الأحزاب الدينية: القوة الانتخابية والاعتبارات الائتلافية
Keywords: 
الكنيست الإسرائيلي
الانتخابات الإسرائيلية
الأحزاب السياسية الإسرائيلية
اليمين واليسار
Full text: 

              عشية الانتخابات يحوم سؤالان في الذهن، من زاوية الأحزاب الدينية، هما: أولاً، هل تسفر هذه الانتخابات عن موازين قوى برلمانية تحافظ هذه الأحزاب فيها على وضعها المتميز بصفتها "بيضة القبان" بين معسكري "اليمين" و"اليسار"، أم تخسر هذا الوضع وتنكسر شوكتها؟ ثانياً، مع من ستتحالف هذه الأحزاب بعد الانتخابات: الليكود أم حزب العمل؟ وهذان سؤالان ليس من السهل الإجابة عنهما الآن (أوائل أيار/مايو 1992). لكن يظل في الإمكان، من جهة، تفحص العوامل التي أدت إلى تحقيق الأحزاب الدينية انتصارها الكبير في انتخابات سنة 1988، وما طرأ على هذه العوامل من تغييرات في الأعوام الأربعة الماضية، ومن جهة أخرى تفحص الاعتبارات التي تدخل في حسابات الأحزاب الدينية عندما تعمد إلى بناء تحالفاتها السياسية. وهذا ما سنوجه اهتمامنا إليه فيما يلي، بعد عرض أبرز التطورات في نطاق استعدادات الأحزاب الدينية لخوض المعركة الانتخابية، وبعد المرور بسرعة على موقفها العام من مسألة مصير المناطق المحتلة. 

الاستعدادات لخوض المعركة

              أبرز التطورات التي حدثت في نطاق استعدادات الأحزاب الدينية لخوض المعركة الانتخابية، كان نجاح التيار الحريدي الأشكنازي*، الذي يمثله سياسياً حزبا أغودات يسرائيل وديغل هتوراه، في توحيد صفوفه وتشكيل قائمة موحدة لخوض الانتخابات.

              لقد تعرض العالم الحريدي الأشكنازي قبيل انتخابات سنة 1988 إلى هزة قوية أحدثت تصدعاً عميقاً في صفوفه ونجمت عنها خصومات وعداوات سياسية مريرة. وكان مصدر الهزة تجدّد الخصام العقيدي، وإنْ يكن على نطاق محدود وضيق، بين الطوائف الحسيدية والطوائف اللتوانية في العالم الحريدي. وهو خصام قديم رافق نشوء الحسيدية في القرن الثامن عشر، وكان قد خبا بمرور الوقت  وحل محله، منذ أوائل القرن الحالي، نمط من التعايش والتعاون السياسي في إطار حزب أغودات يسرائيل و"مجلس كبار علماء التوراة" – الهيئة الروحية والسياسية العليا للحزب في إسرائيل.**

              ومن الغريب في الأمر أن هذا الانقسام في صفوف التيار الحريدي الأشكنازي، بدلاً من أن يضعفه برلمانياً – كما توقع المراقبون – أدى إلى زيادة كبيرة في قوته؛ إذ فاز بسبعة مقاعد (أغودات يسرائيل: 5؛ ديغل هتوراه: 2) في مقابل مقعدين فاز بهما في انتخابات سنة 1984، عندما كان متحداً ومثّله أغودات يسرائيل فقط. وقد فسر "بلاط" الحاخام من لوبافيتش الزعيم الروحي والسياسي لطائفة حباد الحسيدية، طبعاً، فوز أغودات يسرائيل بخمسة مقاعد بأنه "معجزة" أخرى من معجزات الحاخام.

