الرابعة صباحاً، تستيقظ غزة من ليلها الطويل. وقبل بزوغ الشمس، تعلن الحركة السريعة في ميدان المدينة الرئيسي نهاية حظر التجول الليلي. تزدحم الشوارع المؤدية إلى الميدان بسيارات كثيرة من كل اتجاه، تتدافع، يكاد بعضها يصدم بعضاً. والكل ينطلق من نقطة البداية هذه، في اتجاه واحد وهدف أول: حاجز إيرز، نقطة الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل.
في تلك الساعات الأولى من الفجر، يظهر رجال وأشباح رجال يخفيها سواد الليل، تميزهم الملابس الرثة وكيس من النايلون يحوي زاد النهار. كلهم متشابهون. كلهم عمال. يتجمع الجميع في هذا المركز المقابل لحي الشجاعية، يأتون من كل أنحاء القطاع، مدنه ومخيماته. يستبدلون سيارة الأجرة التي أقلتهم من رفح وخان يونس بأخرى تنقلهم من غزة المدينة إلى النقطة / الحاجز. المحلات ما زالت مغلقة في تلك الساعات التي تنيرها مصابيح الشوارع وأنوار سيارات "البيجو" القديمة الأكثر شعبية في هذا المكان من غيره، باستثناء نوعين من الدّكاكين: تلك التي تبيع الساندويشات، وتلك التي تصلح الإطارات المثقوبة، وكلاهما يعج بالناس.
تشق سيارات "البيجو" البيضاء طريقها وسط الازدحام شمالاً في اتجاه حاجز إيرز الذي يبعد عشرة كيلومترات أو أكثر، في طريق تقوم على جانبيه بيارات البرتقال المهملة كما تبدو، ومروراً بموقف الحافلات الذي يحرسه جنود إسرائيليون من على أبراج عالية مسيّجة بالأسلاك الشائكة.
يتوقف بعض السيارات. ويصعد عدد من العمال إلى حافلات الركاب تلك، ولكل منها وجهتها إلى داخل إسرائيل، لكن لتنزلهم في الطريق قبل الحاجز وتعود لتقلهم بعد أن يكونوا خضعوا لعملية التفتيش. البارحة مساء، كان الدخان لا يزال يتصاعد من بعض تلك الحافلات، بعد أن أُضرمت النار فيها قبل ذلك بساعات فحولتها إلى هياكل حافلات. وكانت الشركات التي تملك هذه الحافلات ترسلها في النهار لتنقل العمال باكراً في الصباح.
"إنهم أبطال أولئك الذين أحرقوها أمام أعين الجيش" – يشرح سائق السيارة بفخر – "خليهم. أغلبية العمال لا تعمل في الماضي كان 60 – 70 ألفاً منهم يعملون في إسرائيل. اليوم لا يتجاوزون 20 ألفاً في أحسن الأحوال."
ويعود بعض تلك الحافلات إلى فلسطينيين من داخل إسرائيل سمحت السلطات لهم بحمل لوحتي ترقيم: إحداهما إسرائيلية صفراء، وأخرى بيضاء خاصة بقطاع غزة. وهذا الصباح، وقف أحدهم إلى جانب الطريق بعد أن حمل ركابه، ليستبدل اللوحة البيضاء التي حمته خلال الليل من الإحراق بالثانية الصفراء، وهو يستعد لاجتيار نقطة الحدود إلى بلاد اللوحات الصفر. وتشاهد على طول الطريق سيارات عسكرية تضيء أنوار كشافاتها في اتجاه البيارات للكشف عن مختبئين قد يحاولون قذف حجارة أو زجاجات صوب الحافلات الإسرائيلية.
