تفرد "مجلة الدراسات الفلسطينية" الصفحات التالية من هذا العدد لمحور خاص عن أزمة الخليج. ويتضمن هذا المحور وجهات نظر مختلفة ومتنوعة ومتباينة في موضوع يشغل العالم وتطال آثاره الحاضر والمستقبل العربيين. ولا تقتصر "المادة الخليجية" على هذا المحور، بل تشمل ملف العدد الذي خصص لعرض آراء الاسرائيليين ومناقشاتهم لهذا الموضوع. كذلك يحتل الحدث معظم وئائق هذا العدد.
ويهمنا التأكيد ان محتويات "المادة الخليجية" ـ مثلها مثل محتويات المجلة وكما نشير عادة في آخر الصفحة الثانية من كل عدد ـ تعبر فقط عن وجهات نظر مؤلفيها ولا تعكس بالضرورة رأي مؤسسة الدراسات الفلسطينية أو هيئة تحرير المجلة.
بيار ترزيان: النفظ وأزمة الخليج
المستفيدون والمتضررون
في مجالي الانتاج والتسويق
س ـ اية منزلة يحتل النفط في النزاع الذي يواجَه بين العراق والكويت؟
ب. ترزيان: يشتمل الجانب النفطي من النزاع العراقي ـ الكويتي أساسا على نقتطين: أولاهما النقطة المتعلقة بحقل الرميلة الواقع في الأراضي العراقية بنسبة 90٪ وفي أراضي الكويت بنسبة 10٪. ولعل هاتين النسبتين غير دقيقتين لكنهما في اية حال لن تتجاوزا نسبتي 80٪ و20٪. لكن المسألة ليست هنا. المسألة هي ان العراق اضطر في إبان الحرب مع ايران الى وقف إنتاجه النفطي في الرميلة في حين ان الكويت واصلت الانتاج في الجزء الذي يقع في أراضيها. ولا بد هنا من القول ان العراق والكويت لم ينجحا، بسبب خلافهما بشأن رسم الحدود، في التوصل الى اتفاق لاقتسام الانتاج انطلاقا من الحقل ]المذكور[ على الرغم من ان في العالم عشرات الحالات المماثلة، حيث نجد حقلا يقع داخل حدود بلدين، وتتوصل دولتاهما الى صيغ اقتسام مرضية تماما. وعندما برز النزاع واحتل واجهة الأحداث خلال الأشهر الأخيرة، اكد العراقيون ان الكويت ضخت من نفط الرميلة ما قيمته 2,4 مليار دولار، وهي كمية تزيد على نصيبها وكان ينبغي ان تعود اليهم. غير اننا لا نعرف وجهة النظر الكويتية وليس لدينا سوى الرواية العراقية عن هذه القضية. ولهذا فان من الصعب بطبيعة الحال ان نعرف ماذا جرى بالضبط. لكن هذه النقطة تظل نقطة مهمة من نقاط النزاع.
أما النقطة الثانية، وهي اهم كثيرا من سابقتها، فتتعلق بادعاء العراق بالنسبة الى سلوك الكويت في سوق النفط الدولية وواقعة مساهمتها مع دولة الامارات العربية في خفض سعر النفط، وذلك بتجاوزهما في إنتاجهما لـ "الكوتا" اي لكمية الانتاج التي حددتها لهما الأوبك. والحال هو ان العراق، شأنه في ذلك شأن أغلبية دول الأوبك، مرتهن بمداخليه كلها تقريبا لصادرات النفط. وعلى هذا، فان انخفاض سعر النفط ينعكس بصورة حسابية وفورية على الاقتصاد العراقي بأسره مثلما ينعكس على مجمل اقتصاد بلد كالسعودية او إيران. وقد بلغ التوتر ذروته في الربيع الماضي عندما انخفض سعر النفط (بسبب إفراط الانتاج في الكويت والامارات) بنسبة 50٪ خلال أسابيع: كان سعر البرميل في حدود 20 أو 21 وبل 22 دولارا في كانون الثاني / يناير 1990، فهبط الى 13 أو 14 دولارا في الربيع. وهكذا اصبح الوضع من وجهة نظر العراق غير محتمل، ولا سيما ان العراق ـ خلافا لبعض البلاد الأخرى مثلا ـ يرزح تحت دين باهظ، وانه كان لا يزال، نتيجة عدم توصله حتى ذاك الوقت الى اتفاق سلام مع ايران (لم تكن هناك بوادر اتفاق بعد) يكرس نحو عشرة مليارات دولار لإِنفاقه العسكري ـ الأمر الذي كان بطبيعة الحال يقلص هامش المناورة لديه على الصعيد الاقتصادي ويجعل وضعه أكثر هشاشة ازاء اي انخفاض في أسعار النفط.
