تقويم عامين من الانتفاضة
Keywords: 
الانتفاضة 1987
الأراضي المحتلة
العصيان المدني
إعلان الاستقلال 1988
Full text: 

من الجائز في العقل إخضاع الانتفاضة لتحليل يحسب تكلفتها ومردودها، كما يجوز ذلك في أية ظاهرة أو حادثة طبيعية، من ثورة بعض البراكين إلى ولادة صبي.

وبقدر ما هو تعبير عن الغريزة الطبيعية في الإنسان أو في الشعب أن يكون حراً، فإن شرعية الانتفاضة أمر غير قابل للطعن. وهي ليست، في الوقت نفسه، حادثة ما ورائية لا يمكن إخضاعها للتفحُّص أو لا يجوز. وهي، وإنْ لم تكن أشبه بمشروع تجاري يمكن اعتماده أو اطّراحه بناء على اعتبارات الكلفة والمردود، فهي ليست أقدس من أن تمتحن بعين النقد والتقويم.

ولسوف أقارب  تحليلي لها في هذه الروح، مقتصراً في ملاحظاتي على أوالياتها الداخلية وإنْ كانت قيمتها قد باتت عالمية الأبعاد.

 المعالم:

يلوح لي أن ثمة مَعْلَميْن كبيرين مترابطين في تاريخ الانتفاضة؛ معلمين يمكن استعمالهما معيارين للنظر في تطورها وفهمه وتقويمه.

الأول منهما، هو ورقة عمل ترسم الخطوط العريضة التي تتيح للانفجار الجماهيري، البادي في الأسابيع الأولى للانتفاضة في شكل مسيرات وتظاهرات ومصادمات ضارية، أن يُسلك في عملية سياسية منظمة منهجية هادفة. إن ورقة عمل العصيان المدني هذه، التي انطلقت من الأراضي المحتلة، سرعان ما نسَّقها وطوَّرها أبو جهاد، من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان وقتئذ مسؤولاً عن الأراضي المحتلة، والذي اغتالته في تونس لاحقاً قوة ضاربة إسرائيلية خاصة. وقد تحوّلت ورقة العمل هذه إلى السلسلة الفقارية لاستراتيجية الانتفاضة.

كانت الفكرة الأساسية في تلك الورقة هي التالية: إن السكان المقيمين في ظل الاحتلال يقدرون على تنفيذ جملة من الإجراءات تهدف إلى الانفكاك، قدر المستطاع، عن نظام الاحتلال، تحضيراً لإعلان الاستقلال.

فبينما يستند جزء من هذا النظام، على ما جاء في الورقة، إلى استعمال القوة من جانب واحد، من قبل سلطات الاحتلال، فإن جزءاً آخر لا بأس فيه يعتمد على خيار السكان القسري بالائتمار والطاعة. إن استعمالي عبارة "خيار قسري" مقصود، لأنه إذ يدل على ما في استطاعة المواطنين أن يفعلوا – وعلى ما فعلوا فعلاً – فهو يومئ أيضاً إلى القيود والحدود المفروضة على أفعالهم؛ تلك القيود التي تبدّت أيضاً في سياق الانتفاضة. فقد رسمت ورقة العمل عدة مجالات يمكن للسكان فيها أن يُقلقوا، وإنْ تحت القمع والإكراه، حال الاحتلال.

فعلى الجبهة الاقتصادية، أولاً، يعمل قطاع واسع (40 % تقريباً) من مجموع القوى العاملة العربية في إسرائيل. وهذه الحال لم تكن تعبّر، طبعاً، عن تفضيل العمال العرب ذلك، لكن كان ثمة هامش من الخيار، أياً تكن حدوده، في قرار العمل في إسرائيل.

وعلى الصعيد الاقتصادي أيضاً، كان أكثر من 90 % من استهلاك السكان العرب للسلع والخدمات (المواد الغذائية والمواد الخام والمنتوجات الاستهلاكية، إلخ) يأتي من إسرائيل أو عبرها.

