إن العلاقة الحميمة التي لم تزل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ سنة 1967 تقيمها مع المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة، تمرّ اليوم بفترة اضطراب، وإنْ تكن قد مرت سابقاً بفترات توتر. أول ما صدم المستوطنين كان إعلان رئيس الحكومة يتسحاق رابين، بعيد انتخابات 23 حزيران/ يونيو، قرب تطبيق مشروع الحكم الذاتي الذي قبلت إسرائيل به في كامب ديفيد. ومثله ما كان من إعلانه رسمياً التمييز بين صنفين من المستوطنات: المستوطنات الأمنية (وهي شيء جيِّد)، والمستوطنات السياسية (وهي شيء سيِّىء جداً).
وقد عقب ذلك إعلان حزب العمل، في 23 تموز/ يوليو، تجميداً واسع النطاق – وإنْ لم يكن كلياً – لعمليات إنشاء المستوطنات، مصحوباً بكثير من الكلام على "تجفيف مورد المستوطنين" في أوساط حلفاء العمل الحمائميين.
عملياً، كانت التغيّرات حتى الآن بعيدة عن الجذرية، مثلما لاحظ نفر من قادة المستوطنين مع شيء من الارتياح: بادىء ذي بدء ما زالت عبارة الحكم الذاتي تحتاج إلى تعريف واضح من رابين؛ إذ إن كل ما فسّره حتى الآن هو أنها لا تعني دولة فلسطينية. يضاف إلى ذلك أن التجميد جزئي جداً في الحقيق: فبينما سيوقَف بناء 6681 شقة سكنية ما زالت عقود إنشائها قائمة أو ما زال العمل فيها في مراحل التخطيط، فمن الممكن إنجاز 8884 شقة أُخرى. والأهم من هذا أن الـ 1686 شقة، التي هي في قيد الإنشاء في المستوطنات القريبة من القدس، أي معاليه أفرايم، وإفرات، وبيتار، ومعاليه أدوميم، معفاة من التجميد.
وكما لاحظ زعماء حركة السلام الآن فإن التجميد، في الواقع، سيتيح لخمسين ألف مستوطن جديد أن يقيموا في الأراضي المحتلة.
إن خطر "تجفيف الموارد" ما زال بعيداً أيضاً. ومع أن بعض قادة المستوطنين يشكون كونهم يشعرون بأنهم كالسمك في بركة الماء، لا تمسّهم الحكومة لكنها تفرغ الماء من البركة، فإن أيّاً من الموارد لم يُقطع بعد. أمّا الخطط الموضوعة لإلغاء وضع المستوطنات كلها كمناطق تطوير وإعمار ذات أفضلية، وهي من مطالب حزب ميرتس القديمة، فما زالت في مرحلة الدراسة من قبل اللجان البرلمانية.
وأشد ما فُرض من إجراءات مضادة للاستيطان حتى الآن يبدو أمراً ثانوياً: ألا وهو اطراح كل الخطط الموضوعة لشق الطرق الجانبية في الضفة الغربية. والاضطرار إلى قيادة السيارات بانتظام، عبر المدن الفلسطينية المعادية، هو مصدر الإزعاج الوحيد الذي يشكوه المستوطنون بانتظام.
ولا شيء من هذا كله يفسِّر ردّة الفعل شبه الهستيرية التي صدرت عن نفر من قادة المستوطنين. فبعد سويعات من بداية تغيير السياسات، راحوا يحذرون من "لجوء المستوطنين إلى أسلحتهم"، ومن "القتال حتى النهاية"، ومن إحياء "المنظمات السرية اليهودية" التي وضعت العبوتين في سيارة رئيس بلدية نابلس، وسيارة رئيس بلدية الخليل.
لكن النظر عن كثب إلى حياة المستوطنين يسبغ شيئاً من المعنة على ردات الفعل هذه. إذ إن المستوطنين يتمتعون، في مجتمع إسرائيل البعيد عن العدالة، بوضع متفرّد بامتيازاته. فهم الفئة الوحيدة من السكان التي لا تضم أحداً ممن هم أدنى من مستوى الفقر، ولا توجد أُسرة من دون مسكن أو مسكن مكتظ بمن فيه، ولا يوجد مفلسون. كما أنه ما من طفل من أطفال المستوطنين يعاني الافتقار العام إلى المدرسين، وغرف التدريس، والكتب المدرسية، مهما تبلغ المستوطنة التي يعيش فيها من البعد أو من الصغر.
