A Safe Passage or a Geopolitical Connection in the Palestinian State
Keywords: 
الجيوسياسة
مفاوضات السلام
الجغرافية السياسية
قطاع غزة
الضفة الغربية
ممر آمن
Full text: 

 

مقدمة

ما زالت مسألة الوصل الجيوسياسي بين قطاع غزة والضفة الفلسطينية، الذي من المتوقع أن تقوم الدولة الفلسطينية به، بنداً مدرجاً في جدول أعمال المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكلا الطرفين مفهومه وآلياته للوصل. وهذان المفهومان يختلف أحدهما عن الآخر من حيث الفكرة والآلية، وطبعاً من حيث الأبعاد والإسقاطات على كلا الطرفين. وقد أُرجئ النقاش بشأن الوصل الجغرافي إلى المرحلة النهائية. أمّا خلال الفترة الانتقالية، فهناك حديث عن الممر الآمن؛ وهو ما أشارت الاتفاقات المرحلية إلى عدة مواقع مقترحة له. وثمة سؤالان يُطرحان في هذا الشأن هما: هل سيتحول الممر الآمن إلى أداة للوصل الجيوسياسي داخل الدولة الفلسطينية العتيدة، أم أن هناك حاجة إلى وضع حل آخر للوصل؟ ما هي أبعاد البدائل المتعددة للوصل بالنسبة إلى الكيان الفلسطيني، وكيف يجب أن يعدّ الكيان نفسه كي يتعامل مع حلول محتملة للوصل؟ ولقد شغلت مسألة الوصل الجيوسياسي في الدولة الفلسطينية السياسيين، بالإضافة إلى باحثين ومخططين (عودة، 1997؛ عباسي وطهبوب، 1991؛ عوض الله، 1994؛ Newman and Falah, 1995; Center for Engineering and Planning, 1992)، وليس هناك إجماع إلى الآن على موقع الوصل وآليته.

أشار اتفاق أوسلو إلى اعتبار الكيان الفلسطيني بشقيه وحدة جغرافية إقليمية واحدة، سيتم تكوين وحدة سياسية وسيادة على هذين الإقليمين المفصولين جغرافياً بدولة إسرائيل. ولم يتطرق المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون بعمق إلى تفصيلات آلية الوصل الحيّزي بين المنطقتين، بل أرجأوا هذا الأمر إلى مفاوضات الحل النهائي أسوة بأمور أُخرى كالقدس، والحدود، واللاجئين. ونظراً إلى أهمية الربط والتواصل الجغرافي بين الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني من ناحية سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، وأمنية، ارتأينا خوض هذا الموضوع بإيجاز، محاولين مناقشة البدائل الممكنة للوصل من وجهة نظر تخطيطية كي نضع بين أيدي متخذي القرار مواد للتفكير ولطرح صيغ تؤمن المصلحة الفلسطينية، وتساهم في استقرار المنطقة وتثبيت التعايش وتحقيق السلام المنشود.

في البداية، سنطرح أهمية التواصل والتكامل الحيّزي الجغرافي في كيان الدولة القومية من ناحية نظرية، والتي ربما يحدث تغيير في مضمونها وشكلها في القرن القادم، محاولين الإشارة إلى أن طرح مسألة الوصل الجغرافي بين شقي الكيان الفلسطيني المنشود ربما يكون سابقة لحلول سياسية بين دول تنشأ مستقبلاً على أساس عرقي أو إثني، وتكون أجزاؤها مفصولة جغرافياً. كما سنعرض المواصفات والوضع الراهن للأراضي الفلسطينية (الضفة الفلسطينية وقطاع غزة)، ومن ثم نتطرق إلى أهمية الوصل الجغرافي ومختلف إسقاطاته. كذلك سنتناول بعض البدائل الممكنة وأبعاد كل بديل بموجب معايير وُضعت وتقويم هذه البدائل. وفي النهاية، سنلخص آلية التنفيذ بوضع توصيات تساهم في ترشيد عملية اتخاذ القرار بشأن مسألة الوصل الجيوسياسي في الدولة الفلسطينية.

في هذه المقدمة، أود أن أؤكد أن هذا المقال يهدف إلى طرح أفكار أولية لا بد من تأكيدها فيما بعد بدراسات ميدانية وأكاديمية أُخرى في الموضوع نفسه، تأخذ بعين الاعتبار القضايا والمسائل التي تم طرحها في هذا المقال الموجز، وتعدّ المواد المتعلقة بالترتيبات النهائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

خلفية عامة

إن الحديث عن الوصل والتواصل الجغرافي ضمن حدود الدولة حديث قديم، وتم توثيقه مع نشوء دولة الأمة، وحيث تم تقسيم المناطق المنتدبة، أو تحرير دول من الاستعمار، أو إعلان استقلال إقليم ما عن حيز جغرافي - إقليمي ليشكل دولة لها مركزها السياسي والاقتصادي (Glassner, 1993). قبل ذلك كانت فترة دولة المدينة، أي الفترة التي كانت المدينة المركزية فيها تشكل محور الدولة ولها أطراف تسيطر عليها، ولم يكن يجري ترسيم حدود الدولة بصورة موثقة ودقيقة كما يجري اليوم. وبعد ذلك، في عهد الاستعمار، تكونت هيكلية جديدة لسيادة الدولة على منطقة معينة، بحيث أصبح المركز السياسي والاقتصادي بعيداً عن المنطقة المستعمَرة. وتم تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الدول المستعمِرة، على الرغم من أنه لم يكن هنالك بالضرورة تواصل جغرافي بين هذه المناطق. لكن في حالات كثيرة نجد أن المناطق المستعمَرة أعلنت استقلالها، وواجهت المركز المستعمِر. وأنشأت هذه الدول التي أعلنت استقلالها دولة ذات حدود جغرافية سياسية، وشملت أغلبية عرقية أو دينية ترى في تكاملها الداخلي، الثقافي والاقتصادي والتراثي والديني، أساساً لإعلانها حيزاً جغرافياً لدولة تمارس سيادتها ضمن حدودها. وفي معظم الأحيان كان ثمة تواصل جغرافي وتكامل داخلي في حدود هذه الدولة. وهناك حالات معينة تم إبقاء منطقة تابعة لدولة مركزية مفصولة عنها جغرافياً من دون تواصل حيّزي معها، وشكلت مثل إقليم تابع (ex-territory). بعد ذلك نشأ ما يسمى الاستعمار الجديد (الكولونيالية الجديدة)، الذي أصبح يمنح استقلالاً سياسياً لإقليم معين ولجماعة سكانية ترغب في ذلك، لكن تبقى التبعية الاقتصادية والسيطرة على الموارد والأسواق في نطاق سيادة دولة خارجية.

هذه الأنماط من الدول والتكوينات السياسية تُوجت في القرن الأخير بتكوين دول ووحدات سياسية إقليمية لشعوب وأمم تسعى للمحافظة على، أو لإحياء، مكوناتها التراثية والثقافية في محيط أو حيز جيوسياسي. ومع ذلك نشهد في الفترة الأخيرة، وتحديداً خلال العقد الأخير، تفكك بعض الدول التي شملت أكثر من مجموعة عرقية أو دينية أو ثقافية - مذهبية، مثلما حدث في الاتحاد السوفياتي، أو ما يحدث حالياً في منطقة القفقاز والبلقان وشمال العراق. وملخص هذه الصراعات أن الدولة السياسية الحديثة - دولة القومية (Nation State) - شملت أكثر من مجموعة عرقية أو دينية أو ثقافية - مذهبية. وربما كان جزء من هذه الأقلية المشمولة بدولة معينة له في الدولة المجاورة مجموعة سكانية إضافية تنتمي إليه، وتسعى لتحرير نفسها وتقرير مصيرها (Self-determination) على كامل الحيز الجغرافي الذي ينتشر فيه ذلك الجزء، من دون الأخذ بعين الاعتبار الحدود السياسية الحالية. وهذا ما نشهده لدى الأكراد على سبيل المثال.

إن تطور الصراعات بين المجموعات العرقية والإثنية أو الدينية في الحيز الجغرافي الواحد دفع إلى طرح حلول إقليمية في سبيل تخفيف هذه الصراعات أو حلها، وذلك بواسطة تقسيم الحيز الجغرافي للدول أو الحيز بين المجموعات العرقية أو الدينية المتنافسة والمتصارعة على أساس الأغلبية في الحيز. هذا الحل تم طرحه منذ الثلاثينات في فلسطين بين اليهود والعرب، وفي الصراع بين الهندوس والمسلمين في منطقة الهند وباكستان، وفي الصراع حالياً في يوغسلافيا سابقاً بين المسلمين البوسنيين والصرب والكرواتيين. وقبل ذلك في قبرص بين الأتراك واليونانيين حيث أدى إلى تقسيم الجزيرة (Kliot and Mans-field, 1997). أي أن حل الفصل بين المجموعات المتصارعة في حيز جغرافي بواسطة تكوين حيز سياسي جديد لكل مجموعة عرقية، هو حل معروف عالمياً وأصبح مقبولاً بين المجموعات العرقية والدينية؛ وذلك لعدم قدرة مجموعة عرقية على القضاء على الأُخرى التي تعيش معها في حيزها، بالإضافة إلى أن قضاء مجموعة عرقية على مجموعة أُخرى أصبح أمراً مرفوضاً عالمياً.

