عندما أُعد هذا الملف لتقويم ثلاثة أعوام من عمر الانتفاضة، لم تكن أزمة الخليج قد تحولت إلى حرب. وأدى انفجار حرب الخليج في السابع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي إلى تأخير موعد إصدار العدد لإضافة محور خاص بالحرب. لكن حدثاً بهذا الحجم لا بد من أن يفرض قراءة مختلفة لكل قضايا المنطقة في ضوء تطوراته الجارية، وبالتالي إعادة النظر في جزء كبير من المادة التي أُعدت في أوضاع ما قبل الحرب. إنها مشكلة الدوريات الفصلية التي لا تستطيع مواكبة الحدث. ونأمل بأن تكون معالجتنا لهذه المشكلة (إضافة محور حرب الخليج) مفيدة في تكامل العمل، بمعنى ما، فيقرأ ملف الانتفاضة ومحور حرب الخليج في سياق متناغم لدرس مرحلة منصرمة، وتبصر ملامح مقبلة.
- كيف تقوّمون الأعوام الثلاثة الأول من عمر الانتفاضة؟
زكريا الآغا*: في الحقيقة وبكل تجرد وموضوعية، فإن الانتفاضة ورغم كل السلبيات والشوائب التي رافقتها، ورغم حجم المعاناة، ورغم كل وسائل البطش والتنكيل التي اتبعتها سلطات الاحتلال لوقف هذا المد الشعبي الجارف، إلا أنها أحدثت تغييراً جذرياً سواء على الساحة الفلسطينية أو العالمية. فهي نقلت القضية نقلة نوعية وأخرجتها من زوايا النيسان إلى وسط الأحداث العالمية. ولم يعد السؤال المطروح، إسرائيلياً وعالمياً، هو ما إذا كان هناك حقوق لهذا الشعب أو لا، وإنما اصبح السؤال هو مدى هذه الحقوق وكيفية إخراجها إلى حيز الوجود. لقد أصبحت القضية الفلسطينية هي القضية الحاضرة في كل اللقاءات والمؤتمرات، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. وهذا لم يأت عبثاً وإنما كان نتيجة التضحيات الهائلة التي قدمتها الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة من دم الشهداء والجرحى، ومن معاناة المعتقلين، وجوع الأطفال. صحيح أننا لم نبلغ بعد الهدف النهائي الذي وضعناه نصب أعيننا عند بدء هذه الملحمة الوطنية وهو إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ولكني أعتقد أننا قطعنا شوطاً كبيراً في الطريق إلى هذا الهدف. وبمزيد من الإصرار والإرادة والصبر نستطيع، بعون الله، أن نصل إلى هدفنا؛ فالمسألة مسألة وقت ليس إلا.
رياض المالكي*: من البداية يجب أن نحدد أن الانتفاضة هي بالأساس عملية نضالية مستمرة ومتواصلة، ولا يمكننا أن نقيس إنجازات هذه العملية النضالية المتواصلة بالأرقام أو بالعناوين. وكل ما نستطيع تحديده هو إلى أي مدى اقتربنا من أو ابتعدنا عن الأهداف التي حددتها الانتفاضة منذ انطلاقتها. في هذا المجال، يمكن القول إن الانتفاضة أصبحت نمط حياة كل فلسطيني يعيش في الوطن المحتل: أصبحت الأمل والتوحيد والعنوان والفكر والعقل والإيمان، أصبحت هي الخلاص والهدف الذي نلتقي جميعنا حوله وننطلق جميعاً منه. إن البقاء والاستمرارية به1ه القوة عبر أعوام ثلاثة هما انتصار بعينه، والالتزام النضالي والتلاحم البطولي لجماهير وقوى الشعب الفلسطيني هما الإنجاز، واكتشافنا لقوتنا واعتمادنا عليها هما راحة المقاتل. من الصعب تحديد هذه العناوين بعد هذه الفترة الطويلة التي اكتظت بالأحداث حيث أصبح من الصعب على الإنسان منا تداركها، ولكن يمكن الذكر لا الحصر: مقاطعة البضائع الإسرائيلية ومقاطعة العمل في المستعمرات، العودة إلى الأرض وبناء التعاونيات، تشكيل القيادة الوطنية الموحدة، بناء اللجان الشعبية، فك الارتباط مع الأردن، تثقيف وتوعية الجماهير، محاولة التخلص من جيش العملاء، بيان الاستقلال واعتراف نحو مائة دولة بدولة فلسطين.