س ـ هل كان بين البلدين تباينات في جوهر المواقف واختلافات متعلقة بالنفط تتعدى نزاع المصالح المباشرة؟
ب. ترزيان: بالتأكيد. فلديك من جهة أولى العراق الذي يبلغ تعداد سكانه 17 مليونا ومن جهة اخرى الكويت التي لا يزيد عدد مواطنيها على ستمائة ألف كويتي أصيل ـ يضاف اليهم بطبيعة الحال العمال المهاجرون. لكن كلا البلدين يتمتع باحتياطات نفطية متناظرة عمليا. يضاف الى ذلك ان الكويت مارست بانتظام، وخلال أعوام، سياسة تثمير مالي في الخارج مفرطة التعقيد بالغة الذكاء بحيث أنها اصبحت تتلقى منذ سنتي 1986 و 1987 عائدات من تثميراتها المالية في الخارج تفوق مداخليها من النفط. أو لنقل ان نسبة الأولى الى الثانية تتغير بين سنة وأخرى. فأحيانا تكونان متناظرتين واحيانا تزيد قيمة العائدات المالية على المداخيل النفطية. وفي اية حال، تستطيع الكويت تحمّل سقوط أسعار النفط، خلافا للعراق الذي لا يتحمل هذا السقوط مطلقا. وعلى هذا فان الوضعين متناقضان تناقضا تاما.
س ـ هل هناك تباينات في إدراك كل منهما لدور الأوبك؟
ب. ترزيان: بلى. وسائر التباينات تتبع هذه الوقائع الموضوعية، اي ان العراق كان يريد أسعارا أكثر ارتفاعا في حين ان الكويت كانت على العكس من ذلك تريد أسعارا نفطية متدنية، لأن النفط في رأيها ينبغي له ان يظل مصدرا أساسيا من مصادر الطاقة ولا يجب قتله بممارسة أسعار بالغة الارتفاع.
س ـ هل النفط سلاح استراتيجي من وجهة نظر الاقتصادات الغربية أولا، ثم وجهة نظر البلاد العربية التي تريد ممارسة سياسة إرادية؟
ب. ترزيان: الجواب عن هذا السؤال نسبي. عنيت أنه لا بد له ان يتشكل بحسب الحقب ويتكيف وفقها. فالنفط كان سلاحا سياسيا بيد الدول المنتجة في النصف الثاني من السبعينات. وقد يعود كذلك في النصف الثاني من التسعينات. خلال ذلك، وبالنظر الى تراجع الطلب والاستهلاك في العالم وظهور فائض في القدرة الانتاجية، اصبح النفط سلاحا سياسيا بيد المستهلك ضد المنتجين. وعلى هذا، فان الجواب موقوف على الحقب وعلى الجانب الذي ننظر اليه من كلا الطرفين: المستهلك أم المنتج؟ وقع غزو العراق للكويت في لحظة بالغة الأهمية بالنسبة الى الصناعة النفطية: كان الطلب بصدد اللحاق شيئا فشيئا بالقدرة الانتاجية في العالم: سواء لناحية انتاج النفط الخام او لناحية انتاج النفط المكرَّر. ذلك بأنه لا يمكن استهلاك النفط الخام، كما تعلمون، كمادة اولية اي كنفط خام محض. وعلى هذا، فان ثمة إمكانين لظهور اختناقات او نقاط اختناق: ليس فقط على رأس البئر (اي على مستوى النفط الخام) بل كذلك على صعيد القدرة التكريرية. ذلك لأنك لا تستطيع ان تفعل بنفطك الخام شيئا إذا لم تجر تصفيته وتكريره. ونحن بصدد ان نصل سريعا الى نقطة توتر بحيث لا يعود في وسع القدرات