الهجرة الجماعية ليهود الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل: تحدّ للعرب وامتحان للصهيونية
Keywords: 
هجرة اليهود السوفيات
إسرائيل
الفلسطينيون في إسرائيل
الأراضي المحتلة
العوامل الديمغرافية
الانتفاضة 1987
Full text: 

على الرغم من أن أحداً لا يستطيع تقدير حجم هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي بدقة، وعلى الرغم من أن الأوساط الصهيونية والإسرائيلية تتحدث عن أرقام تتراوح بين ربع مليون خلال ثلاثة أعوام ومليون حتى نهاية العقد، في ضوء وتيرتها الحالية (10,000 مهاجر في الشهر)، فإن الأكيد أنها تشكل انعطافاً حاداً في مسيرة الهجرة الهيودية إلى فلسطيني، بعد تعثرها فترة طويلة من الزمن. ولمّا كانت الهجرة اليهودية في مختلف المراحل والأزمان تشكل عصب الكيان الصهيوني، فإن كلاً من ازدهارها أو تقلصها يتحكم في مصير هذا الكيان مادياً ومعنوياً والتحدي الذي يشكله..

من نافل القول إن لهذه الهجرة جوانب إيجابية من وجهة النظر الإسرائيلية 0 الصهيونية تتمثل، بين أمور أخرى، في توسيع البنية التحتية الشرية للكيان الصهيوني، وتحريك عجلة الاقتصاد الإسرائيلي التي كان للانتفاضة تأثير كبير في تعثرها، إلى غير ذلك من الإيجابيات التي تصب في خدمة الأهداف الصهيونية القريبة والبعيدة المدى. غير أنها تشكل، في الوقت نفسه، امتحاناً عسيراً للفكرة الصهيونية كلها التي تقوم على اعتبار أن إسرائيل تشكل "وطناً" و"ملجأ أميناً ليهود العالم كافة. وسيؤثر اجتياز هذا الامتحان أو الإخفاق فيه في جوهر الطروحات الصهيونية سلباً أو إيجاباً، وفي العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم.

ولهذا، يتوقف نجاح إسرائيل في هذا الاختبار على قدرتها على إقناع اليهود السوفيات بأن إسرائيل تشكل فعلاً "الوطن البديل" والحلم الجميل. ويحتم هذا كله تتبع تطور هذه الهجرة لمعرفة حجومها وأبعادها، وتقصي مصادر تمويلها، واستجلاء كيفية التعامل معها، واستشفاف العلاقة بينها وبين مصير المناطق المحتلة وتأثيرها في مجمل مسار القضية الفلسطينية، وما تضفيه من عناصر جديدة على الجدل الدائر في إسرائيل بشأن هذه القضية ومستقبل الكيان الصهيوني أيضاً.

 تطور هجرة اليهود السوفيات

خلال السنوات الأخيرة

تحكمت عوامل عديدة في هجرة يهود الاتحاد السوفياتي خلال العقود الأخيرة، كانت تساهم في تسريع هذه الهجرة أو في عرقلتها. وقد خضعت مسألة مغادرة اليهود أراضي الاتحاد السوفياتي لاعتبارات تتعلق بسياسته الداخلية تجاه القوميات المتعددة فيه، ولاعتبارات أخرى تتعلق بالعلاقات بين الشرق والغرب. إذ استطاعت الحركة الصهيونية وإسرائيل إقحام مسألة مغادرة اليهود للاتحاد السوفياتي في العلاقات بين الكتلتين العظميين تحت شعار "حماية حقوق الإنسان". وتجدر الإشارة إلى أن الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية خلال السنوات الأخيرة لحمل اليهود السوفيات على الهجرة إلى إسرائيل، جاءت بعكس النتائج التي سعت لتحقيقها. فأكثرية يهود الاتحاد السوفياتي استغلت هذه الجهود لتأمين المغادرة، لكنها غيّرت وجهتها إلى دول الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة.

 إن نحو نصف مليون مواطن هاجر من الاتحاد السوفياتي منذ الحرب العالمية الثانية في إطار ما سمي "الهجرة السوفياتية الثالثة". وقد بلغ عدد اليهود بين هؤلاء المهاجرين أكثر من 300,000 يهودي. وقد وصل جميع اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفياتي خلال السنوات 1948 – 1970 (250,000 نسمة) تقريباً إلى إسرائيل. كما أن 63% من 249,000 غادروا الاتحاد السوفياتي خلال السنوات 1971 – 1980 وصلوا إلى إسرائيل. وخلال الفترة التي شهدت تراجعاً كبيراً في حجوم الهجرة، 1980 – 1986، إذ لم يغادر الاتحاد السوفياتي سوى 17,000 يهودي، وصل إلى إسرائيل 23% منهم فقط. وقد ازدادت نسبة الذين يفضلون بلداً آخر على إسرائيل باستمرار، مع ازدياد تدفق المغادرين منذ سنة 1987، إذ أن أقل من 10% من الذين غادروا، في أواخر سنة 1988 وأوائل سنة 1989، اختاروا الذهاب إلى إسرائيل.(1)

وبموجب المعلومات التي أدلى يتسحاق شمير رئيس الحكومة الإسرائيلية بها، أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، فإنه منذ سنة 1987 حتى سنة 1989 وصل إلى إسرائيل 167,000 يهودي سوفياتي من 297,000 يهودي غادروا الاتحاد السوفياتي.(2)

وقد شهدت السنوات الثلاث الأخيرة تقلبات في عدد اليهود السوفيات الذين وصلوا إلى إسرائيل؛ فمن 8155 يهودياً غادروا الاتحاد السوفياتي سنة 1987، وصل منهم 2072 فقط إلى إسرائيل. ومن 18,961 يهودياً غادروا الاتحاد السوفياتي سنة 1988، لم يصل منهم إلى إسرائيل سوى 2173 يهودياً (أنظر الجدول).

 المهاجرون سنة 1989

شهدت سنة 1989 زيادة مطردة في عدد اليهود السوفيات الذين غادروا الاتحاد السوفياتي، وبالتالي الذين وصلوا إلى إسرائيل. لكن هذا العدد بقي ضئيلاً قياساً بعدد المغادرين للاتحاد السوفياتي. ففي شباط/فبراير 2226 يهودياً، لم يصل منهم إلى إسرائيل سوى 232. وبين 1 و 12 آذار/مارس 1989، غادر الاتحاد السوفياتي 1641 يهودياً، لم يصل منهم إلى إسرائيل سوى 60 شخصاً. وعندما زار وزير الاستيعاب، يتسحاق بيرتس، فيينا قابله وفد من اليهود هناك وقال له أن جميع اليهود الموجودين في فيينا "مصممون على الوصول إلى إسرائيل."(3)  

وفي نيسان/ أبريل، هاجر من الاتحاد السوفياتي 4129 يهودياً، لم يصل منهم إلى إسرائيل سوى 87، وتوجه الباقون إلى الولايات المتحدة (بحسب مصادر اللجنة الحكومية للهجرة في الاتحاد السوفياتي).(4)   وبحسب يتسحاق شمير، رئيس الحكومة الإسرائيلية، خرج من الاتحاد السوفياتي خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 1989، نحو 21 ألف يهود، وصل منهم إلى إسرائيل 2000 فقط.(5)

 

خروج اليهود من الاتحاد السوفياتي

الهجرة والتساقط 1968 1988 

السنة

عدد المغادرين

المهاجرون إلى إسرائيل

عدد المتساقطين

1968

231

230

 

1969

3033

3032

-

1970

999

999

-

1971

12,897

12,839

58

1972

31,903

31,652

251

1973

34,733

33,277

1456

1974

20,767

16,888

3879

1975

13,363

8425

4928

1976

14,254

7250

7004

1977

16,833

8350

8483

1978

28,956

12,090

16,866

1979

51,331

17,278

24,053

1980

21,648

7570

14,078

1981

9448

1762

7686

1982

2692

731

1961

1983

1314

861

453

1984

896

340

556

1985

1140

348

792

1986

904

201

703

1987

8155

2072

6083

1988

18,961

2173

16,788

المجموع

294,458

168,380

126,078

 

أعد هذه المعلومات المجلس العام من أجل يهود الاتحاد السوفياتي.

المصدر: آفي بيكر، "الغلاسنوست والبيريسترويكا واليهود"، "غيشر"، العدد 119، ربيع 1989، ص 19.