              هذه "المعجزة" لا يتوقع أحد من زعماء الحزبين، كما يبدو، تكرارها في الانتخابات الحالية، لعدة أسباب، ليس أقلها إصابة الحاخام من لوبافيتش، الطاعن في السن (93 عاماً)، مؤخراً بجلطة في الدماغ، واحتمال وفاته قريباً. والتقديرات الشائعة في أوساط الحزبين، هي أنهما قد لا يتمكنان معاً من الحصول على أكثر من أربعة مقاعد في الكنيست الثالث عشر؛ الأمر الذي أدى إلى اتفاق على خوض الانتخابات في قائمة موحدة، تقرر أن تدعى "يهدوت فِتوراه" (يهودية وتوراة)، والسعي لتوحيد الحزبين ومجلسي "كبار علماء التوراة" المنبثقين منهما.

وبموجب الاتفاق، سيحصل أغودات يسرائيل على الأمكنة الأول والثالث والرابع في القائمة الموحدة، وسيحصل ديغل هتوراه على المكانين الثاني والخامس، مع اتفاق تناوب بين الرابع والخامس في حال فشل القائمة الموحدة في الحصول على  المقعد الخامس، الذي لا يعتبر مضموناً. وسيتشكل "مجلس كبار علماء التوراة" الموحد من 26 عضواً، وتنبثق منه رئاسة لاتخاذ القرارات المهمة، يتم الاتفاق عليها بين الحاخام شاخ وبين أبرز زعيمين في الطوائف الحسيدية في إسرائيل، السيد المعلم الحاخام من فيشنيتس، موشيه يهوشع هاجر، وشقيق السيد المعلم الحاخام من غور، بنحاس مناحم ألتر.[1]

وبينما نجح التيار الحريدي الأشكنازي في توحيد صفوفه سياسياً عشية الانتخابات، ترتفع فوق وحدة التيار الحريدي السفاردي، الذي يمثله حزب شاس، علامة استفهام كبيرة. فقد تعرض هذا الحزب، أواسط سنة 1990، إلى "خضّة" عنيفة كادت تعصف به، بسبب الخلاف الذي ثار داخله بشأن مسألة مع من يجب التحالف: الليكود أم حزب العمل، على خلفية الأزمة التي أطاحت حكومة الوحدة الوطنية في آذار/مارس 1990 وانتهت بعودة الليكود إلى الحكم، وانتقال حزب العمل إلى المعارضة. فقد أيد وقتئذ الحاخام أليعيزر مناحم شاخ، الزعيم الروحي الأعلى للطوائف اللتوانية، والذي يعتبر المرشد الروحي لحزب شاس على الرغم من كونه أشكنازياً، التحالف مع الليكود، بينما أيد الحاخام عوفاديا يوسف، رئيس "مجلس حكماء التوراة"، السلطة الروحية والسياسية العليا للحزب، التحالف مع حزب العمل. واختلف في شأن الأمر، أيضاً، نواب الحزب الستة في الكنيست.

وقد جرت محاولات عديدة، بعد انتهاء الأزمة وحسم الأمور في مصلحة التحالف مع الليكود، لإجراء مصالحة بين زعامة شاس والحاخام بيرتس، لكن هذه المحاولات لم تتكلل بالنجاح. وفشلت أيضاً مساع قام الحاخام شاخ بها مؤخراً في الاتجاه نفسه. وقد أسس الحاخام بيرتس حزباً سفاردياً جديداً لخوض الانتخابات الحالية من خلاله، لكن سرعان ما عاد فقرر حل الحزب، بناء على طلب الحاخام شاخ، واعتزال العمل السياسي.[2]  غير أن اسمه ظهر في مكان مضمون في قائمة أغودات يسرائيل، وهو ما يعني أنه انتقل إلى القائمة الأشكنازية بدلاً من شاس السفاردية.

التطور البارز الآخر في نطاق استعدادات المعسكر الديني لخوض المعركة الانتخابية، هو حدوث الانتخابات الداخلية في حزب المفدال، ممثل التيار الديني القومي في أوساط المتدينين، والمنافس الرئيسي للأحزاب الحريدية فيما عنى قلوبهم وأصواتهم. وقد أسفرت الانتخابات الداخلية عن انتخاب زفولون هامر رئيساً للحزب بدلاً من أفنير شاكي، وإحلال نواب الحزب الخمسة في الكنيست الحالي في الأماكن الخمسة الأولى في قائمة مرشحي الحزب للكنيست المقبل، وقيام صفقة بين هامر والعناصر الشديدة التطرف في الحزب، تعهد هامر بموجبها بتأييد برنامج سياسي أكثر تطرفاً من البرنامج الحالي في مؤتمر الحزب المقرر عقده قبل الانتخابات.