القائمة والطاقات الموجودة ان تفي بالطلب. والحال هو انه من أجل زيادة هذه القدرات، إنْ على صعيد التكرير او على صعيد انتاج النفط الخام، ومن اجل زيادة القدرات في ميادين الطاقات الأخرى كالغاز الطبيعي المتوفر بكميات غزيرة، اصبح من الضروري زيادة أسعار النفط. إذ اننا نوشك ان نصل، اذا ما لم ترفع أسعار الطاقة، الى قصور وتراجع في قدرات وطاقات انتاج النفط، وربما الغاز أيضا، خلال الأعوام الثلاثة او الأربعة المقبلة، اي في حدود سنة 1995 في أبعد تقدير. ففي العام الماضي مثلا حدث في إبان موجة الصقيع في الولايات المتحدة، نقص في الغاز في حين ان الغاز وافر في الشرق الأوسط وافريقيا وكذلك في الاتحاد السوفياتي. غير ان نقل الغاز الى سوق هائلة كالسوق الأميركية يحتاج الى أسعار ـ غاز تبرر التوظيفات الهائلة الضرورية لهذا النقل. فبناء ناقلة غاز تتسع لمائة وخمسة وعشرين ألف متر مكعب، على سبيل المثال، يحتاج الى توظيف مالي يتراوح بين 230 و 250 مليون دولار. والحال ان سعر المليون وحدة حرارية من الغاز كان في العام الماضي في حدود 1,6 دولار. وهو سعر ادنى كثيرا من ان يبرر قيام توظيفات مالية في مشاريع غازيّة جديدة. ونستطيع هنا ان نسوق الكثير الكثير من الأمثلة الملموسة. يجب ان ترتفع الأسعار. لكن ما الذي حدث حقا؟ ان الجميع يتحثون الآن عن صدمة نفطية. لكن هل كان هناك صدمة حقا؟ ان سعر البرميل اليوم يتراوح عند الخمسة والعشرين دولارا من النفط الخام أوبك. وقيمة الدولارات الخمسة والعشرين اليوم تساوي فعليا 19,5 دولارا من دولارات سنة 1986 ـ وهي سنة ذات مرجعية مهمة جدا لأنها السنة التي حددت أوبك فيها ـ بعد الصدمة النفطية المضادة ـ السعر المرجعي للنفط بثمانية عشر دولارا للبرميل من النفط الخام وهو سعر ظل ساري المفعول حتى نهاية شهر حزيران / يونيو الماضي، اي انه ظل ساريا لمدة طويلة (اربعة أعوام). إذًا، فان 25 دولارا من دولارات السنة الحالية تساوي بقيمتها الفعلية 19,5 دولارا من دولارات سنة 1986. أفيمكن والحالة هذه، الحديث عن صدمة نفطية؟ اعتقد ان في الأمر مبالغة مفرطة. فالزيادة ضئيلة: دولار ونصف الدولار في أربعة أعوام. أي زيادة لا تكاد تصل نسبتها الى 8٪، اي انها أقل من ان تكفي لتبرير ظهور مشاريع تثمير جديدة في ميدان الطاقة. اننا بعيدون حقا عن ذلك. اننا بعيدون جدا عن "الصدمة". لكن إذا وقع انفجار عسكري غدا، وإذا ما نشبت الحرب، فان الأسعار ستلتهب بطبيعة الحال. هذا أكيد. لكننا لم نصل الى هذا الوضع بعد. وعلى الرغم من ذلك، لا نزال نسمع أصواتا ترفع عقيرتها بالحديث عن "صدمة نفطية" وتتخذ من هذه الصدمة حجة لتبرر تبنّي بعض الاجراءات والتدابير في الاقتصادات الغربية التي بدأ نشاطها في الواقع يشهد فترة تباطؤ صعبة. ومرة اخرى، يتحمل الخليج والنفط وزر ما لم يأتياه. فالقوم يستخدمون هذه الأزمة ويتذرعون بهذه الزيادة البالغة الاعتدال، من الناحية الفعلية في أسعار النفط، ليبرروا تدابير اقتصادية تغضب المواطن العادي، في حين انها كانت في كل حال ضرورية لأن تباطؤ النشاط الاقتصادي في العديد من الدول الصناعية كان ظاهرا للعيان منذ عدة اشهر. هذه هي النقطة التي وصلنا اليها والمرحلة التي بلغناها. ولقد وددت ان أقول، حتى لو بدا الكلام ككلام قدامى الكلبيين من الأوائل، ان هذه الأزمة توشك ان تكون من وجهة نظر شركات النفط والغاز موضع ترحيب من حيث أنها ستتيح إعادة تقويم الأسعار وتدفع بالتثميرات الى الأمام بما يتيح للعالم تلافي وقوع أزمة نفطية خلال أعوام مقبلة؛ أزمة تكون أخطر من الأزمة التي نعيشها حاليا.
س ـ كثر الكلام، ساعة وقوع الغزو، في ان العراق يعتزم السيطرة على احتياطيات الخليج النفطية كافة. فهل يبدو هذه الفرضية صحيحة لكم؟
ب. ترزيان: ان العراق لا يحتاج الى احتياطي الدول الأخرى النفطي لأن احتياطياته مفرطة الأهمية، كما ان قدرته الانتاجية لم تستنفد، وهو يستطيع ان يزيد فيها زيادة عظيمة. يضاف الى هذا ان العراق لا يزال عمليا بلدا بكرا لجهة التنقيب والاستكشاف النفطيين، على الرغم من انه بلد نفطي قديم. فالجزء المستكشف من الأراضي العراقية يمثل نسبة ضئيلة قياسا بطاقات العراق. ولهذا، فان العراقيين ليسوا بحاجة الى التطلع الى نفط بلد مجاور، وإذا كان لهم مثل هذه التطلعات ماضيا او حاضرا، فانها تطلعات لا معنى لها ولا مبرر.
س ـ وماذا فيما عنى السيطرة على السوق؟
ب. ترزيان: هذا امر آخر. ذلك بأن ما يحتاج العراق اليه ليس حجما إضافيا من الاحتياطي وانما أسعار نفط تتيح له مواجهة حاجاته المالية، إنْ لجهة السلع المستوردة او لجهة سداد الدين الضخم الذي استدانه بعد الحرب، او أخيرا لجهة تنشيط اقتصاده الذي عانى الكثير في إبان الحرب. والتأثير في الأسعار (وهو ما توصل اليه العراق في إبان اجتماع الأوبك في تموز / يوليو الماضي في جنيف) هو من وجهة النظر العراقية كافٍ، لأنه يؤمن للعراق مداخيل مقبولة. لكننا لا نعرف أسرار ما يدور في الأروقة الحكومية. اذ ماذا حدث بعد اجتماع الأوبك واستعاد العراق فيه نفوذه وتأثيره؟ هل هو خشية العراقيين عودة الأمور، بعد تجاوز هذه الحقبة، الى سياسة تعدّي الحصة (الكوتا) التي حددتها الأوبك، وتدفع الأسعار نحو التراجع والهبوط؟ إنّا لا نعرف شيئا عن هذه المساومات، ولا ندري ما الذي جرى فعلا. لكن ما نعرفه، وتعرفونه هو ان العراق احتل الكويت في الثاني من آب / أغسطس الماضي.
س ـ سمعنا في إبان فترة الهياج الإِعلامي في شهر آب / أغسطس معلقين يعزون الى العراق العزم على زعزعة الاقتصادات الغربية!