على بعد أمتار من حاجز إيرز يواجه الزائر منظر الإنسانية في أدنى مستوياتها؛ إذ يُجرَّد الإنسان، في هذه البقعة من الأرض، من كل ما له علاقة بالحرية أو الإنسانية. مشهد يذكِّر بالعبيد الذين كانوا يباعون ويشترون في تلك القرون الغابرة، حين كان الإنسان يقاس بقدرته على العمل وبما يتقنه منه. فإذا حالفه الحظ واشتراه أحد الأسياد
استطاع إطعام نفسه والاستمرار في قيد الحياة، وإذا لم يجد من يشتريه لخدمته صارع الموت بقدرته على البقاء. وهنا آلاف الفلسطينيين "العبيد" ينتظرون في ساحة كبيرة تحرسها الأبراج العسكرية ولا يدخلها إلا من يحمل تصريحاً بالعمل، أو هناك على جانبي الطريق لكن من الجهة الأخرى من الأسلاك الشائكة ينتظرون قدوم "سيد" إسرائيلي "يشتريهم" ويمنحهم حق العمل في إسرائيل، في ورشته أو مزرعته أو مصنعه.
يطلق العمال أنفسهم على تلك الساحة أسماء عدة، لعل أكثرها ترداداً "زريبة الحيوانات"، و"سوق العبيد"، و"سوق الجمعة" (التي تباع فيها الدواب). كيف يتحمّلون هذا القدر من انحطاط قدْرهم الإنساني؟ الإجابة واحدة: أين الخيار؟
كالعاصفة تجتاح الزائر قصص كثيرة وهموم أكثر، ولكل واحد من الآلاف الموجودين في تلك الساحة قصة يحكيها ربما للمرة العاشرة أو العشرين أو المائة.
"بعد سنوات من العمل أتى الروس ليحلوا محلنا. لا خبرة، ولا صنعة. فقط لأنهم يهود مثلهم. أصبحوا لا يقدرون على رؤيتنا في عيونهم" – يروي أبو محمد (50 عاماً) من مدينة غزة وأب لثلاثة عشر ولداً – "نحن نزرع الحياة بعملنا وهم يزرعون الموت عندنا: لا مدارس للأولاد ولا صلاة مثل الناس في الجامع. معاناة في كل أمور حياتنا، ربما معاناة العمل في إسرائيل هي الأخف. العمل كما قالوا هو صراع البقاء. نحن مضطرون أن نعمل في كل الظروف. ولكن الوضع اختلف إذ أصبح الواحد يشتغل عندهم، ويرى الكره في عيونهم. بالطبع، الكره كان دائماً موجوداً لكنه اليوم أكثر من أي وقت مضى. يحذرون من العربي كيفما التفت: إذا ذهب ليشرب الماء أو إذا ذهب إلى الدكان ليشتري سجائره. ونحن نعيش لحظات الخوف من أن يأتي أحدهم (الشرطة) ويلقي القبض عليك لأي سبب أو بدون سبب."
ويتابع أبو محمد الذي يعمل منذ أعوام في البناء في منطقة تل أبيب: "ابني الأكبر عمره 21 عاماً. كان يعمل في الزراعة في منطقة المجدل قبل الحرب (في الخليج)، وبعد أن بدأت الحرب فصلوه وأحضروا روساً مكانه. كل عشرة من أولئك الروس لا يقومون بعمل عربي واحد، لكن يؤمّنون لهم أكثر."
تدخل السيارات الإسرائيلية ذات اللوحات الصفر الساحة، ويصعد بضعة عمال إليها بعد أن ميزا صاحب العمل الذي يعملون عنده، بينما يتراكض آخرون في اتجاهه ويتدافعون سائلين: هل تريد عمالاً؟ هل لديك عمل؟
ويروي صلاح (30 عاماً) الذي يسكن في حي الشيخ رضوان في غزة: "قبل الحرب كنت أعمل عند معلّم في تل أبيب في الأرصفة. وعندما بدأت الحرب أعادونا كلنا إلى القطاع، فبقينا بدون عمل ولا ما يحزنون حتى سمحوا لنا بالعودة إلى العمل في إسرائيل بالشروط الجديدة. اتصلت بالمعلّم عندها، فقال تعال. قلت له تعال واعمل لي تصريح كي أستطيع أن أخرج عند الحاجز فرفض. اتصلت ثانية، فلم يرد. ثم وجدت عملاً عن طريق أصدقاء لي عند المعلّم الذي يشغّلهم أيضاً في الأرصفة، لكن في منطقة كريات غات (المجدل). مضى تقريباً شهر على عملي معه، وبعد أيام ينتهي التصريح، وعندها الكل مرهون بالمعلّم؛ إذا أراد أن أعمل معه يطلب تجديده لي، وإذا وجد غيري أبقى بدون تصريح."
