مقدمة
منذ بداية الانتفاضة، تحولت جدران المنازل والمحلات، وأعمدة الكهرباء، والصخور، بل كل مساحة يمكن الكتابة عليها ومرئية للمارة والعابرين، إلى لوحة إعلانات عامة ضخمة، تعج بالشعارات السياسية والاجتماعية وبرامج الفعاليات النضالية، تتداخل وتتعدد فيها الألوان، وخصوصاً ألوان العلم الفلسطيني. وخلف كل شعار منها عدة طبقات من الشعارات والرسوم السياسية التي أدت دوراً فائق الأهمية في انتفاضة الشعب الفلسطيني منذ الاحتلال. لقد أصبح الشعار أداة رئيسية للإعلام والتعبئة، ومدخلاً إلى مواجهة دائمة مع القوات الإسرائيلية. وهو، بالإضافة إلى ذلك، تعبير ومظهر إيجابي للتنوع والتعددية السياسية في المجتمع الفلسطيني.
وإذا كانت ظاهرة كتابة الشعارات السياسية على الجدران في الأراضي المحتلة معروفة قبل الانتفاضة، وإذا كان هناك من شبه كبير مع حركات تحرر واحتجاج وطنية واجتماعية أخرى في العالم، فإن مجال الاختلاف كبير، وخصوصاً في كثافة وشمولية هذه الظاهرة، ومساحة الموضوعات التي تغطيها، الأمر الذي لا يترك مجالاً للشك في أننا نتحدث عن ظاهرة خاصة بقدر خصوصية الانتفاضة وتفردها؛ إذ كُتبت ملايين الشعارات في المناطق كافة من دون استثناء، بما فيها تلك المناطق القروية النائية، والتي يُنظر إليها عادة كمناطق سيادة فردية خاصة. أما من حيث الموضوع، فقد غطت الشعارات جميع الموضوعات التي يمكن أن تخطر على بال.
إن هذا يعود إلى طبيعة الانتفاضة نفسها؛ فهي مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام ضمن بقعة صغيرة نسبياً، وبمشاركة الجميع من دون تخلف أحد: الطفل والمرأة والشاب والأب والعجوز؛ الغني والفقير؛ التاجر والعامل والفلاح والطالب وربة البيت؛ في المدينة والقرية والمخيم؛ في الميادين الرئيسية، وفي الأزقة والحارات. وقد تزاوج هذا مع احتلال منع وسائل التعبير الحرة كافة: فالفلسطينيون محرومون من تلفزة وطنية، وإذاعة وطنية، وصحف ومجلات حرة، وجامعات ومعاهد؛ إذ إن هذه أيضاً مغلقة. وكذا النوادي الثقافية؛ فهي محظورة، إلخ.. فكان البديل البيانات والمنشورات السرية والشعارات المكتوبة.
غير أن الشعار انفرد، بين وسائل الإعلام والتعبئة الثورية، بأنه الأكثر عفوية وبردّه السريع والفوري على جميع الأحداث والتطورات. وهو يعبر، في الأساس، عن أفكار جيل الفتية والشبان والشابات، عمود الانتفاضة الفقري. وأخيراً، فإن الشعار قد أصبح مدخلاً إلى عملية مواجهة يومية مع جنود الاحتلال الذين يحاولون بكل الطرق قمع هذه الظاهرة، إذ تأتي الدوريات إلى الأحياء الموشومة بالشعارات لتجبر السكان على مسحها، ودفع الغرامات، الأمر الذي أدى إلى نشوب الجدل والمعارك إذ يتدخل الجيران، ويقذف الأطفال والشبان الدوريات بالحجارة، وهكذا دواليك.[1]
التنظيمات الفلسطينية والشعار السياسي
كما هو متوقع، فإن الكتابات الجدارية قد عكست التمايز والاختلاف في مواقف التنظيمات السياسية الأربعة، المشكلة للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (ق. و. م)، وهي: حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (ج. ش)، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (ج. د)، والحزب الشيوعي الفلسطيني (ح. ش. ف).[2] غير أن هذه الاختلافات والتمايزات كانت أكثر وضوحاً، وجوهرية، وعميقة، عندما تعلق الأمر بمقابلة كتابة أطراف (ق. و. م) بكتابة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؛ وقد تمثل هذا الاختلاف الجوهري على صُعُد عدة، لعل أهمها:
- مركزية الشعارات.
- اللغة.
- الأيديولوجية.
- الموقف من الحلول السياسية.
- القضايا الاجتماعية.
ومنذ أول ليلة للانتفاضة في غزة، ولد شعار الانتفاضة على جدران مخيم جباليا، الذي سقط أربعة من أبنائه بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 1990 في حادث طرق مشبوه. بعض هذه الشعارات، والتي كانت قليلة نسبياً، كان لا يحمل أي توقيع، بينما حمل بعضها الآخر تواقيع فصائل منظمة التحرير الرئيسية في الداخل، والتي شكلت فيما بعد الـ (ق. و. م)، بالإضافة إلى حركة الجهاد الإسلامي. وبعد فترة لا نستطيع تحديدها بعد، بدأت الجدران تحمل توقيع حركة المقاومة الإسلامية، التي أخذت منذ مطلع شباط/فبراير توقع بياناتها بالأحرف الأولى لاسمها (ح. م. س) قبل أن يضاف إليها حرف الألف لتصبح (حماس)، بمعنى الشدة والشجاعة. وبعد عدة أسابيع من تشكيل (ق. و. م) منذ 8 كانون الثاني/ يناير 1988، وهو تاريخ أول بيان لها، بدأت الجدران تحمل توقيع القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، وأحياناً تحمل التوقيع من دون كلمة "للانتفاضة". وقد استخدم التوقيع المختصر فيما بعد، مثل: القيادة الموحدة"؛ "قاوم"؛ "ق. و. م"؛ "ق. م".[3]
لقد أعطى توقيع (ق. و. م) قوة إضافية للشعار، وعبّر بذلك عن درجة عالية من الوحدة والتنسيق في الموقف الوطني. وكان من الصعب بمكان، بعد الأشهر الأولى التي تلت تشكيل (ق. و. م)، رؤية أي شعار للأطراف الأربعة مذيّلاً بغير توقيع (ق. و. م)، (على الأقل في منطقة وسط الضفة الغربية، القدس ورام الله والبيرة وبيت لحم، التي كانت مركز دراستنا للشعار).