وقد جرت الانتخابات الداخلية في جلستين عقدهما مركز الحزب يومي 9 و10 آذار/مارس الماضي. وقد أسفرت الانتخابات لرئاسة الحزب عن فوز هامر بأغلبية 57% من أصوات المركز في مقابل 41% لشاكي. وأسفرت الانتخابات لقائمة مرشحي الحزب للكنيست عن اختيار نواب الحزب الحاليين للأماكن الخمسة الأولى، وترتيب أماكنهم في القائمة وفقاً للتسلسل التالي: زفولون هامر (كتلة لمفنيه)؛ أفنير شاكي (لا ينتمي إلى كتلة)؛ يغآل بيبي (لمفنيه)؛ يتسحاق ليفي (متساد)؛ حنان بورات (متساد). ونذكر، في المناسبة، أن حلول بورات في المكان الخامس في القائمة، الذي لا يمكن اعتباره مضموناً تاماً أثار استياء شديداً في أوساط المستوطنين من مؤيدي المفدال في حركة غوش إيمونيم.[3]

وفي أواسط نيسان/أبريل، أنجزت اللجنة الفرعية لموضوعات السياسة والأمن في المفدال وضع مسودة البرنامج السياسي للحزب، وأرسلتها إلى أعضاء المركز لدراستها، تمهيداً لاجتماع المركز المقرر عقده قبل الانتخابات من أجل إقرار البرنامج. وقد ورد في مسودة البرنامج، فيما يتعلق بالقضايا السياسية والأمنية، ما يلي: بين البحر ونهر الأردن تقوم دولة واحدة فقط – هي دولة إسرائيل؛ لا يسلم أي جزء من أرض – إسرائيل إلى سلطة أو سيادة أجنبية؛ لا تقتلع أية مستوطنة يهودية من مكانها؛ القدس الموحدة هي الآن، وستبقى إلى الأبد، عاصمة لدولة إسرائيل وشعب إسرائيل؛ لا يمكن [قبول] أي كيان قومي مستقل عربي في أرض – إسرائيل؛ فيما يتعلق بالحرب ضد الإرهاب والانتفاضة، [تعتبر] حكومة إسرائيل، عن طريق الجيش وأذرعة الأمن، الجهة الوحيدة حصراً المسؤولة عن الأمن والهدوء والنظام العام، وينبغي لها أن تضمن الهدوء والأمن بكل الوسائل الضرورية؛ هضبة الجولان جزء من دولة إسرائيل غير قابل للسلخ عنها، ويجب أيضاً في عملية سياسية تهدف إلى تحقيق السلام عدم التفاوض في شأنها من زاوية الأراضي.

نشبت خلافات في اللجنة الفرعية لوضع مسودة البرنامج السياسي بشأن مسألة الحكم الذاتي (وفق صيغة الليكود)، وبين معارضي أي شكل من أشكال الحكم الذاتي. وفي ضوء تعذر الاتفاق على صيغة مشتركة، عُرضت على أعضاء المركز صيغتان تنص الأكثر تطرفاً فيهما على شجب الحكم الذاتي واعتباره "خطراً على دولة إسرائيل، ويمكن أن يؤدي إلى نشوء دولة فلسطينية"، وعلى التزام المفدال المطالبة بتطبيق السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة.[4]

الموقف من مصير المناطق

في المستوى العقيدي – السياسي، حيث تتموضع مسائل مثل: "أرض – إسرائيل"، وتكاملها، وملكيتها، واستيطانها، ومعاملة "الأغيار" فيها، فإن الأحزاب الدينية تتجه أكثر فأكثر، منذ احتلالات سنة 1967، نحو التطرف القومي، ونحو إصرار متزايد على المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بها. ونظراً إلى الدور الذي تؤديه هذه المسائل في تشكيل التحالفات السياسية للأحزاب الدينية، وخصوصاً في هذه الفترة لكونها مدرجة في جدول الأعمال السياسي في إطار مفاوضات السلام الحالية، فإن من الملائم الإشارة بسرعة إلى الموقف العام لمختلف الأحزاب الدينية منها.