ويعتبر صلاح نفسه من العمال "الصنايعية" المهرة، إذ مضى عليه في هذا العمل 12 عاماً وهو لا يحمل سوى شهادة الإعدادية. يقول "بدأت عامل وتعلّمت حتى أصبحت صنايعي والمعلم يدفع للصنايعي 60 شيكل (30 دولار) في اليوم وللعامل المبتدىء 40 شيكل تذهب 20 شيكل منها أجرة مواصلات وهو لا يهتم. يقول تدبروا أمركم. في السابق كان هناك أخذ وعطاء مع المعلّم حتى إذا الواحد أراد سلفة حصل عليها أما اليوم فهو يعلم أن لا خيار أمامنا وأقل جدل معه يقول مع السلامة هناك غيركم."
قبل بداية الحرب في الخليج بأيام، أعادت السلطات الإسرائيلية جميع العمال من إسرائيل إلى القطاع، وفرضت حظر تجول شاملاً على الأراضي المحتلة كافة، في محاولة للسيطرة على هذه الأراضي في حال وقوع أعمال احتجاجية عنيفة في وقت أعلنت حالة الطوارىء في جميع أنحاء إسرائيل. ولم تسمح، إلا بعد مرور ثلاثة أسابيع على اندلاع الحرب، بعودة قليل من أولئك العمال إلى مناطق معينة من دون غيرها، وبعد أن مارس أصحاب بيارات الحمضيات من الإسرائيليين ضغوطاً من أجل السماح للعمال الغزيين بالعمل قبل أن يخسروا الموسم بأكمله.
وفرضت السلطات الإسرائيلية نظام عمل جديداً للعمال، وشروطاً جديدة لخروجهم إلى إسرائيل. ويقوم النظام الجديد على عدم السماح لأي غزي باجتياز حاجز إيرز إلى داخل إسرائيل ما لم يتكفل صاحب العمل باصطحابه من النقطة الحدودية في الصباح وإعادته إليها قبل ساعات المساء. ولا يسمح لأي عامل بالمبيت في مكان عمله تحت طائل الاعتقال ودفع غرامة مالية. واشترطت السلطات استخدام العمل عن طريق مكتب العمل الحكومي التابع لنقابة العمال (الهستدروت)، للسيطرة على من يسمح لهم بالعمل في إسرائيل، ولا سيما في ضوء عمليات القصف التي نفذ أغلبيتها فلسطينيون من قطاع غزة ضد إسرائيليين.
ويُشترط في صاحب العمل أن يحصل للعمال الذين يستخدمهم على تصريح هو عبارة عن بطاقة حمراء يظهر فيها اسمه وعنوان مكان العمل، وهي صالحة لمدة شهر فقط، عليه تجديدها في نهايته أو استرجاعها إذا فصل العامل قبل ذلك. ولا يسمح لأي عامل بالوجود في مكان غير المكان المبيّن في البطاقة.
وبذلك اصبح على كل عامل يرغب في اجتياز حاجز إيرز للعمل في إسرائيل، إبراز أربع بطاقات صالحة: الأولى بطاقة الهوية الشخصية، والثانية بطاقة ممغنطة تستعمل للكشف عن ماضيه وحياته عن طريق وضعها في نظام للحاسوب، والثالثة عبارة عن بطاقة من مكتب العمل تثبت أنه مسجل قانونياً، والرابعة البطاقة الحمراء. ويحرم أي عامل اعتقل في الماضي، حق الحصول على البطاقة الحمراء.