يجد الدارس للتقسيمات السياسية التي حدثت أنها سعت لتكوين تواصل جغرافي في الحيز السياسي الجديد، على الرغم من التركيز غير المتجانس والمتساوي في الحيز العرقي الجديد. وفي حالة تقسيم غير متواصل جغرافياً نجد أنه تكونت وحدتان سياسيتان، على الرغم من أنه كان من المفروض أن يتم تشكيل وحدة سياسية واحدة كما هو الأمر عند التقسيم بين الهندوس والمسلمين، ثم نشوء دولتي بنغلادش وباكستان مفصولتين بحيز سياسي تابع للهند. ومن أجل تفادي هذا الواقع ما زالت الهيئات السياسية، المشاركة في عملية الحلول السياسية بواسطة التقسيم، تسعى كلها للحفاظ على التواصل الجغرافي بين المجموعات العرقية والدينية والسياسية. وهذا الحل ما زال مقبولاً عالمياً. والسؤال الذي يُطرح، في حالة عدم توفر التواصل الجغرافي بين وحدات الحيز السياسية والعرقية والدينية، هو: ما الحل الذي يمكن توفيره لتأمين استمرار التواصل والانتماء السياسي ضمن وحدة سياسية واحدة؟ هذا السؤال ما زال يفتش عن حل، وهو موضوع هذا المقال.

لكن قبل الانتقال إلى الواقع الفلسطيني أود أن أشير إلى أن توفر التقنيات الحديثة، كآليات الحفر أو البناء أو آليات الاتصال، ربما يساهم في زيادة التواصل ويزيد في الربط بين المناطق المفصولة جغرافياً. ذلك بأن أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية، التقليدية منها أو المحوسبة، ساهمت في تحويل العالم إلى قرية صغيرة. كذلك فإن وسائل المواصلات، كالسفن أو الطائرات، زادت في ارتباط الأمة فيما بينها. كما أن أجهزة الحفر والبناء، كبناء الجسور، ربطت بين الجزر والدولة التابعة لها على اليابسة. فمثلاً، ربط نفق بحر المانش بين بريطانيا وأوروبا، وأصبحت بريطانيا جزءاً من القارة الأوروبية ومتواصلة معها بواسطة هذا النفق الذي يصل طوله إلى نحو 40 كلم ويشمل مساراً لمرور السيارات والقاطرات. والأمر نفسه ينطبق على النفق الذي يربط بين سويسرا وإيطاليا مخترقاً جبال الألب التي كانت تشكل حاجزاً طبيعياً؛ وهذه الحلول تشير إلى أن في قدرة التقنية الحديثة توفير حلول للتواصل على الرغم من التكلفة العالية قياساً بالحلول التقليدية للتواصل الجغرافي بين أجزاء الدولة أو المدينة الكبيرة، كما هو الأمر في تشغيل قطارات الأنفاق المعمول بها في المدن الميتروبوليتانية لحل مشكلات المواصلات فيها. كذلك، فإن الجسر الذي أقيم في برلين لربط جزء من برلين بالوحدة السياسية التي ينتمي إليها يشكل حلاً إضافياً للوصل الجغرافي. وربما يكون ثمن توفير هذه الحلول للربط بين الوحدات السياسية أقل كثيراً من الثمن السياسي والاقتصادي والانتمائي الحياتي للمجموعة العرقية - الدينية التي ترغب في تواصل واتصال فيما بينها. وهذا الحل التخطيطي أصبح له قاعدة للتنفيذ، وربما يستخدم في حلّ خلافات بين مجموعات عرقية في محيط الدولة الواحدة، وخصوصاً أن من المتوقع أن يكون القرن الحادي والعشرون حافلاً بالصراعات الإثنية داخل الدولة الواحدة، حيث ترغب كل مجموعة في السكن وحدها وامتلاك حق تقرير المصير في حيزها وممارسة سيادتها على ذلك الحيز (Falah and Newman, 1996). هذا إذا لم يتعمق أكثر الفهم التعددي داخل الوحدات السياسية فيزداد قبوله منهجاً يوجه سلوك الأفراد والمجموعات الإثنية داخل الدول، إذ لا تخلو دولة حالياً من وجود مجموعات إثنية تتنافس فيما بينها، وقد يصل هذا التنافس في بعض الأحيان إلى صراع (Gurr, 1993).

الواقع الفلسطيني

تم تتويج الصراع الإثني في فلسطين بين اليهود والعرب بإقرار تقسيم فلسطين بينهما من قبل الأمم المتحدة سنة 1947 فيما يعرف بالقرار رقم 181. ولقد اقترح قرار التقسيم ثلاث وحدات جغرافية يهودية وثلاث وحدات أُخرى عربية متصلة بعضها ببعض بواسطة رؤوس ضيقة تشكل شبه "مفترقات طرق"، وذلك لتأمين التواصل والوصل الجغرافي بين هذه الوحدات، وأُبقيت القدس وما حولها منطقة دولية. ونستنتج من هذا القرار أن الذين تبنوه أخذوا في الاعتبار الاتصال الجغرافي بين أجزاء الوحدات السياسية العربية واليهودية المقترحة. لكن بعد حرب 1948، تم احتلال جزء من الدولة العربية المقترحة في قرار التقسيم، وضُم هذا الجزء إلى الدولة اليهودية.

بعد حرب 1948، وإقرار وقف إطلاق النار، وعقد اتفاقية رودس، بقيت المنطقة التي سميت الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تشكل نحو 21% من مساحة فلسطين، خارج نطاق السيادة الإسرائيلية. وفيما بعد ضُمت الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية بعد مؤتمر أريحا سنة 1950، وشملت المساحة المضمومة نحو 5690 كلم2. أمّا القسم الثاني من باقي الدولة العربية - وهو قطاع غزة - فقد وُضع تحت الإدارة المصرية، ومساحته لا تتجاوز 355 كلم2. وتشكل كلتا المنطقتين مستطيلين: الأول هو الضفة الغربية التي يبلغ طولها نحو 150 كلم وعرضها 31 - 58 كلم؛ والثاني هو قطاع غزة الذي يبلغ طوله نحو 45 كلم وعرضه 8 - 13 كلم. وتختلف هاتان الوحدتان الجغرافيتان اللتان ستكوّنان الدولة الفلسطينية لا من حيث المساحة فقط، بل أيضاً من حيث عدد السكان والكثافة السكانية ومستوى الحياة ونسبة اللاجئين وتركيبة السكان والبنية الفيزيوغرافية والمناخية، بالإضافة إلى فوارق أُخرى ليس هنا المكان للإسهاب في شرحها.

بالإضافة إلى الفوارق في كثافة السكان وتركيبتهم، فإن موقع كل منطقة من حيث البنية الفيزيوغرافية يمنحها أفضلية نسبية تكمل المنطقة الأُخرى وتساهم معها في تكوين البنية التحتية لإنشاء دولة جديدة تستطيع المنافسة على صعيد الموارد الإقليمية، وتأمين العيش والأمن لسكانها بصورة لائقة. كما أن وجود الساحل يفسح المجال للتواصل البحري مع دول أُخرى، ويمكن استثمار هذا الساحل في السياحة وتطوير صناعات تحتاج إلى مياه البحر. كما أن الكتلة البشرية في رقعة صغيرة يمكن استثمارها بهدف تطوير اقتصاد ملائم لظروف الدولة الفلسطينية، أي أن قطاع غزة هو بوابة الدولة الفلسطينية على البحر وفيها ميناؤها (مدوخ، 1994). في المقابل، تمكن الأفضليات النسبية للضفة الفلسطينية، من حيث المساحة والموارد الاقتصادية والسياحة والحج والخدمات والزراعة، من تطوير فرص اقتصادية مرتبطة بالدول العربية.

إن الفصل الجغرافي والسياسي بين المنطقتين منذ سنة 1948 حتى سنة 1967، إذ خضعت كل منطقة لسيادة سياسية مختلفة، طور أنظمة وأعرافاً إدارية وقانونية مختلفة في كلا المنطقتين. وإضافة إلى ذلك، جعل البعد الجغرافي والفصل السياسي بين المنطقتين التطوير الاقتصادي مختلفاً، وهو ما جعل كل منطقة طرفاً لمركز اقتصادي وإداري مختلف؛ فالضفة الفلسطينية تبعت المركز في عمان، والساحل الفلسطيني تبع المركز في القاهرة. وبدأت كل من هاتين المنطقتين تطور لنفسها مركزاً ثانوياً في الطرف الذي تشغله: مدينة غزة في الساحل، والقدس في الداخل. وهذا الواقع الذي نشأ زاد في غربة المنطقتين إحداهما عن الأُخرى، على الرغم من انتمائهما المشترك والطموح الاقتصادي والسياسي والانتمائي المستقبلي المنشود الواحد والموحد لهما.