زهيرة كمال*: دخلت الانتفاضة عامها الرابع والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أخذ يكتسب أشكالاً دموية وقمعية جديدة في ظل انشداد الانتباه العالمي إلى أزمة الخليج. إن هذا التطور يشير إلى دخول الانتفاضة مرحلة جديدة، ويمكن عزوه إلى متغيرين رئيسيين: الأول يتمثل في تسلّم اليمين الإسرائيلي زمام السلطة واتباعه سياسة تقوم على الاعتماد على أقصى درجات القمع والبطش العسكري المباشر، إضافة إلى التضييقات الاقتصادية والإعلامية والنفسية من أجل خفض مستوى الانتفاضة وتأثيراتها وبحيث يمكن التعايش معه لفترة من الزمن. والثاني يتعلق بالإدراك المتزايد من قبل الحركة الوطنية الفلسطينية، على المستويين الشعبي والقيادي، بأن تطوراً جذرياً في أشكال المواجهة اليومية بات مطلوباً وبحيث يعيد إلى الانتفاضة جماهيريتها وزخمها، وبما يكسبها التأثير العالمي ويخلصها من بعض السلبيان التي علقت بمسيرتها خلال الأعوام الماضي. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ضرورة الارتقاء بالبناء التنظيمي والمؤسساتي الوطني بما يضمن إرساء القواعد الأساسية للبنى التحتية السياسية والاقتصادية والثقافية لتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة.
لقد تميزت الانتفاضة في العامين الأولين بثلاث قضايا تمثلت في:
1- سعة حجم القاعدة المشاركة في الانتفاضة، حيث تمكنت من جذب كل الشرائح الاجتماعية من العمال والتجار والطلاب، وفئات أخرى من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة، وانخرطت المرأة بشكل متميز فيها على رغم محاولات القوى الأصولية التقنين من مشاركتها.
2- سمة الديمقراطية التي ميّزت حياة ولجان وأطر الانتفاضة.
3- مستوى جديد من الوعي السياسي والاجتماعي تميز بالجمع بين الروح الواقعية الوطنية السياسية من جانب، والروح الكفاحية العالية من جانب آخر، والذي تمثل في البرنامج الذي طرحته الانتفاضة والذي مكّن م. ت. ف. من طرح مبادرة السلام الفلسطينية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، طرحت الانتفاضة قضايا تمس حياة الإنسان الفلسطيني من جهة، وفك الارتباط التدريجي بالاقتصاد الإسرائيلي.
لهذا، فإن السنوات الثلاث من الانتفاضة، وما راكمه من وعي وتجربة، وما رافقها من تحولات، مسّت كل فئات المجتمع وجذرت التصميم والاستعداد الكفاحي للخلاص من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
بشير البرغوثي*: لقد ساهمت الانتفاضة في إبراز مطالب الشعب الفلسطيني كله، وفي دفع الموقف الفلسطيني إلى حقيقة الواقعية السياسية أكثر من أي وقت مضى، وبوضوح أكثر من انتفاضات أخرى. لقد أعطت الانتفاضة الجماهير مشاعر احترام لنفسها، واعادت الاعتبار للدور الجماهيري في مواجهة دور الأفراد، وأبرزت أهمية العمل الشعبي. ومن طبيعتها كانتفاضة شعبية، فقد عمّقت الشعور بأهمية الديمقراطية في العمل السياسي، وحافظت إلى حد كبير على إطار الصورة الإنسانية، وبالتالي وضعت مطالب الوطن الفلسطيني أمام العالم كنضال تحرري وطني جدير بالمساندة والتأييد والتعاطف، الأمر الذي ظهر في اتساع التأييد الشعبي والرسمي على المستوى العالمي لمطالب الشعب الفلسطيني. وإصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة نضاله من أجل الاستقلال الوطني، رغم المعاناة والمصاعب، أكد مجدداً أمام الرأي العام العالمي أصالة المطالب الفلسطينية وأصالة تعلقه بحقه في تقرير مصيره. فشعب يعاني منذ 3 سنوات ويضحي بسخاء لا يمكن أن يكون محرَّضاً على النضال بل هو مؤمن إيماناً عميقاً بحقه في الاستقلال الوطني.