أكثر الأحزاب الدينية تطرفاً من هذه الناحية هو المفدال، الذي قطع شوطاً طويلاً في مسار التطرف حتى باتت مواقفه أقرب إلى حزب هتحيا منها إلى الليكود. وقد أوردنا أعلاه مقتطفات من مسودة برنامجه السياسي تغني عن مزيد من الشرح. ولم يعد التطرف في مقاييس المفدال، في الوقت الراهن، هو الموقف من ضم الأراضي أو عدمه، وإحلال السيادة الإسرائيلية الآن أو تأجيلها، والاستيطان المكثف أو تخفيفه، وقمع الانتفاضة بمزيد من العنف أو الاستمرار في الوسائل الحالية – فهذه كلها باتت محسومة – بل أضحى المقياس الموقف من الحكم الذاتي: فمن يؤيد الحكم الذاتي، مثل زفولون هامر وأفنير شاكي ويغآل بيبي أصبح يعتبر معتدلاً، وأصبح المتطرف فقط من يعارضه، مثل يتسحاق ليفي وحنان بورات وحاييم دروكمان.

ولا يختلف حزب بوعالي أغودات يسرائيل، المندمج الآن مع أغودات يسرائيل، عن المفدال قيد شعرة في تطرفه. ويعتبر زعيمه، عضو الكنيست الحاخام أبراهام فيرديغر، من الشخصيات الدينية السياسية البارزة في إسرائيل ومن أكثرها تطرفاً. وقد تمرد الحاخام فيرديغر، في أثناء الأزمة الحكومية سنة 1990، مع عضو آخر من أعضاء أغودات يسرائيل الخمسة في الكنيست، على أوامر "مجلس كبار علماء التوراة" بتأييد مساعي شمعون بيرس لتأليف حكومة جديدة. وكان لموقفه وموقف زميله أليعيزر مزراحي (ممثل حباد في أغودات يسرائيل)، تأثير كبير في فشل مساعي بيرس وعودة يسرائيل إلى التحالف مع الليكود وإنجاح مساعيه لتأليف حكومة جديدة برئاسة يتسحاق شمير.

أما حزب أغودات يسرائيل، فيمكن تلخيص الوضع فيه على النحو التالي: برنامجه السياسي الرسمي صقري، ويتشابه كثيراً من برنامجي هتحيا والمفدال. وهناك عناصر قوية فيه تعارض التخلي عن أي شبر من "أرض – إسرائيل". لكن نظرته الدينية الشاملة، التي تشدد على أن خلاص الشعب اليهودي، وجمع شتاته، واستعادته "أرضه المقدسة"، ستتم فقط على يد "المسيح" المنتظر، وأن أية محاولة لاستعجال الأمور أو "مصادرة" دور "المسيح" هي بمثابة كفر وهرطقة، تجعل كثيرين من زعمائه النافذين على استعداد للقبول بالتخلي عن أجزاء من "أرض إسرائيل" في الوقت الراهن، باعتبار أنه لا يوجد ما يشير إلى أن عملية الخلاص الإلهية قد بدأت. ويشذ عن هذا الاعتقاد، في أوساط أغودات يسرائيل، أتباع طائفة حباد الذين يعتقدون أن زعيمهم، الحاخام من لوبافيتش، هو "المسيح" المنتظر، وأن عملية الخلاص جارية فعلاً الآن، وبالتالي من المحظور دينياً التخلي عن أي جزء من أجزاء "أرض – إسرائيل"، أو التساهل مع أعداء إسرائيل.