ب. ترزيان: هذا رأي لا يستحق ان نقف عنده. فليس بتسعير ثمن البرميل بـ 19,5 دولارا بأسعار سنة 1986، يمكن زعزعة الاقتصادات الغربية التي أظهرت قدرتها على التحكم في أزمات اهم كثيرا من الأزمة الحالية هذه، في سنوات 1974 و1978 ـ 1980. لا. هذا كلام لا يستحق التعليق عليه.
س ـ ألا يحقق الأميركيون بارسالهم قوات الى الخليج، حلما قديما هو حلم السيطرة المباشرة على موارد النفط؟ ما هي النتائج الملموسة التي يمكن ان تترتب على وجود هذه القوات بالنسبة الى اسعار النفط واستمرار تدفقه؟
ب. ترزيان: أنا اقتصادي ومستشار، والمسائل الايديولوجية لا تهمني. انا اتوقف عند الوقائع. وما ألاحظه عمليا هو الحضور المادي والعسكري للولايات المتحدة في أراضٍ تشتمل على 40٪ من الاحتياطي العالمي الثابت من النفط. هذا بصرف النظر عن الاحتياطي الأميركي في الأرض الأميركية نفسها ـ والتي تمثل 35٪ من الصادرات النفطية العالمية. واعتقد ان في وسعنا القول اليوم ان الولايات المتحدة، الى ان تخرج من المنطقة بحسب التزامها تجاه السعودية، لم تتمتع بمثل هذه القدرة النفطية على المسرح العالمي منذ ان اصبحت بلدا مستوردا للنفط سنة 1947. فبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة باستيراد النفط، لكن كان عليها مراعاة حاجات اوروبا، في اطار مشروع مارشال. وعلى الرغم من انه لم يكن هناك منظمة اوبك في تلك الفترة (بل ان أغلبية البلاد المنتجة للنفط لم تكن قد استقلت بعد)، كان على الولايات المتحدة ان تأخذ العوامل غير الأميركية بعين الاعتبار. وفي ذلك الحين، وبالتحديد عندما اضحت الولايات المتحدة بحاجة الى ما أمكن من نفوذ وتأثير في السوق الدولية لأنها اصبحت، وللمرة الأولى في تاريخها، تستورد 52٪ من النفط الذي تستهلكه، باتت الولايات المتحدة تمسك بقدرة نفطية ضخمة. ومنذ الصدمة النفطية المضادة سنة 1986، هبط انتاجها بمعدل مليوني برميل يوميا. ذلك لأن مصدر ذاك الانتاج كان إما حقولا قديمة واما حقولا صغيرة، اي مكلفة، بحيث لم يعد إنتاج هذه الآبار مبرَّرا اقتصاديا بالنظر الى أسعار 1986 المتدنية. ونستطيع ان نعاود الاقتداء بالكلبيين هنا، ونستخدم لغة العيابين ونقول ان الأزمة الحالية ستكون، من وجهة النظر هذه، موضع ترحاب إذا ما أتاحت للولايات المتحدة وقف تراجع إنتاجها وتردّيه، بفضل رفع الأسعار، وبالتالي وقف تزايد نصيب النفط المستورد في الاستهلاك الأميركي الداخلي للنفط. لكن هذا لا يدفعني الى المضي قدما في هذا المنطق والقول ان الولايات المتحدة تسعى لرفع أسعار النفط. فالنزاهة تقتضي القول ان الأميركيين لم يحسموا امرهم في هذا الصدد، وان المسألة في قيد النقاش في واشنطن. وإذا كان بعض مستشاري البيت الأبيض المهمين يؤيد رفع الأسعار رفعا معتدلا معقولا يتيح عودة الانتاج الأميركي الى الانطلاق، ويشجع التنقيب، فان مستشارين وخبراء ومسؤولين أميركيين آخرين يعتقدون ان ليس ثمة ما يمكن القيام به في كل حال، لأن الامكانات الأميركية النفطية محكوم عليها بالنفاد، وان على الولايات المتحدة ان تضطلع بدورها كمستورد للنفط استيرادا مطردا، وأن من الخير تبعا لذلك توفير النفط بسعر منخفض. لكن النقاش لم يحسم بعد في الولايات المتحدة، ولهذا فانني لا استطيع القول ان واشنطن تريد رفع الأسعار. لكن في وسعي ملاحظة امرين: أولهما هو ان الولايات المتحدة عادت فوضعت، وللمرة الأولى منذ سنة 1981 (سنة وصول رونالد ريغان الى السلطة وبدئه سياسة "اطلاق الحبل على غاربه" من ناحيتي الاقتصاد والطاقة)، مخططا قوميا للطاقة على غرار ما فعله الرئيسان نيكسون وكارتر في إبان عهديهما. ان أحدا لا يتخيل اليوم، تخيُّل الرئيس نيكسون لفترة من الزمن، ان في وسع الولايات المتحدة استعادة استقلالها في ميدان الطاقة. فالقوم يعرفون تماما ان هذا وَهْمُ متوهمين. غير ان التحضير لهذا المخطط القومي للطاقة يتزامن بالضبط مع احتلال الولايات المتحدة مجددا مرتبة القوة النفطية العالمية بفضل حضورها العسكري الحالي في الخليج.
