يوجز التقرير التالي التقويم الإسرائيلي العام للانتفاضة الفلسطينية في ختام عامها الثاني، والنظرة الإسرائيلية المستقبلية إلى مسيرتها وتطوراتها الممكنة. وبديهي أنّ تتبُّع تقويم العدو لأثر الانتفاضة، في مفاصل زمنية مختلفة، يشكل مقدمة ضرورية لأية دراسة شاملة لها وخطوة لا بد منها لتوجيه دفتها نحو أهدافها المرجوة.
غير أن أول ما يصطدم المراقب به، حين يقبل على مهمة كهذه، هو أنه ليس هناك تقويم إسرائيلي واحد للانتفاضة. هناك تقويمات إسرائيلية متعددة لها، بل لكل مظهر من مظاهرها. وحتى لو اتفق إسرائيليان على تشخيص بعض جوانبها فإنهما لا يخلصان من ذلك، بالضرورة، إلى استنتاج واحد. وما يلبث المراقب أن يلاحظ أن نظرة الإسرائيليين إلى الانتفاضة محكومة، إلى حد بعيد، بمواقف سياسية وأيديولوجية مسبقة؛ أي أن كل طرف ينطلق في تقويمه لها من موقع سياسي معين، ليخلص بالتالي إلى الاستنتاجات التي تنسجم مع آرائه وتوجهاته.
هكذا تعكس التقويمات التي تتداولها أوساط "اليمين" في إسرائيل ردات فعل متصلبة تجاه الانتفاضة، أو تعبّىء الرأي العام الإسرائيلي في اتجاه معين؛ ومع أنها تكشف أحياناً عن بعض آثار الانتفاضة، أو عن تحولات سياسية دقيقة أحدثتها في المجتمع الإسرائيلي، غير أنها تأتي – بصورة عامة – مقلّلةً من إنجازات الانتفاضة، ومنكرةً قدرتها على إحداث تغيير جوهري في وضع الأراضي المحتلة الساسي. وتعكس تقويمات "اليسار"، من جهة أخرى، صراحة أكبر في الحديث عن آثار الانتفاضة على صعد مختلفة، وتستبعد إمكان القضاء عليها من دون حلول سياسية تستجيب، بهذا القدر أو ذاك، لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية.
عدم حسم وآفاق مفتوحة
ركز تقويم الجيش الإسرائيلي للانتفاضة، في ختام عامها الثاني، على استمرار حالة "عدم الحسم" ميدانياً، في إشارة إلى أن آفاق الانتفاضة لا تزال مفتوحة على عدة إمكانات: "على الأرض، ثمة حالة من عدم الحسم. فالفلسطينيون غير قادرين على الحفاظ على زخم الانتفاضة، غير أن إسرائيل هي الأخرى غير قادرة على إحلال هدوء مطلق."(1) والملاحظة الثانية المهمة في هذا التقويم، أن الجيش يعترف بحدود فاعلية مجموعة التدابير التي اتخذت بهدف كسر شوكة الانتفاضة: "أن نشاطات أجهزة الأمن المختلفة الرامية إلى قمع الانتفاضة، ومنها النشاط العسكري، ونظام العقوبات، والضغوط الإدارية والاقتصادية، قد نجحت خلال العام الثاني للانتفاضة في منع معظم سكان المناطق [المحتلة] من المشاركة النشيطة في الحوادث، وفي لجم [انتشار] عصيان مدني فعال. غير أن تحليل الوضع في الميدان يشير إلى عدم وجود علامات انكسار في الانتفاضة؛ إن الأهداف الأمنية لم تتحقق، والمعارضة المدنية السلبية لا تزال تشمل قطاعات السكان كافة."
من جهة أخري، يشير تقويم الجيش الإسرائيلي إلى تغير معين طرأ على طبيعة الانتفاضة، فيقول إن العام الثاني "تميز بانخفاض عدد حوادث الإخلال بالنظام التي كانت ذات طابع جماهيري وعفوي، وبازدياد عدد الملثمين ومجموعات العنف." وبينما يؤكد تقدير الجيش أن الانتفاضة ستستمر للعام الثالث أيضاً، فإنه يشير إلى أنها ستستند أساساً إلى نشاك "نواة صلبة من النشيطين" يقدّر عدد أعضائها بـ 10,000 – 20,000 شخص.