لقد عكست شعارات تلك المرحلة ما يمكن أن نسميه "الشعار العام"، وهو شعار مقبول من الأطراف كافة، وحائز على نوع من الإجماع الوطني، مثل تلك الشعارات التي دعت إلى تأليف اللجان الشعبية، أو الشعارات التي دعت إلى استمرار الانتفاضة، أو رفض مبادرة الرئيس المصري حسني مبارك أواخر كانون الثاني/يناير 1988.
غير أن هذا التوقيع الوحدوي بدأ يتعرض لنوع من التآكل لسببين:
أولهما، يتعلق بظهور مستجدات سياسية أو نضالية لم تتفق الأطراف الأربعة عليها بصورة كاملة، مثل الموقف من موضوع صلاحية المرحلة للعصيان المدني الشامل. وفي البداية، دُفع بعض هذه الأطراف إلى توقيع الشعار بـ (ق. و. م) على الرغم من أن التوقيع لا يعبر فعلاً عن موقف الأطراف كلها ورضاها. ومن ناحية أخرى، رأى بعض الأطراف أن من الضروري، وخصوصاً أن (ق. و. م) لم تكن في واقع الأمر سوى شكل تنسيقي متطور، توضيح مواقفه الخاصة والمتميزة عن طريق توقيع كر طرف باسمه.
ثانيهما، يعود إلى خشية طرف أو آخر داخل (ق. و. م) أن تتحول القيادة إلى هيئة اعتبارية تماثل م. ت. ف.، من زاوية التماثل والتطابق وضياع الفوارق بينها وبين حركة فتح. وقد رأت هذه الأطراف الأقل حجماً من فتح، ضرورة "تذكير" الجماهير بوجودها التنظيمي المميز، حتى لو لم يكن هناك اختلال في الموقف السياسي.
لقد أدى ذلك بالتدريج إلى انفراط الالتزام الكامل بتوقيع (ق. و. م). غير أن النتائج كانت مختلفة في قطاع غزة، حيث واجهت أطراف (ق. و. م) ومنذ البداية، منافسة شديدة من حركة حماس، الأمر الذي دعاها إلى توحيد صفوفها في مواجهة هذه المنافسة، والاقتصار عامة، ارتفاعاً وهبوطاً – وفقاً للمرحلة – على التوقيع باسم (ق. و. م). كما أن الأمر لم يخلُ من استثناءات في الضفة الغربية نفسها؛ وعلى سبيل المثال، ففي قرية كفر مالك الواقعة على بعد 22 كيلومتراً من مدينتي رام الله والبيرة، والتي شكلت جدرانها مثالاً رائعاً لأغنية الشعارات، ظلت الأغلبية الساحقة من الشعارات، وخلال ثلاثة أعوام من الانتفاضة، تحمل توقيع (ق. و. م). ويبدو أن الوحدة الوطنية المتميزة في هذه القرية، كانت الدافع وراء قيام مجموعة من رجال الأمن الإسرائيليين بمحاولة كتابة شعارات مزوّرة على جدران القرية في ربيع سنة 1990، وعندما اكتشفهم الشاب محمد سلام ونبّه سكان القرية، أطلقوا النار عليه فأردوه.
لقد كانت هذه المقدمة ضرورية لشرح صعوبة دراسة (ق. و. م)، وخصوصاً أن الأغلبية العظمى من دراستنا تركزت على الضفة الغربية. ومن هنا، فإن المدخل إلى دراسة شعارات الجدران، من حيث المواقف السياسية والأيديولوجية واللغة ومركزية الشعارات.. إلخ، يتمثل في دراسة شعارات كل طرف من أطراف فصائل (ق. و. م) على حدة. ولعل توفر معطيات جديدة في المستقبل، وخصوصاً في قطاع غزة، سيساعد في القيام بمقارنة بين (ق. و. م) وحركة حماس. أما الآن، فسنقتصر عل المقارنة بين أطراف (ق. و. م) وحركة حماس.
شعارات حركة التحرير الوطني الفلسطيني / فتح
تشكل فتح، بلا منازع، كبرى التنظيمات الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وخارجها. وهي، بالإضافة إلى ذلك، تتمتع بشعبية واسعة في الأراضي المحتلة. وقد انعكس هذا الحجم التنظيمي والتأييد الشعبي على واجهات الجدران، التي حملت الكثير من توقيع فتح. وفي حين تراوح حجم انتشار وغياب شعارات باقي أطراف (ق. و. م) من منطقة إلى أخرى، فإن توقيع فتح بين باقي التواقيع كان حاضراً في كل مكان، يشهد على امتدادها وتغلغلها.
غير أن نوعية شعاراتها لم ترتق إلى أهميتها العددية، إذ سُخر عدد كبير من هذه الشعارات للإشادة بالتنظيم والقيادة، أو تكرار شعارات قديمة لا علاقة لها بواقع الانتفاضة مثل: "ثورة حتى النصر"، "أمي ولدتني للكفاح، وفتح سلمتني السلاح"، "نعم للفتحاوية"، "فتحاوية لا نهاب المنية". ويلاحظ على بعض شعاراتها عدم التقيد بالطرح الرسمي لقيادتها؛ فقد كُتب الكثير من الشعارات التي تمجد حمل السلاح والكفاح المسلح، في الوقت الذي كانت قيادة فتح تقوم بتقديم مبادرات سياسية. ولعل ذلك يدفعنا إلى التمييز بين شعارات تكتبها مجموعات غير منظمة ومؤيدة لفتح بحكم شعبيتها، وبين مجموعات منظمة ومؤطرة تعبر حقيقة عن موقف فتح السياسي.
من ناحية مركزية الشعارات، تعكس الشعارات نوعاً من اللامركزية وحرية الاجتهاد. لكن هناك فترات تميزت بشعارات بدت مركزية موحدة، على الأقل على صعيد منطقة (لواء)، وتمتاز بلغة جيدة. ونرى ذلك، على سبيل المثال، في ذكرى انطلاقة فتح في الأول من كانون الثاني/ يناير من كل سنة، وذكرى استشهاد أبو جهاد. ويعتمد الشعار على شحنة تحريضية وعاطفية، بينما تقل الشعارات المتعلقة بالمبادرات والحلول السياسية، وتختفي تماماً شعارات الآفاق المستقبلية لمرحلة "ما بعد النصر"، وقضايا الإنجازات والحقوق الاجتماعية والنقابية كذلك؛ فالشعارات في شأن المرأة تقدم مثال المرأة المقاتلة أو الأم: "على درب دلال المغربي نسير"، ولا توجد شعارات مماثلة لشعارات التنظيمات اليسارية التي تدعو مثلاً إلى عطلة مدفوعة الأجر للمرأة يوم الثامن من آذار/مارس، أو إلى حماية العمال وحقوقهم.
أما على الصعيد الأيديولوجي، فهذه الشعارات نقية تماماً من أي توجه يساري ماركسي أو غيره. بل إن هناك مشكلة تواجه الباحث، إذ ينزلق الإطار الأيديولوجي الوطني لشعارات فتح انزلاقاً جزئياً مع التيار الديني الإسلامي الذي استعار بدوره الرموز الوطنية، وخصوصاً العلم الفلسطيني وخريطة فلسطين والبندقية وعلامة النصر V. إن ذلك يعود طبعاً إلى الجذور التاريخية لقيادة حركة فتح التي انحدر معظمها من أوساط الإخوان المسلمين، وإلى القاعدة الاجتماعية للحركة وخصوصاً في المخيمات (معظم سكانها من أصول قروية) والقرى، وأخيراً إلى ظاهرة تصاعد المد الإسلامي في الشارع الفلسطيني. وهكذا، فليس من النادر أن نرى عملية "أسلمة" لشعارات فتخ، وخصوصاً في بعض المناطق مثل بلدة بيت حنينا، حيث زينت عشرات الأعلام الفلسطينية الجدارية بشعار "لا إله إلا الله". ويمكن رؤية العديد من الشعارات الفتحاوية "المؤسلمة"، مثل: "فتح تنظيمي، والإسلام ديني"، "القرآن دستورنا، وفتح تنظيمنا".
ولا تقتصر هذه الظاهرة على موضوع الشعارات، بل تتعدى ذلك إلى مجالات أخرى لا مجال للحديث عنها ضمن دائرة هذا البحث.
شعارات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
استخدمت الجبهة الشعارات بكثافة في التحريض والتعبئة، وكذلك لتمييز مواقفها من القضايا المطروحة كافة (سواء سياسية أو فعاليات وبرامج نضالية).ويلاحظ أن شعاراتها واكبت التطورات اليومية في كل قضية مهما صغر حجمها. كما حاولت، عن طريق استخدام الشعارات إلى أقصى حد ممكن، استقطاب الجماهير حول مواقفها التي تعتبرها متميزة ضمن الاتجاه الوطني، وخصوصاً فيما يتعلق بالقضايا التالية:
1- موقفها من الحلول السياسية، وخصوصاً قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في الدورة التاسعة عشرة التي عُقدت بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988؛
2- الموقف من قضية الكفاح المسلح؛
3- الموقف الشامل والمميز من قضية العصيان المدني؛
4- الموقف من مسألة الحوار مع الإسرائيليين؛
5- قضية الإصلاح داخل منظمة التحرير ومؤسساتها؛
6- قضايا أخرى، كقضية الصمود في أثناء التحقيق.
وفيما يتعلق بشعارات الجبهة والحلول السياسية، نلاحظ أن هذه الشعارات تميزت بالحدة والصرامة؛ إذ إن الجبهة لم تكتف برفض مبادرة مبارك في كانون الثاني/يناير 1988، بل هاجمت الرئيس المصري شخصياً و"دوره المشبوه". وعندما جاء شولتس، وزير الخارجية الأميركي، إلى القدس ربيع سنة 1988، كان لها شعار "خائن كل من يلتقي شولتس" الذي ملأ شوارع القدس وأزقتها، بما في ذلك جدران بيوت بعض الشخصيات الفلسطينية. وقد تكرر الأمر عشية زيارة بيكر للقدس في الشطر الأول من آذار/مارس 1991. وقبل عقد الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، ظهرت شعارات ضد تقديم تنازلات سياسية: "لا للتنازلات المجانية"؛ "لن نتنازل عن الثوابت الفلسطينية".
بعد تبني المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة لوثيقة الاستقلال، والموافقة على القرار رقم 242 الذي عارضته الجبهة، ظهرت شعارات اتسمت بالرفض الشديد لهذا القرار، على الرغم من الأغلبية الساحقة التي حظي بها: "الاعتراف بـ 242 خيانة"؛ "لا لقرار 242، نعم للفهم الثوري لقرارات المجلس الوطني".