إن تشكيل اللجان الشعبية واتساعها واشتراك المواطنين في تقرير أمور حياتهم اليومية، هي مظهر ديمقراطي كبير جداً. والنضالات التي يقوم بها المواطنون من خلال تعبير ديمقراطي عن إرادتهم. وقد كانت اللجان الشعبية برلمان الانتفاضة وقيادتها وروحها المتدفقة باستمرار للعطاء، ولكن للأسف الشديد أن هذه العملية ضاعت فيما بعد.
ربما كان أعظم إنجاز أن الانتفاضة أيقظت شعبي على أن لا سبيل ولا بديل عن الانتفاضة لنيل الاستقلال ونيل حقوقه الوطنية، وبالتالي فإن هذا الفلسطيني المستمر منذ 3 سنوات هو قوة الدفع التي تولدت من إرادة الجماهير.
سمير حليلة*: الانتفاضة بدأت بهدف سياسي، وتشكلت قيادتها على أساس سياسي، رغم أن في طياتها شعارات اجتماعية واقتصادية وتعليمية... إلخ. واستمرت القيادة السياسية هي التي تقرر في كافة المجالات رغم أنها مجالات متخصصة وتتطلب معرفة وتخصصاً. ورغم سرعة الأحداث وتراكمها وصعوبة العمل أمنياً، ولا سيما في الأشهر الأولى، فقد استطاعت القيادة الموحدة أن تبادر وحدها وبدون بناء قواعد مهنية متخصصة إلى طرح شعارات في كل المجالات. فمثلاً شعار المقاطعة، كشعار منظم اقتصادياً لكل فترة الانتفاضة ومراحلها، هو شعار صحيح كفاحياً واقتصادياً وعكس قراراً صائباً لم يكن الاقتصاديون واعين على أنه الأصح في تلك الفترة لتأطير النضال الوطني اقتصادياً. ومن الأمثلة الأخرى، شعار تخفيض إيجارات البيوت والعقارات من أجل تخفيف العبء عن الناس وزيادة العدالة الاجتماعية في لظمة سياسية واقتصادية صعبة، عكس بُعد رؤية واهتماماً عالياً بحاجات الناس اليومية. إضافة إلى ذلك، كانت هناك شعارات اقل أهمية لطول فترة الانتفاضة، ولكنها كانت مهمة في لحظتها، مثل شعار العودة إلى الأرض والاقتصاد المنزلي، وشعار عدم دفع الضرائب الذي لم ينجح بسبب تشابكاته الواسعة، ولكنه على الأقل كان صحيحاً وضرورياً في تلك المرحلة، في أجواء العصيان التي طرحة. ويعتبر قرار المقاطعة أهم إنجاز اقتصادي للأراضي المحتلة، أو الدافع الأساسي إلى الإنجازات الاقتصادية الإيجابية؛ إذ فتح هذا الشعار الباب واسعاً أمام المبادرين وصغار المستثمرين للمبادرة وإقامة مشاريع صغيرة، ولا سيما في السنتين الثانية والثالثة، وعوّض عن المنتوجات الإسرائيلية. كما أنه مكننا من الاستغناء عن نصف استيرادنا من الأسواق الإسرائيلية، والنصف الآخر تحول إلى المواد الخام ووفّر فائضاً في القيمة بذلك يقدر بـ 300 – 400 مليون دولار سنوياً. وبالتالي، يمكن اعتبار شعار المقاطعة مرحلة على طريق تعزيز الانفصال بين الاقتصاد الإسرائيلي والاقتصاد الفلسطيني.