 

وأعلن أوري غوردون، رئيس دائرة الهجرة في الوكالة اليهودية، أن النصف الأول من سنة 1989 شهد زيادة في عدد المهاجرين الإجمالي 39% قياساً بعددهم في الفترة المقابلة من السنة السابقة. فبلغ عدد هؤلاء المهاجرين 8275 شخصاً. وقد نجمت الزيادة الأساسية في عدد المهاجرين عن ازدياد الهجرة من الاتحاد السوفياتي بنسبة 177%؛ فبلغ عددهم 2812 نسمة، وهؤلاء يشكلون 10% فقط من مجموع عدد اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفياتي خلال تلك الفترة.(6)

وابتداء من النصف الثاني من سنة 1989، أخذ بعض المصادر الإسرائيلية ومصادر الوكالة اليهودية يتحدث عن زيادة مطردة في عدد المهاجرين إلى إسرائيل. ففي تموز/يوليو، غادر الاتحاد السوفياتي 4537 يهودياً، هاجر منهم إلى إسرئايل 648 أي 14,3%، بزيادة 3% عن حزيران/ يونيو. وهذا، علاوة على 100 يهودي سوفياتي كانوا يقيمون في المعسكرات الموقتة في فيينا أو إيطاليا اختاروا الهجرة إلى إسرائيل.(7)   علماً بأن غوردون أعلن أن عدد الذين غادروا الاتحاد السوفياتي خلال تموز/يوليو هو 3901، وصل منهم إلى إسرائيل 501 فقط. وهكذا بلغت نسبة "التساقط" 87%.(8)  في حين ذكرت مصادر وزارة استيعاب المهاجرين أن مجموع المهاجرين الذين وصلوا إلى إسرائيل من مختلف الدول خلال تموز/ يوليو بلغ 1780، بزيادة 41% عن عددهم في تموز/يوليو 1988، غير أن نسبة "تساقط" اليهود السوفياتي في فيينا بلغت 98%.(9)  وقال الوزير بيرتس عن هذه النتيجة أن وتيرة الهجرة إلى إسرائيل، منذ بداية هذه السنة، مشجعة جداً وأن هذه الإحصاءات تتوافق مع التقديرات السابقة التي قامت وزارته بها. ومع ذلك، أعرب عن قلقه إزاء ازدياد عدد المتساقطين.(10)  

وبعد إضافة عدد المهاجرين خلال تموز/يوليو، يكون مجمل اليهود السوفيات الذين غادروا الاتحاد السوفياتي، خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 1989، هو 26,688 شخصاً، بحسب مصادر المؤتمر الوطني لليهود السوفيات في نيويورك.(11)   وخلال آب/ أغسكس، حصل 9500 يهودي سوفياتي على تأشيرة خروج للهجرة إلى إسرائيل، لكن وصل منهم خلال أيلول/ سبتمبر، 850 فقط (10% من عدد الذين حصلوا على تأشيرات خروج خلال الأشهر السابقة).أفادت معلومات الوكالة اليهودية بأن مجمل عدد اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفياتي خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 1989، بلغ 28,526، وصل منهم إلى إسرائيل 3529 فقط، وهم يشكلون نحو 11,5%. أما الباقي، نحو 89%، فهم "متساقطون يرغبون في الهجرة إلى دول أخرى، وفي الأساس إلى الولايات المتحدة.(13) 

ومرة أخرى، وبموجب مصادر أوري غوردون، فإن 9194 يهودياً غادروا الاتحاد السوفياتي في تشرين الأول/أكتوبر، هاجر منهم إلى إسرائيل 1464، أي بنسبة 16% والباقي "تساقطوا" في فيينا. وبلغ مجموع اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفياتي منذ بداية سنة 1989، نحو 51,080، هاجر منهم إلى إسرائيل 7275. وأعرب غوردون عن "ارتياحه إلى زيادة عدد المهاجرين" وازدياد طلبات الهجرة.(14)

وفي تشرين الثاني/نوفمبر وحده غادر الاتحاد السوفياتي 11,168 يهودياً، هاجر منهم إلى إسرائيل 1850 فقط. أما الباقون، فقد غيروا وجهتهم في فيينا. وهكذا يكون عدد الذين غادروا الاتحاد السوفياتي خلال الأشهر الأحد عشر من سنة 1989 نحو 62 ألفاً؛ "وهذا أكبر عدد من اليهود الذين يغادرون الاتحاد السوفياتي منذ أن فتحت أبواب الهجرة أوائل السبعينات." بيد أن 9000 من اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفياتي هذه السنة (كانون الثاني/يناير – تشرين الثاني/نوفمبر)، هاجروا إلى إسرائيل.(15)

 توقعات سنة 1990: 120 ألفاً

في مطلع سنة 1990، تصاعدت موجة التوقعات "المتفائلة" بالنسبة إلى هذه السنة، إذ كاد يكون هناك شبه إجماع على أنه في حال استمرار وصول 400 – 500 مهاجر سوفياتي في اليوم، كما حدث خلال آخر أسبوعين من السنة الماضية، وخلال الأسبوع الأول من السنة الحالية، فمن المتوقع وصول 120 ألف مهاجر من الاتحاد السوفياتي، أي ثلاثة أضعاف التوقعات السابقة خلال الصيف الماضي.(16) وقد توقع سيمحا دينتس، رئيس الوكالة اليهودية، وصول 100 ألف مهاجر سوفياتي خلال سنة 1990، في مقابل توقعات سابقة أشارت إلى هذا الرقم خلال ثلاثة سنوات.(17)   كما توقع أوري غوردون أن يصل إلى إسرائيل خلال سنتي 1990 و1991 نحو 250 ألف مهاجر. في حين قدر بنيامين ناتنياهو هذا العدد بنصف مليون مهاجر.(18)   غير أن ميخائيل كلاينر، رئيس لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست، توقع وصول ربع مليون مهاجر سوفياتي في السنة المقبلة وحدها.(19)   و"يعتقد سيمحا دينتس أن عدد اليهود في الاتحاد السوفياتي يزيد على مليونين ونصف المليون، وهو يتوقع أن توافق السلطات السوفياتي على مغادرة مليون يهودي حتى تموز/يوليو المقبل."(20) 

إن جميع هذه التوقعات تبقى في إطار تكهنات تعتمد على مسارات حالية، من دون مراعاة أية تطورات طارئة أو مستجدة، ناهيك بأن أحداً لا يستطيع أن يعرف كم من المهاجرين الجدد سيبقى في إسرائيل وكم سيرحل عنها. أو هل سيتخذ المهاجرون السوفيات إسرائيل محطة لهم ثم ينطلقون منها إلى عالم آخر في أحوال مؤاتية.

ينفي ناتان شيرانيسكي، وهو أحد المهاجرين السوفيات الذين نشطوا داخل الاتحاد السوفياتي في التحريض على هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل وأمضى بضعة أعوام في السجن، أن في نية المهاجرين السوفياتي استخدام إسرائيل محطة عبور إلى الولايات المتحدة؛ إذ يرى أن "التجربة تدل على أن أكثر من 93% من مهاجري روسيا، الذين وصلوا إلى إسرائيل خلال السنوات العشرين الأخيرة ووجدوا مساكن وأشغالاً بقوا في البلد.... لكن إذا اكتشف المهاجرون الحاليون أن ثمة كارثة هنا في استيعابهم فسينشأ ضغط هائل على حكومة الولايات المتحدة لفتح أبوابها، وستكون هذه كارثة. وقد نتمكن، إذا عرفنا كيف نخلق هنا دينامية استيعاب سليمة، من جعل معظم المهاجرين القادمين الآن من الاتحاد السوفياتي يبقى معنا هنا في البلد."(21) 

محطة جديدة في مسيرة

إسرائيل الكبرى

 تعتبر الهجرة الجماعية من الاتحاد السوفياتي التي تشهدها إسرائيل الآن، في نظر المسؤولين والمنظّرين الصهيونيين، محطة مهمة في تطور الكيان الصهيوني في فلسطين. فهذه الهجرة ليست حدثاً فريداً في تاريخ قيام إسرائيل؛ إذ أنها شهدت هجرة جماعية واسعة النطاق بعيد قيامها، في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات. بيد أن تلك الهجرة ساهمت في تعزيز البنية البشرية للكيان الوليد، الفتيّ والصغير، لينطلق منها إلى الأكبر فالأوسع. وتأتي الهجرة الجماعية من الاتحاد السوفياتي بعد أربعة عقود لتعزيز البنية البشرية لإسرائيل الموسعة والكبرى، أو التي يأملون بأن تزداد اتساعاً ورقعة وحجماً، كما عبرت عن ذلك افتتاحية صحافية بقولها إن "أمام إسرائيل فرصة تاريخية من أجل توسيع شاسع لبنية المجتمع الإسرائيلي البشرية، من الناحيتين الكمية والكيفية...."(22)

لكن يتسحاق شمير، رئيس حكومة إسرائيل، كان أكثر وضوحاً في التعبير عن الآمال التي يعلقها قادة إسرائيل والصهيونية على هذه الهجرة، لجهة انتعاش الآمال الصهيونية بازدياد توسع الكيان أو تعزيز رقعته الحالية. إذ قال إنه "من أجل هجرة كبرى، هناك ضرورة لإسرائيل كبرى."(23)   وتحدث شمير أيضاً عن مغزى من الاتحاد السوفياتي بقوله إن "العقد الأخير من القرن العشرين سيتحول  في تاريخ شعبنا إلى هجرة جماعية إلى إسرائيل، وقد بدأت براعمها تظهر الآن. إنها ستغير وجه الدولة وطابع الشعب اليهودي بأسره، وستشكل مساهمة جدية لرؤيا عودة صهيون."(24)    ثم عاد شمير فكرر قوله: "إننا بحاجة إلى شعب إسرائيل كبير، ودولة كبيرة وقوية...."(25)