ويقول عمال غزيون أن السلطات الإسرائيلية، وكي تشجع أصحاب العمل الإسرائيليين على استخدام عمال يهود، تشترط أن يسمح لصاحب العمل بتشغيل عمال لا يقل عددهم عن عشرة كي يستطيع الحصول على بطاقات حمر لهم. ويروي هؤلاء العمال كيف أن الشرط الأخير يدفع صاحب العمل إلى التحايل على هذا الشرط، فيسجل عشرة عمال ويمنحهم بطاقات حمراً للخروج من القطاع، ثم لا يستخدم منهم سوى من يكون بحاجة إليهم، وتفقد السلطات بالتالي الرقابة على الباقين. ويروي آخرون كيف أن الذين يرغبون مِنَ الغزيين في الذهاب إلى إسرائيل يستعملون البطاقة الحمراء ويمررونها من يد إلى يد.
ويروي عدنان من مدينة غزة (32 عاماً) أن "كل المعاملة مع الإسرائيليين اختلفت بعد الحرب رغم اني أعمل عندهم منذ سنوات. في السابق، كان المعلّم يؤمّن لي على العمل وعلى عدة الشغل، أما اليوم فلا. كما أن الاحترام في المعاملة اختفى وأصبحنا نسمع ألفاظاً من كل الأصناف. فهو ببساطة لا يعتبرني إنساناً يعمل عنده، وإنما عبداً اشتراه. وكل شيء نطلبه يجيبنا: اذهب وخذه من صدّام. وبكل بساطة يريدون تطفيشنا." ويتابع: "بالطبع يعتبرون أنفسهم غير مكفلين بنا. فلديهم الروس والفلاشا ولهم الأولوية في العمل، كما أن الضرائب التي يدفعونها عنهم أقل. ولكن ما داموا غير مكفلين بنا فَلِمَ لا يتركوننا ويرحلون عنا ونحن سنتدبر بأنفسنا."
فجأة، يبدأ العمال يتهامسون: انظروا انظروا. أحد "الأسياد" الإسرائيليين نزل من سيارة "سوبارو" خاص، وبدأ ينقل نظره من طرف إلى آخر يبحث عن عماله "عبيده" بين الحشد وبيده "سوطه" مسدسه. فجأة لمح أحدهم فتقدم منه وسحبه من يده وأدخله في سيارته، وراح يبحث عن الآخرين ويده تخفي المسدس خارج جيب سرواله وأصبعه على الزناد.
ويعلّق صلاح الذي ما زال يدور في الساحة بانتظار أن يلتقطه أحد أصحاب العمل: "هذا هو الإنسان المتحضّر المتعلّم الذي يسكن في مدينة وتحت علم دولة. من يدري ماذا سيفعل بمسدسه إذا حصل خلاف بينه وبين العامل؟"
يقول حسين، وهو خريج جامعة بيروت العربية ومتخصص بالجغرافيا: "منذ ست سنوات أعمال في الدهان. تخرجت عام 1983 وكانت تلك آخر مرة وقع فيها نظري على شهادتي الجامعية. يعود الواحد إلى القطاع، لا فرص عمل ولا حياة مثل الناس. وإذا أراد أن يهاجر للعمل في بلد آخر يمنعونه إلا إذا قبل بشرطهم: أن تسافر ولا تعود. في الأسبوع الذي سبق الحرب أوقفونا عن العمل، وبعد أن سمح لنا بالعودة اتصلت بالمعلّم فقال تريد أن تأتي أهلاً وسهلاً، ولكن تأتي وحدك. لست مستعداً أن آتي كل يوم مسافة لآخذك من 'إيرز'. في النهاية، وبعد أن ألحّيت قال سآتي لأصدر لك تصريحاً. انتظرني في الساعة كذا. فحضرت وانتظرت، وانتهى النهار ولم يأت. فاتصلت ثانياً وثالثاً، وكل مرة يقول سآتي انتظرني، ولا يأتي. وها أنا اليوم للمرة الخامسة يعدني بأن يأتي كي يحصل لي على بطاقة حمراء، ولكن لا أعتقد أنه سيأتي بعد الآن. هذه هي خلاصة ست سنوات من الخدمة."