وأما شاس وديغل هتوراه، فهما أقل الأحزاب الدينية تطرفاً من ناحية البرامج والتركيب الشخصي للقيادة الأولى فيهما، وخصوصاً بعد انسحاب يتسحاق بيرتس من حزب شاس. وقد أفتى الحاخامان شاخ وعوفاديا يوسف، في أكثر من مناسبة، بجواز التخلي عن أجزاء من "أرض – إسرائيل" في مقابل السلام، تفادياً للحرب و"حقنا للدم اليهودي". وقد ذهب رئيس ديغل هتوراه، أفراهام رابيتس، في مقال نشره في صحيفة Jerusalem Post بعد انتخابات سنة 1988، إلى حد الموافقة على التخلي عن مناطق محتلة فحسب، بل أيضاً على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح فيها، وأعرب عن استعداده لتأدية التحية لعلم هذه الدولة.[5]

 القوة الانتخابية

              حققت الأحزاب الدينية، في انتخابات سنة 1988، نصراً كبيراً تمخض عن زيادة قوتها البرلمانية من 12 مقعداً في الكنيست الحادي عشر إلى 18 مقعداً في الكنيست الثاني عشر. وبمقدار ما فاجأت هذه الزيادة الكبيرة المراقبين، فاجأهم كون نصيب الأحزاب الحريدية من الغنيمة (13 مقعداً من أصل 18) أكثر من ضعف نصيب المفدال – الحزب القومي الديني (5 مقاعد). فقد حدث أن حصلت الأحزاب الدينية مجتمعة في السابق، وبالتحديد في الكنيست الرابع والخامس والسادس، على 18 مقعداً، لكن نصيب الأحزاب الحريدية منها كان دائماً 6 مقاعد في مقابل 12 للمفدال. وجاءت انتخابات سنة 1988 لتعكس النسبة، أول مرة في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية، لمصلحة الأحزاب الحريدية. وقد دفعت هذه الظاهرة علماء السياسة والاجتماع إلى الانكباب على دراستها، لفهم العوامل التي أدت إليها. ومن أهمها: ازدياد عدد أفراد الطوائف الحريدية، ووحدة المعركة الانتخابية، ومشاركة أتباع "حباد" في الانتخابات وتصويتهم بنسبة كبيرة لمصلحة شاس، إلخ.[6]

              وهنا نصل إلى السؤال: هل ما زالت هذه العوامل قائمة، وبالتالي هل يمكن توقع محافظة الأحزاب الدينية على قوتها البرلمانية، أم أن التطورات في الأعوام الأربعة الماضية قد أدت إلى اختفائها، أو إضعاف مفعولها؟

              إن استقصاءين أجراهما "معهد داحف"، في شهري آذار/مارس ونيسان/أبريل الماضيين، يشيران إلى محافظة المفدال وديغل هتوراه على قوتهما الانتخابية (5 مقاعد للأول ومقعدان للثاني، أي عدد مقاعدهما نفسه في الكنيست الثاني عشر)، وإلى انخفاض معين في قوة أغودات يسرائيل وشاس (4 مقاعد للأول في مقابل 5 مقاعد في الكنيست الثاني عشر، و4 مقاعد للثاني في مقابل 6 مقاعد).[7]

              ومما لا شك فيه  أن جزءاً من العوامل التي قامت بدور مهم في تحقيق الانتصار الذي أحرزته الأحزاب الحريدية في الانتخابات الماضية، سيختفي في الانتخابات الحالية، وجزءاً آخر سيضعف مفعوله. كذلك، فإن الأحزاب الحريدية قد فقدت كثيراً من هيبتها ومكانتها السابقة نتيجة سلوكها في الأزمة الحكومية سنة 1990. ويمكن إيجاز التغييرات الطارئة على هذه العوامل بما يلي:

              أولاً، هناك 200 ألف مهاجر سوفياتي تقريباً أُضيفوا إلى سجل الناخبين. وهذا عامل من شأنه أن يضعف فعل العاملين الديموغرافي والطائفي سابقاً في اتجاه مصلحة الأحزاب الحريدية؛ إذ إنه يعني انخفاض نسبة الحريديين واليهود الشرقيين في المجموع العام للناخبين. كما أن من شأنه أن يؤثر سياسياً في غير مصلحتها؛ إذ تدل الاستقصاءات على عدم وجود أية نية لدى المهاجرين السوفيات للتصويت إلى جانب أي من الأحزاب الدينية.