 الهجرة السوفياتية

واستنهاض يهود العالم

يبدو أول وهلة أن الهجرة اليهودية الجماعية من الاتحاد السوفياتي نزلت هبة من السماء على إسرائيل والحركة الصهيونية، لجهة استنهاض يهود العالم في أعقاب الفتور الذي ساد بينهم وبين إسرائيل خلال العقد الماضي. وكانت إسرائيل والحركة الصهيونية قد نجحتا، قبيل حرب 1967، في استنهاض اليهودية العالمية التي لبت النداء بعد أن كانت تدير ظهرها لإسرائيل. ومنذ ذلك الحين فشلت إسرائيل في إثارة يهود العالم بالمستوى نفسه. غير أنها تأمل الآن بانتهاز فرصة السماح لليهود السوفيات بالمغادرة من أجل حث يهود العالم على تذكر إسرائيل بالمال والدعم السياسي والمعنوي على نطاق واسع. إذ يبدو جلياً أن إسرائيل، بأزمتها ذات الشقين السياسي والاقتصادي، غير قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من اليهود السوفياتي من دون مساعدة يهود العالم.(26) 

وقد وجه يتسحاق شمير نداء إلى يعود العالم بقوله: "إننا سنجنّد الشعب اليهودي بأسره، غير المجند بعد، لأنه غير مدرك لحجم المشكلة...."(27)   وقال شمير:

إذا كان الشعب في إسرائيل يقدم أقصى طاقته للاستيعاب، فلنا القوة الأدبية كي نطلب من الجمهور في أميركا وأوروبا ومن الشعب اليهودي أن يبذلوا المزيد. إنني واثق بأننها إذا جئنا بقوة الإقناع هذه، وبقوة الإيمان هذه، فسوف يستجيبون لنا، وسوف تتوفر لنا الإمكانات، وسنجد الطرائق لتنظيم وتكتيل شعب كبير وقوي في وقت قريب جداً. إننا بحاجة إلى شعب إسرائيل كبير ودولة كبيرة وقوية. جئنا كي نعيش هنا بسلام وأمن. والأمر الأهم الذي  يجب أن يتكتل حوله اليوم شعب إسرائيل كله، بشرائحه وأحزابه وأوساطه، هو موضوع الهجرة والاستيعاب. وأمامنا فرص لتجديد قوى الشعب اليهودي... إذا فعلنا ذلك سننجح، وسنحقق هدفنا الأهم...(28)

  تكلفة استيعاب

يهود الاتحاد السوفياتي

بحسب تقديرات وزارة المال الإسرائيلية أنه إذا وصل في هذه السنة أكثر من 100 ألف مهاجر، فستكون هناك ضرورة لجمع ملياري شيكل (مليار دولار تقريباً) لاستيعابهم – بناء مساكن ومدارس وبنية تحتية، وتوفير أماكن عمل، واستبدال مهنهم – في مقابل مليار شيكل خصص لاستيعاب 40 ألفاً هذه السنة وفق التقديرات السابقة.(29)

وبحسب أوري غوردون، رئيس دائرة الهجرة في الوكالة اليهودية، أنه إذا وصل إلى إسرائيل خلال العامين المقبلين 250 ألف مهاجر، فسيلزم لاستيعابهم 4 مليارات دولار. "وهذا الإنفاق العام الهائل سيؤثر أيضاً في مجال النمو."(30)   ويقول وزير الاستيعاب، يتسحاق بيرتس، إن "دولة إسرائيل ستحتاج، خلال السنوات الثلاث المقبلة، إلى مبالغ طائلة يصعب تقديرها بدقة. لكن من الواضح أن المقصود هو 10 مليارات دولار لاستيعاب مئات الآلاف من المهاجرين الذي سيصلون من الاتحاد السوفياتي ومن دول أخرى."(31)

ومصادر التمويل، سواء للإنفاق على الحروب التي تشنّها إسرائيل، أو لدفع جماهير المهاجرين إلى فلسطين، لم تتغير منذ إقامة إسرائيل حتى الآن؛ إنها يهود العالم والولايات المتحدة:

1- "الجباية اليهودية الموحدة": وهي الآداة الرئيسية لجمع الأموال. إذ تسعى الوكالة اليهودية لحمل "الجباية الموحدة" على مضاعفة جمع الأموال مثنة وثلاثاً لتدفع إلى صندوق الوكالة 50 سنتاً من كل دولار تجمعه بدلاً من 34 سنتاً حتى سنة 1985، على حد قول مئير شطريت أمين صندوق الوكالة.(32) 

اتخذت "الجباية الموحدة" قراراً بالقيام بجباية خاصة لاستيعاب يهود الاتحاد السوفياتي يطلق عليها "حملة إكسودوس 2". وصرح غوردون أنه في ضوء "الواقع الجديد" الذي نشأ بعد هجرة عشرات الآلاف من المهاجرين من الاتحاد السوفياتي، ستطلب "الجباية" من الوكالة أن يكون هدف "إكسودوس 2" جمع 750 مليون دولار خلال خمس سنوات، أو 500 مليون دولار خلال ثلاث سنوات. كما أن الوكالة اليهودية تطلب من "الجباية" أن تجمع 250 مليون دولار من سائر دول العالم بدلاً من 150 مليون دولار كما كان متفقاً عليه في السابق. وتطالب الوكالة بأن يكون توزيع الأموال 50% لإسرائيلن و 50% لأغراض أخرى في الخارج.(33) 

أخيراً، توصلت الوكالة اليهودية و "الجباية الموحدة" إلى اتفاق يقضي بأن يتكفل يهود العالم بالتبرع بـ 200 مليون دولار سنوياً خلال السنوات الثلاث المقبلة، وذلك علاوة على الجباية العادية. وقال سيمحا دينتس أن يهود الولايات المتحدة سيتبرعون بـ 140 مليون دولار  في السنة خلال السنوات الثلاث المقبلة، أي ما مجموعه 420 دولار، ويهدو سائر دول العالم بـ 180 مليون دولار. وتابع دينتس أن "هذه جباية موحدة في تاريخ الجبايات من أجل إسرائيل، وهي ناجمة عن انقلاب في التفكير اليهودي الأميركي تجاه هذا الموضوع.... إنها تضع إسرائيل مرة أخرى في مركز النشاط اليهودي الأميركي."(34)

وقد تعهدت "الجباية الموحدة" في كندا بجمع 60 مليون دولار على الأقل في إطار "جباية طوارىء" لاستيعاب موجة الهجرة من الاتحاد السوفياتي. وصرح رئيس  الجباية في كندا أنه تم جمع مبالع تفوق 50% من التبرعات العادية في إطار "جباية الطوارىء".(35) 

وكان موشيه هلّيل رئيس الصندوق التأسيسي قد أعلن حملة تبرعات تحت شعار "استوعبت مهاجراً في إسرائيل 1990".(36)    وقد جمع الصندوق التأسيسي خلال شهرين من حملة الطوارىء 18 مليون دولار.(37) 

2- المساعدات الخاص من حكومة الولايات المتحدة، وتبلغ 400 مليون دولار، علاوة على المساعدات السنوية العادية التي تبلغ 3 مليارات دولار.

3- مصادر تمويل "محلية" تعتمد، في الدرجة الأولى، على اقتطاعات من بنود الميزانية العامة في إسرائيل، كما يقترح أبراهام شوحيط، رئيس لجنة المال في الكنيست،(38)   أو على اقتطاع من "ميزانية الأمن" مبلغ 600 مليون دولار، كما يوصي  يوسي بايلين نائب وزير المال.(39)

ويذهب البعض إلى اقتراح فرض قرض إجباري داخلي، والحصول على قروض خارجية بشروط مريحة، وبيع شركات حكومية، وزيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وخفض مستوى المعيشة.