وقد تولّدت أوضاع الحياة هذه كلياً من جراء الدعم الانتقائي، الذي أُدخل معظمه في ظل حكومات الليكود. والمستوطنون مؤهلون للحصول على أربعة أمثال ما يحصل غيرهم عليه من القروض السكنية الحكومية؛ وهذا يعني أن في استطاعتهم شراء منازل من دون رأس مال. وكل طفل من أطفالهم يحصل على ضعفي ما يحصل غيره عليه من مخصصات الأطفال والتعويضات التربوية ومنح المواصلات. كما أن المستوطنين يحصلون على حسم 7% من الضرائب المفروضة على الإسرائيليين. وإذا ما أرادوا استثمار أموالهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن حوافز إضافية تتاح لهم؛ فالمصالح التي تؤسَّس هناك تستدرج إمّا منحة حكومية تصل إلى 38% من نفقات الاستثمار الإجمالية، وإمّا خيار الإعفاء من الضرائب كلها لمدة عشرة أعوام.
بهذه الحوافز توصلت حكومات الليكود المتعاقبة إلى رفع عدد المستوطنين الإسرائيليين، في الأراضي المحتلة، إلى ما يفوق 100,000 نسمة. إلا إن الناس الذين استُدرجوا على هذا النحو "ليِّنون" إيديولوجياً. ومن الأدلة على ذلك أن 20% منهم صوتوا لحزب العمل في الانتخابات الأخيرة. وهم إذا ما ووجهوا بمستقبل يعسر التنبؤ به، وبنمط حياة أقل أمنا، وبانخفاض مستوى المعيشة، فقد لا يمكثون حيث هم.
غير أن نواة المستوطنين الصلبة مستعدة للنضال، في رأي زئيف شيف على الأقل؛ فهم يحلمون أولاً بمواجهات مسلّحة مع الشرطة الفلسطينية التي ينبغي للمستوطنين احترامها بعد قيام الحكم الذاتي. لكنهم لمّحوا أيضاً إلى تهديدات مبطنة باستعمال العنف ضد الساسة الإسرائيليين "الخونة".
أمّا مدى الانتشار الذي يمكن لمقاومة كهذه أن تصل إليه، فأمر غير واضح. ثمة أدلة تشير إلى أنها لن تحظى بالدعم، حتى من قبل جمهور المستوطنين "الأيديولوجيين". ففي مقابلة مع إحدى صحف اليمين الإسرائيلي، ذهبت مستوِطنة ذائعة الصيت إلى أن المستوطنين قد باتوا على درجة من التبرجز تحول دون خوضهم معركة حقيقية. "صار لكل واحد منا أُسرة ومنزل"، كما قالت، "ونحن نعيش في مستوطنة جيدة ومنظمة الآن. وقد غدونا جزءاً من المؤسسة الحاكمة، لذلك فقد تغيرت وسائل نضالنا."
هذه نظرة يشاطرها إياها قدماء من المستوطنين. ومن وجوه هؤلاء زئيف إرليخ، من مستوطنة عوفرا، الذي تكلم بلسان الكثيرين منهم؛ إذ علَّق على تجميد الاستيطان قائلاً: "سنناضل الآن بالوسائل المتاحة، وسائل الإعلام والقنوات القانونية والعمل المعتاد، من أجل حجب الثقة عن الحكومة."
وإذ بات المستوطنون مقتنعين بأنهم قصّروا في استخدام وسائل الإعلام استخداماً فعالاً كافياً، شرعت منظماتهم تعوِّض مما فاتها. فقد أظهر فيلم دعاية، أصدروه في 26 حزيران/ يونيو، سيناريوهات مستقبلية للعلَم الفلسطيني مرفرفاً فوق إسرائيل، ورجال الشرطة العرب يحجبون الإسعافات الطبية عن مستوطن جريح، وقاض عربي يأمر مستوطناً بردّ أرضه إلى مالكها قبل سنة 1967. وكل هذا سيكون، فيما زعم الفيلم، من نتائج سياسات الحكومة الجديدة.