ساهم الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967 للضفة الفلسطينية وقطاع غزة في إعادة الوصل بين هاتين المنطقتين وانفتاحهما إحداهما على الأُخرى، وزاد في الربط والتواصل بينهما على الرغم من الضبط الذي مارسه هذا الاحتلال. وبينما استمر العداء مع الدولتين العربيتين اللتين كانتا تسيطران على هاتين المنطقتين، الأردن ومصر، وتحجيم وضبط التواصل بين المنطقتين وبين المركزين اللذين كانا يتبعانهما قبل سنة 1967، من خلال سيطرة إسرائيل على الحدود، فقد فُتحت في المقابل الطرق القاطعة والمارة بإسرائيل أمام الفلسطينيين الراغبين في الوصول من الضفة الفلسطينية إلى الساحل الفلسطيني أو بالعكس. كما أن فتح سوق العمل الإسرائيلية أمام الفلسطينيين زاد في التواصل واللقاء بين أبناء الشعب، وجمعهم في قطاع عمل واحد وفي مجموعة طبقية ذات مصلحة واحدة. وعمّق هذا الواقع إحساسهم بالانتماء إلى الشعب الواحد ذي المصير المشترك.

في المقابل، فإن الضوابط الإسرائيلية على تنقل الفلسطينيين بين المنطقتين، وعدم السماح بتكوين أطر سياسية واحدة، وإبقاء أجهزة إدارية عسكرية ومدنية منفصلة (إدارة مدنية خاصة بقطاع غزة وأُخرى خاصة بالضفة الغربية؛ كانت منطقة قطاع غزة تتبع قائد منطقة الجنوب، أمّا الضفة الغربية فكانت تابعة لقائد قوات المركز) - وقد عملت هذه الأجهزة بموجب القوانين والأنظمة التي كانت متبعة في المنطقة قبل احتلالها، باستثناء التعديل الذي جرى بواسطة الاحتلال ليخدم مصلحة المحتل - كل ذلك أبقى المنطقتين تعملان بموجب قوانين وأعراف وأنظمة متنوعة لم تسع الأجهزة المذكورة لتوحيدها، الأمر الذي أبقى على بعض الغربة بين المنطقتين. لكن المصير المشترك كان أعمق من تلك الأجهزة التي ربما سعت لزيادة الفجوة والهوة والفوارق بين المنطقتين. صحيح أن قيادة محلية نشأت في كل منطقة، لكنها كانت تنضوي تحت جناح قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية مشتركة تسعى لتكوين وحدة سياسية واحدة. ولقد تم التعبير عن هذا الطموح والوعي في التكامل بين المنطقتين، على الرغم من الاختلاف المحدود بينهما، وذلك من خلال ربط الحل السياسي المرحلي في غزة بأريحا أولاً، واعتبار المنطقتين وحدة سياسية إقليمية. ومنذ سنة 1993، وبعد إقامة السلطة الفلسطينية التي بدأت تنشئ مؤسسات رئيسية للشعب الفلسطيني تقودها قيادة سياسية واحدة تسعى لتوفير الأمن العام وفرص العمل والتطوير في جزأي الدولة الفلسطينية المستقبلية (النقيب، 1997)، وتستند إلى مرجعية قانونية وإدارية واحدة ومجلس تشريعي واحد، ظهرت ازدواجيات في بعض المؤسسات نتيجة الفصل الجغرافي بين المنطقتين. وإذا ما استمر الفصل فلربما يحدث تعميق في ازدواجيات تكوين المؤسسات، الأمر الذي قد يكون فاتحة لتكوين وحدتين سياسيتين منفصلتين تنتميان إلى شعب واحد. ومن أجل منع احتمال نشوء ذلك، يجب أن يؤمن التواصل والوصل جغرافياً بين هاتين المنطقتين لتثبيت وتعميق الأهداف الفلسطينية من أجل تكوين وحدة سياسية واحدة. والسؤال هو: كيف؟ وهل الوصل الجغرافي ملحّ ولو استمرت الحدود مفتوحة بين دولة إسرائيل ودولة فلسطين؟

أهمية الوصل الجغرافي

إن الموروث الذي نجم عن قيام دولة إسرائيل هو تجزئة الشعب الفلسطيني إلى وحدات جغرافية وسياسية منفصلة. فجزء من الشعب يعيش داخل دولة إسرائيل، وآخر في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وجزء ثالث موجود في الشتات في الدول العربية والأجنبية. وقد طوّر هذا التقطيع مفاهيم وأهدافاً لدى مجموعات مصلحية تعمل لتحقيق أهداف سياسية ذات مستويين: محلي يتلاءم مع ظروفها، ووطني يتلاءم مع مصلحة الشعب الفلسطيني. لكن واقعاً فُرض على هذه المجموعات المصلحية أدى إلى تطوير أدوات متنوعة لتحقيق الأهداف الوطنية، فمالت إلى التركيز على الأهداف المحلية ربما من أجل مقتضيات صراع البقاء. وتفادياً لتعميق الشرذمة والتقطيع الجيوسياسي للشعب الفلسطيني، فإن للوصل الجغرافي أهمية خاصة تتمثل في عدة نقاط: إقامة وحدة إقليمية حيزية بين جزأي الدولة الفلسطينية؛ توحيد الدولة والسيادة الفلسطينية، أي إقامة دولة واحدة لا إيجاد الفرصة لإمكان إقامة دولتين؛ توحيد المؤسسات الفلسطينية والمركز السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي والثقافي والنفسي للفلسطينيين؛ تحديد سياسات لإيجاد توازن سكاني واقتصادي بين جزأي الدولة الفلسطينية، وفتح الداخل على الساحل الفلسطيني؛ التقليل من الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا يصب في مصلحة إسرائيل إذ يمكّنها من تأمين أمنها الجماعي والشخصي، لكن في المقابل يضع الضوابط والموانع على الفلسطينيين الأمر الذي سيسبب مشكلات سياسية وأمنية ومعوقات اقتصادية. لذلك فإن المصلحة الفلسطينية تتوافق في هذا الجانب مع المصلحة الإسرائيلية في قيام الوصل الجغرافي بين جزأي الدولة الفلسطينية.

وبما أن الكيانية الفلسطينية هي قرار دولي، إلى جانب أنها قرار فلسطيني وعربي، فإن هناك مصلحة دولية في إيجاد الوصل من أجل تأمين الاستقرار السياسي، إضافة إلى دفع التطور الاقتصادي الذي سيساهم في إيجاد الاستقرار السياسي. وتتجاوز أهمية الوصل الجغرافي بالنسبة إلى الفلسطينيين الناحية السيادية والرمزية إلى النواحي الاقتصادية، إذ إنه سيمكن دولاً عربية، كالأردن والعراق وربما المملكة العربية السعودية ودول الخليج، من نقل بضائعها إلى أوروبا عن طريق الميناء الفلسطيني في غزة، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة دخل الدولة الفلسطينية ويقلل في الوقت نفسه تكاليف النقل بالنسبة إلى الدول العربية.

كذلك فإن الوصل الجغرافي سيمكن من إعادة إيجاد توازن سكاني بين الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني إذ إنه يتيح للسكان التنقل بحرية من أجل الحصول على أفضليات اقتصادية، وهذا من شأنه تقليل الكثافة السكانية في قطاع غزة التي وصلت إلى 2080 شخصاً في الكيلومتر المربع سنة 1994، كما من شأنه في المقابل توطين بعض المناطق في الضفة الفلسطينية التي وصل معدل كثافة السكان فيها إلى 230 شخصاً في الكيلومتر المربع سنة 1994. وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه في حالة عدم وجود وصل جغرافي كما هو الحال الآن. ربما يكفي أن نقول إن الوصل الجغرافي ضرورة حياتية ووجودية للدولة الفلسطينية، وإن عدم توفره ستكون له إسقاطات سلبية على الواقع الفلسطيني وكذلك على الاستقرار السياسي والأمن في المنطقة.