- خلال الأعوام الثلاثة الماضية ظهرت بعض السلبيات في مسيرة الانتفاضة من آن إلى آخر. كيف يمكن تحديدها؟
زكريا الآغا: إن حدثاً هائلاً كحدث الانتفاضة، وفي مثل الأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، لا يمكن أن يخلو من بعض السلبيات، ومنها:
أولاً: عدم وضوح الرؤية لدى البعض، والاعتقاد أن الانتفاضة تعني الفوضى وعدم الانضباط والتصرف بشكل غير مسؤول. والأمثلة لذلك كثيرة.
ثانياً: تدهور المسيرة التعليمية في المراحل كافة. وبالرغم من أن سلطات الاحتلال تلعب الدور الرئيسي في تعطيل هذه المسيرة، فإن الدور الوطني مهم في هذا المجال، ويجب أن نعمل على وقف هذا التدهور لأن الاستمرار في هذا النهج من شأنه أن يدمّر هذه المسيرة ويقضي على مستقبل أجيالنا القادمة.
ثالثاً: كثرة القرارات التي تصدر دون أن يكون هناك متابعة حقيقية لتنفيذها، وبالتالي تصبح في بعض الأحيان حبراً على ورق، وتفقد الجهة المسؤولة مصداقيتها أمام الجماهير. ولذلك يجب ألا يتخذ أي قرار جديد إلا بعد التأكد من تنفيذ ما سبقه.
رابعاً: عدم متابعة المشاكل اليومية التي تظهر على الساحة بشكل منتظم ومنظم، وهذا يؤدي بدوره إلى تراكم تلك المشاكل وتفاقمها.
خامساً: الجنوح، في بعض الأحيان، إلى التصرفات الفردية، سواء على مستوى الفرد أو الإطار السياسي. وهذا من شأنه أن يزيد من التناقضات. وهنا تظهر أهمية تعميق الوحدة الوطنية بين مختلف التيارات والأطر الشعبية.
رياض المالكي: من أجل الموضوعية والإنصاف، لا بد من الاعتراف بحدوث بعض السلبيات في عمل الانتفاضة عبر أعوامها الثلاثة، وخصوصاً ونحن نعي تماماً ضرورة الدخول في عملية التقييم والنقد من أجل التغلب، إنْ أمكن، على هذه السلبيات وتصحيح أي اعوجاج يكون قد حدث في مسيرة الانتفاضة خلال تلك الفترة. ويمكننا تحديد مجمل هذه السلبيات تحت عنوان رئيسي هو "العملية السلوكية" بشقها النضالي والاجتماعي والحضاري وفقدانها، كنتيجة لذلك، للدعم والإسناد والمشاركة الجماهيري ضمن فعالياتها، واقتصار هذه الفعاليات خلال العام الأخير على القوى الضاربة من الشباب الملتزم تنظيمياً. وهكذا انتقلت الانتفاضة إلى مسرح رد الفعل بعد أن كانت هي الحدث وصانعته. وضمن محاولة تحديد أسباب هذه المسلكيات السلبية لبعض عناصر الانتفاضة، نجد أن الدافع الموضوعي في ذلك يعود إلى غياب هيكلية تنظيمية متكاملة وشاملة، بالإضافة إلى غياب آلية العمل بمفهوم برنامج نضالي محدد. كما نجد أن الدافع الذاتي يعود إلى غياب عملية التثقيف والتوعية الجماهيرية، واستعداد هؤلاء النشطاء من أجل التمرد على الاحتلال لكسر القوانين السائدة وفرض قوانين ثورية تحددها آفاقهم. هذه السلوكيات تتضمن أسلوب التعامل مع العملاء أو المشتبه بهم، في التلثم مع الجماهير، في الغش في امتحانات الثانوية العامة، في التمرد على القيم، في السرقات، في إثارة النزاعات الداخلية.