والخلاصة: أن إسرائيل لن تجد صعوبة في إيجاد مصادر تمويل استيعاب اليهود السوفياتي المهاجرين. ويبقى السؤال قائماً: هل ستتمكن إسرائيل من توفير إمكانات الاستيعاب الأخرى لهذه الأعداد الكبيرة، وهل هي متأهبة لذلك؟

 إمكانات الاستيعاب الفشل محظور

من اللافت أن الهجرة الجماعية السوفياتية دهمت إسرائيل في ذروة انشغالها بقمع الانتفاضة في المناطق المحتلة، وما نجم عنها من ازمة اقتصادية عطّلت الكثير من المشاريع الإنشائية والإنتاجية. إلا أن بعض الأوساط، الرسمية وغير الرسمية، حريص على نفي وجود صعوبات جدية أمام الاستيعاب. وثمة من يؤكد أن "الوكالة اليهودية ووزارة الاستيعاب مستعدتان لاستيعاب كل يهودي يريد المجيء إلى إسرائيل."(40)    وقد أعلن يوسي بايلين، نائب وزير المال، أنه "لا يجوز خلق انطباع بأنه سيكون هناك مهاجر واحد لن يتمكن من القدوم إلى البلد بسبب النقص في المساكن أو في الأشغال."(41)   وشمعون بيرس، وزير المال، نفسه غير قلق إزاء مسألة الاستيعاب حتتى أنه ذهب إلى حدّ القول: "حتى لو أحجم يهود العالم عن المساعدة في استيعابهم، فإننا سنفعل ذلك وحدنا"، لأن "هذه الهجرة مهمة وغالية." وأعاد بيرس إلى الأذهان أن إسرائيل استوعبت في سنة 1948 وسنة 1951 أكثر من 650,000 نسمة "ما يزيد على عددنا آنذاك."(42)   ويأتي الجواب من أوري غوردون أن استيعاب المهاجرين خلال الخمسينات كان بمثابة "هدف قومي"، و"عمل مهم وحيوي، سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية الكيانية." أما الآن، فإن "الشعب في إسرائيل غير مستعد للتضحية في سبيل أي هدف قومي"، إذ أن "كل واحد يعمل لنفسه."(43)

ويحذر جادي ياتسيف من التيمّن بهجرة الخمسينات بسبب الفوارق بين الأوضاع التي كانت سائدة آنذاك والأوضاع الحالية: "في ذلك الحين، كانت الأوضاع مغايرة، والمهاجرون مختلفين. وكانت النسبة بين مستوى المعيشة المنخفض للفرد نسبياً وبين حجم مبالغ المساعدات الخارجية مختلفة تماماً. وكانت مكانة إسرائيل في نظر يهود العالم مختلفة تماماً أيضاً. وعلاوة على ذلك، فإن البدائل التي كانت لدى المهاجرين الجدد آنذاك مغايرة كلياً للبدائل لدى المهاجرين الجدد حالياً."(44) 

إضافة إلى ذلك، يحذر البعض من أن إسرائيل غير مستعدة لاستيعاب المهاجرين اليهود السوفيات، وذلك بسبب "عدم وجود تخطيط شامل لهذه المهمة حتى الآن... لسنا مستعدين، لا في مجال السكن ولا في الأشغال."(45)   ناهيك بأن توقيت الهجرة الجماعية لم يكن ملائماً كما يقول أمنون روبنشتاين: "أن هذه الهجرة جاءتنا في وقت عسير: مزيج من الجمود السياسي والانكماش الاقتصادي ليس أرضاً خصبة لهجرة جماعية. يصل إلينا آلاف المهاجرين – وسوف يصل عشرات الآلاف – في فترة بطالة وارتفاع كبير في أسعار الأراضي والمساكن."(46)    ومن هنا، توجه أصابع الاتهام إلى الحكومة إذ يتهمها أعضاء كنيست من المعراخ والليكود معاً بـ"تقصير صارخ" على صعيد استيعاب المهاجرين. وقد حذر أحدهم من أنه "إذا لم تبدأ الحكومة بالنظر في الموضوع بالجدية التي يستحقها، فإن هذا سيكون نهاية الصهيونية."(47)   وحذر غوردون من فشل الاستيعاب وعواقبه الوخيمة، فقال: "إذا لم ننجح في اختبار الهجرة الحالي، فسيتضرر جوهر الدولة كلها. وسيحول الفشل إسرائيل إلى توأم ضخم وقبيح لمعسكر الانتقال في لاديسبولي في إيطاليا."(48)

ومن الدلائل التي لا تبشّر باستيعاب ناجح لليهود السوفيات، ما كشفت عنه دراسة أعدتها دائرة الإنعاش والعمل في الهستدروت، من أن 50% من المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفياتي حصلوا في إسرائيل على أعمال أدنى مستوى من الأعمال التي كانوا يقومون بها في الاتحاد السوفياتي. وتذكر الدراسة أن مهندسين كثيرين من مهاجري الاتحاد السوفياتي اليهود يعملون فنيين، وعلماء يستخدمون موظفي مختبرات.(49)

 الاستعدادات لاستقبال

موجات الهجرة الجديدة

على الرغم من الارتباك الذي يسود الجهاد المسؤولة عن الاستيعاب والوزارات الاقتصادية، وما تخلل نشاطاتها من ارتجال، فقد اتخذت بضع خطوات في اتجاه الاستيعاب:

(أ) إقامة "هيئة عليا" في ديوان رئيس مجلس الوزراء للتنسيق بين وزارات الحكومة المختلفة بشأن موضوعات الهجرة والاستيعاب. وقد وافق شمعون بيرس على إقامة مثل هذه الهيئة، واعترض عليها وزير الاستيعاب كونها تشكل تجاوزاً لصلاحيته وازدواجيته في الإدارة.

(ب) وضع خطة لبناء 60,000 وحدة سكنية، لاستيعاب موقت لمهاجرين جدد من الاتحاد السوفياتي. وبحسب خطط الوكالة اليهودية ووزارة الاستيعاب تم تحديد أماكن استيعاب في بعض الفنادق وبيوت الضيافة وبيوت الشبيبة ومراكز الاستيعاب في الكيبوتسان. وتدير الوكالة اليهودية حالياً 38 مركز استيعاب، تتسع لـ 9000 مهاجر. كما تستعين بعاملين اجتماعيين للمساعدة في دمج المهاجرين في المجتمع. وسيتم توسيع نشاك الوكالة في مجالات الاستيعاب الاجتماعية، مثل تعليم اللغة العبرية والتعليم التكميلي.

(ج) الاستعانة بالجيش الإسرائيلي، لوضع بعض معسكراته في تصرف المهاجرين، ولو بصورة موقتة. علماً بأن بعض الأوساط العسكرية صرح أن هذا الإمكان غير عملي ولا يشكل حلاً جدياً لاستيعاب مهاجرين في التسعينات. غير أن دان شومرون، رئيس هيئة الأركان، صرح أن الجيش الإسرائيلي يعتبر استيعاب المهاجرين الذين يصلون هذه الأيام إلى إسرائيل "مهمة قومية من الدرجة الأولى." وأشار إلى أن الجيش سينخرط في عملية الاستيعاب الاجتماعي للمهاجرين، والمساعدة في تعليم اللغة العبرية. ويدرس الجيش الآن انعكاسات الهجرة الجماعية عليه."(50)  

(د) لجوء بعض المؤسسات العلمية إلى اتخاذ بعض الخطوات لاستيعاب الكفاءات العلمية. فقد رصدت الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم، مثلاً، 6,3 ملايين دولار لاستيعاب علماء كبار من الاتخاد السوفياتي في الجامعات الإسرائيلية. وصرح الأستاذ يهوشواع يوتنر، رئيس الأكاديميو، أنه سيتم في المرحلة الأولى – بحسب خطة الأكاديمية – استيعاب 15 عالماً رئيسياً في المجالات العلمية المختلفة. وقال أنه سيكون لاستيعابهم أهمية كبيرة بالنسبة إلى نظام التعليم والأبحاث، ولا سيما في وقت يتطلب توسيع البنية التحتية لاستيعاب علماء شبان. وسوف يحصل العلماء الذين سيتم اختيارهم على هبات للأبحاث وقروض للسكن لمدة خمسة أعوام.(51)  

ووضعت جامعة "بن – غوريون" في النقب خطة لاستيعاب 1000 طالب وأكاديمي مهاجر من الاتحاد السوفياتي. وقد وضعت الخطة على أساس أن 3,6% من المهاجرين هم طلبة.(52)   وقد صرح رئيس الجامعة، الأستاذ حاييم إيلات، أنه تم وضع برنامج لتأهيل أكاديميين مهاجرين للتكيف إزاء أوضاع الحياة في إسرائيل، وخصوصاً في النقب، من أجل تطوير المنطقة بواسطة استيعاب المهاجرين. وسوف يتم تأهيل المهندسين للتدريس في الجامعات في موضوعي العلوم والتكنولوجيا. وأُعدّ أيضاً برنامج خاص أُطلق عليه "مستنبت لمبادرات صناعية"، يستطيع العلماء عبره تطوير براءات اختراع وعرضها على الصناعة الإسرائيلية للإنتاج والتصنيع. وسوف تقدم تسهيلات إلى مثل هؤلاء العلماء.(53)

كما يساهم معهد "أورت" التقني، التابع للمنظمة الصهيونية، في  إعداد دورات ملائمة لأكاديميين ومهندسين. وصرح رئيس المعهد أن شبكة "أورت" ستزيد في عدد دوراتها ليصل إلى 100 دورة في العام المقبل. كما سيتم تأهيل 3000 مهاجر، علاوة على الـ 500 الذين تخرجوا من المعهد خلال العامين الماضيين.(54) 

 أين سيقطن المهاجرون؟

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في خضم الصخب الإسرائيي – الصهيوني والعربي والدولي، تجاه قضية هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، هو: أين سيقطنون، وأية مناطق سيشغلون؟ أين ستضع إسرائيل ربع المليون أو نصف المليون أو المليون يهودي الذين تأمل بأن يدقوا أبوابها ولن يخرجوا منها، بعد إغلاق الباب الأميركي أمامهم؟