الوصل الجغرافي في واقع الحدود المفتوحة

هناك حتى الآن وجهات نظر متعددة بشأن الحل السياسي الإقليمي النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن خلال ذلك تُطرح عدة بدائل، بعضها مبيّن على خرائط، وبعضها الآخر يضع مبادئ للحل. وتسعى الحلول التي يطرحها الإسرائيليون، في معظمها، لتقويض إمكان إقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية، ولمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً تقع من خلاله مسؤولية إدارة الحياة المعيشية للسكان الفلسطينيين وتوفير الخدمات لهم على كاهل السلطة الوطنية الفلسطينية. في المقابل، تسيطر إسرائيل على الأمن الخارجي وتراقب الأمن الداخلي وتبقى لها السيادة العليا على الأرض. أمّا الطرح الفلسطيني فيسعى لقيام دولة مستقلة في الأراضي الفلسطينية، ذات سيادة على الأرض والإنسان، وتحدد سياستها السياسية والاقتصادية بموجب أهدافها ورغبتها ومصلحتها، وتتعاون مع دول المنطقة بما في ذلك دولة إسرائيل. وفي سبيل ذلك، بدأت السلطة الفلسطينية التركيز على رموز الدولة كالعلم والمعابر والجمرك والنشيد والشرطة، وعلى استلام السلطة في فروع الحياة المتعددة كالتعليم والصحة والآثار والإحصاء والحكم المحلي والتخطيط والبناء، تمهيداً لإقامة الدولة مع وضع الحل النهائي. وتشمل الترتيبات التي تقوم بها السلطة الفلسطينية على صعيدي الإدارة والأمن الداخلي جميع الأراضي الفلسطينية التي احتُلت سنة 1967. هذا على الرغم من أن السلطة الفلسطينية لا تسيطر رسمياً، بموجب اتفاق طابا سنة 1995، إلاّ على المنطقتين (أ) و(ب) اللتين تشملان أقل من 10% من مساحة الضفة والقطاع. في المقابل، ما زالت إسرائيل تسيطر على الطرق الرئيسية. كما أنها لجأت، من أجل تأمين حركتها وتوسعها، حتى داخل الأراضي الفلسطينية، إلى بناء طرق التفافية حول المدن الفلسطينية. أمّا فيما يتعلق بالعبور بين القطاع والضفة وبين المدن الفلسطينية، فما زالت إسرائيل تضع ضوابط على الفلسطينيين وتحول دون تنقلهم بين مدنهم بصورة طبيعية.

ربما يظن البعض أن أهمية المعبر تكون فقط عند الفصل التام بين إسرائيل وفلسطين، الذي سيحول دون تنقل فلسطيني حر داخل إسرائيل ليصل بين شقي الدولة الفلسطينية. في المقابل تقل أهمية المعبر، أو حتى تزول، إذا كان الحل النهائي يؤمن حدوداً مفتوحة بين فلسطين وإسرائيل؛ الأمر الذي يمنح الفلسطينيين حرية الحركة لاستعمال الطرق الإسرائيلية كي تصل بين الأراضي الفلسطينية، أو توفير معبر آمن معد لحركة السير الفلسطينية القاطعة لإسرائيل. وإلى الآن ما زال الاتفاق على المعبر الآمن، الذي كان من المفروض أن يُعمل به خلال الفترة الانتقالية، غير منجز. وهناك وجهة نظر إسرائيلية بشأن المعبر غير مقبولة لدى الفلسطينيين؛ وهذا يعني أنه حتى عند وجود حدود مفتوحة، أو حتى عند تطوير الحكم الذاتي للفلسطينيين إلى "شبه دولة" - كما يدعي الإسرائيليون - فإن للوصل الجغرافي أهميته من أجل تقليل بقاء الفلسطيني تحت رحمة ظروف إسرائيل ومزاجها وتعريفها لأمنها. فهذا البقاء يحول دون الاستقلال الفلسطيني السيادي والاقتصادي، على الرغم من الاتفاقات التي ستوقع لضبط التحرك الفلسطيني.

فضلاً عن ذلك، سيبقي هذا الواقع السيطرة على المعابر بين الضفة والساحل في يد إسرائيل، تسمح لمن تريد بعبور أرضها أو تمنع من تريد من ذلك. وفي حالات معينة تُغلق هذه المعابر عند حدوث مشكلات أمنية، أو حتى في أيام الأعياد اليهودية (كلايمن، 1997). وهذا الواقع غير مقبول لدى الفلسطينيين. كذلك، فإن إسرائيل ستطرح حرية الحركة الإسرائيلية داخل فلسطين في مقابل الحركة في إسرائيل، وذلك بموجب القاعدة التي وضعها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والتي تعرف بـ "التبادلية". وهذا يعني إبقاء الرقابة والضبط الإسرائيليين على الحركة داخل الأراضي الفلسطينية. وربما تطرح إسرائيل أن تُفْرَض على الجانب الفلسطيني تكاليف صيانة الطرق التي يستعملها الفلسطينيون. كما أن عدم توفر ربط جغرافي سيحول دون استعمال دول عربية لميناء غزة أو للأراضي الفلسطينية، إذ ستدفع الرقابة الأمنية الإسرائيلية المتشددة هذه الدول إلى العدول عن ذلك واستعمال الممر الآمن أو الطرق الإسرائيلية.

نستنتج مما تقدم أن للوصل الجغرافي أهميته ولو بقيت الحدود مفتوحة وتوفرت ترتيبات أمنية، إذ إنه يؤمن تواصلاً جيوسياسياً. أمّا المعبر الآمن والطرق الإسرائيلية فربما يوفران حركة مواصلات ونقل بضائع وأشخاص على المستوى الخدماتي، لكنهما لا يساهمان في الاستراتيجيا التي وضعت بموجب اتفاق أوسلو، ولا يحققان رغبة الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني في الفصل الجغرافي والسيادي، وعيش أحدهما إلى جانب الآخر، لا في داخله.

بدائل الوصل الجغرافي

عند الحديث عن بدائل الوصل الجغرافي تُطرح بدائل فيما يتعلق بالموقع الذي يمكن أن يُخصص لهذا الوصل، والآلية أو الكيفية التي سيتم بها. وقد تم على هذا الصعيد اقتراح عدة مواقع وعدة آليات، لكن لكل موقع سلبياته وإيجابياته. ولدى تفحص هذه الاقتراحات نجد أن بعضها تعامل مع الوصل الجغرافي على أساس أنه أداة خدماتية لتسهيل المواصلات والاتصالات بين جزأي الدولة الفلسطينية، بينما رأى بعضها الآخر في هذا الوصل أداة للتواصل الجيوسياسي للدولة الفلسطينية، يمر من خلالها الاتصال والمواصلات. لذا، فتبني فكرة أن هدف الوصل الجغرافي هو خدمة الاتصال والمواصلات يؤدي إلى وضع عدة بدائل لمكان عبوره ربما تكون مقبولة ومعقولة (عوض الله، 1994؛ Newman, 1994; Newman and Falah, 1995). لكن إذا كان الاتجاه هو نحو وضع حزام حيّزي للتواصل الجغرافي فإن مواقع البدائل تكون محدودة (عودة، 1997؛ Center for Engineering and Planning, 1992). ولتقويم هذه البدائل يجب أن نطرح بعض المعايير لاختيار الموقع المرغوب فيه.

المعيار الأول يتعلق بالقرب الجغرافي أو المسافة، إذ يعتبر أحسن الحلول هو ذلك الذي يكون موصلاً في أقرب نقطة بين الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني وأقصر مسافة بينهما.

المعيار الثاني يتعلق بوصل مركزَيْ المنطقتين أحدهما بالآخر. إذ إن الواقع الراهن يشير إلى أن القدس الكبرى، الممتدة من بيت لحم جنوباً حتى رام الله شمالاً، هي مركز جغرافي إداري وخدماتي ومواصلات في الضفة الفلسطينية، ويسكنها نحو 40% من سكان الضفة. أمّا في الساحل الفلسطيني فإن مدينة غزة تشكل المتروبول والمركز ويسكنها أكثر من 65% من سكان الساحل، وتتركز فيها المنشآت الإدارية والاقتصادية، وهي حالياً المركز السياسي للسلطة الوطنية، وعلى شاطئها بُدئ بإقامة الميناء الفلسطيني وإنشاء السواحل للتنزه.

المعيار الثالث يتعلق بشبكة الاستيطان الإسرائيلية، إذ من المستحسن أن تتجنب شبكة الوصل المقترح أماكن الاستيطان والمنشآت الإسرائيلية.

المعيار الرابع يتعلق بتكاليف إنشاء الوصل الجغرافي. ولا نقصد هنا تكاليف إقامته وإنشائه وصيانته من ناحية الموارد فحسب، بل تكاليف الأمن أيضاً، بحيث تؤمن سهولة الاتصال من دون التسبب بمشكلات أمنية لكلا الجانبين، إذ إن عنصر الأمن يُعتبر من العناصر الأساسية للحل السياسي.

المعيار الخامس يتعلق بإمكان الاختيار بين عدة حلول فنية في الحزام نفسه، أو الموقع نفسه الذي يُتفق عليه ليكون مكاناً لمرور الوصل الجغرافي. وعلى سبيل المثال إمكان اختيار بناء طريق سريع بري أو إنشاء نفق أو إقامة جسر، أو اختيار حل يشمل هذه الأنواع المتعددة.