ويلحظ تقدير الجيش أن فلسطينيي الأراضي المحتلة يبدون قدرة كبيرة على الصمود في المواجهة، وأن تدابير القمع التي تنفذ بحقهم لا تحدث الأثر المطلوب، بل تزيدهم صلابة ومناعة: "إن الأمر يتعلق بواقع رتيب، وضع أساسي تعلم السكان المحليون العيش معه؛ إنهم يفهمون أن الأمر يتعلق بكفاح مرير وطويل.... إن رواسب المعاناة المتراكمة تغذي استمرار النشاط؛ والجيل الشاب لا يرهبه شيء وهو يقود الانتفاضة على الأرض."
وبينما يستبعد تقدير الجيش أن تنتقل الانتفاضة إلى العمل المسلح الواسع النطاق، خلال العام الثالث، فإنه يرى أنها قد تتبنى عمليات عسكرية انتقائية ومدروسة: "بناء على التقديرات، ومهما يكن عدد محاولات العمليات التخريبية التي جرت مؤخراً، فإن التيار المركزي لن يختار طريق الإرهاب. ومع ذلك، من الممكن أن تجرى محاولات للقيام بعمليات إرهابية متفرقة كعامل محرض ومحفز، إنما ليس كاستراتيجية جديدة."
أما في المجال السياسي، فيقول تقدير عسكري نشر لاحقاً ونسب إلى "جهات أمنية": "أن وتيرة إنجازات م. ت. ف. قد تم إبطاؤها خلال العام الماضي. غير أن من الواضح، منذ اليوم، أنه سيكون من الصعب تحريك عملية سياسية في المنطقة من دون هذه المنظمة."(2)
تعترف جميع التقويمات الإسرائيلية بحقيقة أن الانتفاضة أثبتت قدرتها على الاستمرار، وأصبحت واقعاً حياتياً تعيشه الجماهير الفلسطينية يومياً، وهو ما تشير إليه بظاهرة "مأسسة الانتفاضة". وبينما يقول بعض التقويمات أن ذلك كان الإنجاز الوحيد للانتفاضة، مشيراً أيضاً إلى أن المجتمع الإسرائيلي أصبح قادراً على التعايش معها، أو إلى أن استمرارها لم يؤد إلى إنجازات ملموسة على الأرض، أو إلى تقدم في العملية السياسية، فإن البعض الآخر لا ينفي أن الانتفاضة حققت – حتى هذه المرحلة – أهدافاً مهمة؛ بل أن بعضها يحذر الإسرائيليين من التهرب من الاستنتاجات التي يفترض أن تؤدي إليها، أو من الوقوع في أوهام القضاء عليها.
في هذا الصدد، يبرز بين التقويمات التي رددت في ختام العام الثاني للانتفاضة تصريح وزير الدفاع، يتسحاق رابين، الذي قال فيه أن الانتفاضة "قادرة على الاستمرار عاماً آخر أو عامين، غير أنه ليس لدينا شك في أن الشعب يستطيع تحمل العبء بمقدار ما يتطلب الأمر ذلك.... لقد تكيف المجتمع الإسرائيلي إزاء الوضع، وفي وسعه الاستمرار أعواماً في التضحية بما يفرضه الوضع عليه."(3)
ويرى المعلق العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، أن الإنجاز الأساسي للانتفاضة خلال عامها الثاني كمن في استمرارها: "إن الإنجاز الفلسطيني الوحيد وذا الاعتبار قد سجله سكان المناطق، في هذا العام أيضاً. فبثمن باهظ، ومن خلال استعداد عام للمعاناة والتضحية، تمكنوا من مأسسة الانتفاضة وتحويلها إلى ظاهرة دائمة – بركان نشيط في البانوراما السياسية للشرق الأوسط، لا تستطيع إسرائيل تهدئته ولا يستطيع الرأي العام العالمي تجاهله. إن كل يوم آخر من الانتافضة يعمّق، في أذهان العالم وفي أذهان الفلسطينيين أنفسهم، الإدراك أنهم شعب يحق له تقرير المصير والتحرر من نير الاحتلال الأجنبي."(4)
أما فيما يتعلق بباقي النواحي، فقد كان العام الثاني "سيئاً للانتفاضة وللفلسطينيين.... فقيادة الانتفاضة في المناطق لم تفلح في بلورة نفسها لتصبح هيئة ممثلة. وأصبحت سيطرتها في الميدان واهنة.... وقد ألحق المجهود الآيل إلى الانفصال عن الحكم الإسرائيلي والعصيان المدني بالفلسطينيين الضرر أكثر مما ألحقا بإسرائيل، وفقد الإعلام الدولي الكثير من اهتمامه السابق بالانتفاضة. كما أن الحوار مع الأميركيين، سوية مع الضغط الأوروبي على إسرائيل، لم يعودا على م. ت. ف. بالثمار التي أملت بها."
