الرؤية الإسرائيلية للتغيرات في أوروبا الشرقية
Keywords: 
العلاقات الخارجية الإسرائيلية
Full text: 

"تعتبر سنة 1989 إحدى السنوات العظيمة في التاريخ الإنساني، إذ حققت الديمقراطية خلالها انتصالاات كبيرة."(1)   وهذا القول، الذي هو لشمعون بيرس،لا يعكس موقفاً إسرائيلياً فقط، بل يعبر أيضاً عن موقف عام من التغيرات والتطورات التي تشهدها دول أوروبا الشرقية. ومع ذلك، ثمة نظرة إسرائيلية مميزة إلى هذه التغيرات والتحولات، نظراً إلى التاريخ الذي كان لليهود في هذه الدول؛ فدول أوروبا الشرقية، التي تتحرر اليوم من أنظمتها  التوتاليتارية الشيوعية بفعل ضغط المطالبة بالديمقراطية والحرية، هي نفسها التي شهدت قبل أكثر من 40 عاماً أكبر عملية تدمير لليهود أيام الاحتلال النازي. وهي نفسها التي ستشكل فيما بعد المصدر الأساسي للهجرات الجماعية إلى إسرائيل سنة 1949، عندما فتحت أبواب الهجرة أمام اليهود، وأُعلن أن الهدف من قيام إسرائيل هو جمع يهود الشتات فيها لتصبح ملجأ لهم  يلوذون به من وجه مضطهديهم.(2)

يضاف إلى ذلك أن مؤسسي الدولة الصهيونية وزعماءها التاريخيين والراهنين هم من أصول أوروبية شرقية، بدءاً ببن – غوريون، ومروراً بمناحم بيغن، وانتهاء بشمعون بيرس ويتسحاق شمير.

واللافت اليوم أن ما كان يعتبر حتى وقت قريب من الماضي، بعثته أحداث أوروبا الشرقية من جديد. فبرز مجدداً الحديث عن ضحايا الكارثة النازية مع بدء المفاوضات بين إسرائيل وألمانيا الشرقية في شأن إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما. وعاد الكلام الإسرائيلي عن هجرة "ضائقة" و"إنقاذ" في وصف المسؤولين الإسرائيليين لموجة هجرة اليهود السوفيات الجماعية، التي تشهدها إسرائيل اليوم نتيجة التغيرات الأخيرة في السياسة السوفياتية ورفع القيود عن سفر المواطنين السوفيات.

وفي رصدنا للنظرة الإسرائيلية إلى التغيرات الأخيرة في دول أوروبا الشرقية، سنعرض أولاً انعكاساتها العامة على الوضع الإسرائيلي، لنتوقف بعدها بشيء من التفصيل عند مسألتين أساسيتين: الموقف الإسرائيلي من موضوع إعادة العلاقات الدبلوماسية بألمانيا الشرقية، ومخاوف إسرائيل من توحيد الدولتين الألمانيتين؛ وتأثير انهيار نظام تشاوشيسكو في رومانيا على الصلة الخاصة التي كانت تربط إسرائيل بهذا البلد، وهو البلد الوحيد بين دول الكتلة الاشتراكية الذي لم يقطع علاقاته بها.

 مكاسب على الصعيدين الدبلوماسي والإقليمي

ومخاوف على المكانة الاستراتيجية

يرى الإسرائيليون أن للتغيرات الأخيرة التي شهدتها السياسة السوفياتية والتحولات داخل دول أوروبا الشرقية تأثيراً إيجابياً فيهم على أكثر من صعيد:

أولاً: على الصعيد الدبلوماسي، سرّعت هذه التطورات في مسار عودة العلاقات الدبلوماسية بعدد من الدول الشرقية. فلقد أعادت كل من هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا علاقاتها بإسرائيل، وأعلنت يوغسلافيا أنها ستقيم علاقات قنصلية مع إسرائيل، وذلك بعد فترة من إلحاح اليوغسلافيين على الإسرائيليين بضرورة إعادة العلاقات المقطوعة بين الطرفين. وما يثير الدهشة انقلاب الأدوار؛ فبعد أن كانت إسرائيل هي التي تلاحق دول أوروبا الشرقية وتسعى لكسب ودّها، باتت هذه الأخيرة تلاحق إسرائيل وتطالبها بتمثل دبلوماسي كامل. هذه، مثلاً، حال ألمانيا الشرقية التي أجّلت إسرائيل عملية عودة العلاقات بها إلى ما بعد الانتخابات التي من المفترض أن تجري هناك في شهر آذار/ مارس. وعلى الأرجح لن يمضي وقت طويل حتى يصبح لإسرائيل تمثيل دبلوماسي في هذه الدول كافة، الأمر الذي كان يبدو – لأشهر خلت – عملية تتطلب صبراً ووقتاً.

لكن هذا الأمر لا يجعل بعض الإسرائيليين يعلقون آمالاً كبيرة على تأييد هذه الدول الكامل لهم في المجال السياسي؛ ففي رأيهم أن على إسرائيل ألا تنتظر أن تبدأ دول أوروبا الشرقية منذ الغد "التصويت إلى جانب إسرائيل في الأمم المتحدة."(3)   فمعظم هذه الدول ما زال يحتفظ بعلاقات وطيدة بالدول العربية، ولم يغير كثيراً من سياسته تجاه النزاع  العربي – الإسرائيلي.