أما فيما يتعلق بالكفاح المسلح، فإن شعارات الجبهة، التي زجت بكل قواها لدعم الانتفاضة وضمان استمراريتها، نظرت إليه ضمن منظور استراتيجي لا تشكل الانتفاضة ولا أساليبها بديلاً منه: "لتكن الانتفاضة خطوة على طريق حرب الشعب طويلة الأمد"؛ "لا بديل عن العنف الثوري"؛ "نعم لاستمرار الكفاح المسلح"؛ "الكفاح المسلح استراتيجية وليس تكتيكاً"؛ "قوة المنطق ليست بديلاً لمنطق القوة"؛ "فلسطين لا تتحرر إلا بحرب الشعب"؛ "احذر الموت الطبيعي ولا تمت إلا بين زخات الرصاص".
كما يلاحظ أن الجبهة كانت الأكثر اهتماماً بمتابعة موضوع العصيان المدني وأشكاله، والإلحاح عليه، وكان موضوعاً رئيسياً لشعاراتها: "نعم لتفكيك جهاز الإدارة المدنية، لا لمحاورة رجالاته"؛ "على كل العاملين في دائرة السير والضرائب الاستقالة فوراً"؛ "نعم على طريق العصيان المدني الشامل"؛ "الويل لمن يدفع الضرائب"؛ "الضرائب هي الرصاص الذي يُطلق على شعبنا"؛ "تحذّر لجان المقاومة الشعبية المتخاذلين دافعي الضرائب".
وعلى الرغم من أن الأطراف الأخرى داخل (ق. و. م) تبنت موضوع العصيان المدني والفعاليات التحريضية المترتبة عليه، فإن الجبهة اعتقدت أن الفصائل الأخرى غير جادة، ولا تعمل على تطبيقه كما يجب. ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن الجبهة قامت، منذ بداية الانتفاضة، بدور المطالب بتسريع الانتفاضة، بينما قام الحزب الشيوعي الفلسطيني بدور الكابح. فبينما رأى الأخير في العصيان المدني الشامل عبئاً إضافياً واستنزافاً لا يمكن تحمله ضمن طاقات الشعب، رأت الجبهة في ذلك أمراً ممكناً ويجب الوصول إليه كبداية لمرحلة العصيان المسلح.
لقد عكست شعارات الجبهة الرفض التام للحوار مع الإسرائيليين (الحوار الرسمي مع الحكومة الإسرائيلية أو مؤسسات الاحتلال، أو مع الأحزاب والمنظمات الصهيونية اليسارية غير الحكومية): "لا للحوار مع الصهاينة"؛ "عار على يدي إذ عانقت يدا بأعناق شعبي طوحت". وتجاه شخصية من الشخصيات الفلسطينية في مدينة البيرة، كانت قد قابلت شمير سراً أواخر تموز/ يوليو 1989، وشمت محلات المدينة بشعارات تحمل تهديداً عنيفاً:
"الرصاصات التي قتلت ظافر المصري ستلاحق.....".
وفي هذا الموضوع، اتفقت شعارات الجبهة وحماس، إذ نددت الأخيرة بموضوع الحوار الذي تجريه شخصيات فلسطينية في الداخل والخارج مع شخصيات إسرائيلية في بعض "فنادق الدرجة الأولى": "نعم لحوار البنادق، لا لحوار الفنادق".
مما سبق نستطيع القول، من دون أن نقع في خطأ كبير، بتميّز رسالة الجبهة بالوضوح، والصرامة، والعنف، والرومانسية الثورية.
شعارات الحزب الشيوعي الفلسطيني
من المعروف أن الحزب الشيوعي الفلسطيني هو أكثر التنظيمات عراقة وخبرة في مجال العمل الجماهيري والسياسي، إذ تمتد جذوره السياسية والتنظيمية إلى العشرينات من أوائل هذا القرن، كما أنه لا يؤمن سوى بأشكال النضال السياسي. ولعل من المفيد أن نذكر أن الحزب كان أول من استخدم شعارات الجدران منذ سنة 1967، وإنْ كان على نطاق ضيق. أما فيما يتعلق بشعاراته خلال الانتفاضة، فيمكن القول إنها مميزة بالنسبة إلى قارىء ومراقب مهتم بالكتابات الجدارية، إذ التزمت شعاراته ودعت إلى التزام الموقف الرسمي لمنظمة التحرير من الحل السياسي. وقد خاض الحزب، أكثر من غيره، "معركة حوار الجدران" للدفاع عن منهج المنظمة السلمي وعن خطتها للسلام التي تم إقرارها في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني. ولم نلاحظ، كما هو الحال جزئياً لدى شعارات بعض التنظيمات الأخرى، أن كتّابه تجاوزوا خطهم التنظيمي المعلن، وخصوصاً تجاه موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي وأساليب الحل، أو موضوع ملاحقة العملاء.
وهكذا، وضّحت شعارات الحزب التمسك بهدف إقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة والقطاع كحل استراتيجي، وعبر النضال السلمي فقط. كذلك، فإن رسوماته الجدارية قد خلت تماماً من أي رسم للبنادق أو الخناجر أو الخريطة الفلسطينية. ويعكس هذا أسلوب تربية الحزب لأعضائه أكثر من كونه مظهراً لمركزية شديدة تمارسها قيادة الحزب على الأعضاء لتوجيه عملية كتابة الشعارات.