والأمر الثاني هو ان الوكالة الدولية للطاقة، اعتبرت في الاجتماع الذي عقدته في باريس يوم 31 آب / أغسطس الماضي، ان العرض والطلب النفطيين مُرضيان حاليا، وأنه ليس ثمة داعٍ الى إعطاء إشارة البدء بالسحب من المخزونات. وبعبارة أخرى، ان الوكالة التي أنشأتها الولايات المتحدة والتي لا تزال تسيطر عليها، تقبل ضمنا بالسعر الحالي السائد في السوق الدولية والذي يدور حول 25 دولارا للبرميل الواحد ]وهو السعر السائد عند القيام بهذه المقابلة ـ المحرر[. فلو لم تكن الوكالة قابلة به لسعت لايجاد الوسائل التي تسمح بتوجيه نحو الانخفاض وخصوصا انها تملك اليوم قدرة نفطية لم تملكها في اي وقت مضى، وذلك بسبب ان الأوبك كانت قد تنازلت قبل اجتماع باريس بيومين، اي في الاجتماع الذي عقدته في فيينا في 29 آب / أغسطس، نقول انها تنازلت للوكالة عمليا عن سلطانها على السوق النفطية العالمية، حين قررت ان ينتج أعضاؤها (باستثناء العراق والكويت بطبيعة الحال) بأقصى طاقة لهم، ومن دون ان تحصل على ضمانات مقابلة من جانب أصحاب المخزونات، اي من جانب الوكالة الدولية للطاقة بالذات. وهكذا تلاحظون ان الوضع النفطي بات، خلافا للمظاهر، مؤاتيا لواشنطن كل المؤاتاة.
س ـ سمعنا مسؤولين غربيين يقولون انه يجب العمل على عدم ترك تحديد الأسعار لمنتجي النفط وحدهم!
ب. ترزيان: لكن هذا الوضع لم يعد وضع المنتجين، عنينا ان الأسعار لم تعد رهن المنتجين، وذلك لأن هؤلاء ينتجون الآن بأقصى قدراتهم. وفي الأيام والأسابيع، وربما الأشهر، المقبلة، إذا ما طالت الأزمة، ستكون الأسعار رهينة مَنْ يملكون المخزونات النفطية، ولهم وحدهم، وذلك لأن منتجي النفط، سواء كانوا أعضاء في الأوبك او كانوا خارجها، باتوا ينتجون كل ما يسعهم انتاجه، وبعبارة اخرى لأنهم لم يعودوا يستطيعون فعل اكثر مما هم يفعلون.
س ـ لكن القرار الذي تشيرون اليه كان قرارا اتخذته الأوبك في وضع وزمن مُحَدَّديْن. بيد أننا نسمع خطابا يردده اصحابه بصورة منتظمة ويفترض ان الأوبك ليست موجودة او ينبغي لها ان تزول كنقابة نفط.