              ثانياً، ليس من المؤكد أن الأحزاب الحريدية الأشكنازية، بعد اتفاقها على خوض الانتخابات في قائمة موحدة، ستكون قادرة على استنفار ناخبيها هذه المرة بقوة شبيهة أو حتى قريبة من قوة الاستنفار في الانتخابات الماضية. كما أن مرض الحاخام من لوبافيتش، وإصابته بالشلل، والبلبلة المشوبة بالاستهجان التي أحدثها في أوساط الطوائف الحسيدية الأخرى إعلان أتباعه من طائفة حباد مؤخراً، جهاراً ورسمياً، أنه "المسيح" المنتظر، تجعل من المشكوك جداً فيه أن تقوم طائفة حباد بدور مهم في الانتخابات الحالية. هذا إنْ قامت بأي دور على الإطلاق.[8]

ثالثاً، في ضوء تذبذب موقف أغودات يسرائيل وشاس، بين تأييد حزب العمل تارة، وتأييد الليكود تارة أخرى، في أثناء الأزمة التي نجمت عن انهيار حكومة الوحدة الوطنية سنة 1990، ليس من المستبعد أن يعود جزء من الناخبين المتدينين المتطرفين إلى التصويت لليكود أو لأحزاب أقصى اليمين بدلاً من التصويت للأحزاب الدينية.

وما يمكن استخلاصه من ذلك كله، أن من الأرجح أن يفقد المعسكر الديني في الانتخابات الحالية جزءاً لا بأس فيه من قوته البرلمانية، وأن يتقلص حجمه في الكنيست الجديد.

لكن ذلك، إنْ حدث، لن يعني تلقائياً خسارة دوره المتميز الموصوف في الأدبيات السياسية بعبارة "بيضة القبان". فأن يكون حزب ما في إسرائيل، أو مجموعة أحزاب متشابهة في سلوكها الائتلافي، العامل الحاسم في ترجيح الكفة برلمانياً إلى مصلحة معسكر اليمين أو اليسار، لا يعتمد على عدد مقاعده أو مقاعدها مجتمعة فحسب، بل يعتمد أيضاً على تركيبة موازين القوى في الكنيست بأسره.

ففي الكنيست الثاني عشر كانت تركيبة موازين القوى كما يلي: 47 مقعداً لليكود وحلفائه الطبيعيين (هتحيا، وتسومت، وموليدت)؛ 55 مقعداً لحزب العمل وحلفائه الطبيعيين (راتس، ومابام، وشينوي، والقوائم العربية)؛ 18 مقعداً للأحزاب الدينية. ومن الواضح أنه في ظل هذه التركيبة كان من المستحيل على أي من الحزبين تأليف حكومة من دون الأحزاب الدينية، أو عدد منها. لكنْ، لو تمكن معسكر اليسار، مثلاً، في الانتخابات الحالية من الحصول على 5 مقاعد إضافية لأصبح في إمكانه أن يحول دون تأليف أية حكومة لا يتزعمها، ولفقدت الأحزاب الدينية دورها المتميز مهما يكن عدد المقاعد التي تحصل عليها. ومن ناحية أخرى، لو خسر المعسكر الديني، مثلاً، نصف مقاعده أو أكثر، وأتت التركيبة الشاملة لموازين القوى على نحو لا يتيح لأحد المعسكرين المتنافسين تأليف الحكومة من دونه، فإنه سيظل مختفظاً بدوره المتميز.

الاعتبارات الائتلافية

              يبقى أخيراً السؤال: مع من يتوقع أن تتحالف الأحزاب الدينية بعد الانتخابات؟

              إن الميل الغريزي للأحزاب الدينية في إسرائيل الراهنة يتجه نحو التحالف مع معسكر اليمين، لا مع معسكر اليسار. ويتغذى هذا الميل من اعتبارات عقيدية وسياسية، ومصالح مادية ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأحزاب الدينية.