كما أن كون الضفة والقطاع كانا، ولا يزالان سوقاً أسيرة للمنتوجات الإسرائيلية ليس، كما هو واضح، وضعاً أراده الفلسطينيون. ومع هذا فقد كان، ولا يزال ثمة شيء من الخيار يكمن في مدى ما يسمح لحال الأسر هذه بأن تسود.

لذلك دعت الورقة إلى قطع الروابط الاقتصادية التي ربطت الأراضي المحتلة بإسرائيل، وذلك من خلال مقاطعة البضائع الإسرائيلية قدر المستطاع، وكذلك من خلال مقاطعة القوى العاملة العربية لسوق العمل الإسرائيلية.

وعلى المستوى الإجرائي، ثانياً، كانت حال الاحتلال تستمر من خلال عدد من الإجراءات الإدارية: الأوامر، الرُخَص، العقود، الأذون، الاستمارات – فعلى المواطن أن يتقدم بطلب للحصول على إجازة سياقة، أو رخصة سيارة، أو رخصة بناء، أو رخصة اتجار، أو إذن في السفر، على شهادة ما، وعلى المواطن أن يلتزمها إجمالاً، وأن يمتثل للاستدعاءات، والأوامر والنواهي، إلخ. وفي كل حال من هذه الأحوال، ثمة عنصر أو هامش من الخيار.

ومن الطبيعي أن يكون الخيار المتاح قسرياً نظراً إلى وجود نظام من العقوبات. والمواطن وإنْ اختار ألاّ يدفع الغرامات والعقوبات، فثمة مجموعة أخرى من التدابير الجزائية الأقوى والأشد إيلاماً في انتظاره: هدم المنازل، مصادرة الممتلكات، عقوبات السجن. هنا يطفح الكيل، لأن المواطن الأعزل لا يستطيع شيئاً ضد هذا الاستعمال  العنيف الأحادي الجانب للقوة من قبل السلطات.

غير أن هذا الوضع قد ينفع، فيما بيَّنت الورقة، لأنه يفضح في النهاية طبيعة الاحتلال الحقيقية. وعلى هذا الصعيد أيضاً، دعت الخطة إلى قطع الروابط الإدارية: وربما تم التوصل إلى نقطة يمكن فيها الاستغناء تماماً عن بطاقات الهوية التي تصدرها السلطات الإسرائيلية نفسها.

والهدف الثالث المطلوب التركيز عليه، والجسر الثالث المطلوب تقويضه، كان القوة العاملة في الإدارة المدنية؛ فقد كان جهاز الاحتلال الإداري يشتغل بوساطة قوة عاملة عربية – الشرطة، القضاة، جباة الضرائب، موظفو المساحة، فضلاً عن الموظفين العاملين في دوائر الصحة والتربية والخدمات الاجتماعية. وبينما يمكن استبقاء بعض الخدمات المفيدة موقتاً (إذ يعمل في الصحة والتربية 15,000 موظف)، فمن الممكن تعطيل الخدمات الأخرى بالاستقالات الجماعية. وهكذا يمكن تقطيع الكثير من سواعد الاحتلال الأخطبوطية من خلال العمل المدني. وقد دعت الورقة الموظفين في بعض دوائر الإدارة المدنية إلى الاستقالة الجماعية.

وقد ذهبت الورقة، رابعاً، إلى أن بوابات عبور سلطات الاحتلال إلى المراكز السكانية (القرى والمدن والمخيمات) هي رجال السلطات المحلية (المعيَّنون في معظم الأحوال): مجالس القرى والمدن والمخاتير. فإذا استقال هؤلاء عدمت سلطات الاحتلال من تخاطبه من المدنيين المحليين، واضطرت إلى استعمال الجيش للتعامل مع كتلة متجانسة من السكان لا رأس لها ولا مرؤوس فيها؛ وهذا من شأنه أيضاً أن يميط اللثام عن طبيعة الاحتلال الحقيقية ويظهرها للعالم الخارجي وللفلسطينيين أنفسهم معاً.

أخيراً، الضرائب وغيرها من الغرامات وصنوف المدفوعات إلى السلطات: لم تكن هذه، في نهاية المطاف، إلا إتاوة يدفعها السكان إلى السلطات مكافأة مالية إضافية على الاحتلال المستمر. ولذلك، دعت الورقة إلى الكف عن دفع جميع هذه الضرائب على صنوفها.