ب. ترزيان: اعتقد ان دفن الأوبك مرة اخرى امر سابق لأوانه. فلقد جرى دفنها عدة مرات قبل الآن، كما ان وجودها نفسه كان مهددا بعيد إنشائها بأعوام فقط. وأود هنا ان أذكّركم بأن إنشاء الأوبك تم منذ ثلاثين عاما تماما تزيد او تنقص أسبوعا. وحين نشبت الحرب بين العراق وإيران كان هناك من يرى ان الأوبك باتت في حكم المقضي عليه. لكننا رأينا الأوبك تواصل العمل بصورة مرضية الى هذا الحد او ذاك، طوال أعوام الحرب الثمانية. ولعل واقعة تمكُّن الأوبك من البقاء بعد كل هذا العدد من الأزمات، وربما بعد الأزمة التي نعيشها اليوم، يمكن ان يتفسر بسهولة بواقع كون البلاد المنتجة للنفط والأعضاء في الأوبك بلادا مرتهنة للأوبك أيضا، عنيت ان لها حاجة حيوية في النفط وفي الأوبك. وهكذا، فأيا تكن الأزمات التي تجتازها الأوبك، ستتصرف هذه البلاد على نحو يبقي على هذه المنظمة ويحافظ على وجودها. فصلة الارتهان بينها وبين منظمتها اقوى من ان تسمح بأن تكون الأمور على غير هذا النحو.
س ـ وماذا كانت آثار "الريع" النفطي في الاقتصادات العربية؟
ب. ترزيان: لقد كانت إدارة الريوع النفطية غير مؤاتية في الكثير من الأحيان. وهي لم تكن كذلك في البلاد العربية وحدها بل عمليا في البلاد الأعضاء في الأوبك كافة. فالمحاولات التي بُذِلت كانت غير فاعلة في الدول التي ارادت ان تتصنع فقدّرت طاقتها وإمكاناتها وسوقها الداخلية، وربما السوق العالمية أيضا، فوق ما هي عليه وربما يتعدى طاقتها على الاحتمال. وهذه الأمور تحتاج الى تحليل مطول ليس هنا مجاله. إذًا، لنقل باختصار ان هذه المحاولات فشلت. انظروا الى حالة العراق وايران، فهما بلدان دمرتهما الحرب وخربتهما على الرغم من توفر عشرات مليارات الدولارات من المداخيل النفطية لديهما. انظروا الى حالة نيجيريا التي كانت بلدا زراعيا بالغ الأهمية قبل ارتفاع أسعار النفط في سنة 1975. لقد باتت زراعتها اليوم مريضة الى درجة أنها تستورد منتوجاتها الزراعية. وهذه هي حال الجزائر أيضا التي كانت بلدا زراعيا واصبحت مرتهنة الآن لاستيراد المنتوجات الزراعية. وهكذا، تبدوالدول الصحراوية في النهاية كأنها أفضل حالا لأنها لم تكن تملك شيئا في كل حال. ماذا فعلت هذه الدول؟ لقد وظّفت ]أموالها[ في الخارج. وهذه هي حال الكويت التي ظل اقتصادها بعد الاحتلال خارج الاحتلال. لماذا؟ لأنه في الخارج. فاذا استثنينا المصافي الثلاث والمصنعين البتروكيماويين والبضعة مصانع لتحلية المياه، نقول ان اقتصاد الكويت ليس في الكويت. لعلي أبالغ هنا قليلا، لكن ليس في الكويت نفسها الشيء الكثير. وعلى هذا، جرت إدارة الريع النفطي إما بصورة غير فاعلة حيثما توفرت النية لجعله محركا للتنمية وإما بصورة مالية محضة (وهذه هي حال الكويت)، اي من دون الاهتمام بمسائل التنمية. لكن القادرين على ممارسة هذه السياسة الأخيرة هم عدد قليل من الدول الخليجية القليلة السكان.
س ـ وهذه بالضبط هي الحالات التي تطرح مسألة "التوزيع العادل" للموارد النفطية.