بناء على هذه المعايير تم تقويم ثلاثة بدائل أساسية، تتركز في وسط الضفة الفلسطينية وجنوبيها، ذلك بأن أي وصل جغرافي بين شمال الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني (Newman and Falah, 1995) سيُرفض بموجب المعايير السابقة، لأنه سيكون الأطول والأغلى تكلفة، بالإضافة إلى أنه يقطع المركز الإسرائيلي. لذلك، فإن اختيار البدائل يجب أن يأخذ في الاعتبار موقع الضفة بالنسبة إلى الساحل الفلسطيني، إذ إن طرف منطقة الساحل الشمالية يقع قبالة طرف منطقة الضفة الفلسطينية الجنوبية. أمّا البدائل الثلاثة الأساسية فهي (أنظر الخريطة):

أ) البديل الأول

تكملة الطريق رقم 45، الذي يقطع الضفة الفلسطينية متجهاً شرقاً نحو منطقة الغور ومنها إلى عمان. وتبدأ هذه التكملة من منطقة رام الله في اتجاه غزة، مروراً بمنطقة اللطرون فمنطقة المسمية. وهذا الطريق قائم في معظمه، لكنه بحاجة إلى توسيع وتعديل كي يصار إلى إعلانه حيزاً يشمل الطريق وامتداداته فيتحقق الوصل الجيوسياسي المرغوب فيه، لا المعبر الآمن المطروح. يبلغ طول هذا الطريق من الضفة إلى غزة 60 كلم تقريباً، ويقطع مفارق وطرقاً إسرائيلية قائمة.

إن هذا البديل، إذا ما اختير، يتطلب بناء طريق تكون تكلفته باهظة نظراً إلى طوله وتقاطعه مع طرق وسكك حديد رئيسية إسرائيلية ومحاذاته لمدن ومستعمرات إسرائيلية يتجاوز عددها الثلاثين. صحيح أن هذا البديل يربط مركزي المنطقتين أحدهما بالآخر، لكنه يفتقر إلى المعايير التي ذُكرت، بما في ذلك إمكان قبوله من الإسرائيليين.

ب) البديل الثاني

تكملة الطريق رقم 60، الذي يقطع ظهر الجبل في منطقة الضفة الفلسطينية من شمالها إلى جنوبها. وتكون التكملة في اتجاه بئر السبع حتى مفرق "حورة - تل شوكت"، ومنه إلى غزة. إن هذا الطريق، القائم والذي يحتاج إلى تطوير وتحسين، يبلغ طوله 63 كلم تقريباً. أمّا مواصفاته العامة، فهو شبيه بالبديل الأول لكنه، خلافاً له، يربط الأطراف الجنوبية للضفة بوسط منطقة الساحل.

في حال تم اختيار هذا البديل، فإنه يستدعي أن تتجه حركة المواصلات من شمال الضفة ومن مركزها إلى جنوبها، ومن هناك إلى غزة. كما أنه يتطلب بناء طريق يشمل، ضمن ما يشمل، إقامة الجسور وحفر الأنفاق وذلك بسبب تقاطعه مع طرق وسكك حديد إسرائيلية؛ وكلا الأمرين، أي حركة المواصلات وبناء الطرق، يزيد في تكلفة الوصل. لذلك، فإن اختيار هذا البديل وفق المعايير المذكورة يجعله في الدرجة الثالثة بين البدائل الثلاثة المقترحة.

ج) البديل الثالث

إقامة طريق يمتد من منطقة إدنا الواقعة شمال الخليل في جنوب الضفة الفلسطينية، إلى شمال غزة. وتبعد بدايته عن مدينة بيت لحم نحو 25 كلم في اتجاه الجنوب الغربي. يبلغ طول هذا الطريق 36 كلم تقريباً، ويتقاطع بشكل قائم مع طريقين رئيسيين في إسرائيل، ويمر في معظمه بمنطقة سهلية غير آهلة تقع في طرف إسرائيل؛ وهذا كله يجعل تكلفة بنائه قليلة.

إن تقويم هذا البديل، إذا ما قوبل بالبديلين الآخرين، يدفع إلى اختياره لأنه يتميز بِقِصَر الطريق المقترَح، وبعدم تقاطعه مع منشآت وأماكن استيطان إسرائيلية كثيرة ومركزية، وبربطه مركزي المنطقتين الفلسطينيتين أحدهما بالآخر ربطاً مباشراً، وبتكلفته القليلة. هذا إلى جانب أنه يمر تقريباً بمنطقة يشغلها حالياً طريق قائم، وبالتالي سيستمر الفلسطينيون في استخدامه بعد وضع اتفاق بين الطرفين يحدد كيفية هذا الاستخدام والحقوق والواجبات بالنسبة إلى من يستخدمه. مع ذلك، فإن الاستمرار في استخدام هذا الطريق يتطلب توسيعه وإعداده ليتمكن من استيعاب الزيادة المطردة في عدد السيارات وحركة المواصلات بين جزأي الدولة، بما في ذلك وسائط النقل العامة والباصات كي تساهم في زيادة حركة التنقل بين المنطقتين. وهذا يعني أنه يمكن استخدام هذا الموقع كي يكون ممراً آمناً في المرحلة الأولى الانتقالية، ثم يتحول إلى الوصل الجغرافي المطلوب.

إن فحص الدراسات التي ناقشت موضوع الوصل الجغرافي بين أجزاء الأراضي الفلسطينية يشير إلى أن معظمها يميل إلى اختيار هذا الموقع، وهو عملياً يقع في المنطقة التي كانت مقترحة للوصل بين أجزاء الدولة العربية وفق قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لسنة 1947؛ وهذا يعني أن أخذ المعوقات والظروف الراهنة للحلول السياسية المطروحة في الاعتبار يعطي الأولوية لاختيار هذا الموقع للوصل الجغرافي.

آلية الوصل

سنتطرق الآن إلى آلية الوصل التي تؤمن حركة المواصلات داخل الحزام المقترح، وذلك من أجل تحديد هذا الحزام الذي سيربط المنطقتين وتوصيف الحاجات التي يتطلبها، وهي:

1 - مسار طريق للسيارات يشمل ثلاثة مسالك في كل اتجاه، كي يتمكن من استيعاب حجم حركة السيارات المتوقعة والمرغوب فيها بين المنطقتين، بما في ذلك خدمة الدول العربية التي ستستخدم هذا الطريق مستقبلاً، مستفيدة من الأفضليات النسبية لبوابة الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط. ويتم تنفيذ هذا المسار على مراحل بعد توفر الإمكانات والموارد التي تسمح له فيما بعد بتلبية حاجات مختلف وسائل النقل بموجب المواصفات العالمية.

2 - تأمين مساحة للأكتاف ولقنوات تصريف المياه ولشبكات البنية التحتية، كشبكة الكهرباء، وشبكة الهاتف وخدمات سلكية أُخرى. وكذلك تأمين مساحة لإيقاف السيارات عند تعطلها أو للراحة. ويقدّر أن تمتد هذه المساحة على 40 كلم تقريباً.

3 - وضع مسار لعبور سكة حديد في اتجاهين، إذ من المتوقع أو من المفروض إنشاء سكة حديد لزيادة حركة المواصلات والانتقال بين المنطقتين، ربما لا تكون هناك حاجة في المرحلة الأولى إلاّ إلى إقامة مسلك واحد لسكة الحديد يُستخدم في الذهاب والإياب. لكن مستقبلاً، لا بد من مسلكين لتأمين سرعة الحركة وزيادة استعمال القاطرات. نقترح أن يكون موقع مسار سكة الحديد في الجزيرة الفاصلة بين اتجاهي الطريق.

نستنتج من المواصفات المذكورة أعلاه أن عرض الحزام المرغوب فيه لربط الضفة بالساحل، وفق المواصفات المتعارف عليها عالمياً كحد أدنى للوصل الجغرافي، هو 52.5 متراً، إضافة إلى ارتداد عن الطريق بعرض لا يقل عن 25 متراً من كل جهة وبطول نحو 36 كلم، وهي أقرب نقطة بخط مباشر بين الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني. أي أن المساحة التي يجب أن تخصص لهذا الوصل هي نحو 3.7 كلم2.

بعد أن عرضنا المواصفات للوصل الجغرافي الذي لا يتعدى توفير موقع مسار ملائم لوسائل النقل بين المنطقتين، نعرض ثلاثة بدائل ممكنة لكيفية تنفيذ هذا المسار:

1 - طريق بري سريع.

2 - جسر على طول المسافة.

3 - نفق على طول المسافة.

وسيتم تقويم هذه البدائل الثلاثة بموجب المعايير التالية للوصل الجغرافي:

أ) أن يكون تحت السيادة الفلسطينية.