 التطور:

لقد تطرقتُ إلى هذه المجالات كلها بشيء من التفصيل لأنه على أساس من أرضية هذه الصورة وهذه الورقة، يستطيع المرء أن يفهم تطور الانتفاضة من حيث هي عملية سياسية هادفة، ومن حيث فعل تقرير مصير جماعي وظِّفت فيه ووجِّهت من خلاله طاقة الجماهير المتفجِّرة، ترشدها التوجيهات الصادرة عن القيادة الموحدة بانتظام. وعلى أساس أرضية هذه الورقة، أيضاً، يستطيع المرء أن يشاهد ويقدِّر العقبات والعوائق ومواطن الضعف، والمدّ والجزر. ولسوف أعود إلى هذه الأمور فيما بعد.

لذلك، فإن ما انطلق في كانون الأول/ ديسمبر 1987 انطلاقة ثورة بركانية قد انتظم في شباط/ فبراير 1988 في نظام عملية عصيان مدني منهجية، في فعل إرادة وطنية واعية بطولية مضت الجماهير من خلالها، وبصورة منهجية، في فصم العرى التي تقيِّدها بالسلطات، وقطع كل ما يمكن قطعه من نقاط الاتصال التي كانت تربطها بالاحتلال، تحضيراً لإعلان الاستقلال من جانب واحد، لاحقاً.

وقد أعانت إسرائيل نفسُها على دفع الصراع إلى ذرى كهذه، من خلال ردودها القمعية ومن خلال رفضها التجاوب، طوال شهر كانون الثاني/يناير 1988، للمطاليب المباشرة التي تقدمت القيادة الوطنية بها، والتي عُبِّر عنها حينها في أوائل منشورات القيادة الموحَّدة، وكذلك في وثيقة البنود الـ 14 الصادرة في 14 كانون الثاني/يناير، والتي اقترحت بعض الإجراءات الانتقالية التي قد تمهِّد إسرائيل بها الطريق للمفاوضات السلمية.

 الاستقلال:

أعلنت لذلك معركة العصيان المدني المتدرّج. وفي أيار/مايو 1988، كان السبيل ممهداً للاندفاع إلى الأمام بخطة مكملة، خطة إعلان الاستقلال.

في ذلك الوقت، صارت مستلزمات "ساحة المعركة" واضحة جلية: فمع كل فعل انفكاك، مع كل استقالة، كان لا بد من إقامة سلطة بديلة. وقد تنوقلت عدة أوراق عمل تتعلق بالموضوع ودارت الطواحين السياسية بها، لكن ربما كان في الإمكان اعتبار "وثيقة الحسيني"، التي احتوت إلى حدٍّ ما على أكمل تعبير مفصَّل عن تلك الأفكار التي كانت في طور الصنع، من أهم معالم تلك المرحلة.

كان لتلك الوثيقة ملامح عدة، يتصل بعضها بعملية المفاوضات السياسية المحتملة ويأخذها بعين الاعتبار، ويذهب إلى أن موقف الفلسطينيين التفاوضي سيكون أقوى إذا ما كانت الدولة قد أُعلنت، بحيث يدخلون المفاوضات بصفتهم دولة تطالب إسرائيل بالاعتراف بها وإبرام اتفاقية معها في شأن الحدود بينهما.

لكن الملامح المباشرة للوثيقة كانت تتعلق بمستلزمات البنى التحتية، أو بالحاجة إلى تطوير سلطة وطنية واسعة للحلول محل سلطة الاحتلال. فقد كان الرأي أن لا بد، مع كل خطوة عصيان مدني يتم تنفيذها، من اتخاذ خطوة بنائية مدنية. أي أنه لئن كان العصيان المدني أحد وجهي قطعة العملة، فلا بد من أن يكون الوجه الآخر سلطة وطنية مكتملة النمو، أو حكومة موقتة.