ب. ترزيان: هذه مسألة خلقية لا وجود لها بالنسبة إليّ. فأنا اقتصادي اقف عند الوقائع ولا اتجاوزها. "التوزيع العادل للموارد" عبارة لا معنى لها. فنحن كما نحنُ ونملك ما نملك. أما الخُلق فلا يرد ولا يتدخل إلا حين تُهدد تصرفات طرف من الأطراف وسلكوه بقاء طرف آخر تهديدا لا يُطاق. في هذه الحالة، يلتحق الخُلق بالاقتصاد: الاقتصاد بالمعنى الجوهري العميق للكلمة: اي الحياة في الديار، الحياة الأهلية والمنزلية.
س ـ ماذا يمكن ان تكون انعكاسات نشوب حرب، إذا ما اصيبت الآبار وبل إذا ما دُمرت؟
ب. ترزيان: هناك كثير من الكلام في شأن تدمير الآبار في إبان الحرب. لكني اعتقد ان الحرب العراقية ـ الايرانية أظهرت لنا ان تدمير الآبار ليس بالسهولة التي يظنها البعض، كما أظهرت ان الأصعب من تدمير الآبار هو تدمير المرافئ النفطية حين تكون في حجم المرافىء التي نعرفها في الخليج، اي مرفأ رأس تنورة، لأن حديث التدمير يتناول في الواقع هذا المرفأ. وهناك بخاصة حديث عن إمكان قيام العراقيين بتدمير المنشآت النفطية السعودية. ويبدو ان الذين يدلون بهذا الكلام لم تطأ قدمهم لا حقلا نفطيا ولا مرفأ بأهمية مرفأ رأس تنورة. فاسمحوا لي هنا ان اذكّركم بأن العراقيين حاولوا طوال اربعة أعوام، اي بين سنتي 1984 و1988، تدمير مرفأ خرج الايراني بكل ما يملكون من وسائل ولم ينجحوا قط في شلّه بصورة كاملة. والحال هو ان مرفأ رأس تنورة السعودي اهم من مرفأ خرج وأكبر وأعظم اتساعا. لا. انهم لمتوهمون. ذلك بأنك لن تدمر بصاروخين وهجوم مرفأ بهذه الأهمية. واسمحوا لي مرة ثانية بأن أقول انه حتى تدمير جزء من رأس تنورة لا يعني شيئا كثيرا. فهو قادر على تصدير 11 مليون برميل يوميا، في حين ان انتاج السعودية في الأسابيع المقبلة سيكون في حدود ثمانية ملايين برميل، يمكن تصدير ثلاثة ملايين برميل منها من دون المرور برأس تنورة (عبر ينبع على البحر الأحمر). وبعبارة اخرى، إذا خرج من رأس تنورة خمسة ملايين برميل يوميا، فإن ذلك سيكون كافيا تماما. والحال هو ان الخمسة ملايين برميل تمثل اقل من نصف طاقة المرفأ الحالية. وهذا المنطق نفسه ينطبق على الحقول. ويكفي المرء ان يلقي نظرة على الحقول السعودية ليفهم ذلك. فهي حقول هائلة تبلغ مساحتها مئات الكيلومترات المربعة احيانا. فحقل بوار (وهم اهم حقل نفطي في العالم) يبلغ طوله 250 كلم. انه حقل هائل يشتمل على مئات بل آلاف المنشآت، بينها رؤوس الآبار ومحطات الضخ وخطوط الأنابيب. واي هجوم على منشآت كهذه يحتاج الى جيش هائل. لا! هذه الفرضية لا تستقيم لمنطق ولا لتفكير. لكن ما يستقيم للمنطق في المقابل هو جهل أغلبية الناس بهذه المعطيات، وبالتالي الأثر النفساني الذي لا بد من ان تتركه محاولة الهجوم على هذه المنشآت. فمن شأن هذا التأثير ان يؤدي الى ارتفاع الأسعار في السوق الدولية ارتفاعا حادا من دون ان يكون لذلك سبب حقيقي. لكن الحساب هنا سيكون صحيحا، بمعنى ان المهاجم يأخذ جهل الناس بعين اعتباره فيسدد رميته ويصوِّبها ويطال تصويبه مرماه.
باريس، 4/9/1990