وقد استأجر مجلس المستوطنين أفضل محام في تل أبيب للطعن في تجميد الاستيطان أمام المحاكم الإسرائيلية. والحجة التي يريده أن يدافع عنها هي أن التنجميد يعدُّ انتهاكاً لحقوق المستوطنين المدنية.
إن تكتيكات التخويف هذه قد تؤدي، طبعاً، إلى عكس النتائج المرجوة منها، إذ إنها قد تغذي الرغبة في الفصل التام. لكن الخيارات البديلة المتاحة للمستوطنين قليلة حقاً. ولما قال الأمين العام لمجلس مستوطني يهودا والسامرة أوري أريئيل، في وقت سابق من هذا الشهر، "إن الذين تسلّحوا ردّاً على نتائج الانتخابات مجانين... لأن سيرة المنظمات السرية اليهودية لن تتجدَّد"، فقد كان يعلم عمّا يتكلّم بالضبط.
وفي رأي المحللين الإسرائيليين الأكثر خبرة أن المستوطنين قد باتوا الآن على درجة من الانقسام والرفاهية تحول دون تكوينهم حركة مقاومة.
بعد خمسة وعشرين عاماً من إطلاق حزب العمل عملية الاستيطان، تبدو ثمارها اليوم في غاية التنوّع. فالمستوطنات الكبرى، مثل: أريئيل ومعاليه أدوميم وألفي منشيه، تضم أناساً قدموا بحثاً عن مسكن رخيص، وعما يصفه الإسرائيليون بـ"نوعية حياة جيدة." ويقترع معظمهم إلى جانب الليكود، لكن نفراً منهم صوّت لأحزاب اليمين المتطرف والعمل، وحتى لحزب ميرتس.
أمّا المستوطنات الصغرى التي لا يضم بعضها أكثر من دزينتين من الأسر فهي أقرب إلى خط التشدُّد. فالمقيمون فيها أناس ملتزمون، استوطنوها لأسباب قومية بحتة، مطَّرحين رفاهية المدن (وإنْ كانوا غير محرومين من رفاهية الضواحي). وهؤلاء هم الجماعة التي تصنع صورة المستوطنين، وتحدِّد الإيقاع لأنشطتهم.
وثمة المزيد من الفوارق – حتى بين المستوطنات الصغرى: فبينما البعض منها زراعي، فإن بعضها الآخر سكني، (Communal) وهذه تورية للمدن – المنامات؛ ومنها مستوطنات غير دينية، وأُخرى دينية تمارس أنواعاً مختلفة من الديانة اليهودية؛ ومنها مستوطنات ترتبط ارتباطاً رسمياً ببعض الأحزاب السياسية، ومستوطنات لا ترتبط بحزب؛ وأخيراً ثمة فجوة بين المستوطنات التي يغلب عليها الطابع الإسرائيلي وبين تلك التي يغلب عليها الطابع الأميركي على نحو شبه كامل، مثل عمانوئيل. ومع هذه الاختلافات ربما صعب أحياناً الحفاظ حتى على الاحترام المتبادل.
والمتطرفون هم الأشد انقساماً بين المستوطنين. فبينما يؤيد الجميع حركة "كهانا حيّ في مستوطنة تبواح، يؤيّد مستوطنو الخليل حركة "كاخ" القديمة. والجماعتان لا تتخاطبان، وفي وسعهما حتماً أن تشكلا معاً منظمة سرية - في رأي المحللين الإسرائيليين. كما أن في وسع كل منهما على حدة أن تلحق، مع ذلك، قدراً معيناً من الأذى.
أما غوش إيمونيم، فقد انقسمت انقساماً تاماً. لم يغادرها الحاخام موشيه ليفنغر فحسب، بل غادرتها أمينتها العامة دانييلا فايس أيضاً، وهما يعملان على تنظيم حركة لمناهضة الحكم الذاتي، ستنافس الجماعة الأم في العمل الإعلاني. ويذهب ليفنغر وفايس إلى إلقاء الملامة صراحة على تقاعس غوش إيمونيم، التي يعدّانها سبباً لهويمة اليمين في انتخابات حزيران/ يونيو.