أما على الصعيد الداخلي، فقد ركزت شعارات الحزب على موضوع الوحدة الوطنية بين الفصائل والفئات المختلفة. ويعبر عن ذلك شعارات مثل: "لا فرق بين شيوعي وفتحاوي وجبهاوي، كلنا للحرية وللدولة الفلسطينية"، أو "الرصاص لا يفرق بين مسلم ومسيحي". كما لم تتضمن شعاراته أية عبارات تهديد ضد المواطنين بسبب عدم التزامهم أو تقيدهم بتعليمات (ق. و. م) أو الحزب، وخلت أيضاً من عبارات التهديد والوعيد بالقتل للعملاء، وهو أمر كان شائعاً لدى التنظيمات الأخرى. كما أن شعارات الحزب فيما يتعلق بإبراز الذات والتنظيم كانت محدودة جداً، وفي حال وجود شعارات من هذا النوع فإنها كانت تحمل مضموناً معيناً ورسالة، مثل: "حزبنا الشيوعي فلسطيني الانتماء، عمالي الهوية، أُممي المبدأ"؛ "الحزب الشيوعي متميز بأفكاره وأساليبه". أما فيما يتعلق بقيادته، فإن الحزب لم يعمد إلى كتابة شعارات تشيد بقيادته، سوى شعارين اثنين نادرين عن سليمان النجاب، وهو أحد قادته المبعدين أمضى فترة طويلة من حياته داخل السجون. كما حملت شعاراته، كجميع شعارات القوى اليسارية، مضموناً اجتماعياً تقدمياً، وخصوصاً فيما يتعلق بمطالب العمال وتحسين أجورهم وأوضاع عملهم، والدفاع عنهم ضد البطالة (تجاه أصحاب العمل العرب). كما عبر العديد من شعاراته عن موقفه الملتزم تجاه حقوق المرأة. غير أن الحزب ظل، في بعض النواحي، أسير معتقداته الأيديولوجية، من دون ملاءمة مع الواقع الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، فإن شعاراته عن وحدة طبقات الشعب لمواجهة الاحتلال قد خلت كلها من الحديث عن دور التجار، على الرغم من دورهم الكبير في الانتفاضة، وظلب الشعارات تنادي بـ"وحدة العمال والفلاحين والطلبة".
شعارات الجبهة الديمقراطية
على ما نعتقد، فإن الجبهة الديمقراطية، التي استخدمت لغة يسارية في شعاراتها، كانت أول من استخدم الألوان المختلفة لرسم الشعارات، وخصوصاً ألوان العلم الفلسطيني. وهي الوحيدة التي استخدمت النجمة الخماسية الحمراء (التي تماثل نجمة الثورة الكوبية وجبهة التحرير الفيتنامية، والتي شكلت في نهاية الأمر أحد التوقيعات المبتكرة للجبهة الديمقراطية).
من الناحية السياسية، تميزت الجبهة بأنها الوحيدة التي طرحت شعار "الحكومة الفلسطينية الموقتة"، غير أن الشعار ظل من دون توضيح أو متابعة. وكغيرها من المنظمات اليسارية، أولت الجبهة المرأة والعمال اهتماماً خاصاً. غير أننا لا نستطيع أن نتحدث، من خلال دراسة شعاراتها، عن خط مميز كما هو الحال بالنسبة إلى الحزب الشيوعي أو الجبهة الشعبية، ولا نستطيع القول إنْ كان ذلك يعود إلى طبيعة الصراع التنظيمي الداخلي، وهو الصراع الذي احتدم بشأن عدة قضايا، وخصوصاً الخلاف في شأن تفسير قرارات الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، وآليات تنفيذها.
وعلى ما يبدو، فإن هذا الصراع أدى إلى تكثيف الشعارات من قبل الجناحين لتكثيف وجهة نظرهما ضمناً، من دون نقد الطرف الآخر. غير أن هذه القاعدة خرقت في نهاية الأمر، في مطلع آب/أغسطس 1990 ثم غزو الكويت، إذ ظهرت شعارات بكثافة نددت بموقف القادة الذين انتقدوا غزو الكويت.[4] وقبل ذلك، كانت قد برزت ظاهرة (أبو النوف) "نايف حواتمه" في الشعار،[5] بالإضافة إلى رسوم له على الجدران من خلال كليشيهات مسبقة الصنع. وقد ظهر معظم هذه الرسومات جنباً إلى جنب مع رسومات الشهيد عمر القاسم عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية، والذي استشهد في السجن نتيجة مرض عضال بعد أن أمضى فيه واحداً وعشرين عاماً.
وعن شعارات التنظيمات والأحزاب الأخرى داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وغير المنضوية تحت لواء (ق. و. م)، فإن أهم هذه التنظيمات: جبهة النضال الشعبي، وحزب العمال الشيوعي الفلسطيني، وجبهة التحرير العربية الموالية للعراق؛ وهذه التنظيمات لم تدخل ضمن إطار (ق. و. م) بسبب حجمها الصغير نسبياً داخل الأراضي المحتلة – على الرغم من أنها تنظيمات عاملة وممثلة ضمن إطار منظمة التحرير، وخصوصاً الأخيرة منها إذ يوجد لها ممثل داخل اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني. أما جبهة النضال الشعبي وحزب العمال، فهما ممثلان في المجلس الوطني والمجلس المركزي. وبالنسبة إلى شعارات هذه القوى، فإنها محدودة من حيث العدد والانتشار والموضوع. وبالنسبة إلى جبهة التحرير العربية، فوجودها محدود جداً؛ وقد تميّزت بشعاراتها المعادية للنظام السوري وحافظ الأسد. وخلال أزمة الخليج ازداد حجم شعاراتها المؤيدة للعراق، وقامت بحملة ملصقات تضم صور الرئيسين صدام وعرفات. أما جبهة النضال، فقد تميزت بالحديث عن والمطالبة بالإصلاحات داخل منظمة التحرير وبرؤية نقدية لبعض المظاهر مثل شعار: "نعم لحليب الأطفال، لا للصور" الذي ينتقد الإسراف المخصص لعملية الملصقات الخاصة بقيادة منظمة التحرير. كما طالبت بالوحدة الوطنية على أرضية توسيع قاعدة (ق. و. م) لتشمل التنظيمات الأخرى. وبالإضافة إلى هذه التنظيمات، كُتبت شعارات بعض التنظيمات المعارضة المنفصلة عن منظمة التحرير؛ ونقصد بذلك: حركة فتح / الانتفاضة بقيادة أبو موسى، والجبهة الشعبية / القيادة العامة (رأينا لها شعاراً واحداً منذ بداية الانتفاضة)، والحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري بقيادة عربي عواد. وقد تركز شعار هذه التنظيمات على الرفض المطلق للحلول السلمية والمؤتمر الدولي، واعتبار الكفاح المسلح الأسلوب الوحيد لتحرير فلسطين. وبينما تعتمد شعارات فتح / أبو موسى على لغة عاطفية ومنطلقات فتح الوطنية الأولى، يركز أنصار الحزب الشيوعي الثوري على أيديولوجية ماركسية واضحة.