توحي الدلائل كلها بأن المناطق "الطبيعية" المرشحة لإقامة المهاجرين السوفيات هي المناطق العربية المحتلة منذ سنة 1967. لكن، إذا افترضنا سلفاً أن سفينة المهاجرين السوفيات لم تسر وفق ما يشتهي قادة إسرائيل والصهيونية، وحالت أوضاع دولية وإقليمية ومحلية دون إسكانهم في المناطق المحتلة، فأين سيقيمون؟

طبعاً، يفضل اليهود السوفيات الإقامة في المدن الكبرى أو حولها، أي في المنطقة الوسطى التي تسمى "منطقة دان". إنهم يفضلون الاستقرار في تل أبيب والقدس ويافا وحيفا والخضيرة ورحوفوت إلخ، قريباً من مراكز العمل والتوظيف ومعاهد التعليم. لكن هذه المناطق هي الأكثر اكتظاظاً وكثافة في السكان، ولا تتسع لأعداد كبيرة، حتى لو استوعبت بضع نسب مئوية (مثلاً: أعرب رئيس بلدية نتانيا عن استعداد بلدته لاستيعاب 30 ألف مهاجر).(55)   وحتى لو استوعبت المدن الأخرى بضع نسب مئوية أخرى، فأين سيذهب الباقون؟ هل سيتوجّهون إلى النقب الصحراوي؟ وهل هذا سيوفر لهم ما حلموا به من رغد العيش واليسر في بلد "العسل واللبن" لا في أرض الرمال المتحركة في النقب؟ وهل وفر النقب هناء العيش لمن أقاموا فيه قبل ذلك؟ وهل حقق "الاستيطان اليهودي" في النقب أهدافه؟ وهل تحقق حلم بن – غوريون بتوطين النقب بالملايين؟

وإذا لم يكن في النقب وفي الوسط، يبقى الجليل!

يقول مئير شطريت المراكشي، أمين صندوق الوكالة اليهودية، إن من الخطأ توطين المهاجرين السوفيات بين "غديرة والخضيرة" – أي في وسط البلد – بسبب عدم توفر فرص العمل، بل يعتقد أنه "يجب توطين المهاجرين في مكانين: الأول في النقب، والثاني في الجليل"، حيث "الانتفاضة تزحف إلى الجليل أيضاً، لأنهم [العرب] في اللحظة التي يدركون أنهم أكثرية هناك، فلا سبب في ألا يكون هناك غليان شبيه. لكن هذا الأمر يمكن أن يتغير متى أصبح في الجليل أكثرية يهودية..."(56)

طبعاً، يعتبر الجليل أحد الأماكن المرشحة لإسكان اليهود السوفيات، وذلك انسجاماً مع سياسة "تهويد الجليل" التي تتطلب انتهاج سياسة "الترحيل" و "الاقتلاع" ضد العرب الذين يشكلون الآن أكثرية فيه. وهكذا، فإن إسكان اليهود السوفيات في الجليل يقتضي مصادرة المزيد من الأراضي العربية، واختلاق كل الأسباب لترحيل العرب. وهذا قد يفضي إلى المزيد من المصادمات بين عرب الجليل والسلطة، كما حدث في "يوم الأرض". وطبعاً، ستلجأ السلطة الإسرائيلية إلى استخدام وسائل القمع والبطش ضد العرب ما دامت الدلائل على "زحف الانتفاضة إلى الجليل" قائمة في الأفق. والمعلومات أن إسرائيل لا تستطيع إسكان هذا العدد الكبير من اليهود السوفيات إلا على حساب العرب وأراضيهم وممتلكاتهم، كما فعلت في السابق. فلو لم تصادر إسرائيل أراضي العرب، وترحّل الآلاف منهم، وتهدم المئات من القرى العربية وتقيم مستعمرات على أنقاضها، هل كان في إمكانها إسكان نحو مليون مهاجر في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات؟ فسياسة الهجرة، وما يقوله المسؤولون الإسرائيليون من أن إسرائيل قادرة على استيعاب يهود العالم كافة، إنما هي مرادفة لسياسة الترحيل والاقتلاع والنفي والإبعاد والتهجير. وتعني الهجرة اليهودية في القاموس الصهيوني تهجيراً عربياً. ولا بد من أن تأتي الهجرة مكان التهجير.

يعتبر رئيس بلدية حيفا، آرييه غورئيل، أن مدينته "غير قادرة على الاستمرار في استيعاب عائلات المهاجرين الكثيرة التي تصل إليها كل يوم، إذ أن احتياطي المنازل السكنية في المدينة آخذة في النفاد." غير أنه يلمّح إلى أن هناك مجالاً لإسكان يهود سوفيات في جزء واحد من حيفا – وربما في مرحلة أخرى ترحيل الأقلية العربية المتبقية في المدينة وإسكان يهود سوفيات. إذ أن غورئيل "ناشد إدارة أراضي إسرائيل تخصيص أراض لبناء منازل سكنية في منطقة وادي الصليب في حيفا."(57)

لماذا يوحي بعض الإسرائيليين بـ"زحف الانتفاضة إلى الجليل"؟ وما الهدف الذي ستحققه أية انتفاضة في الجليل؟ هل هذا الإيحاء قائم على وقائع على الأرض أو تحركات ملموسة، أم أنه مجرد تعبير عن أمنية صهيونية لافتعال "انتفاضة" في الجليل من أجل إيجاد مبررات الطرد والترحيل والقمع والتقتيل؟

وإذا لم يكن الاستيعاب في الوسط أو الجنوب أو الجليل، فأين؟ يبقى هناك الأراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967 طبعاً – في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان – وفي وقت لاحق في الجنوب اللبناني.

عندما تحدث يتسحاق شمير عن "هجرة كبرى" و"إسرائيل كبرى" كان يعني ما يقول – أي إسكان اليهود السوفيات في المناطق المحتلة؛ إذ قال أيضاً إن "لا علاقة بين اعتقاده أن أرض إسرائيل كلها ستكون في أيدي الشعب اليهودي، وبين السؤال عما إذا كان يريد توجيه المهاجرين للإقامة في المناطق [المحتلة] تحديداً"، مشدداً على أن "المهاجرين أحرار في الإقامة حيث يريدون."(58)   لكن، عندما تصاعد الاحتجاج الدولي على نية إسرائيل توطين المهاجرين السوفيات في الأراضي المحتلة، لم ينف شمير هذه النية بل حاول التخفيف من وطأتها، فقال: "هل أن استيطان عدد صغير من المهاجرين من الاتحاد السوفياتي عن طيبة خاطر في يهودا والسامرة وغزة يعتبر عقبة أمام السلام؟"(59)  نستخلص من هذا كله أن إسرائيل لا تستطيع إسكان أعداد كبيرة من اليهود السوفيات، إلا في المناطق المحتلة. ومن هنا، فإن تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين السوفيات إلى إسرائيل، إنما هو دافع ومبرر يجعلانها تزداد تمسكاً بالمناطق العربية المحتلة، وخصوصاً تمسك تلك الأوساط التي تسعى لجلب المزيد من يهود العالم إلى المناطق المحتلة كي تدحض حجة "العامل الديموغرافي". حتى أن شعار "مقايضة اليهود بالسلام" (بدلاً من "مقايضة الأرض بالسلام") هو شعار زائف وخادع ونقيض التوجه الصهيوني القائم على التوسع. إن إسرائيل، ولا سيما بحكامها الحاليين، لن توافق على إرجاع أراض عربية في مقابل السماح بهجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً أن الاتحاد السوفياتي فرّط في هذه الورقة قبل حصوله على أية ضمانات من إسرائيل، سواء لجهة إرجاع المناطق المحتلة أو لجهة التعهد بعدم إسكان اليهود السوفياتي في تلك المناطق. وإذا صحت التنبؤات بشأن أعداد المهاجرين المتوقع وصولهم خلال السنوات الثلاث المقبلة (مليون مهاجر)، فلن يبقى أمام إسرائيل من الآن وصاعداً إلا أن تستخدم مواصلة الاحتفاظ بالمناطق المحتلة حجة لإسكانهم. إذ ليس أمام إسرائيل – ما دامت مصرة على "استيعاب جميع يهود العالم" -  إلا المحافظة على احتلالاتها أو التخطيط لاحتلالات جديدة في المسقبل.