وعلى الرغم من أن بن يشاي يسجل لأجهزة الأمن "نجاحاً بارزاً باستعادتها أخيراً جزءاً مهماً من السيطرة وقوة الردع اللتين فقدتهما في المناطق خلال المراحل الأولى من الانتفاضة"، فإنه يلاحظ أن "الانتفاضة السلمية لا تخمد أو تفقد شيئاً من نطاقها. بل بالعكس، إن نشاطات حفظ الأمن التي يقوم الجيش الإسرائيلي بها، والتي ينال بها المطلوب وعابر السبيل أحياناً المعاملة نفسها، وإرهاب اللجان الضاربة، تؤدي إلى تغلغل الانتفاضة باستمرار في جماعات وأفراد كانوا يميلون إلى موقف حيادي."
ويعرب بن يشاي عن توقعاته للتطورات المقبلة، فيقول إن العام الثالث للانتفاضة "سيتميز، على ما يبدو، بمزيج أقوى من محاولات القيام بعمليات استعراضية، وانفجارات قوية من العصيان المدني. ومن الممكن أيضاً أن تستأنف المنظمات المتطرفة في م. ت. ف. الإرهاب في الخارج، وأن تعود فتح إلى العمل انطلاقاً من الحدود اللبنانية. وفي المجال السياسي، قد يكون هناك ركض مشترك من جانب إسرائيل والفلسطينيين وراء الأردن. إن كل ذلك سيزيد، فعلاً، في الضغط الدولي والأميركي على إسرائيل، لكنه لن يؤدي إلى تغيير فعلي في الوضع السياسي أو على الأرض....".
حسابات الربح والخسارة
يمثل تقويم أفرايم سنيه، الرئيس السابق للإدارة المدنية في الضفة الغربية، الذي نشره في صحيفة "دافار" في الذكرى السنوية الثانية للانتفاضة، نموذجاً آخر للتقويمات التي تقلل من شأن نجاحات الانتفاضة، لكنها لا تستهين بقدرتها على الاستمرار بأشكال مختلفة: "إن الميزان الشامل للانتفاضة في عامها الثاني، من وجهة نظر الفلسطينيين، يجب حسابه بناء على اتجاهات تأثيرها الثلاثة: في الرأي العام العالمي، وفي المجتمع الفلسطيني نفسه، وفي إسرائيل. إن الرأي العام العالمي لم يكن، في هذه السنة، منصرفاً إلى قضية الفلسطينيين، بل بدرجة أكبر إلى الطلبة في بكين، والأوكرانيين في أوكرانيا، والمتظاهرين في لايبزيغ. لكن إلى جانب ذلك، لا يزال ثمة قدر كبير من التعاطف مع قضية سكان المناطق، مع أن ما كسبوه في بيت ساحور خسروه بسبب التقارير المتعلقة بأعمال القتل الوحشية التي نفذت ضد فلسطينيين على أيدي إخوتهم. ولم يطرأ تغير إيجابي على واقع الأحوال الفلسطيني في المناطق. فالبناء الداخلي، وإنشاء المؤسسات المستقلة، وتطوير الاقتصاد المستقل – كل هذه لم تحرز تقدماً درامياً كان من شأنه رفع المعنويات والتخفيف من الجو الصعب الناجم عن الثمن الباهظ للانتفاضة. لكن يجب أى نستخلص من ذلك استنتاجاً مغلوطاً فيه: إن بقاء الانتفاضة طوال 24 شهراً، في حد ذاته، من خلال تغير في الشكل وصعود وهبوط، هو في نظر سكان المناطق إنجاز كبير بما فيه الكفاية، إنجاز يبرر استمرارها ويضمنه."(5)