شعارات حركة حماس
إن ما يميز شعارات حركة حماس من شعارات غيرها من الفصائل، أن أغلبيتها الساحقة – على ما يبدو – مدروسة تماماً ومنتقاة العبارات. وبصورة عامة، فقد لوحظ أن أكثرية شعاراتها موحدة في مختلف المناطق، إذ نجد الشعار نفسه وفي الوقت نفسه تقريباً من طولكرم وجنين شمالاً حتى رفح جنوباً. إن هذا يقودنا إلى الاستنتاج أن هناك هيئة مركزية، على صعيد الضفة الغربية وقطاع غزة، تقوم بتوجيه عملية الكتابات الجدارية.
ويدعم هذا الاستنتاج طبيعة بيانات حماس التي تتميز، إلى حد كبير، من بيانات أطراف (ق. و. م) بأنها بيانات مركزية في الأساس، إذ لا مكان تقريباً للبيانات السياسية الخاصة بكل منطقة، كما هو الحال بالنسبة إلى بيانات (ق. و. م). غير أن هذا لا ينفي أن شعارات حماس تخضع كغيرها من الشعارات، وإن يكن بشكل أقل، للتأثير المتبادل (بين منطقة وأخرى، وبين قرية وأخرى، وبين مدينة وقرية)، أو لعملية مبادرة تقوم عناصر محلية بها إذ لاحظنا بعض الشعارات النادرة الموقعة باسم حركة حماس ضمن مناطق محدودة جداً.
ومن ناحية لغوية، تبدو لغة شعارات حماس قصيرة ومركزة وقوية وذات رنة موسيقية، تستخدم السجع بحيث يسهل حفظها وتناقلها بين الناس، كما توضح الشعارات المنتقاة التالية: "حماس هي الأساس"؛ "حماس وفية، للأرض وللقضية"؛ "48 + 67 = أرض فلسطين"؛ "48 + ضفة + قطاع = أرض لن تباع"؛ "حماس لا تهاب الرصاص"؛ "حماس ثورتي، هذه هي هويتي"؛ "نعم للحجر، لا للمؤتمر"؛ "أرضنا إسلامية، هذه هي الهوية"؛ "حماس هي الأمل بعد اليأس"؛ "نعم للمقاومة، لا للمساومة"؛ "يا بنت الإسلام، بالزي الإسلامي عليك الالتزام"؛ "خيبر خيبر يا يهود، جند محمد سيعود"؛ "مقاومة المحتلين، فرض من رب العالمين"؛ "الأرض ارضنا فلنطرد عدونا"؛ "الأرض لمن يقاوم لا لمن يساوم"؛ "شبان حماس، للأمة حراس".
وتظهر هذه العينة من شعارات حماس، بصورة لا تقبل الشك، تاثر قيادة الحركة وعناصرها بتراث الإسلام السياسي، وبلغة القرآن الكريم التي تتجاوب مع خصائص الشعار؛ فعلى الرغم من المعاني الغنية والمتعددة الأبعاد للآيات القرآنية، فإنها مكونة – كما يجب أن يكون الشعار – من جمل قصيرة وقوية ومعبرة وذات رسالة في آن واحد، ناهيك بتناغمها الموسيقي. والحق يقال إن الإسلام ليس غريباً عن مجال الشعارات؛ فقد بدأ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) دعوته بشعار "أن لا إله إلا الله"، القصير لغوياً والعظيم معنوياً. لقد لخص هذا الشعار الأول في الإسلام جوهر العقيدة الإسلامية، وأصبح شعاراً ومتراساً يرفعه المسلمون، وخصوصاً الأوائل منهم، معبراً ومعلناً عن هويتهم الروحية والعقائدية الجديدة في مواجهة مجتمع مشرك.[6]
وفي مواجهة التعذيب والبطش والاضطهاد، كان بلال، مؤذن الرسول، وغيره من المضطهدين يرفعون شعار "أحد أحد" بدوره من آية قرآنية هي "قل هو الله أحد". وهذه الأمثلة ليست سوى فيض من بحر من التراث السياسي الإسلامي الذي عرف أهمية الشعار واستخدمه استخداماً رائعاً في معاركه السياسية والعسكرية ضد أعدائه، أو خلال الصراع السياسي الداخلي منذ فتنة عثمان.[7]
إن تأثر حركة حماس بالتراث السياسي للإسلام، وبأهم الأحداث التاريخية الإسلامية، يتشابه مع المثال الإيراني (1978 – 1979)؛ إذ يلاحَظ أن لغة الجماعات والحركات الدينية كانت أكثر تأثراً بلغة القرآن وموسيقاه، وتستخدم الكثير من رموز التاريخ الإسلامي. وهكذا صُوِّر الشاه كيزيد بن معاوية، أو كأحد أصنام الآلهة الرئيسية حول الكعبة قبل انتصار الإسلام، بينما تمثلت صورة الخميني في الحسين بن علي أو ابراهيم ومحمد، محطمي الأصنام وآلهة المشركين.[8]
يجد المحلل لكتابات حماس الجدارية منظومة أيديولوجية متكاملة، مبنية على نظرة أصولية للعقيدة الإسلامية كما فهمها أقطاب حركة الإخوان المسلمين ومفكروها، وخصوصاً الإمام حسن البنا وسيد قطب. وقد انعكست هذه المنظومة العقائدية على شعارات الحركة كافة، وخصوصاً على مواقفها السياسية تجاه العديد من القضايا المهمة، مثل:
- طبيعة الصراع الدائر في المنطقة؛
- الحلول السياسية؛
- الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية والوحدة الوطنية؛
- الكفاح المسلح وأساليب النضال.