الخطوات الأولى

تحرك بعض المنظمات الاستيطانية، في المناطق المحتلة، في اتجاه إقناع اليهود السوفياتي بالإقامة في المستعمرات الإسرائيلية هناك. فمثلاً، ينظم أعضاء "المجلس الإقليمي" – غوش قطيف في قطاع غزة – جولات للمهاجرين من الاتحاد السوفياتي الذين وصلوا إلى إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة بهدف إقناعهم بالإقامة هناك. وصرح نسيم حداد، المسؤول عن الاستيعاب في غوش قطيف، أن أعضاء المجلس اتخذوا ترتيبا خاصة لاستيعاب مهاجرين من الاتحاد السوفياتي. وتجدر الإشارة إلى أنه يوجد 15 مستعمرة غوش قطيف.(60)   

والجدير بالذكر أن هذه التنظيمات تنفي أية علاقة بين تحركاتها وبين الدوائر الحكومية، تجنباً لأية ردات فعل دولية. أو أن الصحافة الإسرائيلية تنشر أنباء متواضعة عن توجه اليهود السوفيات للإقامة في الأراضي المحتلة. وثمة نموذج على مثل هذه الأخبار، خبر يفيد بأن المفروض بمهاجرين جدد وصلوا مؤخراً من الاتحاد السوفياتي الإقامة في كيبوتس ميتسار (التابع للحركة الكيبوتسية الموحدة) في جنوب مرتفعات الجولان، وتعزيز الكيبوتس الذي يعاني أزمة اجتماعية صعبة. والمقصود 25 عائلة ومجموعة صغيرة من الشبان العازبين الذين يمكثون الآن في مراكز الاستيعاب وفي مستعمرات أخرى، وينتظرون الموافقة على الذهاب إلى ميتسار.(61)  

وماذا بشأن الضفة الغربية؟ أفادت المعلومات بأن غوش إيمونيم، التي تتلقى الدعم من أوساط نافذة في السلطة، بذلت خلال الشهور الأخيرة مزيداً من الجهود لإحضار مهاجرين إلى الضفة؛ إذ شكلت في مستعمرات عديدة فرقاً خاصة لاستيعاب المهاجرين. ويقام في كدوميم "مركز استيعاب". وفي أريئيل وحدها تم مؤخراً إسكان 80 عائلة مهاجرة من الاتحاد السوفياتي. وقد اجتمع عضو الكنيست حانان بن بورات وأحد قادة "غوش إيمونيم" إلى يتسحاق شمير للتحدث معه في "موضوع الهجرة". وقال بن بورات إن شمير وعده بأنه "لن يسمح بوقوع أي غبن في يهودا والسامرة بالنسبة إلى توزيع المهاجرين." وقال بن بورات إن المستعمرات في الضفة مستعدة الآن لإسكان مهاجرين في 1000 وحدة سكنية.(62)  

إن الاستعدادات التي تقوم بها "غوش إيمونيم" وما يمسى "مجلس يهودا والسامرة وغزة" من أجل "انخراطهما في عملية الاستيعاب"، تجري على مراحل: أنشىء في كل مجلس محلي في المستعمرات القائمة في المناطق المحتلة لجنة استيعا متطوعة. وتتألف اللجنة من مهاجرين سوفيات قدامى. ويهدف نشاط هذه اللجان إلى "توعية جمهورنا"، حصر مواقع المهاجرين والمساعدة في تسفيرهم، وجمع الأعتدة، والتغلب على العقبات الأخرى التي تظهر في البداية.(63) 

أما على الصعيد الرسمي، فقد أعلن دافيد ليفي نائب رئيس الحكومة ووزير البناء والإسكان، في الكنيست أن وزارته تستعد لإنجاز أعمال بناء سواء من قبل الحكومة أو من قبل القطاع الخاص، بمقدار يلبيي حاجات الهجرة المتوقعة. وقال ليفي إن وزارته ستشيد 3000 شقة في القدس، و 3000 شقة أخرة في "يهودا والسامرة".(64)   وكان ليفي قد صرح أنه "سيساعد مهاجري الاتحاد السوفياتي على الإقامة في مناطق أرض إسرائيل، بما فيها المستعمرات المدينية في يهودا والسامرة."(65)

عوامل مضادة

سبق أن ذكرنا أن "المكان الطبيعي" لإسكان هؤلاء المهاجرين، في نظر المؤسسة الإسرائيلية – الصهيونية، هو المناطق المحتلة. إلا أن البعض يذهب إلى الإشارة إلى استحالة إسكان أعداد كبيرة من المهاجرين في "مناطق مكدسة بجماهير فلسطينية وبقليل من اليهود."(66)   وذلك للأسباب التالية:

أولاً: إن المناطق المحتلة تكتظ بسكانها الفلسطينيين المتمسكين بأراضيهم، والمتشبثين بحقوقهم، والمصممين على التخلص من الاحتلال، والعازمين على عدم التفريط في شبر واحد من أرضهم.

ثانياً: أن تجربة إقامة المستعمرات الإسرائيلية في المناطق المحتلة لم تكن تجربة ناجحة وفق المعايير الصهيونية. وعلى الرغم من جميع الإغراءات التي حاولت مؤسسات الاستيطان تقديمها إلى المهاجرين، فإن هؤلاء لم يتحمسوا للذهاب إليها. وقد لا يشجع عدم نجاح هذه التجربة يهود الكتلة الشرقية على التوجه إلى المناطق المحتلة. وسوف يبقى هذا الإخفاق ماثلاً أمامهم. وقد عبر أحد المعلقين عن ذلك بقوله إن "حركات الاستيطان هي أحد أكثر الإخفاقات فداحة في عهد الدولة"، علماً بأن "حركات الاستيطان القديمة لم تنجح بسبب قيمتها النوعية، بل لأنها خدمت أهدافاً قومية بصورة ناجحة، فأقامت زراعة عصرية، ونظام إنتاج صناعي رائعاً، ونظاماً اجتماعياً تربوياً وتشغيلياً، وكانت تشكل خلال فترة ما قبل الدولة عنصراً سياسياً عظيم الأهمية في تعيين حدود البلد."(67)

وما يدل على عدم نجاح حركة الاستيطان في المناطق المحتلة، عدم إقبال المهاجرين بجماهيرهم على الإقامة هناك ما دام مصير تلك المناطق لم يحسم بعد.

ويتضح من مسح قام به جدعون ألون، مراسل صحيفة "هآرتس"، أن 2% فقط من مجموع المهاجرين الذين وصلوا إلى إسرائيل خلال السنوات الخمس الأخيرة، يقطنون الضفة وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. ويتضح من عملية المسح هذه أنه هاجر إلى إسرائيل بين سنة 1984 وسنة 1988 نحو 92,000 مهاجر، بينهم نحو 2000 فقط سكنوا "وراء الخط الأخضر".(68)   ويتبين من المعطيات التي تعتمد على إحصاءات رسمية أعدتها وزارة الاستيعاب، أن المهاجرين الذي قرروا الإقامة في المناطق المحتلة شغلوا، في معظمهم، المستعمرات في الضفة الغربية وفي المناطق المجاورة للقدس. كما أن أقل من 100 نسمة انضموا خلال تلك الفترة إلى مرتفعات الجولان.(69)   ومن هنا الاستنتاج الذي يتمثل في السؤال أنه إذا كان السابقون قد أحجموا عن التوجه إلى المناطق المحتلة، فلماذا سيذهب اللاحقون؟

ثالثاً: إن الدوافع الأساسية إلى توجه هذا العدد الكبير من اليهود السوفيات إلى إسرائيل ليست ناجمة عن اعتبارات "أيديولوجية" تجعلهم يتحملون شظف العيش وخطر الصدام مع سكان المناطق المحتلة العرب في ذروة انتفاضتهم. فهلاء اليهود لا يشعرون بأنهم يخدمون "هدفاً قومياً". أو بحسب كلام أوري غوردون أن "الأيديولوجيا" اختفت من إسرائيل. وتابع يقول:

ليست هناك أهداف قومية تنجح في جرف الشعب. حتى أن الحروب والأخطار الأمنية التي كانت توحّد الشعب في الماضي، لم تعد تؤثر في هذا الاتجاه. بل على العكس تماماً، هل يستطيع أحد أن يشير حالياً إلى هدف قومي واحد يكون الشعب مستعداً للتجند من أجله؟ هل هناك هدف واحد سيكون المواطن مستعداً للتضحية من أجله بمتطلباته الشخصية؟ إن كلاً منّا يعيش اليوم من أجل نفسه، وكل مجموعة من الأفراد تعيش من أجل أيديولوجيتها الجماعية – غوش إيمونيم مثلاً، أو "السلام الآن"، أو مجموعات دينية – متزمتة. لكن أيديولوجيتها قومية غير قائمة.(70)

إن الدافع الرئيسي إلى هجرة اليهود السوفياتي إلى إسرائيل هو اقتصادي بالدرجة الأولى، في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت الاتحاد السوفياتي مؤخراً، وفي إثر العورات التي ظهرت في النظام القائم هناك. ولو لم تغلق الولايات المتحدة أبوابها أمامهم بضغط إسرائيلي – صهيوني لما توجهوا إلى إسرائيل، بل أن أكثر من مائة ألف منهم كانوا سيختارون في كل سنة الذهاب إلى الولايات المتحدة.(71)   كما أن التجربة السابقة واللاحقة قد أثبتتا أن نسبة ضئيلة جداً من اليهود السوفيات كانت تذهب إلى إسرائيل في السنوات الأخيرة. وكانت الأكثرية الساحقة منهم، والتي بلغت أحياناً 80% - 90%ـ، تذهب للاستقرار في أميركا الشمالية. إن هجرتهم إلى إسرائيل ليست "هجرة ناجمة عن محنة، وليست هجرة أيديولوجية. إنها هجرة بسيطة من بلد أوروبي شرقي إلى بلد غربي، إذ أن إسرائيل تشكل حلاً وسطاً بين تطلعات معظم المهاجرين نحو الوصول إلى الولايات المتحدة وبين إمكان الهجرة إلى هناك."(72)