ويتفق المعلق الصحافي جدعون سامت، في تقويم نشره في صحيفة هآرتس"، مع التقديرات القائلة إن طابع الانتفاضة قد تغير خلال عامها الثاني. غير أنه يحذر القيادة الإسرائيلية من التوهم بأن ذلك يعود إلى نجاحها في مواجهة الانتفاضة، ويدعوها إلى استخلاص استنتاجات سياسية مختلفة تماماً من التطورات الجارية على الأرض. وفي الخلاصة، يرى أن "إسرائيل لم تنجح في أي شيء حقيقي، وأن الوقت لا يزال يعمل ضدها."(6)
ويشير سامت من جهة إلى أن "الأحداث العلنية، كالتظاهرات والمسيرات التي كانت أرضية شائعة للعنف وإطلاق النار، قد تقلصت بصورة ملموسة"، وإلى أن "ثقل الانتفاضة انتقل من الشارع إلى اللجان الضاربة"، الأمر الذي يشكل "بشرى حسنة للقائمين على قمع الانتفاضة؛ إذ أن من الأسهل على الجيش الإسرائيلي معالجة أهداف محددة ومعزولة." لكنه يرى أن "طابع الانتفاضة الجديد لا يمكن أن يشكل نجاحاً لإسرائيل في المناطق.... ينبغي للمرء، بالمقدار نفسه، أن يكوّن انطباعاً بأن سكان المناطق يتكيفون إزاء الضائقة وتدهور مستوى المعيشة.... إن الانتافضة لا تبدي علامات تشير إلى تصفيتها؛ فهي تتخذ شكلاً آخر فحسب."
وعن الاستنتاجات المترتبة على ذلك، يقول سامت: "إن جميع هذه الاتجاهات تفضي إلى استنتاجات مختلفة. فسيكون ثمة من سيشيرون، متفائلين، إلى أن الانتفاضة قد تعبت، باعتبار أن تلك أهم ظاهرة سيكون لها ما سيتبعها. لكن ذلك هو بمثابة خطأ نموذجي مألوف في تقاليد التفكير الإسرائيلي، ولا سيما لدى اليمين. إن تقاليد التفكير التي تقوم إن التصلب الإسرائيلي سيؤدي إلى كسب الوقت، وإلى ضعف الطرف الآخر، تنطوي الآن بالذات على خطر، وبالذات بسبب ما قد يبدو للعين المجردة أنه نجاح في مواجهة الانتفاضة.
"وعلى أرضية النوعية المتبلورة للانتفاضة في ختام عامها الثاني، يترتب استنتاج آخر. إن فكرة الانتخابات في المناطق قد فات أوانها، وربما لم يكن لها أوان جيد حتى عندما طرحت مجدداً خلال العام الماضي. من البديهي أن موافقة الناس والقوى العاملة [في الأراضي المحتلة] على البنود الوفيرة التي تقضي خطة الانتخابا بها غير ممكنة، ولا سيما مع ازدياد قوة الحركة الإسلامية. إن الطريقة الوحيدة للبحث في مستقبل المناطق تتك عبر وفد فلسطيني متفق عليه سلفاً، يعكس وزن القوى والثقل المتزايد لحركة "حماس."
هناك تقويم آخر كتبه المعلق العسكري في صحيفة "عال همشمار"، آفي بنياهو، يركز على تصعيد العنف الذي شهدته الانتفاضة في عامها الثاني، ويتوقع أن يحدث مزيد من التصعيد خلال العام الثالث. وقد جاء في هذا التقويم أنه "لم يعد ثمة جدال في أن الأمر يتعلق بحرب. صحيح أنها ليست حرباً بدبابات وطائرات، لكنها بكل تأكيد حرب استنزاف مريرة وطويلة، مقترنة بضحايا وثمن موجع للطرفين.