ب) أن يكون مستقلاً عن شبكة البنية التحتية والمواصلات الإسرائيلية، وغير قاطع لها.

ج) أن يؤمن سهولة الحركة، بالإضافة إلى التواصل والاستمرارية.

د) أن يوفر الأمن باعتباره منطقة حدودية بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.

هـ) أن يكون ذا قدرة تمكّنه من مقاومة الكوارث الطبيعية أو الأعمال العدوانية، وتجعل في الوقت نفسه تكلفة إصلاح الأضرار قليلة في حال وقوع مثل هذه الكوارث أو الأعمال.

و) أن تكون تكاليف تنفيذه مما يمكن التزامه والقبول به.

إن أهمية المعايير المذكورة تختلف بالنسبة إلى كل من الطرفين. فمثلاً، من المتوقع أن يكون المعيار المهم لدى إسرائيل هو عدم خرق سيادتها، وعدم قطع التواصل في أراضيها، وتوفير الأمن لها. بينما نرى أن هذا المعيار يتعارض مع أهداف الطرف الفلسطيني الذي يسعى لتأمين السيادة والسيطرة على الوصل الجغرافي، بالإضافة إلى تقليص التكاليف وتأمين سهولة الحركة وتواصلها. لذلك عند تقويم البدائل المقترحة نؤكد أنه يجب أخذ الوزن النوعي لكل معيار في الحسبان، واختيار البديل الأفضل والأكثر ملاءمة والممكن في الظروف الموضوعية الحالية والمستقبلية، آخذين في الاعتبار وجهات نظر الطرفين المشاركين وتقويماتهما ومصالحهما وأهدافهما. وسنعرض فيما يلي بعض إيجابيات وسلبيات كل بديل في ضوء المعايير المذكورة.

1 - الطريق البري السريع: ربما تكون تكاليف إنجازه أقل من البديلين الآخرين. كما أن تكاليف إعادة إصلاحه وترميمه، في حال وقوع كوارث طبيعية أو أعمال عدوانية، سهلة وقليلة نسبياً. لكنه في المقابل يقطع إسرائيل ويشكل فاصلاً للأراضي وشبكات البنية التحتية الإسرائيلية، الأمر الذي يستوجب إقامة الجسور أو الأنفاق لتجاوز هذه المنشآت، وهذا يزيد في تكلفة تنفيذه. كذلك فإن تأمين الفصل بواسطة إقامة جُدُر أو أية وسائل عازلة سيقطع شبكة البنية التحتية الإسرائيلية وربما يفصل الأراضي الإسرائيلية بعضها عن بعض، وبالتالي يُحوَّل حزام من الأرض التي تقع تحت السيادة الإسرائيلية إلى السيادة الفلسطينية. وهذا حالياً غير مقبول من إسرائيل. كما أن الطريق البري السريع لن يشكل ممراً آمناً من عمليات عدوانية لكلا الجانبين، حتى في حالة السلام والاتفاق، على الرغم من محطات الرقابة التي من المتوقع أن تقام على امتداده، وذلك على خلفية الهواجس القائمة والصراعات التي امتدت إلى ما يزيد على قرن ورافقتها مآس وويلات كثيرة من الصعب محوها بين ليلة وضحاها. كذلك فإن البعد النفسي للمرور بطريق سريع محاط بسياج هو أمر سلبي بالنسبة إلى الإسرائيلي الذي يرى أن دولته تتقطع بهذا الوصل الجغرافي. أمّا الفلسطيني فيشعر بأنه داخل سجن، إضافة إلى أن أرضه انتُزعت منه.

2 - إقامة جسر على طول المسافة بين الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني، وهذا يتطلب تكاليف عالية قياساً بالطريق البري السريع، إلى جانب أنه سيقوم على قواعد متتابعة تشكل شبه قطع للوصل الجغرافي للأراضي الإسرائيلية، كما سيقطع جزءاً من شبكات البنية التحتية الإسرائيلية، كشبكة الكهرباء مثلاً. ومن سلبيات هذا الجسر أيضاً أنه يتأثر، بصورة سلبية ومباشرة، بأعمال عدوانية أو كوارث طبيعية تؤدي إلى انقطاع الاتصال. ويتطلب إصلاح الأضرار جهداً وتكاليف ووقتاً يزيد في سلبيات هذا الحل إذا ما قوبل بالبديلين الآخرين. فضلاً عن ذلك سيشكل الجسر حاجزاً ومحفزاً على أعمال عدوانية لمعارضي اتفاق السلام والحل السياسي من الإسرائيليين والفلسطينيين. كما أنه سيكون لوجوده أبعاد نفسية تشكل شبه حاجز نفسي. لكن، من جهة أُخرى، ربما يصبح هذا الجسر ببنائه مثالاً يُحتذى ومحطاً لأنظار السياح.

3 - إقامة نفق يربط كلا المنطقتين، وهذا يتطلب أيضاً تكلفة تعادل تكلفة إقامة الجسر. لكن لهذا النفق إيجابيات، إذ إنه لا يقطع الوصل الجغرافي الإسرائيلي، ويكون تعرضه لأعمال عدوانية أقل من تعرض الجسر أو الطريق البري السريع. كما أنه يؤمن سهولة الحركة الفلسطينية وتواصلها. وربما لا يشكل وجود النفق مشكلة أمنية أو نفسية للإسرائيليين، على الرغم من أنه يشكل حتماً مشكلة نفسية للفلسطينيين، إذ إن الوصل بين أجزاء دولتهم يتم من خلال نفق. لكن الوقت القصير نسبياً لقطع المسافة، والذي قد يتراوح بين 20 و30 دقيقة، ربما يعوض من الإحساس بعبور نفق. إن التجربة العالمية بإقامة الأنفاق، وخصوصاً في المدن الكبيرة لاستعمال القاطرات تحت الأرض لحل مشكلة المواصلات فيها، تجعل هذا الحل ممكناً في ضوء الظروف السياسية الحالية. لكن العرض الكبير للنفق ربما يستحدث مشكلات هندسية أو زيادة في تكلفة إقامته وصيانته. لذلك قد يكون من الأفضل إقامة نفقين منفصلين متوازيين في الاتجاهين.

إن المواصفات الفنية والمتطلبات لإقامة هذا النفق يجب أن تُدرس بالتفصيل. لكن الدراسة الأولية تشير إلى أن المنطقة التي يُقترح أن يمر بها النفق للوصل الجغرافي هي منطقة "ساكنة" من ناحية جيولوجية، الأمر الذي يزيد في إيجابيات هذا البديل قياساً بالبديلين الآخرين. ومن الجدير بالذكر أنه خلال إعداد هذا المقال تم إجراء مقابلات مع متخصصين بالأمن وبالسياسة من الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد أشار معظمهم إلى أن النفق هو أنسب حل للوصل الجغرافي في الواقع الراهن؛ فهو يحقق الوحدة الجغرافية الإقليمية، ويقلل الاحتكاكات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولا تتطلب إقامته تقديم أية تعويضات إلى الإسرائيليين في مقابل الأرض التي يمر بها، بالإضافة إلى أنه لا يقطع البنية التحتية الإسرائيلية أو أي تواصل في إسرائيل. لذا يجب أن تطالَب إسرائيل بإقامة النفق على نفقتها، أو بالمشاركة الأساسية في تكاليف إقامته كجزء من التعويضات التي يجب أن تدفعها إلى الشعب الفلسطيني.

ربما يكون البديل الذي يشمل البدائل الثلاثة المقترحة ويدمج بينها هو الأفضل والمقبول والممكن والمنطقي، بحيث يقام طريق سريع في المناطق غير الآهلة، ويقام نفق في المواقع الآهلة، ويقام جسر عند التقاطع مع أية بنية تحتية إسرائيلية. لكن تقويم هذا البديل المنطقي بموجب المعايير المطروحة، وبحسب رؤية كل من الطرفين لمصلحته ولرغبته، قد يجعل من تنفيذه أو من اعتماده أمراً غير مرغوب فيه.

إقامة الوصل الجغرافي - النفق

من أجل تنفيذ الوصل الجغرافي يجب أن يُتفق على مساره داخل إسرائيل، وعلى تحديد نقطة البداية بدقة في كلا طرفيه - في الضفة الفلسطينية، وفي الساحل الفلسطيني. كما يجب أن تحدد مواصفاته. وهذا الأمر يجب أن يتم على مرحلتين: الأولى، عقد اتفاق بين السلطات السياسية الفلسطينية والإسرائيلية بشأن هذا الوصل، يشتمل على ما يلي:

1 - سيادة الجانب الفلسطيني على حزام الوصل الجغرافي بعد عمق معين، يُتفق عليه، عن وجه الأرض الطبيعية. ويحدد عرض هذا الحزام بنحو 200 متر على الأقل، وذلك من أجل تأمين إجراء الدراسات والفحوصات وسهولة التنفيذ في المستقبل.