رابعاً: على الرغم من أن إسرائيل تمكنت، خلال أكثر من 20 عاماً من الاحتلال، من بناء بنية تحتية في المناطق المحتلة تأهباً لاستقبال عدد كبير من  المهاجرين إليها – وخصوصاً اليهود السوفيات – فإن الإمكانات الأخرى، مثل السكن وفرص العمل والمشاريع الإنشائية وغيرها، لا تزال ضئيلة نسبياً. وفي ضوء استمرار الانتفاضة وانشغال السلطة الإسرائيلية بإخمادها، ولأسباب سياسية واقتصادية واضحة، فإن هذه السلطة لا تملك الوقت الكافي لإعداد مستلزمات إسكان أعداد كبيرة من المهاجرين في المناطق المحتلة؛ "إن المستوطنين يدركون إدراكاً جيداً... أنهم غير قادرين مادياً على استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين الآن. إذ أن احتياطي المساكن في المناطق لا يكاد يكفي الآن لنحو 100 عائلة، بما في ذلك المباني الموقتة و"الكارافانات". حتى أن الاستعدادات السريعة الخاصة بشراء منازل مصنعة وبيوت خشبية، ستؤول في أفضل الأحوال إلى إعداد 1000 مسكن خلال سنة."(73)   وهذا لا يعني، في أي حال من الأحوال، أن النقص في الإمكانات سيحول دون إسكان المهاجرين الجدد في المناطق المحتلة، بل يعرقل إسكانهم فوراً ويشكل إرباكاً للحكومة الإسرائيلية وضغطاً قبل تمكنها من نقل أعداد من المهاجرين إلى المناطق المحتلة.

خامساً: ثمة إجماع دولي – سوفياتي وأميركي وأوروبي ومن قبل سائر الكتب السياسية العالمية – على عدم السماح لإسرائيل بإسكان اليهود السوفيات في المناطق المحتلة. ويقضي هذا الإجماع بإعادة هذه المناطق أو القسم الأكبر منها إلى أصحابها لتشكل نواة الدولة الفلسطينية العتيدة. وربما يكون من الخطأ الرهان على هذا الإجماع؛ فالاتحاد السوفياتي، خلافاً لموقفه المبدئي، يساهم في تحقيق الحلم الصهيوني التوسعي، ويفتح أبوابه أمام خروج المواطنين اليهود قبل حصوله على أية ضمانات بتخلي إسرائيل عن المناطق المحتلة. فالموقف السوفياتي يتلخص الآن في التالي: "إننا نعارض استغلال المهاجرين من الاتحاد السوفياتي لطرد الفلسطينيين من أراضيهم"، أو استخدامهم "أداة لتنفيذ خطط غير قانونية يستنكرها الرأي العام الدولي."(74)   لكن، ما نفع هذه المعارضة السوفياتية لإسكان اليهود السوفيات في المناطق المحتلة بعد أن فرّط الاتحاد السوفياتي في الورقة الرئيسية؟ وكيف يمكن ضمان استجابة لذلك؟

إن ما ينطبق على الموقف السوفياتي يسري أيضاً على الموقف الأميركي. إذ أن الإدارة الأميركية تقدم لإسرائيل 400 مليون دولار مساهمة منها في إسكان اليهود السوفيات في إسرائيل. لكنها تعرب عن "معارضتها الحثيثة لاستخدام أموال المساعدات الأميركية من أجل إنشاء مستعمرات في المناطق، ولا سيما توطين مهاجرين في هذه المستعمرات." وقال ناطق باسم الخارجية الأميركية: "قرأنا الأنباء في الصحف التي تفيد بأنه تم اختيار مهاجرين من الاتحاد السوفياتي للاستيطان في المناطق؛ إن ذلك عقبة في طريق السلام."(75)   فلماذا لا تحصل الولايات المتحدة على ضمانات من إسرائيل قبل أن تغدق عليها الأموال؟

من جهة أخرى، تكتفي الأسرة الأوروبية – كعادتها – بالبيانات المتواضعة التي لا ترفقها بأية خطوات عملية ضد الممارسات الإسرائيلية. في كل حال، فإن الموقف الرسمي للأسرة الأوروبية هو "عدم اتوطين مهاجرين في المناطق المحتفظ بها"، لأن "من شأن هذه السياسة أن تعرض إمكان حل النزاع العربي – الإسرائيلي للخطر."(76) 

 استنتاجات

من المرجح أن يكون للهجرة الجماعية اليهودية من الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل انعكاسات على مجمل القضية الفلسطينية، والأوضاع العامة الداخلية في إسرائيل. وعلى الرغم من أن أحداً لا يستطيع التكهّن بما ستستقر عليه هذه الهجرة كمّاً ونوعاً، وعلى الرغم من أنه يصعب التنبؤ بانعكاساتها البعيدة المدى، فإن لها انعكاسات قصيرة المدى سنحاول استشفاف خطوطها العريضة.

أولاً: بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، جاء توقيت الهجرة الجماعية في ذروة النضال الفلسطيني للتخلص من الاحتلال، وقد تسرق هذه الهجرة بعض الأضواء المسلّطة على الانتفاض، لإلهاء العرب والفلسطينيين بعنصر جديد وتحد جديد وهمّ جديد. ففي الوقت الذي تعاني إسرائيل ضيقاً مادياً ومعنوياً من جراء الانتفاضة، تأتي الهجرة السوفياتية لتشكل رافعة للمعنويات الإسرائيلية، وعامل إحباط للجانب العربي. "وهكذا، فإن الكتلة الشرقية هي التي وجهت الضربة الكبرى للانتفاضة."(77)  والاتحاد السوفياتي، الصديق التقليدي للعرب، أقدم على خطوة بهذه الخطورة تعزز إصرار إسرائيل على عدم الانسحاب من المناطق المحتلة. ولعل إسرائيل توقعت عدم السماح لليهود السوفيات بالمغادرة إلا بشرط التقدم نحو السلام.

وثمة بُعد آخر لهذه الهجرة، وله علاقة مباشرة بالجدل القائم في شأن مصير المناطق المحتلة، هو العامل الديموغرافي. إذ أن اليمين الصهيوني يستطيع أن يستخدم ورقة هجرة اليهود السوفيات كي يدلّل على أن اليسار الإسرائيلي خسر أهم أوراقه، وهو يؤيد الانسحاب من جزء من المناطق المحتلة، وهذه الورقة هي "الخطر الديموغرافي" في حال تدفق اليهود السوفيات على المناطق المحتلة. وهكذا، يأمل أنصار التوسع وضم المناطق المحتلة بأن تساهم هذه الهجرة في تغيير الوضع الديموغرافي  لمصلحة طروحاتهم وتوجهات أنصار "الترانسفير" – أي ترحيل العرب لإسكان المهاجرين السوفيات مكانهم.

وهناك عامل آخر يوحي به بعض الإسرائيليين ناجم عن هذه الهجرة، ويشكل ضرراً مباشراً للانتفاضة؛ وهو يتعلق بالعمال العرب. ففي تقدير هذا البعض من الإسرائيليين، أن إسرائيل تستطيع الآن الاستغناء عن عمال المناطق المحتلة، ولن تحتاج إلى عمال أجانب أيضاً. وفي الوقت نفسه، يمكن توفير فرص عمل للمهاجرين السوفيات "غير المدللين"، تساعم في استيعابهم. وبحسب المعطيات المتوفرة لدى يوسف بايلين، نائب وزير المال، أنه يمكن توفير فرص عمل لـ 35 ألف مهاجر مكان عمل سيشغر بعد الاستغناء عن العمال الأجانب (من البرتغال وغيرها)، و 15 ألف مكان عمل بعد الاستغناء عن قسم من عمال المناطق المحتلة..."(78) 

ثانياً: سيكون لهجرة اليهود السوفيات انعكاسات مباشرة على مجمل الوضع الداخلي في إسرائيل، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً. وقد تحمل هذه الانعكاسات طابعاً سلبياً في بعض جوانبها الاجتماعية، إلا أن الطابع الإيجابي سيبقى غالباً.

على الصعيد الاقتصادي، فإن الاستعدادات لتوفير وسائل الاستيعاب  للمهاجرين الجدد، من سكن وأشغال وغيرها، والأموال التي ستتلقاها إسرائيل من يهود العالم والجهات الدولية الأخرى (سيتلقى كل مهاجر 37 ألف دولا)، ستحرك عجلة الاقتصاد والإنتاج بصورة خاصة وهذا قد يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي المتوقف حالياً، وتوفير مصادر عمل جديدة بعد انتشار البطالة الواسعة حالياً. والمعروف أن الهجرة الجماعية، التي تضم أكثر من نصفها من الأكاديميين، تشكل زخماً كبيراً في اتجاه تغيير بنية الاقتصاد وتوفير أحوال مغرية للمستثمرين من أجل إقامة صناعات متطورة للتصدير. وهذا قد ينعكس إيجاباً على الميزان التجاري وميزان المدفوعات.