ثانياً: على الصعيد الإقليمي، فبالإضافة إلى المكسب الكبير الذي حققته إسرائيل في هجرة اليهود السوفيات مباشرة إليها، بدأت التغيرات الأخيرة في السياسة السوفياتية تنعكس أيضاً على الدعم العسكري السوفياتي للدول العربية، ولا سيما سوريا. فقد أدى زوال التوتر بين الدولتين العظميين إلى تغير الموقف الأحادي الجانب للاتحاد السوفياتي من الشرق الأوسط. وفي رأي شمعون بيرس، فإن "شرق أوسط من دون اتجاه سوفياتي أحادي الجابنب، شرق أوسط من دون اعتمادات عسكرية، شرق أوسط من غير عقيدة شيوعية، هو شرق أوسط مختلف تماماً."(4)   وتذهب تقديرات إسرائيلية إلى أن الأنظمة الجديدة لدول أوروبا الشرقية ستخفض، إلى حد كبير، من حجم المساعدات العسكرية التي كانت تقدمها إلى المنظمات الفلسطينية. وبالتالي، فالأنظمة الجديدة في "رومانيا ويوغسلافيا وألمانيا الشرقية، وخصوصاً بلغاريا – وهي التي تتطلع إلى علاقات بالغرب – ستلغي جميع الدورات العسكرية المخصصة لمنظمات الإرهاب المتطرفة."(5)    لذا، فمن المتوقع أن تتمحور صلة هذه الأنظمة بالفلسطينيين، في المستقبل، حول الجانب السياسي خاصة.

ثالثاً: على الصعيد الإسرائيلي الداخلي، فقد شجع انهيار الأيديولوجيات الجامدة في أوروبا الشرقية الأصوات الإسرائيلية المطالبة بضرورة خروج القيادة الإسرائيلية من عزلتها وقوقعتها. وبرزت الدعوات إلى "خلق عالم جديد هنا أيضاً في الشرق الأوسط"، عن طريق قيام "مصالحة إسرائيلية – عربية". فالخطر الذي يمكن أن تتعرض غسرائيل له نتيجة عدم وجود تسوية، و"عدم التقدم الاقتصادي والاجتماعي، والجمود الذهني والسياسي، هو أكبر كثيراً من حجم خطر القيام بمبادرة سياسية."(6)  من هنا، على إسرائيل أن تستخلص الدروس والعبر مما يجري في أوروبا الشرقية. فقد قال بيرس: "إن المنطقة ستتغير نحو الأفضل، ومصلحتنا تفرض استخلاص النتائج من التغيرات المرتقبة مسبقاً. في إمكاننا البدء بمفاوضات مع الفلسطينيين... وإذا ما خاض الفلسطينيون الانتخابات فسيُعتبر خوضهم هذا محاولة جدية لنشر الديمقراطية في علاقات الداخل والخارج لدى جيراننا. فالحكم عن طريق الانتخابات سيكون خطوة أولى وضرورية في سلسلة طويلة من التغيرات التي تنتظرنا."(7)

لكن هذه الأوجه الإيجابية للأحداث لم تخفِ عن أنظار الإسرائيليين رؤية بعض المخاطر. فبرز تخوفان أساسيان: خوف من أن تؤدي التغيرات العالمية إلى تقليص أهمية إسرائيل الاستراتيجية كحليف للولايات المتحدة في المنطقة في وجه النفوذ الشيوعي؛ وخوف من أن تؤدي عودة التعددية الحزبية إلى دول أوروبا الشرقية إلى يقظة الروح القومية والعصبية، وبروز التيارات المعادية للسامية.

أثار تراجع حدة التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مخاوف الإسرائيليين من أن يؤدي ذلك إلى انحسار أهمية إسرائيل كحليف للولايات المتحدة، الأمر الذي قد يؤدي في المستقبل إلى خفض المساعدات العسكرية لها. ولقد فسر البعض اقتراح السناتور الأميركي روبرت دول تخفيض المساعدات الأميركية لعدد من  الدول، وبينه إسرائيل، بأنه إشارة في هذا الاتجاه. وقد عبر وزير الدفاع الإسرائيلي، يتسحاق رابين، في كلامه عن هذا الإمكان خلال زيارة قام بها لواشنطن في مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي، عندما أشار إلى أن عاملاً أساسياً قد تغير. فالدولتان العظميان لم تعودا تخشيان اتساع حرب شرق – أوسطية إلى مجابهة أميركية – سوفياتية، كما حدث في أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973.

ويأتي هذا الأمر في الوقت الذي تزداتد الهوة التي تفصل بين الموقف الأميركي الرسمي من موضع التسوية السلمية والمفاوضات السياسية، وبين الموقف الإسرائيلي. وهذا، بالإضافة إلى التململ والاستياء في أوساط يهود الولايات المتحدة من مواقف الحكومة الإسرائيلية المتشددة كما عكستها الاستقصاءات الأخيرة.(8)