وثمة أيضاً عقبات أُخرى في وجه قيام المستوطنين بمقاومة عارمة، منها التركيب السكاني لجماعة المستوطنين. إذ لمّا كانت المستوطنات تتكون في معظمها من أُسر شابة – فهي لا تشجّع استيطان العازبين – فإنها تفتقر إلى جماعات الفتية المراهقين الجسوري، على غرار الذين تميزت الانتفاضة بهم. وعلى المستوطنين أن يأخذوا أولادهم معهم إلى حيث سيقومون بأية أنشطة، وهذا يحدُّ مما يستطيعون أن يقوموا به من تحركات عامة، مثل عرقلة السير على الطرق مؤخراً.
والعقبة الأخيرة هي، بكل بساطة، عقبة مالية. ذلك بأن "أمناه" ومجلس المستوطنين، وهما منظمتان كبيرتان من شأنهما تعزيز نضال المستوطنين ضد الحكم الذاتي، يعتمدان كلاهما على الحكومة الإسرائيلية للحصول على تمويل أنشطتهما. ويتلقى الكثيرون من موظفيهما رواتبهم من وزارة الداخلية مباشرة.
إن اعتبارات كهذه هي من جملة ما يكون خلف الحذر الذي يبديه بعض قادة المستوطنين، من أمثال الحاخام أليعيزر ميلاميد. فالحاخام الذي يقيم "في مستوطنة براخا السامرية" علّق، باعتدال، على تصريحات رابين قائلاً: "إذا فرضت الحكومة ضرباً من الحِمْيَة على المستوطنات في يهودا والسامرة، فقد يكون هذا خيراً لها. فالحمية ستعزِّز قيمنا الداخلية."
وثمة مستوطنون آخرون يعلقون آمالاً كباراً على القضاء الإسرائيلي، مثلما يتبين مماقاله أحدهم لصحيفة "هآرتس": "سنضع ثقتنا الآن في النظام القضائي، في قضاة المحكمة العليا الثلاثة عشر، وفي المستشار القانوني للحكومة، وكلهم معيَّنون غير منتخبين. هؤلاء أناس يضعون القانون نصب أعينهم، لا العدل."
ويمكن لعكس ذلك أن يحدث أيضاً، مثلما لاحظ هغاي سيغل. فما يخشاه سيغل هو أن تقدم الحكومة، وبصورة قانونية، على حظر منظمات المستوطنين ومنشوراتهم باعتبارها غير ديمقراطية، مثلما حظرت حزب كاخ. "فاليساريون والعرب"، الذين يحكمون إسرائيل الآن، فيما يعتقد سيغل، لن يترددوا في اتخاذ إجراءات كهذه في أية مواجهة.
لكنْ، في أغلب الظن، أن أياً من الفريقين لا يُقدم على عمل أي شيء غير قابل للعكس، ولا سيما إذا كان تجميد الاستيطان وحده كفيلاً باستدراج بعض الأموال الأميركية الإضافية. فالفريقان، المستوطنون الذين هم جماعة منقسمة معتمدة على غيرها مالياً، ويتسحاق رابين الشديد العداء لقيام دولة فلسطينية، والشديد الحساسية للفضائح مثلما يُظهر ماضيه، كلاهما عرضة لأن يخسر كثيراً. ولذلك فإن "سلّم الأولويات الوطنية"، الذي أعلنه رابين في تموز/يوليو وسُرَّ به الإسرائيليون القلقون بسبب انخفاض تمويل الدولة للشؤون الصحية والتربوية والإسكانية داخل حدود ما قبل نسة 1967، قد يكون جنباً إلى جنب السلم القديم، على الأقل لفترة من الوقت.
وفي وسع الإسرائيليين العاديين المقيمين في المستوطنات أن يتعايشوا حتماً مع هذه الحال لفترة ما. ذلك بأن الأمر لا يقتصر على كون "مواردهم لم تنضب" فحسب، بل إن التدرج في إحداث التغيير يحمل على الظن بأن اتجاهه قابل للعكس. والأكثر من ذلك، فإن كثيرين من المستوطنين يأملون بأن يأتيهم الفرج من حيث لا يدرون، مثلما يتبيَّن من ملاحظات أمّ شابة في مستوطنة كدوميم، إذ قالت لأحد الصحافيين: "أنا لا أعتقد على رابين، وإنما على العرب. فسيرفضون الحكم الذاتي لأنهم يريدون كل شيء، البلد كله. في وسعنا أن نعتمد على العرب أكثر من اعتمادنا على الجمهور الإسرائيلي."
أوائل آب/ أغسطس 1992