"على عتبة العام الثالث، تتخذ الانتفاضة طابعاً متمأسساً. إن "اللجان الضاربة" و"الملثمين" والمجموعات الأخرى في مخيمات اللاجئين والقرى والأحياء، أكثر تنظيماً، وهي تجمع أسلحة ووسائل قتالية. ويستعد الجيش الإسرائيلي لحضور دائم في المناطق.... إن طرفي الصراع يفهمان أن الانتفاضة ستستمر عاماً آخر أو عامين على الأقل."(7)
ويتابع بنياهو فيقول، فيما يتعلق بتوقعاته للفترة المقبلة، إن هناك "تقديرات قاسية للغاية يتفق في شأنها جميع جهات الجيش الإسرائيلي، وجهاز الأمن العام "الشاباك"، والإدارة المدنية. فالجيش سيستمر في مطاردة المطلوبين، وستبقى قوات كبيرة مكبّلة إلى الضفة والقطاع، وسيواصل جنود الاحتياط – خلال العام المقبل أيضاً – الخدمة لأيام طويلة في مهمات حفظ الأمن في المناطق.
"وما دامت الانتفاضة مستمرة يجب أن نتوقع عمليا أشد عنفاً، جماعية، أيضاً داخل أراضي دولة إسرائيل.... وتتوقع الجهات الأمنية تصعيداً في الصراع ومحاولة للانتقال إلى استخدام الذخيرة الحية. كما سيواصل الفلسطينيون البحث عن نماذج ممكنة للعصيان المدني، مع الاعتراف بقيودها."
ويتناول أبراهام بورغ الجانب السياسي لآثار الانتفاضة، وينتقد عدم استجابة الحكومة الإسرائيلية ومختلف الأحزاب للتحديات السياسية التي تطرحها، فيقول إن "أية حركة سياسية في إسرائيل لم تجابه، حتى اليوم، الأرض التي تزلزل تحت أقدامنا.... وفي الواقع، لم يجابه أي حزب في إسرائيل تحدي الانتفاضة. فالبرامج السياسية تعكس حقائق ما قبل الانتخابات، ما قبل الانتفاضة."(8) لكنه يشير إلى بوادر تغيير معين سيكون له ما يتبعه: "مع مرور عامين على الانتفاضة، أصبح في الإمكان الإشارة إلى علامات التغيير في المناخين السياسي والاجتماعي، اللذين سيؤديان أيضاً، في نهاية المطاف، إلى التغيير في المفهوم السياسي. بعد عامي من الانتفاضة، بات من الواضح أن هناك شعباً فلسطينيا."
ويعدّد بورغ الآثار السياسية للانتفاضة على النحو التالي: "بعد عامن من الانتفاضة، هناك عواصم وحكومات تعترف بـ م. ت. ف. أكثر من الدول والأنظمة التي تعترف بدولة إسرائيل. إن سمات الواقع الدولي قد تغيرت كلياً، في غير مصلحة دولة إسرائيل. بعد عامين من الانتفاضة، لا يتحدث الشارع الإسرائيلي عن الحرب المقبلة، وعن ميدان القتال المستقبلي، وعن طائرات الغد. بل يتحدث عن العملية، والحدث، والحجارة، والزجاجات الحارقة. إن نظرية الأمن لم تعد استراتيجيا خبراء ورجال سياسة، بل مخاوف يومية للفرد حيال رعب الانتفاضة الفلسطينية."
ويؤكد بورغ أن لا مفر، أمام القيادة الإسرائيلية، من الاعتراف بمنظمة التحرير بوصفها القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، ويعرب عن قناعته بأن لقاء قريباً سيعقد بين وفد إسرائيل وآخر فلسطيني للبحث في التسوية المرحلية والوضع النهائي للأراضي المحتلة.