زهيرة كمال: خلال العام الثالث للانتفاضة حدثت تراجعات:
1- تقلُّص دور الأطر الشعبية للانتفاضة، سواء على صعيد دورها أو سمتها الجماهيرية وأصبحت، في الأغلب، أطراً فئوية. وعليه أبعدت أعداداً واسعة من الجماهير عن المشاركة في القرار والدور، لعدم انتمائها إلى أحد فصائل م. ت. ف. ومن جانب آخر، فإن الإجراء الإسرائيلي باعتبار هذه اللجان غير شرعية وتعريضها بالتالي، والمطاردة، كان سبباً في تراجعها. ومن جانب ثالث، بروز ظاهرة التلثم واستخدام العنف والعودة مجدداً إلى ظاهرة الإنسان البطل (السوبرمان)، كان أيضاً سبباً في تراجع الانتفاضة عن جماهيريتها.
2- تراجع سمة الديمقراطية في إدارة عمل اللجان والمؤسسات التي غلبت عملها، خلال العامين الأولين، باتجاه "بقرطة" أكبر للعمل. وكان لفصائل م. ت. ف. ولأسلوب العمل الذي تدار به قضايا الانتفاضة واحتياجاتها في الخارج، أثر في ذلك.
3- بروز مشكلات اجتماعية جديدة على المستوى الشعبي والناتج عن اتساع عملية الاستشهاد والجرح والمطاردة والاعتقالات، وتردي الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، وتسليم أعداد واسعة من العمال بطاقات خضراء... كل ذلك كان يستدعي تحركات أوسع على الصعيد الشعبي، وإيجاد أشكال وأساليب نضالية جديدة تتماشة مع هذه المشكلات، وإيجاد الحلول لمشكلات هذه الجماهير. هذا، إضافة إلى بروز مشكلات أخرى، ترافق فيها البعد الاجتماعي مع البعد الوطني، والتي صاحبت عملية التحقيق مع العملاء وقتلهم.
بشير البرغوثي: هناك إشكالات في العلاقة بين الداخل والخارج، وأحياناً عدم رؤية، لأن أساليب القيادة التي كانت متبعة قبل الانتفاضة أصبحت بحاجة إلى تطوير لتتلاءم مع الانتفاضة. الانتفاضة لها سماته وقوانينها الخاصة التي تختلف عن سمات أي شيء آخر، تختلف عن سمات قوانين العمل المسلّح. يجب أن يكون هناك توافق بين الأداء والعامل القيادي. وهذا التوافق حتى الآن غير موجود تماماً. وربما أن الامتداد الزمني هو الذي بدأ يظهر حالة عدم التوافق. ويجب أن تنتبه القيادة لهذه المسألة، لأنه يجب أن نخشى هنا أيضاً ظهور "عباس مدني" في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما حصل في الجزائر. وإذا لم تعالج هذه الأساليب التي اتبعتها جبهة التحرير الجزائرية وكذلك الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا، فإن المد الأصولي سيستفيد من أخطاء الطرف الآخر.
سمير حليلة: عند الحديث عن مواقع الفشل، يجب أن نتذكر أن المجتمع الفلسطيني لم يكن مهيأ لقيادة دولة بجوانبها المختلفة. فكان هناك قيادة سياسية لتقود المجتمع الفلسطيني، لكن لم يكن هناك كادر أو مؤسسات موجودة على هذا الأساس. وفي البداية اتخذ السياسيون كل القرارات، ولكن غياب هيئة مختصة لتنفيذ ومتابعة هذه القرارات، أدى إلى نتائج مدمرة.