يتململ حسين ورفاقه لدى مشاهدتهم سيارة عسكرية تقف في الجهة المقابلة من الشارع، والجنود يتفحّصون من بعيد: "الآن بعد أن تذهبوا سيأتون وسيأخذون الهويات، وهات يا إهانات." يهمّ أحدهم بالذهاب، ويستوقفه آخر: "ماذا سيفعلون لنا. لا أحد يقطع الرؤوس إلا من خلقها."
يتابع حسين: "في السابق كان الوضع أقل صعوبة. كان العمال يذهبون إلى مفترق المجدل ويقف 200 – 300 منهم ينتظرون حتى يأتي صاحب العمل يبحث عن عاملين أو ثلاثة بالمياومة، لمدة يومين أو ثلاثة. أما اليوم فمن سيكلف نفسه أن يأتي ليعمل تصاريح من أجل يومي عمل؟ وفي النهاية، لا أعرف لماذا نحن دون أهل الضفة؟ هل نعاقب بشكل مختلف لأن حجرنا مختلف؟"
ويدفع رجل كبير في السن أبيضّ شعره الآخرين ليروي ما لديه: "أهم مشكلة الضريبة. يجب أن تحدثوهم عن الضريبة. لدي إثباتات بأني أكسب 600 شيكل في الشهر (300 دولار) ويأتون هم (السلطات) ويطلبون مني ضريبة ألف شيكل. من أين آتيهم بها؟ هل الله قال ذلك؟ يقولون لي: خلّي الانتفاضة وأبو عمار يعطوك. ليتركونا في حالنا." ثم يختم: "والله الشكوى لغير الله مذلة."
وتأتي الروايات تباعاً عن تلك الضريبة التي يطلق عليها "ضريبة حياة". لماذا ضريبة حياة؟ يجيب أكرم (27 عاماً) من خان يونس: "هكذا. اسمها ضريبة حياة. تفرض على الكل دون فرق. ولأني أعمل في شركة للبناء، تابعة لنقابة العمال (الهستدروت)، فقد تضاعفت إذ يطالبونني بعشرة آلاف شيكل عن السنة كلها. عندما سألت لماذا ضريبة حياة أجابني الضابط: من أجل الهواء الذي تتنفسه." هل سيدفعها؟ يجيب: "من أين؟ لديّ 4 أولاد. لن أدفعها ولو... سيأخذون البطاقة الممغنطة إذا لم أدفع. ليأخذوها."
وعن الإجحاف الذي يلحق بالعمال من مستخدميهم، يروي عبد الكريم قصته: "بعد الحرب وجدت عملاً في البناء في ريشون لتسيون، لأنهم كانوا مستعجلين فأخذوني. عملت 15 يوم وفي آخر يوم طلبت كشف استخدامي كي أحصل على حقوق من مكتب العمل من تأمين وغيره. إلا إن صاحب العمل رفض. قال سأسجل لك أنك عملت يومين فقط كي لا يدفع ضرائب عني، وهم يعلم أن مكتب العمل لن يعطيني حقوقي ما لم أعمل 15 يوم على الأقل. وقبل الحرب، كنت أعمل في الرملة، فطردوني بعد أن جاءهم الأثيوبيون فاستخدموهم مكاننا. قال المعلّم: أنتم لم تولدوا متعلّمين، وهم سيتعلمون. وطردوني فقط لأني طالبت بأن يدفع لي المعلّم بدل مواصلات. فلي 8 أولاد و 60 شيكل في اليوم لا تكفي ثمن خبز. من أين أدفع فاتورة الكهرباء؛ إذا لم أدفعها سأفقد بطاقتي الممغنطة. ثم ضريبة الحياة... الضريبة التي ندفعها لأننا على قيد الحياة ونتنفس هواء. يريدون أناساً ميتين لا أحياء. هذا ما يريدون." ويعلق شاب كان يستمع: "لو كان عندكم بترول لجاءت أميركا تساعدكم."