وبذلك تستطيع الجماهير أن تعلن بجرأة ومن طرف واحد أنها تابعة لدولة تقودها منظمة التحرير الفلسطينية. يمكن تعيين مائتين أو ثلاث مائة من الناشطين أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني. ويمكن لآلاف غيرهم أن يكونوا أعضاء رسميين في حكومة موسَّعة أو في شبكة سلطة سياسية، يمكن فيها للجان الدفاع المتناثرة أن تصبح قوة شرطة موحَّدة، وللجان الغوث الطبي المتناثرة أن تكون دائرة صحية موحَّدة، وللجان الإنعاش الاجتماعي المتناثرة أن تشكل دائرة إنعاش اجتماعي موحَّدة، وهلم جرّا، بحيث تصل ثمرة القيادة الموحَّدة المتطورة إلى تمام نضجها.

ولئن رمنا أن نقوِّم الانتفاضة، إذاً، لنظرتُ إلى الفترة الممتدة من شباط/ فبراير 1988 إلى أيار/مايو 1988، ثم إلى إعلان المجلس الوطني الفلسطيني استقلال دولة فلسطين في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، وصولاً إلى أيار/مايو 1989 – حين شنّت إسرائيل هجمتها المضادة الحقيقية – لنظرت إلى تلك الفترة باعتبارها فترة استراتيجية الهجوم الفلسطيني التي يمكن تفحُّصها في ضوء المعلَمَيْنِ اللذين ذكرتهما: خطط الانفكاك، وبناء المؤسسات المستقلة.

وفي رأيي إن هذه الفترة وإن تخللها المدّ والجزء، كما تخلَّل ما قبلها وما بعدها، فإن من الممكن وصفها بأنها الفترة التي أمسك الفلسطينيون فيها بزمام المبادرة. أما فترة الأشهر الستة، أو ما يقاربها، التي عقبت أيار/ مايو 1989، فيمكن اعتبارها – في الجملة – فترة الهجمة الإسرائيلية المزدوجة على الجبهة الدبلوماسية وعلى ساحة المعركة. وأرى أننا قد دخلنا منذ بضعة أشهر ما يبدو أنه مرحلة جديدة، قد وصل فيها الفريقان، القيادة الوطنية الموحَّدة وسلطات الاحتلال، إلى حال من التوازن، يتقدم فيها كل منهما في بعض المجالات وينكفئ في مجالات أخرى.

 الاستراتيجية:

عند هذه النقطة سأقف، فلا أتقدم إلى استخلاص النتائج والعبر والإرشادات للمستقبل. بل سأرجع إلى الوراء قليلاً، إلى مجال "الخيارات القسرية" وإلى استراتيجية الهجوم.

النقطة الأولى التي أود أن أبيّنها هنا هي أنه لا بد لفترة استنزاف المدنيين المتمادية من أن تستوفي تكاليفها. النقطة الثانية هي أن التقدُّم المحدود الذي تمّ على صعيد خطة البناء قد خلّف أثراً مقيِّداً على التقدم في خطة الانفكاك. أخيراً، كان لبعض التناقضات في الخطط نفسها (وسأذكر واحدة منها أدناه) أثر سيئ.

فبالنظر إلى التضحية والاستنزاف، يمكن للمرء أن يذكر العدد الضخم من الناس الذين قتلوا أو أصيبوا بجروح بليغة أو بعاهات مستديمة، والاعتقالات الجماعية، وهدم المنازل، والنفي، وعنف المستوطنين، وإتلاف المحاصيل، والمعاملة الوحشية والمطاردة، ومحاصرة مراكز سكانية بأكملها لفترات طويلة وفرض حظر التجول عليها، وقطع الكهرباء والماء والهاتف عن تلك المراكز، واستخدام فرق الاغتيال وغارات الضريبة ومصادرة الممتلكات. فقد استعملت كل المكائد المذكورة في كتب القمع وكل ما يمكن تصوُّره منها، باستثناء المجازر الجماعية والنفي الجماعي.