فبالنسبة إلى حماس، فإن الصراع ليس بين فلسطينيين أو عرب وبين إسرائيليين، بل هو صراع بين الإسلام والصهيونية التي ما هي إلا امتداد حديث ومطوَّر لليهودية السياسية. وهكذا، فإن الصراع ليس وطنياً في الأساس، بل إن فكرة الوطنية والوطن ضمن مفهومها الغربي: شعب محدد (الشعب الفلسطيني) له السيادة على أرضه ضمن حدود جغرافية محددة، لم يتم تبنيها من قبل حماس إلا على مضض، نتيجة شعبية الفكرة لدى الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني.[9] غير أن فكرة الوطن والوطنية ظلت، حتى بعد تبنيها من قبل حماس، جانباً ثانوياً من جوهر الصراع الرئيسي: صراع العقيدة، عقيدة الخير والسلام الممثلة في الإسلام، وعقيدة الشر والعدوان الممثلة في الصهيونية: "معركتنا مع اليهود معركة عقيدة"؛ "وطننا جزء لا يتجزأ من عقيدتنا – المادة 12 من الميثاق".
وبالنسبة إلى الحلول السياسية، فقد جسد شعار حماس المستمد من المادة 13 من ميثاقها، منطلق الحركة تجاه الحلول السياسية: "أرض فلسطين أرض وقف إسلامية لا يجوز التنازل عنها أو عن جزء منها". لذلك، فلا يوجد مجال للحديث عن أية مفاوضات، أو حلول تؤدي إلى أية تنازلات إقليمية. وهكذا، رفضت شعارات الحركة منذ البداية أية حلول أو مؤتمرات أو مفاوضات ضمن هذا الإطار، فكان أول شعاراتها تجاه الحلول السياسية: "نعم للحجر، لا للمؤتمر" (المؤتمر الدولي)، ثم تلاه العديد من الشعارات التي حملت التوجه نفسه: "نعم لثورة المساجد، لا للمؤتمر الدولي"؛ "لا صلح، لا استسلام"؛ "نعم لحركة المقاومة الإسلامية، لا لحكومة المنفى"؛ "فلسطين إسلامية من النهر للبحر"؛ "إما نصر وسيادة وإما استشهاد وسعادة"؛ "نعم للأعداد والجهاد، لا للسلام والإستسلام"؛ "لا لمؤامرة الانتخابات، لا للصلح والمفاوضات".
ويلاحظ هنا أن الحركة تبنت صراحة، عبر شعاراتها الجدارية، مواقف تتعارض مع مواقف منظمة التحرير الفلسطينية، مثل المؤتمر الدولي وقضية الصلح والمفاوضات. غير أننا لم نجد شعاراً واحداً يعارض بصورة مباشرة إقامة الدولة الفلسطينية (على أراضي الضفة والقطاع)، على الرغم من أن هذا الحل يعني ضمنياً الموافقة على تسوية تاريخية تتضمن تنازلات إقليمية مهمة. وعلى ما يبدو، فإن ذلك يرجع إلى شعبية الدولة الفلسطينية في أوساط سكان الضفة والقطاع، وعدم رغبة حماس في تبني موقف معارض. بيد أن لحماس ما تقوله في طبيعة هذه الدولة: "لا شرقية ولا غربية، إسلامية إسلامية"؛ "لا شرقي ولا غربي، درب الإسلام هو دربي"؛ "لا للعلمانية لا للصهيونية، نعم للدولة الإسلامية". أما فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية، فإننا – عدا الإشارة بصورة عامة إلى تبني الإسلام منهجاً – لم نجد اثراً لأية شعارات تتضمن مواقف مطلبية للعمال أو للمرأة أو لأية من الفئات الاجتماعية الأخرى، حتى في الأيام التقليدية التي يحتفل بها عادة، كيوم المرأة العالمي، أو عيد العمال. كما يلاحظ أنها اهتمت بالجوانب الاقتصادية، كموضوع الاكتفاء الذاتي، والضرائب.. إلخ، أقل كثيراً من أطراف (ق. و. م).
لقد استعملت شعارات حماس، إذا ما قوبلت بشعارات القوى الوطنية المؤيدة لمنظمة التحرير، لغة الإسلام ورموزه على نطاق واسع؛ فالعلم الفلسطيني أصبح يحمل شعار الإسلام الرئيسي: لا إله إلا الله، وأحياناً كتب هذا الشعار على الجدران بشكل منفصل على خلفية لونية خضراء. وعادة ما تعبر حماس عن نفسها بأنها هي الإسلام، مستعيرة إحدى المقولات الشهيرة لحركة الإخوان المسلمين في مصر: "الله غايتنا، والإسلام ديننا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا". كما تشدد حماس على أن "الإسلام هو الحل والجهاد هو الطريق"، وهي تعزز موقفها السياسي المتصلب والذي لا يتلاءم مع موازين القوى، عبر الإشارة إلى تدخل إلهي لحسم النزاع: "زوال إسرائيل، حتمية قرآنية"؛ "هجرة اليهود السوفيات، حكمة إلهية".