أثر الانتفاضة في المجتمع الإسرائيلي
كيف أثرت الانتفاضة في المجتمع الإسرائيلي؟ تعكس التقديرات التي نشرت في ختام العام الثاني للانتفاضة، صورة سلبية في هذا المجال، خلافاً للتوقعات الإسرائيلية التي ترددت خلال العام الأول. فمن ناحية أولى، يدعي عدد من التقديران أن عمليات المقاومة التي نفذت داخل إسرائيل كان لها "تأثير اجتماعي – نفساني خطر، إذ أدت إلى تقويض الأمن الشخصي للمواطن الإسرائيلي"، وبالتالي إلى ردة فعل سلبية وتشدد في المواقف. ومن ناحية ثانية، تقول تقديرات أخرى أن اهتمام الرأي العام الإسرائيلي بالانتفاضة تراجع خلال العام الثاني، بل أصبح غير مبال إلى حد بعيد.
يرى الكاتب الصحافي أوري نير أن الفلسطينيين خسروا الصراع بشأن كسب الرأي العام الإسرائيلي: "إن كل يوم يمر يعزز الشعور بأن الفلسطينيين قد خسروا هذا الصراع. ولا يتوقف الأمر عند حدّ أن الإسرائيليين يميلون إلى التعبير عن انخفاض متدرج في تعاطفهم السياسي مع المسألة الفلسطينية، بل أن اهتمامهم الإنساني بما يجري في المناطق يقل تباعاً. إن تعبيرات القلق في أوساط الجمهور الإسرائيلي حيال انتهاك حقوق الإنسان في المناطق، التي ازدادت خلال المراحل الأولى من الانتفاضة، أصبحت غير موجودة تقريباً. إن قوة التعود تتغلب على قوة الصدمة والخوف من الإجحاف المستمر في المناطق.... لقد تبددت تقديرات مراقبين كثيرين قالوا إن طول مدة الانتفاضة سيفضي إلى انتفاضة للجمهور الإسرائيلية ضد انعكاساتها على الجيش وعلى المجتمع الإسرائيليين."(9)
أما حركات الاحتجاج، فيبدو أن حضورها في الشارع الإسرائيلي قد تراجع بعد مضي العام الأول من الانتفاضة، على الرغم من تبني الكثير منها مواقف أكثر إيجابية تجاه القضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد تقول افيفا زلتسمان: "إن الكل بات يتحدث اليوم عن م. ت. ف. وعن دولتين، لكنهم لا ينجحون في ترجمة ذلك إلى قوة في الشارع."(10) ومن الأدلة على ذلك، انخفاض عدد المشاركين في التظاهرات التي تنظمها تلك الحركات، والذين يقتصر عددهم في كل منها على "بضعة آلاف". وتصف جانت أبيعاد من حركة "السلام الآن" المشكلة بقولها: "إن المشكلة ليست قلة المبادرة من جانبنا، بل المزاج العام. نحن لم نسكت. فخلال عامي الانتفاضة عملنا بصورة مكثفة أكثر من أي فترة أخرة. نظمنا تظاهرات، وزيارات للضفة، وحواراً وندوات مع فلسطينيين، واجتماعات. إننا حقاً لم ننجح في دفع متظاهرين إلى الشارع كما في حرب لبنان. لقد تبلّد الناس، وثمة مشكلة تتعلق بكيفية إنهاضهم من اليأس. كما أنه ليس ثمة إحساس بأننا أمام لحظة حسم حرجة، أو أننا على مفترق طرق، وأن شيئاً ما رهيباً حدث أو سيحدث. لقد بلور النارس تساهلاً تجاه الموت."(11)
ويرى د. عادي أوفير، رئيس حركة "السنة 21"، التي شكلت بعد نشوب الانتفاضة والتي تدعو إلى إنهاء الاحتلال للتخلص من تأثيراته السلبية في المجتمع الإسرائيلي، أن حركات الاحتجاج فشلت في مهمتها، المتمثلة في مكافحة تكيف المجتمع الإسرائيلي إزاء الاحتلال. ويضيف: "أن المجتمع الإسرائيلي قد تكيف إزاء فظائع الاحتلال، ويتعايش معها من دون أن يرى بأساً في ذلك." غير أن حركات الاحتجاج قدمت مساهمة في "إضفاء شرعية على نمط من الرفض، وكذلك على الحوار مع م. ت. ف."(12)