لكن ذلك لا يعني أن تحالف الأحزاب الدينية، أو على الأقل عدد منها، مع حزب العمل مستبعد تماماً، إذا حظي بفرصة جيدة لتأليف الحكومة. فالأحزاب الدينية، وخصوصاً الحريدية، لا تستطيع الابتعاد عن المشاركة في الحكم؛ إذ تعتمد شبكات تعليمها الواسعة (المستقلة عن شبكات التعليم الرسمي) ومؤسساتها الاجتماعية، اعتماداً كبيراً، على المخصصات المالية الممنوحة لها من الحكومة. كما أن جزءاً كبيراً من نفوذ قادة الأحزاب الدينية، في أوساط الجمهور الديني، مستمد من المناصب والتعيينات التي تضعها التحالفات الائتلافية في تصرفهم. ولا يمكن، بالإضافة إلى ذلك، تجاهل دور المنازعات والخصومات الشخصية في دفع قادة من الأحزاب الدينية إلى تأييد التحالف مع حزب العمل "نكاية" بأحزاب دينية أخرى أو بقادة آخرين في الحزب نفسه، كما برهنت على ذلك الأزمة الحكومية سنة 1990.

أوائل أيار/مايو 1992

*    ينقسم عالم المتدينين في إسرائيل إلى قسمين هما: المتدينون الصهيونيون الذين يسمون بالعبرية "هتسيونيم هدايتيم"؛ والمتدينون المتزمتون الذين يسمون "حريديم"، جمع "حريدي". ونفضل استخدام المصطلح العبري لسهولة تصريفه وتعبيره بصورة أدق عن الظاهرة التي يصفها.

**   الحسيدية حركة صوفية نشأت في لتوانيا (جنوب شرقي بولندا) في القرن الثامن عشر، ودعت إلى مبادىء مخالفة للتعاليم الدينية التقليدية السائدة آنذاك، قائلة إن هدف الدين الالتصاق بالله من خلال تركيز الفكر كله في الخالق، وبذل الجهد للتعرف على مزاياه من دون الحاجة إلى التعمق في دراسة التعاليم الدينية، لأن مجرد إقامة الصلوات والشعائر الدينية تحل محلها. وتدعي أيضاً أن في استطاعة كل إنسان، إذا كان صالحاً صدّيقاً، التماثل مع الله ومعرفة أسراره. وقد أثارت هذه الحركة حفيظة الحاخامين، وخلقت تياراً معارضاً لها اعتبر الحسيدية ضرباً من ضروب الشعوذة. وقد دعي أنصار هذا التيار باسم "هِمتنغديم"، أي المعارضين، وغلبت عليهم تسمية "اللتوانيين"، لنشوئه في لتوانيا.

[1]   "هآرتس"، 30/4/1992.

[2]   المصدر نفسه، 6 و14/5/1992.

[3]   المصدر نفسه، 10 و11/3/1992.

[4]   "دافار"، 13/4/1992.

[5]   Avraham Rabitz, “Towards Real Peace,” Jerusalem Post, December 29, 1988.

[6]    من أجل معلومات تفصيلية عن نتائج انتخابات سنة 1988، وعن تحليلات الخبراء وعلماء السياسة والاجتماع لنتائجها، أنظر: "نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، السنة الخامسة عشرة، تشرين الثاني (نوفمبر) 1988.

[7]   "يديعوت أحرونوت"، 20/3/1992 و10/4/1992.

[8]   بشأن الإعلان، أنظر: "هآرتس"، 1/5/1992؛ وفي شأن البلبلة التي أحدثها الإعلان في الأوساط الحسيدية، أنظر: شاحير إيلان، "ضد الحاخام، لا أحد يتكلم"، "هآرتس"، 6/5/1992. ورسم استقصاء نشر في منتصف أيار/مايو الصورة التالية: شاس، 4 مقاعد؛ أغودات يسرائيل، 3 مقاعد؛ ديغل هتوراه، مقعدان؛ المفدال، 4 مقاعد. أنظر: Jewish Chrocnicle, May 15, 1992.