 أما فيما يتعلق بالمخاوف الإسرائيلية من عودة الحياة إلى الحركات المعادية للسامية في دول أوروبا الشرقية، فيبدو لمتتبع الصحافة الإسرائيلية أن المسألة هي مزيج من أوهام سببها ذكريات الماضي الأليم في بعض الوقائع على الأرض التي ضخمتها وسائل الإعلام الصهيوني من أجل تشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل. إذ استغلت هذه الوسائل الأخبار عن النشاط المعادي لليهود والذي تقوم منظمة "باميات" [ذاكرة" به في الاتحاد السوفياتي، فذكرت أن المنظمة المذكورة توزع بيانات في كل من موسكو وليننغراد تدعو إلى القيام باعتداءات على اليهود في تواريخ معينة.(9)   وعلى الرغم من أن السلطات السوفياتية كذّبت هذه الأنباء وأحالت منظمة "باميات" على القضاء بتهمة قيامها بنشاطات عنصرية، فإن هذا الأمر لم يخفف من حملة التخويف التي كانت تتعرض أوساك اليهود في الاتحاد السوفياتي والدول الأخرى لها. ففي رأي د. يوري شطرمان، من مجلس الدفاع عن يهود الاتحاد السوفياتي، "أن ظهور العداء للسامية في الاتحاد السوفياتي يثير الخوف الشديد داخل الجالية من حدوث مذابح، ويخاف الكثيرون من اليهود أن يحدث لهم ما حدث للأرمن."(10)   ويرى الأستاذ روبرت فيسترايخ، من الجامعة العبرية، أن العداء للسامية ما زال سائداً في أوروبا في نهاية الثمانينات كما لم يكن في السنوات الأخيرة من الثلاثينات كما لم يكن في السنوات الأخيرة من الثلاثينات. ومما يساعد في ذلك صعود اليمين في أوروبا. وفي رأيه: أن العداء للسامية سيظل يلقي بظله حتى في الدول الديمقراطية سنة 2000.(11)   ويرى الإسرائيليون أن من المظاهر الجديدة للعداء للسامية رفض الإقرار بوجود أفران الغاز ووقوع الكارثة النازية. ولقد نقلت الصحافة الإسرائيلية تقارير من ألمانيا الشرقية تحدثت عن نشوء حركات نازية جديدة بين الشبان الألمان، ممن يرفعون شعار العداء  لليهود والأجانب عامة، ويتماثلون مع القيم النازية في عهد هتلر.(12)

ومع ذلك، يجمع الإسرائيليون على أن الوقت لم يحن بعد من أجل القيام بالحساب الأخير لما يجري، وأنه يجب انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات البرلمانية التي من المفترض أن تجري في أكثر من دولة في أوروبا الشرقية. ففي ضوء نتائجها ستحدد طبيعة العلاقة بهذه الدول.

 إسرائيل وألمانيا الشرقية

والموقف من توحيد الألمانيتين

تختلف ألمانيا الشرقية عن سائر دول أوروبا الشرقية في أنها لم تنشىء علاقات رسمية بينها وبين إسرائيل في السابق. فإسرائيل لم تقم علاقات مع ألمانيا الغربية إلا سنة 1965. وكان قد سبق ذلك اتفاق وقّع في لوكسمبورغ بين الدولتين اعترفت فيه حكومة ألمانيا الغربية بمسؤوليتها الخلقية تجاه الجرائم التي ارتُكبت في حق اليهود، وتعهّدت بالتعويض على ضحايا الكارثة النازية. واستناداَ إلى الاتفاقيات التي وقعت، دفعت ألمانيا الغربية لإسرائيل تعويضات بلغت قيمتها 3 مليارات مارك (أي ما يوازي 850 مليون دولار بسعر صرف تلك الفترة) ولمدة 21 عاماً. ولقد أخذت هذه الدفعات شكل منتوجات ألمانية إلى إسرائيل. لكن هذه الدفعات مثّلت ثلثي المبلغ الذي طالبت إسرائيل به. ويبقى هناك الثلث الذي من المفترض أن تتحمله ألمانيا الشرقية والذي يبلغ ملياراً ونصف المليار مارك، وهو ما تطالب إسرائيل اليوم حكومة برلين الشرقية به.

وطوال الفترة السابقة امتازت سياسة ألمانيا الشرقية بالعداء الكامل لإسرائيل وتجاهل مطاليبها. غير أن التغيرات الأخيرة حملت رياحاً جديدة، وفتحت صفحة مختلفة في تاريخ الصلة بين البلدين.

فمنذ قيام الحكومة الجديدة في ألمانيا الشرقية في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر، سعت للتقرب من إسرائيل معلنة رغبتها في مد الجسور معها. ففي مقابلة خاصة لصحيفة "هآرتس" قال رئيس الحكومة، هانس مودروف: "لقد توجهنا إلى إسرائيل بصورة رسمية للبحث في إقامة علاقات دبلوماسية. إن حكومتي مهتمة بعلاقات كهذه، وآمل بأن يكون جواب القدس إيجابياً."(13)   وعندما سئل عن استعداد بلده للتعويض على الناجين اليهود من الكارثة النازية، قال: "نحن مستعدون للبحث في ذلك مع ممثلين معتمدين من المنظمات اليهودية التي تهتم بالموضوع، ومع إسرائيل. فحكومتي تفتح الباب أمام محادثات في هذا الشأن. وهذا جزء لا يتجزأ من مجمل الموضوعات التي من المفترض أن نبحث فيها."(14)

 لكن مصادر في وزارة الخارجية الإسرائيلية ذكرت للصحيفة، التي نقلت هذا الكلام، أن إسرائيل لم تتلق أي طلب رسمي من حكومة ألمانيا الشرقية في شأن استعدادها لإقامة علاقات دبلوماسية. وأضافت أنها غير مستعجلة لمثل هذه الخطوة الآن، ما لم تعترف تلك الحكومة بمسؤوليتها الخلقية في الكارثة النازية والجرائم التي ارتكبها النازيون في حق الشعب اليهودي، وما لم تُحلّ مسألة التعويضات على الضحايا. وعكفت الوزارة، بالاشتراك مع وزارة المال، على صوغ الموقف الإسرائيلي الواضح من المسألة. وشددت الوزارتان على أن لا مجال للحديث عن علاقات قبل تنفيذ الشرطين المذكورين أعلاه. وفي هذا الإطار رفض القائم بأعمال رئيس الحكومة، وزير المال شمعون بيرس، تلبية دعوة إلى زيارة ألمانيا الشرقية قبل أن تستجيب لمطاليب إسرائيل. وفي نقاش داخل وزارة المال، برئاسة بيرس، تقرر إعطاء المطالبة بدفع تعويضات إلى دولة إسرائيل الأولوية على التعويضات للأفراد الناجين من الكارثة النازية؛ تلك التعويضات التي من المفترض أن تُدفع عبر المؤتمر اليهودي للتعويضات الذي يرئسه الحاخام يسرائيل ميلر، والذي مقره نيويورك؛ فهو الجهة المخولة تمثيل الشعب اليهودي في موضوع التعويضات. ورفضت الوزارة اقتراح رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، إدغار برونفمان، دفع 100 مليون دولار فقط. إذ أن تقديراتها تفوق هذا المبلغ كثيراً. ونظراً إلى أن حكومة ألمانيا الشرقية قد تجد صعوبة – في ظل أوضاعها الحالية – في جمع المبلغ بالعملة الصعبة، فقد أعربت إسرائيل عن استعدادها للحصول بدلاً منه على بضائع تتزود بها إما بصورة مباشرة وإما عبر طرف ثالث.(15)  