2 - يتم تقييد البناء والتطوير الإسرائيليين على وجه الأرض الطبيعية للوصل الجغرافي بحيث لا تقام أية منشآت أو أعمال تؤدي إلى أضرار، مباشرة أو غير مباشرة، بالنفق. ويحدد عرض هذا الحزام بنحو 200 متر، لكن لا يتم تسييجه وإنما يصار إلى تبيانه في المخططات الإسرائيلية (القطرية واللوائية والمحلية) كحزام أخضر، كما هو الأمر بالنسبة إلى معابر خطوط كهرباء التوتر العالي.

3 - تسمح إسرائيل عند الحاجة، أو تلتزم، بدخول الجانب الفلسطيني إلى هذا الحزام لإجراء أية أعمال تتعلق بالنفق، بما في ذلك إنشاء محطات تهوية، بحسب الاعتبارات الهندسية التي يضعها مصممو النفق.

4 - تتم أعمال البناء والصيانة والتطوير كلها تحت مسؤولية الفلسطينيين من دون تدخل الجانب الإسرائيلي إلا بموافقة الجانب الفلسطيني.

5 - تشارك إسرائيل في تمويل جزء كبير من نفقات إقامة هذا النفق، باعتبارها مستفيدة مباشرة من وجوده. ويتم تحديد نسبة هذه المشاركة بالاتفاق بين الطرفين.

6 - يحق للفلسطينيين استعمال حزام الوصل الجغرافي من العمق الذي يُتفق عليه عن وجه الأرض الطبيعية، أو حتى من ضعف هذا العمق، إلى سقف النفق. وإذا توفرت موارد طبيعية في هذا العمق سيكون استغلالها من صلاحية السلطة الفلسطينية ومسؤوليتها.

7 - يتم تفصيل المسؤوليات والحقوق، في الاتفاق بين الطرفين لتأمين إنشاء الوصل الجغرافي تحت السيادة الفلسطينية، بصورة تجعل الفصل بين الطرفين تاماً.

بعد عقد الاتفاق وتحديد المسؤوليات والصلاحيات والأدوار تأتي المرحلة الثانية، وهي تشكيل هيئة فلسطينية (أو شركة حكومية فلسطينية) لإقامة النفق والرقابة على الوصل الجغرافي. وسيكون من مسؤوليات هذه الهيئة إجراء الدراسات والفحوص لتنفيذ النفق. كما سيكون من صلاحياتها تفويض إقامته إلى شركات خاصة، شرط أن تبقى المسؤولية العليا في يد هذه الهيئة، تؤمن من خلالها المصلحة الفلسطينية. وتستطيع الهيئة طرح عطاء تخطيط وإقامة النفق للوصل الجغرافي أمام شركات فلسطينية ودولية لها خبرة بهذا المجال من الأعمال. كذلك يمكن أن يكون تمويل جزء من نفقات إقامة النفق وصيانته عن طريق رسوم يدفعها الذين يستخدمونه، باعتبار أن هذا النفق سيكون من فئة الطرق التي يتم دفع رسوم لعبورها. لكن يجب أن تكون هذه الرسوم منخفضة بحيث لا تحول دون استخدامه حتى من ذوي الدخل المحدود، أو يمكن فرض رسوم متفاوتة تبعاً لنوع السيارة وسنة إنتاجها، الأمر الذي يساهم في جعل توزيع التكاليف عادلاً بين المستخدمين.

استخدام الطرق الإسرائيلية الحالية

لا شك في أن عملية الاتفاق على الوصل الجغرافي وإقامة النفق ستستغرق وقتاً ربما يتجاوز خمسة أعوام على الأقل. وإلى أن يتم إنجاز الوصل الجغرافي يجب أن يؤمن الاتصال بين جزأي الدولة الفلسطينية، وأن يزاد ويُشجَّع كي لا تتعمق الغربة بين قسمي الوطن الواحد. وفي سبيل ذلك، يجب أن يتفق الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي على تعيين مسار يصار إلى استخدامه فيكون بمثابة الطريق الذي يربط الساحل بالضفة الفلسطينية. ونقترح أن يكون هذا المسار مجاوراً لمحور الوصل الجغرافي المقترح، وذلك من أجل الشروع في بناء البنية التحتية للمواصلات الفلسطينية الداخلية وتطوير شبكة الطرق كي تكون جاهزة ومعدة لاستخدام النفق مستقبلاً. كذلك فإن لتعويد الفلسطينيين وسكان الدول العربية وجودَ مسار معين يربط الساحل بالضفة أهمية خاصة. وبناء عليه، يبدأ سلوك المستثمرين والناس عامة باختيارهم موقع استثمارهم أو موقع سكناهم. أي أن اختيار المسار المرحلي للوصل الجغرافي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التحولات التي ستجري داخل الدولة الفلسطينية لجهة بنية وهيكلية شبكة المواصلات، والمراكز العمرانية، وتطوير المنشآت الاقتصادية والخدماتية. وفي المقابل يجب أن يطور الطريق الداخلي المقترح استخدامه من قبل الفلسطينيين داخل إسرائيل كي يستطيع استيعاب حركة المواصلات المتوقعة، وتأمين مواقع احتكاكات قليلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

بالإضافة إلى ذلك، يتم خلال الفترة الانتقالية إدخال تعديلات على المخططات الهيكلية القطرية واللوائية والمحلية الإسرائيلية، كي تُقَنَّن استعمالات الأراضي في الحيز الذي سيُخصص للوصل الجغرافي. وربما يكون هناك حاجة إلى تعديل المخططات الهيكلية الإسرائيلية بواسطة إعداد مخطط خاص للحزام المحدَّد للوصل الجغرافي بين الضفة والساحل الفلسطينيين، يكون تعديلاً للمخططات القطرية سارية المفعول في المنطقة التي ستخصص داخل إسرائيل للوصل الجغرافي، ويتم تصديق هذا التعديل من جانب الحكومة الإسرائيلية. ويجب أن يجري إعداد المخطط المقترح بمشاركة فلسطينية، وأن تصدِّق عليه أجهزتها التخطيطية أيضاً.

أثر الوصل الجغرافي في الهياكل الداخلية للدولة الفلسطينية

أشرنا سابقاً إلى أن وجود منطقتين منفصلتين جغرافياً وحيّزياً يجعل الانتقال من منطقة إلى أُخرى مرتبطاً بضوابط ومعوقات شبيهة بالضوابط على الهجرة إلى دولة أجنبية. وقد خفف هذا الواقع الهجرة الداخلية بين المنطقتين بصورة ملحوظة، وجعلها لا تتجاوز أعداداً محدودة. كذلك فإن البنية العشائرية، ومصادر اللاجئين المتعددة التي سكنت كلاً من الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني بعد سنة 1948، وخضوع المنطقتين لنظامين سياسيين يختلف أحدهما عن الآخر، كل هذا ساهم في إيجاد وحدات اجتماعية واقتصادية وثقافية، بينها فوارق وربما في بعض الأحيان غربة على الرغم من انتمائها إلى شعب واحد.

إن خضوع المنطقتين لوحدة سياسية وإدارية واقتصادية وقانونية سيوحد الانتماء. كما أن الوصل الجغرافي سيعمق هذه الوحدة، ويزيد في الترابط بين أبناء الشعب الواحد، وفي الانتماء إلى الحيز الجغرافي السياسي الذي سيصبح واحداً بعد توفر الوصل الجغرافي. وفي سبيل تحقيق ذلك يجب أن تؤمن بنية تحتية مؤسساتية وإدارية واحدة، تعمل بموجب قوانين وأعراف واحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن كان ثمة تطور غير متوازن حالياً بين المنطقتين فسيؤدي إلى انتقال العمالة ورأس المال إلى المواقع التي تتوفر فيها فرص العمل والربح والاستثمار، وخصوصاً أن الضوابط على تنقل السكان الفلسطينيين داخل الوطن الواحد ستلغى. لذلك يجب أن يتم إعداد استراتيجيا وخطط تتوقع حجم هذا التنقل والتوظيف الاستثماري من أجل إقامة البنية التحتية لتشجيع كل منهما وإيجاد الفرص أمامهما. وهذا يعني اختيار مركز إداري اقتصادي يشمل الفعاليات الاقتصادية، وخصوصاً أن الدولة الفلسطينية تميل إلى التمركز نظراً إلى حجمها فيما يتعلق بالتوظيف المالي والاستثماري ومساحتها وعدد سكانها ومعايير أُخرى. والاختيار هو بين القدس وغزة، إذ إن لكل واحد من هذين المركزين أفضلياته. وقد كان كلاهما حتى الآن مركزاً لمنطقة، لكن الوصل الجغرافي سيدفع في اتجاه إيجاد مركز واحد أو ربما مركزين، رئيسي وثانوي، يتقاسمان مقار المؤسسات المركزية الإدارية والمالية والاقتصادية، بالإضافة إلى مراكز الحكم والسياسة.