والسؤال هو: كيف تستطيع قيادة مؤلفة من أربعة أطر أن توفر أفضل طاقم قيادي للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، على مستويات غير سياسية؟ ولأن تنظيماتنا حديثة، والجيل الذي يقودها أصغر من أن يكون كادراً قيادياً، فإنه لم يكن هناك رؤية واضحة إلى أن القيادة على الصعيد السياسي لا تتطلب بالضرورة أن تكون هي نفسها قيادة على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو التعليمي. ولم تستوعب هذه القضية طوال ثلاث سنوات. وكان الإصرار دائماً على دور القوى الأربع وتمثيلها على كل المستويات، واتضح أن هذا غير كاف. والآن، بدأت القيادة السياسية تدرك أن قيادة الانتفاضة قبل الدولة لا تعني قيادة الانتفاضة بعد الدولة، وضرورة الاتجاه إلى استخدام كوادر ذات خبرة في اختصاصات معينة بشكل واسع.
- ما هي الأهداف والتحديات المطروحة للعام الرابع للانتفاضة؟
زكريا الآغا: إن من أهم الأهداف التي نتطلع إليها في العام المقبل هي:
أولاً: تعميق الوحدة الوطنية بين كافة الأطر السياسية الموجودة على الساحة، وخصوصاً بين الأطر الوطنية والأطر الدينية. إذ إن من شأن ذلك أن يزيد في فاعلية العمل، ويمنع كثيراً من التناقضات الموجودة على الساحة، ويوقف كثيراً من الشوائب التي تسيء إلى شرف نضالنا الوطني.
ثانياً: العمل الجاد على إيجاد الحلو المناسبة للمشاكل التي برزت خلال الأعوام الماضية، وخصوصاً مشكلة البطالة التي تبلورت بشكل واضح بين العمال الذين فقدوا مصادر الرزق داخل الخط الأخضر. وهذه إحدى القضايا الملحة التي لا تحتمل تسويفاً أو تأجيلاً.
ثالثاً: بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية في كل المجالات السياسية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، على أسس من الديمقراطية والعمل الجاد المسؤول.
رابعاً: التمسك بمبادرة السلام الفلسطينية التي تم إعلانها في اجتماع المجلس الوطني في الجزائر عام 1988، رغم كل الصعاب التي تعترضها؛ إذ إن قبولنا للسلام العادل هو خيار استراتيجي لا رجعة عنه.
رياض المالكي: العام الرابع للانتفاضة سيكون عام الحماية الدولية، وعام القدس، وعام شعار "الانتفاضة لكل الفلسطينيين"، وعام التوجه إلى الشعوب العربية، وعام التوجه إلى أوروبا الموحدة. من أهم أهداف العام الرابع للانتفاضة، الحماية الدولية وتشكيل لجنة فلسطينية وأخرى دولية لتحقيق الحماية الدولية، بالإضافة إلى معركة القدس التي أصبحت عنوان الانتفاضة في هذا العام. والمطلوب تسخير كل الطافات والجهد لكسب هذه المعركة التي في إمكانها أن تحدد مستقبل وتوجُّه لا الانتفاضة فقط وإنما القضية الفلسطينية برمتها. العام الرابع سيكون عام تبني شعار "الانتفاضة لكل الفلسطينيين" وإشراك كل الجاليات الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها، في العملية الانتفاضية بشكل أوسع ومسؤول. وكنتيجة لأزمة الخليج والسقوط النظري للعديد من الأنظمة العربية، لم يبق أمام الثورة الفلسطينية إلا التوجه إلى الشعوب العربية حليفها الصحيح لكسب الإسناد العربي المطلوب لدعم الانتفاضة، إضافة إلى التوجه نحو أوروبا الموحدة في محاولة لكسب التأييد الدولي في ظل سقوط المنظومة الاشتراكية والانهزاك السوفياتي الأخلاقي على الصعيد الدولي. وفي ظل العداء الأميركي السافر للحق الفلسطيني، والانحياز الكامل للكيان الصهيوني، في ظل هذه الخيارات المحدودة، لا بد من أن نرى توجهاً فلسطينياً جدياً نحو المجموعة الأوروبية في محاولة لتحييد وكسب هذا التأييد الأوروبي على الصعيد الدولي.