واعتباراً من هذا التاريخ ستشغل مسألة الشروط الإسرائيلية حيزاً أساسياً في المفاوضات التي ستجري بين الطرفين الألماني الشرقي والإسرائيلي.

ومن أجل هذا الغرض عقد في مطلع شباط/فبراير لقاء في لوكسمبورغ استمر ثلاثة أيام، بين وفد ألماني شرقي وآخر إسرائيلي، للبحث في المسائل العالقة بين البلدين. ووُصف اللقاء بأنه "محادثات توضيحية"، كما أصدرت سفارة إسرائيل في نهايته بياناً عن تفاصيل هذه المحادثات ومهمتها، تضمن سبعة بنود صيغت بصورة قانونية ومقتضبة. وقد ورد في البند الرابع: "فيما يخص العلاقات بألمانيا الشرقية هناك صعوبات يواجهها كل شخص يعرف تاريخ القرن العشرين. وبناء عليه، ثمة أهمية خاصة في أن تتحمل ألمانيا المسؤولية الخلقية بوصفها شاركت في الجرائم التي ارتكبها الشعب الألماني ضد الشعب اليهودي أيام الحرب العالمية الثانية."(16)

لم تسفر المحادثات في لوكسمبورغ عن نتائج حاسمة. لكن بعد أيام من انتهائها تلقى رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، إدغار برونفمان، رسالة شخصية من رئيس حكومة ألمانيا الشرقية، هانس مودروف، يعترف فيما بمسؤولية "الشعب الألماني كله عن جرائم النازيين ضد اليهود." ولقد ورد في الرسالة: "أن الحكومة تعترف بمسؤولية كل الأطراف تجاه الماضي الذي نتج من الفاشية الهتلرية التي قامت بارتكاب جرائم ضد الشعب اليهودي باسم الشعب الألماني"، و"أن حكومة ألمانيا الشرقية تعترف بالتزاماتها الإنسانية تجاه اللاجئين الذين عانوا الاحتلال النازي"، وهي تُقر بـ"استعدادها لدفع تعويضات مادية لضحايا النازيين من أصل يهودي." وتعهد مودروف، في رسالته، بأن تبذل ألمانيا الشرقية قصارى جهدها لقطع دابر العداء للسامية.(17)

وعلى الرغم من الترحيب الذي لاقاه هذا الاعتراف في أوساط الخارجية الإسرائيلية، فإن موضوع التعويضات ظلّ مثار جدل وخلاف، الأمر الذي دفع موظفين في وزارة الخارجية إلى القول أن إعلان هانس مودروف ومقترحات حكومته غير كافية. ففي رأيهم أن تعبير "التزامات إنسانية" ليس كافياً. وأتى رد الخارجية الإسرائيلية على الرسالة كالتالي: "إن موقف إسرائيل هو أنه يجب أن تتحمل ألمانيا الشرقية المسؤولية الكاملة تجاه الكارثة النازية. وستطلع وزارة الخارجية على فحوى الإعلان الألماني الشرقي، وسوف تقف على دلالته قبل الاستمرار في الاتصالات بوزارة الخارجية في ألمانيا الشرقية."(18)    وعلاوة على ذلك، فقد أعلنت القدس أنها غير مستعدة لإعادة علاقاتها بألمانيا الشرقية قبل أن تسمع مواقف الحكم الجديد من النزاع العربي – الإسرائيلي.

إن الاتجاه السائد في القدس يميل نحو تأجيل بت مسألة العلاقات الدبلوماسية بألمانيا الشرقية إلى ما بعد الانتخابات التي من المفترض أن تجري في أواسط آذار/مارس. فالحكومة الإسرائيلية لا تريد أن توقّع اتفاقات سياسية مع قيادة قد تذهب وتأتي الانتخابات بغيرها.

المخاوف الإسرائيلية

من توحيد الدولتين الألمانيتين

من المنطقي أن يثير موضوع إعادة توحيد الدولتين الألمانيتين القلق والخوف في دول أوروبا الغربية والشرقية، نظراً إلى ما قد يحمله هذا الحدث السياسي من انعكاسات مباشرة على مستقبل هذه الدول، وما قد يسفر عنه من تغييرات في الخريطة السياسية التي ارتسمت عقب الحرب العالمية الثانية. لكن من غير المنطقي أن يثير هذا الموضوع مخاوف وقلق دولة شرق أوسطية مثل إسرائيل. فما الذي يخيف إسرائيل من توحيد الألمانيتين؟