... وفي المجتمع الفلسطيني 1948
كان للانتفاضة، في المجتمع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، تأثير بعيد المدى وصفه رون بن يشاي بقوله: "إن العام الثاني للانتفاضة عزز الهوية الفلسطينية لدى عرب إسرائيل، وبطبيعة الحال أيقظ بمزيد من الحدة إحساسهم بالإحباط والمرارة بسبب الغبن الاجتماعي والاقتصادي. ونتيجة ذلك، ارتفع عدد العمليات التي تتم على خلفية قومية.... غير أن التطورات ذات الدلالة الأكبر، المنبثقة من الهوية الفلسطينية والتماثل معها، كانت بالتحديد في المجال السياسي؛ فلجنة رؤساء السلطات المحلية العربية.... تحولت إلى قيادة قومية وسياسية شبه رسمية لعرب إسرائيل. إنها تؤدي اليوم دوراً أشبه بذلك الذي أدته الوكالة اليهودية في الييشوف اليهودي قبل إنشاء الدولة. وتحاول هذه الهيئة، من جملة أمور أخرى، إدارة سياسة خارجية خاص بها."(13)
خلاصة
غاب من التقويمات الإسرائيلية اتل نشرت في نهاية العام الثاني للانتفاضة، التحليل المعمق لتأثيراتها في إسرائيل، وخصوصاً على صعيد المجتمع والرأي العام، واتسم معظمها بطابع المعالجة الصحافية السريعة التي انطوت على عدة ثغرات، وتركت أسئلة كثيرة من دون جواب. وإذا كانت الانتفاضة، في عامها الأول، قد أوقعت ارتباكاً شديداً في صفوف الإسرائيليين، كما اتضح من ردات الفعل التي ولدتها على مختلف المستويات، إلا أنه يمكن القول إن العام الثاني قد شهد هجوماً مضاداً تمثل في محاولة إسرائيلية منسقة للتصدي لها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً – خطط عسكرية وإجراءات إدارية لقمعها، ومشروع سياسي للالتفاف حولها (الانتخابات)، وحملات إعلامية لتطويقها. ولعل هذا الهجوم المضاد قد ساهم في حجب التفاعلات التي نجمت عن الانتفاضة داخل المجتمع الإسرائيلي، أو في التعميم عليها.
ومن المؤكد أن التقويمات المذكورة لا تعكس حجم تأثير الانتفاضة في المجال السياسي الداخلي على حقيقته. فثمة عدة مؤشرات على أن الانتفاضة، من جهة، عمقت حدة الانقسام السياسي في إسرائيل، وتحديداً فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية. وفجرت، من جهة أخرى، خلافات سياسية حادة داخل كل من العسكريين الكبيرين، وخصوصاً داخل الليكود الذي شهد صراعات واستقطابات جديدة قد يمون لها تأثير بعيد المدى في وضعه العام. كما أدت الانتفاضة إلى تقويض التوازن السياسي الذي قامت حكومة الوحدة الثانية عليه، وبالتالي إلى سقوطها.
20/3/1990
(1) نشر تقومي الجيش منسوباً إلى "الجهات الأمنية". والاقتباسات مأخوذة من "هآرتس"، 7/12/1989؛ "دافار"، 7/12/1989.
(2) "عال همشمار"، 2/3/1990.
(3) "دافار"، 6/12/1989.
(4) رون بن يشاي، "تعادل في الميدان وجمود سياسي"، يديعوت أحرونوت"، 8/12/1989.
(5) أفرايم سنيه، "ميزان فلسطيني"، "دافار"، 8/12/1989.
(6) جدعون سامت، "خطر النجاح الموهوم"، "هآرتس"، 29/11/1989.
(7) آفي بنياهو، "الانتفاضة تتمأسس"، "عال همشمار"، 8/12/1989.
(8) أبراهام بورغ، "دائرة حماقات"، "هآرتس"، 20/11/1989.
(9) أوري نير، "الرسالة لا تصل"، "هآرتس"، 26/12/1989.
(10) أفيفا زلتسمان، "الصوت الصامت"، "دافار"، 8/12/1989.
(11) المصدر نفسه.
(12) المصدر نفسه.
(13) رون بن يشاي، مصدر سبق ذكره.