 التراجعات:

ولقد أدى هذا كله، فضلاً عن الانخفاض الحاد في مستوى المعيشة، إلى تراجعات على جبهات عدة. ومن أهم هذه الجبهات جبهة الضرائب. لقد وُصفت حملة الضرائب في بيت ساحور – في وسائل الإعلام الأجنبية – بأنها تكتيك مدني "مبتكر"، نمط جديد في الهجوم. والواقع أن الأجدر  ببيت ساحور أن تعدّ حصناً متقدماً صامداً في إطار التراجع العام على جبهة الضرائب. ذلك بأن قطاعات كبرى من السكان تكره على دفع ضرائبها بعد أكثر من عام على تمنّعها من ذلك، ومن جملة هؤلاء بعض الذين نجحوا في التملص من دفع الضرائب خلال السنين الاثنتين والعشرين الماضية.

أما على جبهة القوى العاملة، فإن المزيد من العمال قد عاد إلى العمل داخل إسرائيل. إذ تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن الأرقام قد قفزت، في الأشهر الماضية، إلى 60,000 عامل من الضفة الغربية وحدها. وفي الأمور الإجرائية (مثل الرخص والإجازات والطلبات، إلخ)، بدأت الروابط تستعاد. وفي البلدات الصغرى والقرى عاد المخاتير والمجالس إلى العمل. وعلى جبهة الاستقالات آلت الحال إلى طريق مسدود وقد بدأت تسجل بعض التراجعات. وعلى صعيد مقاطعة الاجتماع إلى الإدراة المدنية، فقد اكتملت الدائرة تقريباً بعودة الأمور إلى العمل كالمعتاد تقريباً.

التقدم:

لكن، لئن سجلت في بعض المجالات درجات متفاوتة من التراجع، فقد سجل تحصين قوي في غيرها – ولا سيما في مقاطعة البضائع الإسرائيلية وفي نظام الإضرابات، سواء الجزئية منها أو الشاملة.

فإذا نظرنا إلى الجانب الآخر من العملة، جانب البناء، وجدنا أن بعض التقدم قد سُجّل، متبوعاً ببعض التراجع. ومن الجدير بالملاحظة في هذا الإطار، أنه مع العجز عن تغذية وتنمية اللجان الشعبية المكونة للبنية السرية وغير الرسمية للقيادة الموحدة، وتطويرها إلى سلطة وطنية عريضة القاعدة، فقد سُجّلت عملية تنشيط لبعض المؤسسات. فالمؤسسات – مثل الاتحادات النقابية، والمنظمات النسائية، والجمعيات الخيرية – التي كانت مغمورة تماماً تحت المدّ الأوّلي للانتفاضة، عادت إلى الواجهة. وطبيعي أن تحتمل هذه الظاهرة قراءتين، باعتبار أن القراءة المتفائلة ترى في هذا التطور ما يبشِّر بمقاربة مختلفة لعملية بناء الدولة.

أما في شأن التناقضات التي أشرت إليها، والتي هي ملازمة للاستراتيجية المزدوجة، فسوق أكتفي بذكر مسألة الضرائب. فقد كان من الضروري تشجيع المعامل المحلية على إنتاج سلع محلية لملء الفراغ الذي خلّفته الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية. لكن، كان من المستحيل على هذه المعامل أن تعمل إذا رفضت دفع ضرائب الدخل المتوجبة عليها للسلطات الإسرائيلية. هنا اختارت القيادة الموحدة أن تعفي بعض المصالح من الدعوة إلى رفض دفع الضرائب. فكان من شأن هذا الموقف المزدوج، الذي فرضته الأوضاع، أن يؤدي على المدى الطويل إلى احتكاكات بين قطاعين من المصالح التجارية، ويوفِّر المزيد من الحوافز لأصحاب المتاجر والتجارات الصغيرة، كما لفئة أصحاب المهن، على تجاهل الدعوة إلى مقاطعة الضرائب.

إعادة النظر:

لقد بدأتُ بالقول إن الانتفاضة ليست مشروعاً تجارياً، وإنها ليست أيضاً حصينة عن التقويم النقدي. فنحن مطالبون بالنظر إلى هذه الصورة مواجهةً، وباستخلاص العبر منها تحضييراً لمبادرة جديدة. فمن مواطن الضعف في هاتين الخطتين، اللتين شكَّلتا وجهين متكاملين لاستراتيجية واحدة، أنهما استندتا إلى الافتراض القائل إن عملية المفاوضات سوف تنطلق خلال عامين. وفي ذلك الوقت تكون الروابط بإسرائيل قد انقطعت، والسلطة الوطنية قد أُنشئت، وبذلك تكون الأوضاع مهيأة، فيما كان يقدَّر، للشروع في عملية المفاوضات التي من شأنها، في حدِّ ذاتها، أن تخفف من وطأة الضغوط والمشقات التي كان مقدراً للشعب أن يتكبدها.

لكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عناد إسرائيل وتعنُّتها، وغياب أي ضغط دولي حقيقي ملموس على إسرائيل للشروع في المفاوضات، فمن البديهي أن تخضع الخطط الأولية للتعديل فتؤخذ في الحسبان مدة من العصيان المدني أطول، وغير ذلك من العمل المدني. ويعني هذا، فيما يعني، أنه عندما يُشن الهجوم الجديد لا بد من الالتفات إلى إبقاء وتيرة أعمال العصيان وكثافتها على مستوى ما يطاق.

ثانياً، أنْ تأخذ المجالات التي يتوقَّف التقدم فيها، أساساً، على إرادة الفلسطينيين وتنظيمهم وعملهم، مرتبة الأولوية القصوى. وأحد هذه المجالات مجال البناء والتنظيم. ولذلك، لا بد من أن تسرع القيادة في المبادرة وتنظيم عملية بناء البنى التحتية. إن ما هو مطلوب، بصورة خاصة، هو تكوين منظومة يمكن لمبادرات البناء الشعبية، في مختلف الحقول والقطاعات، أن تنضوي تحت لوائها وتكتسب بذلك وظيفة تماسك وتوحيد. فالمبادرات الخاصة، أو "الجدران"، قائمة؛ والمطلوب هو المنظومة التي تنتظمها، أو "السقف".

أما أنا فأميل في هذا المجال إلى إعلان حكومة موقتة عريضة القاعدة. لكن المهم، طبعاً، هو الفكرة لا التسمية.

ثالثاً، إن مجال العمل داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث سًجِّل بعض النجاح في السنتين الماضيتين، ولا سيما في مسيرة "السلام 1990" حول القدس، مجال لا بد من تطويره تطويراً منهجياً. واشدد على كلمة "منهجياً" لأن العمل الارتجالي الاتفاقي غير كاف. وعلينا، في هذا الإطار، أن ندرك أن ثمة إمكانات كبيرة للعمل داخل المجتمع الإسرائيلي ما زالت غير مستثمرة، ومن جملتها المجتمع العربي الكبير داخل إسرائيل.

مهما تكن الحال، فإن إعادة التقويم الجدية مطلوبة، ولا بد من تصميم استراتيجية هجوم جديد قادر على استثمار ذلك الخزّان الضخم من إرادة النضال والاستعداد للتضحية من قبل الشعب الفلسطيني المقيم في ظل الاحتلال.

ثمة دلائل كثيرة على أن هذا ما زال موجوداً. فالعديد من الحوادث التي وقعت مؤخراً في الضفة ورفح يعيد إلى الأذهان الجرأة والحماسة اللتين وسمتا الأيام الأولى من الانتفاضة، ويشير إلى وجود طيف جديد كامل من الإمكانات.       

ربما كان عليّ، قبل أن أختم كلامي، أن أعود مسرعاً لأقول بضع كلمات عن الهجمة الإسرائيلية التي انطلقت في أيار/مايو 1989. ففي ذلك التاريخ بالضبط، نقلت الصحافة الإسرائيلية عن شمير ورابين، كليهما، قولهما إن إسرائيل تواجه هجمة ذات رأسين، على الصعيد الدبلوماسي وعلى الأرض، وأن هذه الهجمة تستلزم هجوماً إسرائيلياً مضاداً ذا رأسين: فعلى إسرائيل أن تتقدم بخطة دبلوماسية تعينها على تجميل صورتها الدولية، وأن تستحدث طرائق وأساليب لقمع الانتفاضة.