قد نجد الجواب في تصريح لرئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق شمير أدلى به في مقابلة أجرتها معه التلفزة الأميركية في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، حين قال أن لديه شكوكاً في جدية فكرة توحيد الدولتين الألمانيتين. وقال رداً على سؤال: "كلنا يذكر ما فعل الشعب الألماني عندما كان موحداً وقوياً... إذ قررت أغلبيته الساحقة قتل الملايين من أبناء الشعب اليهودي. وعلى كل واحد منا أن يفكر فيما إذا أُتيحت للشعب الألماني الفرصة مرة أخرى ليصبح أقوى دولة في أوروبا، وربما في العالم بأسره، فهل سيحاول القيام بذلك مرة أخرى؟ لا أعرف ما إذا كان هذا سيحدث، أو ما إذا كان هناك أساس لهذا الخوف. في جميع الأحوال، يمكن لكل واحد أن يفهم هذه المخاوف."(19) 

ففي رأي زعماء إسرائيل اليوم، من الممكن أن تؤدي استعادة الشعب الألماني لوحدته إلى تجدد الكارثة النازية التي حلّت بالشعب اليهودي في أوروبا قبل أكثر من أربعين عاماً. ويعني هذا، بين أمور أخرى، أن التغييرات الكبيرة التي شهدتها أوروبا في تلك الفترة، ومسار الديمقراطية الذي مرّ المجتمع الألماني به لا تشكل عاملاً أساسياً في تغيير النظرة الإسرائيلية إلى الشعب الألماني. من هنا نفهم التحفظ الشديد و"خيبة الأمل" العميقة التي أثارتها تصريحات شمير في الأوساط الألمانية الغربية. ويمكننا أن نلحظ ذلك في الرسالة التي وجهها المستشار الغربي هلموت كول، والتي نشرتها "هآرتس" في عددها بتاريخ 1/2/1990؛ إذ دافع كول عن التهم التي وجهها شمير إلى الشعب الألماني، واعتبر أن مسألة توحيد الدولتين الألمانيتين هي مسألة أوروبية بالدرجة الأولى. ورأى أن الدولة الألمانية الموحّدة ستقوم على الديمقراطية وسلطة القانون، وبالتالي لا يمكن أن تشكل خطراً على أية جهة، سواء داخل أوروبا أو خارجها. ورفض مقابلتها بالنظام النازي.

لم يدفع كلام كول شمير إلى التراجع عن موقفه، فرد على كول برسالة جوابية ورد فيها: "... لدينا تجربة مع ألمانيا في الثلاثينات والأربعينات، تجربة محفورة في ذكرياتنا.... إننا نحمل معنا ذكرى اليهود الذين قتلوا في الكارثة النازية بعد مرور عشرات الأعوام." ورأي شمير أن خسارة إسرائيل كانت كبيرة نتيجة الكارثة النازية. وبما أن دولته هي دولة الشعب اليهودي، فهو يرى أن من واجبه، كرئيس للحكومة، الإعراب عن شكوكه وقلقه. وحاول في ختام رسالته أن يخفف من حدة لهجتها بالتمني ألا يؤدي هذا الكلام إلى الإساءة لشبكة العلاقات الطيبة التي تربط بين البلدين.

أظهرت الأوساط الألمانية الغربية اهتماماً خاصاً بهذا الموقف الإسرائيلي، وتركت لوسائل إعلامها الحرية في إظهار الغضب والاستياء اللذين أثارهما هذا الموقف في أوساط الحكم. وإزاء هذا الأمر ارتأت الحكومة الإسرائيلية إصلاح ما أفسده كلام شمير، ولا سيما في ضوء ما يجري على الأرض في هذا الشأن والتسارع الكبير الذي يشهده مسار عملية التوحيد التي باتت أمراً مؤكداً. ومن هنا كانت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلية، موشيه آرنس، إلى بون في أواسط شباط/ فبراير. فقد استغل آرنس زيارته التي وصفها بأنها "زيارة عمل"، كي يبلّغ الألمان الغربيين أن إسرائيل لا تخاف من ألمانيا موحّدة وديمقراطية ومسؤولة تتعهد الحفاظ على السلام في العالم عامة وفي أوروبا خاصة.(20)   وكان هذا بالتحديد ما يرغب الألماني في سماعه من الإسرائيليين، نظراً إلى الأهمية التي يعلقونها على تأثير الموقف الإسرائيلي في الرأي العام اليهودي في العالم.

ومع ذلك، فقد أثارت خطوة آرنس غضباً في أوساط بعض الإسرائيليين الذين انتقدوا موقفه واعتبروا أن آرنس منح توحيد الدولتين الألمانيتين "شهادة خلقية".(21)   وهذا ما تطلبه الدول الأوروبية من إسرائيل بالذات لتريح ضميرها تجاه اليهود.

وإذا كانت مسألة توحيد الألمانيتين تثير حساسية خاصة لدى الإسرائيلية، وتوقظ العداء الكامن عند اليهود ضد "الأغيار" وعالم الغرب الذي يقدّم مصالحه المادية على حساب قيم الهيود وتاريخهم، فإن الجدل العام في شأن هذه المسألة حمل أصواتاً أكثر اعتدالاً. وقد تساءلت الصحافة الإسرائيلية عن إمكان عودة أفكار من العهد النازي بعد توحيد الدولتين الألمانيتين؛ "فقد هدف تقسيم ألمانيا سنة 1945 إلى القضاء على أية محاولة من جانب ألمانيا قوية لتحقيق نبوءات جيو – سياسية من العهد النازي. فهل من الممكن تغيير طابع قومي في جيل واحد؟ وهل أن أفكاراً مثل "المجال الحيوي" التي شكلت الأساس الأيديولوجي لتوسع النازيين ولعقيدتهم العنصرية، هي أفكار تخطاها العالم أم أنها راقدة تنتظر من يوقظها.(22)  