وبغض النظر عن وجهة نظرنا تجاه صواب أو خطأ مواقفها السياسية وأيديولوجيتها، فإن مواقفها الواضحة والبسيطة سمحت بخلق ما يطلق عليه مكسيم رودنسون "الأيديولوجية المعبئة" (Ideologie mobilisatrice)، وهي نوع من الأيديولوجية وإنْ اتسمت بالبساطة الشديدة فهي شديدة الفعالية في مجال التعبئة والتحريض وكسب العناصر.
وفي ظل الموقف الإسرائيلي المتطرف والمتعنت ضد أية تسوية سياسية، استطاعت هذه الأيديولوجية احتلال واكتساب عواطف الجماهير وقطاعات كبيرة من السكان، وخصوصاً في الأوساط الشعبية الفقيرة في مخيمات قطاع غزة. وفي هذا المجال، فإننا نميل إلى الاعتقاد أن شعارات حماس القصيرة، المركزة والبسيطة، قد أدت دوراً كبيراً في عملية التعبئة للحركة وتحقيق مكاسب كبيرة على حساب القوى الأخرى. وبشكل ما، فإن بعض الأطراف، وخصوصاً داخل حركة فتح، قد تنبه لذلك وبدأ بكتابة شعارات تشبه شعارات حماس من حيث اصطباغها، في الآونة الأخيرة، بصبغة دينية واستخدام الرموز الإسلامية على نطاق واسع، وكذلك تقليدها قدر الإمكان في مجال الأساليب اللغوية (جمل قصيرة، سجع، إلخ)، أو تبني بعض أنصار فتح لبعض الشعارات التي أطلقتها حركة حماس قبلاً، مثل "نعم للحجر، لا للمؤتمر"، وإحلال اصطلاح الجهاد بدلاً من الكفاح المسلح. غير أن من الضروري التشديد، مرة أخرى، على أن هذا التحول لا يقتصر على الشعارات بل يمتد إلى جوانب أخرى، متأثراً بعملية التحول العام في الأراضي المحتلة بفعل تصلب الموقف السياسي الإسرائيلي وتعنته، إذ إن الشباب الفلسطيني ليس أكثر تديناً من آبائه وأجداده. ولعل أكثر ما يجذبه إلى حركة حماس "تطرف" هذه الحركة وتحليلها للعنف والتحريض عليه بطريقة لا تستطيعها الأدبيات الوطنية أو اليسارية لأطراف (ق. و. م) الملتزمة بحل سياسي، والتي تحبذ استخدام العنف بشكل مقنن وبهدف الوصول إلى مثل هذا الحل.
شعارات حركة الجهاد الإسلامي
أما فيما يتعلق بحركة الجهاد الإسلامي، فإنها على الرغم من تركيزها على المعاني الإسلامية في شعاراتها، فإن هذه الشعارات كانت وبحكم حجمها التنظيمي أقل كثيراً من حجم شعارات حماس، كما أنها لم تحمل التنوع نفسه في الموضوعات التي تتطرق إليها والتي ركزت، في الأساس، على أهمية الجهاد والحث عليه. أما لغوياً، فقد كانت الحركة أقل نجاحاً في هذا المجال من حماس، وبدت شعاراتها مبادرات فردية ومحلية، لا تخضع لتوجيه مركزي من قيادتها، التي تعرضت لضربات قوية من قبل أجهزة القمع الإسرائيلية.
[1] أصدرت السلطات العسكرية أمراً عسكرياً يعاقب بالسجن لمدة 5 سنوات و/أو غرامة مقدارها 1500 شيكل (750 دولاراً)، لكل من يرفض الانصياع لأوامر الجنود بمسح الشعارات (أمر بشأن تعليمات الأمن، (يهودا والسامرة) 378 – 3730 – 1970 صادر في 19/6/1988 عن غابي أوفير قائد منطقة الضفة الغربية). كما أصدرت أمراً عسكرياً رقم 1263 يخول القوات الإسرائيلية التغريم الفوري بـ 350 شيكلاً، لكل من لا يبادر إلى مسح الشعارات من على جدران منزله، الأمر الذي أدى إلى إزالة عدد كبير من هذه الشعارات، وخصوصاً في المدن الرئيسية.
[2] في شأن وحدة (ق. و. م) وتركيبتها، أنظر: صالح عبد الجواد، "مدخل إلى دراسة المصادر الأولية المكتوبة للانتفاضة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 4، خريف 1990، ص 153 – 173.
[3] المصدر نفسه.
[4] المقصود بذلك نايف حواتمه وقيادة فرع الساحة السورية، والشعارات التي رأيناها كانت في رام الله. وبالإضافة إلى ذلك، وُزع بيان في الضفة (نابلس) بهذا المعنى خلال الفترة نفسها.
[5] كشعار "كل طفل فينا صاح، أوب النوف بدنا سلاح"، وهو شعار كتب في إثر مجزرة ريشون لتسيون (عيون قاره) ضد العمال العرب، أو كشعار "بهامات راسخة ورؤوس مرفوعة نؤكد انتماءنا للجبهة الديمقراطية وأمينها العام الرفيق حواتمه".
[6] Nouchine Yvari, Le slogan dans la perspective Shi’ite مخطوطة باللغة الفرنسية، مطبوعة على الآلة الكاتبة، ص 10 – 15.
[7] Ibid.
[8] مقابلة مع نوشين يفاري، باحثة إيرانية متخصصة بالشعارات خلال الثورة الإيرانية، باريس، آذار/ مارس – نيسان/ أبريل 1991.
[9] وزع أنصار حركة الإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة كراساً اطلعت عليه في مطلع الثمانينات ضد مفهوم الوطنية. غير أن حركة حماس، الذراع النضالية لحركة الإخوان، تعايشت معه بعد أن غلّفت المفهوم بطابع إسلامي.