وعلى الصعيد السياسي الداخلي، فمن المعروف تقليدياً أن اليهود السوفيات، ويهود الكتلة الشرقية عادة، هم أكثر تطرفاً في آرائهم السياسية من يهود الغرب. وهذا سوف يعزز المعسكر اليميني المتطرف في إسرائيل. وكما يقول اليهودي السوفياتي المنشق، ناتان شيرانسكي: "أن الهجرة الحالية أكثر يمينية بآرائها السياسية. فمهاجرو الاتحاد السوفياتي لا يؤمنون بإمكان التوصل إلى اتفاقات سلام مع دول توتاليتارية... وهذا ناجم عن تجربة حياتية طويلة في دولة توتاليتارية. نحن الخارجية من الاتحاد السوفياتي أكثر تشككاً من سكان إسرائيل القدامى إزاء إمكان التوصل إلى اتفاقات مع العالم العربي."(79) 

وعلى الصعيد العسكري، فإن اليهود السوفيات سيشكلون مستودعاً بشرياً يمد الآلة العسكرية الإسرائيلية بطاقات جديدة ودم جديد.

أما على الصعيد الاجتماعي، فقد لا تكون الانعكاسات كلها إيجابية. إذ أن هذه الهجرة قد تحمل في طياتها بذور صراعات جديدة في المجتمع الإسرائيلي، لأن اليهود السوفياتي سيعززون المعسكر الأشكنازي في إسرائيل، الأمر الذي سيجعل المعسكر السفارادي (اليهود الشرقيين) يقلق على مستقبله بعد أن كاد يشكل الأكثرية في المجتمع الإسرائيلي. وليس من المستبعد أيضاً أن يتعزز المعسكر الديني لأن أكثرية اليهود السوفيات متدينة، الأمر الذي قد يعزز أيضاً الصراع بين العلمانيين والمتدينين. ثم أن متطلبات استيعاب المهاجرين السوفيات، بهذه الأعداد الكبيرة، ستحتم خفض مستوى معيشة الشرائح الفقيرة والمتوسطة في المجتمع الإسرائيلي. وهذا من شأنه أن يسبب جواً من الحسد والاستياء لدى تلك الشرائح التي قد تشعر بأن اليهودي السوفياتي جاء ليتقاسم "الغنائم" معها.

في كل حال، فإن الانعكاسات الإيجابية لهجرة اليهود السوفيات على المجتمع الإسرائيلي، بصورة عامة، ستبقى هي الغالبة. وقد عبر أوري غوردون عنها بقوله:

يشكل يهود الاتحاد السوفياتي بنك الدم الحقيقي الوحيد المتوفر اليوم لدولة إسرائيل. إذ أنهم يتميزون بالنوعية والإبداع. فنسبة الأكاديميين فيهم عالية. وليس مصادفة أن 20% من المهندسين في البد متحدرون من الاتحاد السوفياتي، وأن 21% من مدرّسي الموسيقى، و 18% من الأطباء، هم من مهاجري الاتحاد السوفياتي. لذلك، فإن هجرة بضع عشرات من الآلاف ستوفر الزخم الضروري للاقتصاد، وستشكل طاقة بشرية محتملة لتطوير الصناعة وتعزيزها. وهي سترصّ الصفوف، وستشكل عملية حقن المجتمع الإسرائيلي بالهمّة والنشاط.(80)

 

(1)   أفرايم تفوري، "الهوية اليهودية الإسرائيلية في نظرة إسرائيل إلى المهاجرين من الاتحاد السوفياتي"، "غيشر"، العدد 119، ربيع 1989، ص 21.

(2)  "عال همشمار"، 27/6/1989.

(3)   المصدر نفسه، 14/3/1989.

(4)   "هآرتس"، 4/5/1989.

(5)   "يديعوت أحرونوت"، 27/6/1989.

(6)   "عال همشمار"، 12/7/1989.

(7)   "يديعوت أحرونوت"، 8/8/1989.

(8)   "عال همشمار"، 1/8/1989.

(9)   "يديعوت أحرونوت"، 8/8/1989.

(10)   المصدر نفسه.

(11)   "هآرتس"، 8/8/1989.

(13)   يوسف غاليلي، "عال همشمار"، 11/9/1989.

(14)   "عال همشمار"، 1/11/1989.

(15)   "هآرتس"، 7/12/1989.

(16)  نقلاً عن مصادر الوزارات الاقتصادية – الإسرائيلية، "يديعوت أحرونوت"، 8/1/1990.

(17) "معاريف"، 4 – 5/1/1990.

(18)   نقل هذه المعلومات موتي باسوك، "عال همشمار"، 17/1/1990.

(19)   "يديعوت أحرونوت"، 7/1/1990.

(20)   "دافار"، الملحق، 23/2/1990.

(21)   من حديث أجراه دان شيلون، "يديعوت أحرونوت"، 12/1/1990.

(22)   "هآرتس"، 15/1/1990.

(23)   من حديث مع مهاجرين جدد في ريشون لتسيون، "عال همشمار"، 17/1/1990.

(24)   من حديث له خلال اجتماعه إلى وزير الاستيعاب في مكتبه في القدس، "عال همشمار"، 17/1/1990.

(25)   من تصريح أدلى به في مراكز استيعاب المهاجرين في القدس، "دافار"، 24/1/1990.

(26)   عاليزا فالخ، "دافار"، 17/1/1990.

(27)   "دافار"، 24/1/1990.

(28)   المصدر نفسه.

(29)   "يديعوت أحرونوت"، 8/1/1990.

(30)    "هآرتس"، 11/1/1990.

(31)   "دافار"، 18/1/1990.

(32)   "عال همشمار"، 10/1/1990.

(33)   "دافار"، 16/1/1990.

(34)   "معاريف"، 18 – 19/1/1990.

(35)   "هآرتس"، 21/1/1990.

(36)   المصدر نفسه.

(37)   المصدر نفسه، 12/1/1990.

(38)   المصدر نفسه، 18/1/1990.

(39)   المصدر نفسه، 25/1/1990.

(40)   يوسف غاليلي، "عال همشمار"، 4/1/1990.

(41)   نقل تصريحه هذا جدعون ألون، "هآرتس"، 15/1/1990.

(42)   "دافار"، 9/1/1990.

(43)   "عال همشمار"، 7/1/1990.

(44)   جادي ياتسيف، "استيعاب مهاجرين بمفاهيم جديدة"، عال همشمار"، 14/1/1990.

(45)   أوري غوردون، "عال همشمار"، 11/1/1990.

(46)   "هآرتس"، 29/1/1990.

(47)   "دافار"، 9/1/1990.

(48)   "عال همشمار"، 11/1/1990.

(49)   "دافار"، 9/1/1990.

(50)   "هآرتس"، 15/1/1990.

(51)   المصدر نفسه، 5/1/1990.

(52)   المصدر نفسه، 15/1/1990.

(53)   المصدر نفسه.

(54)   المصدر نفسه.

(55)   "عال همشمار"، 10/1/1990.

(56)   من حديث أجراه معه غيدي غريشتيك، "بإيرتز يسرائيل" (22)، كانون الأول/ديسمبر 1989، ص 9.

(57)   "عال همشمار"، 17/1/1990.

(58)   المصدر نفسه.

(59)   المصدر نفسه، 2/2/1990.

(60)   "هآرتس"، 31/1/1990.

(61)   المصدر نفسه، 12/11/1989.

(62)   المصدر نفسه، 18/1/1990.

(63)   المصدر نفسه، 2/2/1990.

(64)   "عال همشمار"، 11/1/1990.

(65)   نقل تصريحه جدعون ألون، "هآرتس"، 21/1/1990.

(66)   روفيك روزنتال، "عال همشمار"، 17/1/1990.

(67)   المصدر نفسه.

(68)   "هآرتس"، 25/1/1990.

(69)   المصدر نفسه.

(70)   أوري غوردون، "حقنة تشجيع أيديولوجية"، "عال همشمار"، 7/1/1990.

(71)   هذا ما يؤكده اليهودي السوفياتي المنشق ناتان شيرانسكي، في حديث أجراه معه دان شيلون، "يديعوت أحرونوت"، 12/1/1990.

(72)   روزنتال، مصدر سبق ذكره.

(73)   ليلي غاليلي، "هآرتس"،، 2/2/1990.

(74)   من رسالة سلمها يولي فورونتسوف إلى آرييه ليفن، رئيس الفريق القنصلي الإسرائيلي في موسكو، "يديعوت أحرونوت"، 30/1/1990.

(75)   المصدر نفسه.

(76)   "عال همشمار"، 2/2/1990.

(77)   بنحاس عنباري، "من هم الذين يستفزّهم يتسحاق شمير"، "عال همشمار"، 2/2/1990.

(78)   عوزي بنزيمان، "هآرتس"، 12/1/1990.

(79)   من حديث لمراسل "يديعوت أحرونوت"، 12/1/1990.

(80)   "عال همشمار"، 30/1/1989.