لكن هذه التساؤلات لم تمنع بروز أصوات تشجع إسرائيل على إقامة "علاقات منفعة" بدول أوروبا الشرقية كافة، بما فيها ألمانيا الشرقية، "سواء اتحدت مع شقيقتها الغربية أو لم تتحد."(23)   في حين ذهب البعض الآخر إلى ضرورة السعي لإقامة علاقات جيدة بألمانيا موحدة، التي "ستصبح الدولة الثانية أو الثالثة في العالم. وليس لإسرائيل أي تأثير في ذلك. من هنا، فالأفضل لإسرائيل "أن تعمق النشاط السياسي والإعلامي في ألمانيا بحيث تصبح هذه من الآن في سلم أولوياتنا مباشرة بعد الولايات المتحدة."(24)  

على صعيد الجالية اليهودية في الألمانيتين، فإن الحديث عن التوحيد لا يخيفها. والدليل على ذلك اللقاء الأول من نوعه الذي جرى في شباط/فبراير 1990 في برلين الغربية بين ممثلين عن الجاليتين، للبحث في انعكاسات التوحيد على شؤون كل منهما. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يعيش في ألمانيا الغربية حالياً 30 ألف يهودي تقريباً، في حين يبلغ أبناء الطائفة اليهودية المسجلين رسمياً في ألمانيا الشرقية 370 يهودياً، لكن يقال أن عددهم الفعلي هو 4 آلاف يهودي.

 الصلة الإسرائيلية الرومانية

في عهد تشاوشيسكو

أثار سقوط نظام تشاوشيسكو أصداء وردات فعل كثيرة ومتباينة في إسرائيل. وكان مناسبة كشفت فيها صفحات غير معروفة من العلاقة التي ربطت بين إسرائيل ونظام تشاوشيسكو في رومانيا، البلد الذي لم يقطع علاقاته بإسرائيل في أعقاب حرب 1967، بل رفعها بعد مضي عام فقط من درجة ممثلية إلى سفارة.

وتساءلت الأوساط الرسمية في القدس عن مدى تأثير التغيرات الجارية في رومانيا على مستقبل العلاقات بين البلدين. لكن موقف الحكومة الجديدة في رومانيا أزال هذه التساؤلات، وأكد رغبة الحكم الجديد في الحفاظ على استمرارية العلاقات الطيبة بين البلدين.

أما ردة الفعل الإسرائيلية على نبأ إعدام تشاوشيسكو، كما عكستها الصحافة، فكانت مزيجاً من الإحساس بالشفقة على المصير الذي لقيه، ومن الشعور بالحرج إزاء الصلة المميزة التي ربطته بالإسرائيليين عامة، وبالطائفة اليهودية في بلده خاصة.

كان تشاوشيسكو يملك شبكة علاقات واسعة وغنية بأوساط الإسرائيليين من الفئات كافة. فلقد التقى، في فترة حكمه، ثلاثة رؤساء للحكومة الإسرائيلية: غولدا مئير ومناحم بيغن ويتسحاق شمير، في الوقت الذي لم تطأ قدماه أرض إسرائيل. هذا إلى جانب لقاءاته عدداً من الوزراء، بينه شمعون بيرس وعيزر وايزمن وأريئيل شارون الذي كان في زيارة لرومانيا في اليوم الثاني لغزو لبنان سنة 1982. ولم تقتصر صلات تشاوشيسكو على رجال السياسة، بل تعدتهم إلى الصحافيين. فرئيسة تحرير "دافار" الحالية، حانه زيمر، زارت رومانيا مرتين وكتبت مقدمة لكتاب عن حياة تشاوشيسكو صدر باللغة العبرية، وكانت تُعتبر في رومانيا ضيفة خاصة للرئيس، الأمر الذي دفعها بعد سقوط الزعيم الروماني إلى كتابة مقال في "دافار" (29/12/1989) تدافع فيه عن نفسها وتشرح خلفيات الصداقة التي تربطها بتشاوشيسكو.

لكن المثير للاهتمام هو الدور السياسي الذي قام تشاوشيسكو به مع الإسرائيليين في أكثر من مرحلة.

فقد جاء في كتاب صدر مؤخراً لسفير إسرائيل السابق في رومانيا أبان غيفن بعنوان "كوة في ستار الحديد" قوله: "لو أن إسرائيل تعاملت بجد أكثر مع هذا الرجل، لأمكن التوصل إلى السلام مع مصر في وقت أبكر."(25)  ويروي غيفن أنه نقل، في تشرين الثاني/نوفبمر 1973، اقتراحاً إلى غولدا مئير بواسطة تشاوشيسكو، عن استعداد السادات لتسوية سلمية بعيدة المدى. لكن مئير استبعدت هذا الاقتراح في تلك الفترة. وبعد مرور أربعة أعوام، نقل تشاوشيسكو إلى السادات استعداد حكومة إسرائيل للقبول بالسلام. وباعتراف السادات نفسه فإن حديثه مع تشاوشيسكو هو الذي دفعه إلى التحرك.

وقام تشاوشيسكو بدور الوسيط بين إسرائيل ومنظمة التحرير. وساهم في عمليات تبادل الأسرى ونقل المعلومات عن المفقودين. ففي نيسان/ أبريل 1987، نصح لدايان أن مصلحة إسرائيل هي في التفاوض مع طرف فلسطيني معترف به ومقبول من الفلسطينيين كلهم. وأن تبادل الاعتراف بين إسرائيل وم. ت. ف. يجب أن يتم في مفاوضات سياسية لا في عملية عسكرية. ودرج تشاوشيسكو على إرسال  مستشاره الخاص إلى القدس مع رسائل يتوسط فيها بين عرفات وشمير. ولكن الرسائل لم تكن تلقى تجاوباً لدى هذا الأخير.