زهيرة كمال: إن النهوض بالانتفاضة لتحقق أهدافها، مستفيدة من تجربة الأعوام الثلاثة الماضية، يستدعي عدداً من المهمات التي تعزز من خلالها إيجابيات العامين الأولين من الانتفاضة، والتخلص من الشوائب التي علقت بها خلال مسيرتها. وهذا يعني:
- إعادة تشكيل اللجان الشعبية بما يعيد لها ديمقراطيتها، وتطوير وظائفها، واعتبارها أدوات السلطة الشعبية لتشمل القضايا المعيشية الحيوية لهموم الجماهير.
- تفعيل دور المجالس الموحدة، العمالية والنسوية والطالبية والصحية، وبما يمكّن من تطوير عملها مع متطلبات المرحلة المستقبلية.
- تطوير عمل القيادة الوطنية الموحدة وتعزيزه، وهذا يتم من خلال وقت التدخل في شؤونها، واعتمادها إطاراً وحيداً لتوفير الدعم للانتفاضة وتوسيعها، وتشكيل اللجان المختصة والتعاون معها.
بشير البرغوثي: المطروح هو كيفية توسيع القاعدة الشعبية للانتفاضة، وإعادة اللجان الشعبية، وتأكيد الديمقراطية في العمل السياسي. أنا ضد أن يتحول النضال الشعبي إلى نضال بيروقراطي ومؤسساتي، وهو موجود للأسف، ومع إعادة تشغيل وتوسيع اللجان الشعبية وإعطائها دورها الفعال بالديمقراطية، والتخلص من سمة القوى الأربع، وإعطاء دور واسع لكل الفعاليات التي تنشأ على الأرض، إذ يجب الإفادة من كل الإمكانات الوطنية حتى لو كانت محدودة.
يجب الابتعاد عن التنظيم البيروقراطي، والتوجه إلى التحليل السياسي من قبل القيادة التي تضع يدها على نبض الجماهير باستمرار وتبحث عما يمكن أن يبقي هذا النبض منتظماً ويتحرك بشكل سليم. إذ يجب مواجهة ما يطرحه العدو في كل مرحلة، وهذا يعتمد على معادلة سياسية لا إدارية.
وللعام الرابع أقول: مزيداً من الانتفاضة، ومزيداً من الديمقراطية، ومزيداً من التمسك بالبرنامج الوطني الفلسطيني الذي أعلناه في الدورة 19 للمجلس الوطني في الجزائر.
ويجب تجنب المغامرة السياسية والعملية التي قد تلحق الضرر بسمعة النضال الوطني الفلسطيني. فإذا أردنا التأثير في الشارع الإسرائيلي والرأي العام العالمي، يجب أن يبقى نضالنا محتفظاً بطابعه الإنساني والديمقراطي. يجب ألا يأخذنا الحماس أحياناً وننجر وراء بعض الأوساط أو القوى أو الأفراد التي لا يأخذ موقفها السياسي بعين الاعتبار لا الشارع الإسرائيلي ولا الرأي العام العالمي.
سمير حليلة: في العام الرابع نحن بحاجة إلى سياسة دفاعية للدفاع عن منجزاتنا، أو عن الحد الأدنى الذي وصلنا إليه، ولا سيما بعد دخول عاملين خطيرين هما: أزمة الخليج ونتائجها على صعيد التحويلات والصادرات والسياحة وعودة العاملين هناك؛ وكذلك قضية إغلاق الخط الأخضر والتوزيع المكثف لبطاقات الهوية الخضراء التي تحظر الدخول إلى إسرائيل للعمل.
ومن ناحية أخرى، يجب تعزيز البنية المؤسساتية الاقتصادية، لأنه حتى الآن لا تتوفر قاعدة لتقود العملية الاقتصادية. كما يجب تنظيم عمل مؤسسات هيئة الأمم المتحدة التي تعمل في المجال الاقتصادي، ليخدم عملها خطتنا الدفاعية، ولا سيما بعد أن أصبحت م. ت. ف. غير قادرة في السنة الرابعة على الوفاء بالتزاماتها الضرورية.