ومن أجل تحقيق التواصل والتكامل يجب إعداد شبكة المواصلات الداخلية في الدولة الفلسطينية على اعتبار أن الوصل الجغرافي مركز لحركة المواصلات بين جزأي الدولة الفلسطينية. ومن مدخل النفق في الوصل الجغرافي يتم توزيع المواصلات الداخلية. ولعملية تخطيط شبكة الطرق الداخلية والمواصلات أهمية خاصة كي يتم تفادي اختناقات مرورية. وهذا يعني أنه عند تخطيط النفق في الوصل الجغرافي يجب أن يباشر أيضاً تخطيط شبكة الطرق الداخلية المؤدية إلى النفق، من أجل تلافي اختناقات مرورية عند المدخل. كذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار تخطيط استعمالات الأراضي عند مدخل النفق؛ وهذا يشمل، مثلاً، إقامة منطقة تشغيل أو خدمات أو ربما إقامة مدينة جديدة أو توسيع إحدى القرى لتصبح مدينة في المدى البعيد.

ما أود أن أشدد عليه هو أن التخطيط القطري الهيكلي والقطاعي في الدولة الفلسطينية يجب أن يكون مختلفاً نتيجة وجود الوصل الجغرافي عما هو عليه اليوم. لذلك يجب أن تعدّ، في البداية، الخطط والبرامج، بما في ذلك وضع سياسات تنموية تتجاوب مع وجود هذا الوصل، بحيث تعتمد على توازن إقليمي. على سبيل المثال، إن وجود الوصل الجغرافي ربما يقلل من الهجرة التاريخية من منطقة الخليل شمالاً، وينقل المركز في اتجاه الجنوب، وبذلك تصبح منطقة شمال الضفة الفلسطينية من الأطراف في الدولة الفلسطينية، الأمر الذي يدفع الهجرة منها في اتجاه الجنوب، إلى القدس أو الخليل. ربما كانت مناقشة هذه الأمور التفصيلية سابقة لأوانها، لكن لا بد من دراستها لاحقاً كي نؤمن تطوراً هيكلياً متوازناً في الدولة الفلسطينية، وكي يتم تجاوز الازدواجيات وإهدار الموارد. ونظنّ أن بنية الدولة الفلسطينية نتيجة وجود الوصل الجغرافي، حتى لو كان نفقاً، ستختلف عما هي عليه. ومرد هذا الاختلاف هو إيجاد فرص المنافسة داخل البلد الواحد، وإيجاد فرص تنقل السكان، وتحول في مركز ثقل الفعاليات الاقتصادية، وحركة السكان، وتوحيد الهياكل الإدارية والقانونية والمؤسساتية والاقتصادية والسياسية، بعد أن كانت شبه مفصولة.

خلاصة

لقد تبيّن، نتيجة اللقاءات مع أصحاب قرار فلسطينيين ونتيجة مناقشة بعض المهتمين الإسرائيليين، أن آلية الوصل الجغرافي بين الضفة الفلسطينية والساحل الفلسطيني لم توضع إلى الآن على طاولة المفاوضات كموضوع أساسي على الرغم من أهميتها. وكانت أفكار أولية عُرضت، لكن بصورة غير جدية لأن التركيز منصبّ حالياً على الممرات الآمنة. وكما بينّا فإن للوصل الجغرافي أهمية خاصة لأنه يتجاوز حدود الأراضي الفلسطينية - التي يدور الحديث عنها كي تكون خاضعة للسيادة الفلسطينية - إلى داخل دولة إسرائيل، وأن الأمر يمكن تجاوزه بواسطة طرح آلية للوصل تستطيع تأمين مصالح الطرفين المتفاوضين والمتنازعين اللذين يسعيان لحل سياسي إقليمي، وأن الأهمية الأمنية والسياسية لوجود الوصل الجغرافي هي أحد صمامات الأمان لاستقرار هذا الحل السياسي الإقليمي المطروح.

وكما أشرنا، فإن التفكير في الوصل الجغرافي كان حاضراً في قرار التقسيم رقم 181 الذي اتخذته الأمم المتحدة سنة 1947، لكنه لم ينفذ حتى الآن. إن التغيرات السياسية والإقليمية لا تُفْقِد وجوب الوصل الجغرافي أهميته لتكوين الوحدات السياسية. وربما تمكّن التقنيات الحديثة من تحقيق هذا الوصل من دون تقاطع مع سيادة الدولة الأُخرى. إن الآلية التي اقتُرحت للوصل، وهي نفق طوله نحو 36 كلم وعرضه نحو 52.5 متراً ويخصص له حزام بعرض 200 متر تقريباً، تؤمن التواصل الجغرافي، ومع ذلك تحول دون الاحتكاك بالإسرائيليين وتؤمن السيادة على حركة النقل داخل الدولة الفلسطينية واستمرارية هذه الحركة وتواصلها. ومن خلال دراسة تجارب إقامة الأنفاق نجد أن هذا الحل أصبح مقبولاً حتى لحل مشكلات المواصلات وتجاوز العوائق الطبيعية. وهنا، في الواقع الإسرائيلي - الفلسطيني، يمكن استخدامه لتجاوز معوقات سياسية وسيادية وأمنية. وربما يكون هذا الحل متميزاً، وخصوصاً في الواقع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي نشأ. لكن من المتوقع أن يكون هذا التميز الحالي هو حل مقبول ومتعارف عليه عالمياً ويُقتفى أثره لحل مشكلات إقليمية ومنازعات بين أقليات قومية داخل الدولة الواحدة يمكن أن تحدث في القرن المقبل، وخصوصاً على خلفية الصراعات الإثنية المتزايدة داخل الدولة القومية، أو الصراعات السياسية الحالية.

لا بد في النهاية من الإشارة إلى أن طرح الأفكار التي عرضت في هذا المقال ما زالت بحاجة إلى إثباتات كمية، وأن هناك حاجة ماسة إلى وضع تفصيلات أُخرى تشمل النواحي الإدارية والسياسية والمؤسساتية التي من المتوقع إعدادها وطرحها على طاولة المفاوضات كمقدمة للاتفاق على إقامة الوصل الجغرافي المقترح.n

المراجع

المراجع العربية

- عباسي، أحلام وهبة طهبوب. "دراسة حول إمكانية إقامة معبر بين الضفة الغربية وقطاع غزة في الدولة الفلسطينية". مشروع تخرج، كلية الهندسة، جامعة بير زيت، 1991.

- عودة، عدنان. "مشروع دراسة حول المعبر". نابلس: مركز البحوث والدراسات الفلسطينية، 1997 (دراسة لم تنشر بعد).

- عوض الله، فيصل. "دراسة لمعبر المواصلات بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة". "شؤون تنموية"، المجلد الرابع، العدد الأول، أيار/مايو 1994، ص 12 - 28.

- كلايمن، أهرون. "مسألة الممر (الآمن)". "مجلة هنتيب"، رقم 4 (57)، 1997، ص 29 - 36 (بالعبرية).

- مدوخ، ماهر. "ميناء غزة - آفاق وتطلعات". "شؤون تنموية"، المجلد الرابع، العدد الأول، أيار/مايو 1994، ص 50 - 54.

- النقيب، فضل. "الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع: مشكلات المرحلة الانتقالية وسياسات المستقبل". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997.

المراجع الأجنبية

- Center for Engineering and Planning. Suggested Guidelines for Comprehensive Development, Palestine Studies Project. Ramalla, 1992.

- Falah, G. and D. Newman. “State Formation and the Geography of Palestinian Self-Determination.” Tijdschrift voor Economische Sociale Geografie, Vol. 87, No. 1, 1996, pp. 60-72.

- Glassner, M. I. Political Geography. New York: John Wiley & Sons. Inc., 1993.

- Gurr, T. R. Minorities at Risk: A Global View of Ethnopolitical Conflicts. Washington, D.C.: United States Institute of Peace Press, 1993.

-  Kliot, N. and Mansfield. “The Political Landscape of Partition; The Case of Cyprus.” Political Geography, Vol. 16, No. 6, 1997, pp. 495-521.

- Newman, D. “Towards Peace in the Middle East: The Formation of State Territories in Israel, the West Bank and Gaza Strip.” The Canadian Geographer, 1994, pp. 263-268.

- Newman, D. and Ghazi Falah. “Small State Behaviour: On the Formation of a Palestinian State in the West Bank and Gaza Strip.” The Canadian Geographer, Vol. 39, No. 3, 1995, pp. 219-234.

 

 

Author biography: 

راسم خمايسي: محاضر في جامعة حيفا، ومدير مركز التخطيط الاستراتيجي لسلطات محلية عربية، وباحث في معهد فلورسهايمر للدراسات السياسية في القدس.