 تشاوشيسكو الابن الشرير في العالم

والولد الطيب في القدس

لكن، ما الذي دفع الإسرائيليين ما الذي دفع الإسرائيليين إلى توطيد صلتهم بالزعيم الروماني السابق حتى في السنوات الأخيرة من عهده حين بات واضحاً للجميع طابع حكمه الاستبدادي والديكتاتوري؟ يقول د. رافي فاغو، من معهد الدراسات السوفياتية في تل أبيب: "إن التملق والتزلف الإسرائيليين لرومانيا وصلا إلى درجة من الصعب تقديرها حتى عندما أصبحت شخصية الديكتاتور الروماني واضحة للجميع."(26)   فلقد غابت الانتقادات الجدية لتشاوشيسكو عن الإعلام الإسرائيلي في الوقت الذي كثرت في الصحافة العالمية.

لم يكن الإسرائيليون غافلين عن طبيعة حكم تشاوشيسكة، لكن كان لديهم أكثر من مصلحة معه. فقد استفادوا من الدور الذي قام به وسيطاً بينهم وبين العرب، واستغلوا صلاتهم به للوصول إلى سائر الدول الأوروبية الشرقية التي كانت مقفلة في وجههم، وخصوصاً لتسهيل هجرة الجوالي اليهودية هنا عن طريق بوخارست. وربما كانت هذه المسألة الأخيرة هي السلعة الأساسية التي ساوم تشاوشيسكو الإسرائيليين في شأنها. فكما هو معلوم ثمة "كوتا" للهجرة اليهودية من هناك، وثمن أيضاً*. أما المبالغ التي دفعتها إسرائيل لتشاوشيسكو لقاء هجرة اليهود من رومانيا، فكانت تأخذ شكل دفعات مالية لقرى الاستجمام، ودفعات نقدية بلغت أحياناً 6000 دولار عن كل يهودي يعبر حدود رومانيا.(27)   وقد ذكرت جوليانا بيلون – وهي من أصل روماني وتعمل في مجال الأبحاث في الولايات المتحدة – أن تشاوشيسكو جمع ما مقداره 800 مليون دولار من مبالغ دفعتها كل من إسرائيل في مقابل هجرة اليهود، وألمانيا الغربية من أجل السماح للألمان بالعودة إلى بلدهم.(28)

غير أن الناطق باسم "الجوينت"، اللجنة اليهودية الأميركية للإعانة، صرح لـ "هآرتس" (28/12/1989) أنه ما دام ليس هناك أخبار واضحة وموثوق بها عن وضع اليهود في رومانيا بعد الأحداث الدامية التي تجري هناك، فهو غير مستعد للإدلاء بأي تفصيل. و"الجوينت" التي تشكلت سنة 1914 من أجل مساعدة اليهود في أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، هي من المنظمات اليهودية الأساسية التي أقامت علاقات بنظام تشاوشيسكو. وإذا عرفنا أن أموال هذه المنظمة تأتي أساساً من الجباية في أوساط الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، أدركنا أن الزعيم الروماني كان يهدف من علاقته بها إلى التقرب من الولايات المتحدة وتبييض صفحته أمام الزعماء اليهود هناك الذين كانوا غالباً ما يقومون بزيارات لمآوي العجزة والمستشفيات التابعة للجالية اليهودية في رومانيا ويعودون بانطباعات إيجابية عن الحكم هناك.

كان الإسرائيليون يتذرعون، في دفاعهم عن علاقتهم بتشاوشيسكو، بأنها للحفاظ على مصالح الحالية اليهودية هناك التي كانت تتمتع بوضع مميز. فحاخام الجالية موشيه روزين يعتبر من أقرب الشخصيات إلى الزعيم الروماني السابق، ويقال أن صداقة متينة وتبادل مصالح كانا يربطان بين الرجلين. ولقد كان روزين في زياراته للجوالي اليهودية في أنحاء العالم يعمل لحل الكثير من المشكلات القائمة بين الحاكم الروماني وأكثر من بلد. ويقال أنه قام بدور كبير في حصول رومانيا على مركز "دولة ذات أفضلية تجارية في الولايات المتحدة." هذا إلى جانب ما يؤثر عن الحاخام روزين من مواقف مغالية في تملقها للرئيس الروماني السابق، إلى أن ينصحوا للحاخام أن الوقت قد آن لتوضيب حقائبه وإنهاء مهمته والهجرة إلى إسرائيل.(29) 

من هنا، فإن ما يشغل بال الإسرائيليين هو مصير الجالية اليهودية اليوم بعد زوال حكم تشاوشيسكو، وما إذا كان وضعها السابق وامتيازاتها القديمة قد تعرضها لانتقامات وردات فعل سلبية من جانب  الحكم الجديد. ويحاول الإسرائيليون حلّ هذه المسألة عن طريق هجرة جماعية لليهود إلى إسرائيل. هناكتقديران مختلفة لعدد أبناء الجالية في رومانيا؛ ففي تقدير "الجوينت"، هناك 23 ألفاً. ويذهب تقدير آخر إلى أن عددهم هو 40 ألفا@. لكن نصف أفراد الجالية هو من جيل ما فوق الستين، ونصفهم الآخر من الشبان المرشحين للهجرة إلى إسرائيل. وتقد الأوساط المسؤولة عن الهجرة في إسرائيل أن وجود اليهود في رومانيا قد ينتهي خلال أعوام قليلة.(30) 

وفي الواقع، نقلت الصحف أنباء تشير إلى التحضير لهجرة كبرى ليهود رومانيا إلى إسرائيل،(31)   كذّبها نائب الرئيس الروماني واصفاً إياها بأنها مجرد شائعات.(32)   وعلاوة على ذلك كله، فإن لإسرائيل حالياً مصلحة حيوية في رومانيا؛ فمنذ عام تقريباً أُقيمت في بوخارست محطة عبور مركزية للمهاجرين اليهود والسوفيات بدلاً من فيينا التي لم تعد تحت سيطرة هيئات الهجرة الإسرائيلية، وذلك للحؤول دون تساقط المهاجرين وذهابهم إلى دول أخرى بدلاً من توجههم مباشرة إلى إسرائيل. ولقد أثمر هذا الإجراء ثماراً طيبة للجانبين الإسرائيلي والروماني؛ إذ حمل أعداداً كبرى من المهاجرين إلى إسرائيل، ومزيداً من العملة الصعبة إلى "جيوب تشاوشيسكو"، كما تدعي وكالات الأنباء الأجنبية.