ويمر من آن إلى آخر شبان يحملون إبريقاً ويبيعون شاياً للعمال الذين ينتظرون. ينظر عبد الكريم إليهم ويقول: "يبيعون شاي. أليس هذا مثل الشحاتة. شاب تجاوز العشرين طول وعرض ويبيع شاي. هكذا يريدوننا."
يتحمس أحد العمال للكلام لكنهم لا يريدون أن يروي قضيته الشخصية. يسأل: "لماذا عمليات الطعن بالسكاكين التي يقوم بها الشبان؟ هل تعلمون؟" ويجيب عن سؤاله: "أبو جلالة* شاهد ابن عمه يستشهد أمامه من الضرب بعد أن تجمع حوله 6 سيارات عسكرية. أراد الانتقام من أفعالهم. ليسألوه أمام التلفزيون لماذا فعلت ذلك وسيجيبهم. سيعلمون أنه ليس مجرماً وإنما إنسان يطالب بحقوقه. نحن نريده أن يروي أمام التلفزيون ما السبب، كي يعرف شعبهم المغفل. يروننا نلبس ونأكل ونشرب، ولدينا بيوت وأرض، فيقولون إنه مكيّف. لماذا يفعل ذلك؟ إنهم لا يعرفون أننا نعيش من قلة الموت. شخص لا أرض له ولا بيت ولا عمل، لماذا لا يفعل ذلك؟ انظروا إلينا: هل ترون إنساناً إسرائيلياً بهذا الشكل؟ لقد اشتروا الفيلاّت بعلبة لبن. لماذا؟ لأنه ليس إنساناً، وإنما عليه فقط تنفيذ الأوامر. أما نحن فقيمة العامل عند معلّمه أقل من كلب." ويضيف بامتعاض: "إني مستعد أن أدفع نصف عمري كي أقول كل ما لدي على شاشة تلفزيون كي يسمع العالم."
تمر الساعات. وباقتراب الساعة من السابعة، تبدأ الساحة تخلو ممن فيها. فمن يريد عمالاً أخذهم ومضى، ومن بقي عليه أن يستقل سيارة عائداً إلى مدينته أو مخيمه ليجرب حظه في اليوم التالي. ومن حالفه الحظ وذهب ليعمل هذا اليوم، فلا بد من أنه مرّ بتلك النقطة عند الحاجز الحدودي حيث يخضع للتفتيش الشخصي وتفتش حاجاته بحثاً عن آلات معدنية أو سكاكين.
وبعد أن تتجاوز الساعة السابعة يجلي الجنود من بقي ويغادرون أماكنهم عند مدخل الساحة، وينزل من كان في البرج العالي المحروس، وتبقى لافتة وحيدة هي بمثابة عنوان الساحة: "إلى عمال القطاع، عليك الانتظار لصاحب عملك داخل ساحة الوقوف. من يخالف الأوامر لا يسمح له الدخول للعمل داخل إسرائيل."
ويبقى قطاع غزة ملآناً بالهموم، وليس أقلها همّ صاحب سيارة البيجو البيضاء التي تستعمل تكسي أجرة، والذي يروي كيف منعت السلطات الإسرائيلية دخولها إلى إسرائيل لنقل العمال، فانخفض سعرها بنسبة الثلثين بعد أن كان الطلب عليها في ازدياد، فخسر من قيمتها وخسر العمل بين القطاع وإسرائيل ولم يبق سوى تلك الساعات في الصباح من غزة إلى "إيرز" وفي المساء من "إيرز" إلى غزة.
* شاب من مخيم جباليا قتل أربع إسرائيليات طعناً بسكين في 10 آذار/مارس 1991 في القدس الغربية.