 الأرض:

نعلم جميعاً ما انطوت عليه الاستراتيجية الدبلوماسية التي أُعلنت في 14 أيار/مايو 1989. غير أن إسرائيل لم تكشف عن ماهية استراتيجيتها على الأرض، بل اكتفت بتنفيذها. ومن الممكن، بالعودة إلى الوراء، أن نلملم قصاصات الصورة المبدَّدة ونجمعها في ما يكاد يُبين عن الأصل الذي كان في ذهن سلطات الاحتلال.

أولاً، تنشيط العملاء المتعاونين. فمن ذلك أنه لم تتواتر الأنباء من القرى والتجمعات السكانية عن عودة المتعاونين مع الآحتلال لتوكيد أنفسهم بتهديد السكان وترويعهم، إلا منذ أيار/مايو 1989. ولا بد من أن إسرائيل كانت على علم بالأصداء الممكنة، بما في ذلك التشتُّت والانحراف اللذان سيلمّان بنشاط الانتفاضة وعملها النضالي. وبالإضافة إلى هذه الخطوة التخريبية الهادفة إلى "تقويض القلعة من الداخل"، أحيت سلطات الاحتلال النزاعات الداخلية بين الفلسطينيين وشجعتها.

ثانياً، تعبئة فرق الاغتيال. فقد صار المناضلون يُستهدفون فردياً في المواجهات بالشوارع، أو يطاردون ويكمن لهم في مكامن أو في العلن، ثم يقتلون عمداً بدلاً من القبض عليهم. وقد سُجِّل، في هذه الفترة، الإفراط في إطلاق النار، ولربما كان الركود النسبي الحالي في وتيرة إطلاق النار والقتل استجابة للضغوط الدولية الخفية والشكاوى من قبل الدول الأوروبية الكبرى أو حتى الولايات المتحدة أيضاً.

ثالثاً، تكثيف غارات الضرائب وما يصاحبها من التدابير الجزائية، المشفوع بزيادة حجم الإجراءات البيروقراطية في كل مجال من مجالات المعاملات والأوراق والسجلات الرسمية. فقد جعلت الطلبات الرسمية كلها مترابطة بعضها ببعض، ومشروطة بتلبية معايير متنوعة، منها خلو السجل العدلي وإبراء الذمة من ضريبة الدخل. ومن الجدير بالذكر هنا أن العمال الغزّاويين لمّا اضطروا أخيراً إلى الرضوخ لاستعمال البطاقات الممغنطة، اكتشفوا أن هذه البطاقات نفسها قد نسخت ببطاقات أحدث منها تستلزم المزيد من الإجراءات الإدارية. أما الجزرة في هذا القسم من السياسة فكانت تكثيف الاجتماعات بين مسؤولي الإدارة المدنية وبين نفر من الشخصيات العامة.

رابعاً، الضربات المتلاحقة والناجحة جزئياً التي أنزلتها السلطات بالتراتب التنظيمي للانتفاضة، وما توصلت إليه من كشف بعضها، وذلك من جراء تحسين فعالية الاستخبارات، فيما يبدو. فعلى هذه الجبهة، حلّت الاستجوابات الدقيقة المفصّلة وجمع المعلومات والإجراءات القانونية وعقوبات المحاكم محل الاستجوابات العجلى المتبوعة بالاعتقال الإداري.

هذه بعض الملامح التي اتسمت بها هجمة إسرائيل على الأرض. وكما ذكرت من قبل، فإن الوضع قد دخل مأزقاً حرجاً الآن، يبدو الجيش الإسرائيلي فيه عاجزاً عن المضي إلى ابعد مما مضى، وهذا ما يكاد يعني أن الهجمة قد بلغت أقصى مداها. ويبدو هذا أفضل الأوقات لشن هجمة فلسطينية متجددة، مبنية على استراتيجية متجددة تأخذ التجربة الماضية في الحسبان، وتكون غايتها تمكين الحملة المدنية من الاستمرار حتى نحقق حريتنا في دولتنا المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

 

*محاضرة الأستاذ سري نسيبة، من جامعة بير زيت، أمام لجنة أوكسفورد العربية يوم السبت 10 شباط/فبراير 1990. ترجمت المحاضرة عن: Mideast Mirror, February 12, 1990, pp. 13-17.