الدولة نفسها تعرِّف قوميتها وتحدد معايير الانتماء إليها بمفاهيم دينية.
لكن غياب التمييز بين الدين والقومية ليس هو أيضاً السبب الرئيسي؛ فهذا الغياب هو نتيجة الطابع الأساسي للدولة الإسرائيلية، التي لا يمكن فهمها إلاّ في سياقها التاريخي - الاجتماعي. فإسرائيل وُلدت كمجتمع وكدولة مهاجرين - مستوطنين، ولا تزال مجتمع هجرة واستيطان نشيطين إلى الآن. وأقصد بذلك ممارستين خاصتين بالدولة تكمل إحداهما الأُخرى: الأولى، كون إسرائيل ما نسميه عندنا "دولة مستوعبة للهجرة"، والثانية هي أن حدودها في حالة عملية تشكُّل، من ناحيتي تضييقها وتوسيعها. واليهود الإسرائيليون ينتمون بالتالي إلى فئة الأمم المكونة من "مهاجرين - مستوطنين" على غرار الأمم التي نشأت في أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، وفي إفريقيا الشمالية (الجزائر الفرنسية) وإفريقيا الجنوبية، وفي أستراليا، وفي نيوزيلندا.
ومع كل التغيرات الكبيرة، السريعة والمتكررة، التي يمر بها هذا المجتمع، فإن السمة الأساسية المميزة له كمجتمع مستوطنين - مضطر إلى ترسيخ وجوده في بقعة معينة من الأرض، وإلى العيش بحد السيف، وإلى "إخلاء مكان لنفسه" - بقيت ظاهرة ثابتة. فقد أظهر السكان العرب الذين توطن المهاجرون اليهود بينهم مقاومة عنيدة ومتواصلة، تقريباً منذ بداية العملية الاستيطانية اليهودية في هذه البقعة من الأرض. ومن هنا ينبع الصراع العربي - اليهودي. وقد نجحت الصهيونية، الحركة القومية التي كانت الدافع المحرك للهجرة والاستيطان اليهوديين، وتشكلت شخصيتها أيضاً بفعلهما، في الانفصال عن السياق الاستعماري العالمي، الذي وُلدت داخله. لقد شددت الصهيونية على الخصوصية المتمثلة في "المشكلة اليهودية"، في اللاسامية، في الاضطهادات ولاحقاً "الكارثة" [على يد النازية]، وطرحت نفسها بصفتها الحل الواقعي، الخلقي والوحيد للمشكلة. وهكذا نجحت في تصوير حركة الهجرة اليهودية أنها "عودة إلى صهيون" أدت إلى رفع ظلم استمر آلافاً من الأعوام، بمعزل عن حركات الهجرة الأوروبية إلى قارات أُخرى.
لكن تصوير الهجرة والاستيطان اليهوديين بهذه المصطلحات لم يكن كافياً لتغيير حقيقة أن هذا هو مجتمع أقامه في الأساس مهاجرون من أصل إثني وديني وثقافي مختلف عن أصل سكان المنطقة، وأنه يعتبر نفسه مجتمعاً "غربياً". وفي الثقافة السياسية للنظام العالمي ما بعد الاستعماري، يشكو هذا المجتمع مشكلة شرعية وجوده. ويجب أن يفسر لنفسه، مرة بعد أُخرى، لماذا اختيرت "أرض إسرائيل" بالذات هدفاً جغرافياً لاستعماره. ذلك بأن الاختيار لم يتم بسبب رحابة أراضيها الخصبة، أو ثرواتها الطبيعية، أو قوة العمل الرخيصة الموجودة فيها، أو أسواقها المحتملة، وإنما بسبب دوافع أيديولوجية - دينية. وهذه الحقيقة لم تؤد فقط إلى جعل المشروع الصهيوني مشروعاً غير قادر على إعالة نفسه من ناحية اقتصادية، بل حولته أيضاً إلى مشروع ديني من أساسه، لا يستطيع الانفصال عن هويته الأصلية كحركة شبه مسيحانية. إن جوهر حق هذا المجتمع وهذه الدولة وسبب قيامهما، كانا متجذرين في الرموز والأفكار والكتب المقدسة الدينية، وإنْ كانت [الصهيونية] حاولت ربطهما بتفسيرات وسياقات علمانية. إن هذا المجتمع لم تفتنه أحلام الصهيونية، ولا ساستها الذين بدوا أنهم تلاعبوا بالأفكار الاشتراكية والليبرالية لغايات صهيونية، وإنما فتنه الهدف الجغرافي المختار مكاناً للهجرة ولبناء الأمة.
ولم تنجح عملية بنائه وبناء ثقافته إلاّ في إطاره الديني، حتى لو كان أنبياؤه وكهنته وبناته ومقاتلوه اعتبروا أنفسهم علمانيين تماماً.