واليوم، وبعد غيبا تشاوشيسكو، لا يخفي بعض الإسرائيليين دهشته إزاء نهاية الرجل الذي عرف طوال أعوام كيف يفهم العلاقات بين الدول ويتوسط بين الأعداء، في الوقت الذي عجز عن إدراك مخاطر العداء التي كانت تحيط به داخل بلده نفسه. أما مستقبل العلاقات بين رومانيا وإسرائيل فما زال غير واضح، على الرغم من التفاؤل الذي يبديه الوزير موشيه آرنس. فهناك مخاوف من عودة بروز التيارات القومية والفاشية، بالإضافة إلى أن الحكم الحالي حكم موقت. وما دام الجيش لم ينجح في فرض سلطة القانون والنظام، فمن الصعب الوقوف على صورة الوضع بدقة. لذا، ينتظر الإسرائيليون نتائج الانتخابات التي من المفترض أن تجري في نيسان/ أبريل من هذه السنة، كي يعرفوا وجهة الريح الرومانية فيحددوا في ضوئها صلتهم الجديدة بهذا البلد.

2/3/1990

 

(1)   شمعون بيرس، "العالم الذي تغير والشرق الأوسط الذي سيتغير"، "دافار"، 8/12/1989.

(2)    جاءت أكبر مجموعة من المهاجرين سنة 1949 من بولندا (47,000 مهاجر تقريباً) وبلغ مجموع المهاجرين من أوروبا الشرقية في السنة ذاتها 109,262، ثم وصل عددهم إلى 271,188 مهاجراً في 31 آذار/ مارس 1951. أنظر: توم سيغف، "الإسرائيليون الأوائل -  1949" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986)، ص 109 وما يليها.

(3)   أنظر: أ. شفايتسر، "علاقات منفعة"، "هآرتس"، 5/1/1990.

(4)   بيرس، مصدر سبق ذكره.

(5)   أنظر: دان ساغير، "هآرتس"، 31/1/1990.

(6)   أنظر: عوزي برعام، "هآرتس"، 22/1/1989.

(7)   بيرس، مصدر سبق ذكره.

(8)    نشرت "هآرتس"، 8/2/1990، نتائج استقصاء تظهر أن 75% من زعماء اليهود في أميركا يؤيدون فكرة إجراء مفاوضات مع م. ت. ف. ومبدأ إعادة مناطق في مقابل سلام.

(9)   راجع: "هآرتس"، 1/2/1990.

(10)   أنظر: "غورباتشيف واليهود"، "دافار"، الملحق الأسبوعي، 20/1/1989، ص 8.

(11)   أنظر: يورام ليفي، "العداء للسامية لن يختفي"، 7/1/1990.

(12)   راجع: إلياهو سلبيتر، "العداء للسامية في أوقات الفراغ"، "هآرتس"، 29/1/1990.

(13)   "هآرتس"، 17/12/1989.

(14)   المصدر نفسه.

(15)   راجع، في هذا الصدد: "هآرتس"، 26 و29/1/1990.

(16)   أنظر: إلياهو زهافي، "يحافظون على الأسرار"، "هآرتس"، 5/2/1990.

(17)   أنظر: "هآرتس"، 9/2/1990.

(18)   "هآرتس"، 1/2/1990.

(19)   أنظر: "هآرتس"، 1/2/1990.

(20)   "يديعوت أحرونوت"، 15/2/1990.

(21)   أنظر: دوف غنحوفسكي، "يديعوت أحرونوت"، 18/2/1990.

(22)   شموئيل صباغ، "التأثيرات الجيو – سياسية لتوحيد ألمانيا"، "هآرتس"، 3/12/1989.

(23)   شفايتسر، مصدر سبق ذكره.

(24)   زالمان شوفال، "إسرائيل والعالم المتغير"، "هآرتس"، 14/12/1989.

(25)   نقلاً عن: عكيفا ألدار، "هآرتس"، 29/12/1989.

(26)   رافينا فيزيت، "تشاوشيسكو والصلة الإسرائيلية"، "دافار"، 29/12/1989.

*    ليس هذا بجديد؛ فعندما فتحت أبواب الهجرة إلى إسرائيل في مطلع الخمسينات دفع الإسرائيليون للدول الاشتراكية، مثل بولندا ويوغسلافيا وهنغاريا ورومانيا، مبالغ لهجرة اليهود منها إلى إسرائيل، كانت تتراوح بين 50 دولاراً على الفرد و 1000 دولار. أنظر: سيغف، مصدر سبق ذكره، ص 114.

(27)   فيزيت، مصدر سبق ذكره.

(28)   نقلاً عن: "هآرتس"، 28/12/1989.

(29)   فيزيت، مصدر سبق ذكره.

(30)   نويمان أمير، "طائفة في الانتظار"، "دافار"، 21/12/1989.

(31)   نقل مراسل "دافار"، 2/1/1990، أن مجلس الطائفة الرومانية في إسرائيل بدأ يطالب بالإعداد لهجرة نحو 10 آلاف يهودي من رومانيا.

(32)   في مقابلة خاصة أجرتها معه صحيفة "الحياة" (لندن)، 3/4/1990.