انتصر إيهود براك في الانتخابات لرئاسة الحكومة سنة 1999. هذه حقيقة. لكن الادعاء أن "اليسار انتصر"، والذهاب إلى حدوث "انقلاب سياسي" في إسرائيل، أو الزعم أن "قوى السلام في إسرائيل هزمت قوى الحرب"، كلها تفسيرات لهذه الحقيقة، لا الحقيقة في حد ذاتها. فعند إلقاء نظرة إلى تركيبة الكنيست الخامس عشر نجد أن اليمين، التقليدي والجديد، ما زال يحافظ على أغلبية كبيرة فيه: ليكود (19) + مفدال (5) + شاس (17) + ليبرمان (إسرائيل بيتنا) (4) + لبيد (شينوي) (6) + الاتحاد الوطني (4) + يسرائيل بعلياه (6) + يهدوت هتوراه (4) = 65، هذا من دون إدخال حزب الوسط في الحساب. وإذا حسمنا من هذا المجموع أعضاء حزب لبيد (شينوي) الستة، باعتبار أن بعضهم ليس يمينياً بالتعريف ويجمعه مع الحزب العداء للأحزاب الدينية، لبقي 59 عضو كنيست من اليمين التقليدي.
إن انقسام المجتمع السياسي الإسرائيلي بين مؤيد لاتفاقيات أوسلو ومعارض لها لا يصلح بتاتاً لشرح الخريطة السياسية الإسرائيلية، إذ إن الأحزاب كلها (عدا الاتحاد الوطني) تسلم باتفاقيات أوسلو، وتقدم أشكالاً مختلفة للتعامل معها. فالانتخابات الإسرائيلية، إذاً، ليست مؤشراً إلى انتصار مؤيدي اتفاقيات أوسلو. كما أن تأييد هذه الاتفاقيات ومعارضتها لا يصلحان تذكرة حتى لدخول الحكومة الائتلافية الحالية. فالجامع السياسي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في مرحلتها الحالية، أو فيما يتعلق بالموقف مما يسمى الحل الدائم، يكاد يجمع بين ميرتس وليكود بعد نتنياهو.
لكن ماذا يعني هذا السعي لإقامة حكومة ائتلاف واسعة تعمل لتستند، بصورة واضحة، إلى أغلبية برلمانية يهودية؟ إنه يعني أن الانقسام الانتخابي، وبالتالي انتقال السلطة لم يتم بوضوح من معارضي العملية السلمية إلى مؤيديها، وإنما سيضطر المؤيدون والمعارضون تاريخياً إلى الانضواء تحت لواء الإجماع القومي، وإلى عدم الاعتماد على أصوات غلاة المستوطنين من ناحية، أو العرب من ناحية أُخرى، وإلى الانتقال بالتدريج من الاستفراد الكامل بعملية صنع القرار داخل معسكر واحد إلى الإجماع القومي المستند إلى الحد الأدنى المشترك، أي إلى اللاءات[1] التي بدأ بها براك خطاب الانتصار بعد منتصف ليلة السابع عشر من أيار/مايو. وهذه اللاءات لا تصلح أساساً لحل شامل ودائم لأنها لا تؤسس لحل عادل.
لقد أخطأ العرب في الداخل والخارج عندما قصروا استراتيجيتهم على انتظار براك. وكان عليهم التشديد على ما ينتظرونه من براك لا انتظاره. فالجولة السياسية المتوقعة مع الإجماع القومي الإسرائيلي قائمة على انحياز من الرأي العام العالمي إلى مصلحة براك. ولذلك يجب التصدي بسرعة ووضع النقاط على الحروف لما يتوقعه العرب من براك، وأن تحدد بوضوح المؤشرات الإيجابية: إيقاف الاستيطان، مثلاً، هو مؤشر إيجابي، واستمراره هو مؤشر سلبي يجب أن يواجه فوراً، في بداية فترة حكم براك، بأزمة تذكّر بأزمة النفق. فالمؤشر السلبي يجب أن يواجه بإشارات سلبية، وإلاّ تحولت الأعمال نفسها غير المشروعة في فترة نتنياهو إلى أعمال مشروعة في فترة براك.
لقد تم الاصطفاف الانتخابي الكبير في الشارع الإسرائيلي حول عدة محاور، ويمكن تحديد موقع ونمط تصرف الناخب في الحيز الواقع بين أكثر من إحداثيين منها: 1) الموقف السياسي؛ 2) الموقف من موقع الأحزاب الدينية في الدولة، وهذا لا يعني بالضرورة موقفاً من علاقة الدين بالدولة؛ 3) الموقف من شخصية نتنياهو وطريقة حكمه؛ 4) أصل الناخب وانتماؤه: شرقي، روسي، مغربي، متدين... إلخ. ولا يحتاج المحلل إلى خبرة كبيرة بالشؤون الإسرائيلية ليدرك أن استراتيجية براك في مخاطبة نقمة الجمهور العلماني (اليساري واليميني) على الموقع الذي تحتله الأحزاب الدينية في الائتلافات المتعاقبة بين اليمين والمتدينين، قد فعلت فعلها في اجتذاب جزء لا يستهان به من الجمهور اليميني العلماني إلى معسكره، بما في ذلك من أوساط المهاجرين الروس، إضافة إلى أن طغيان هذا الموضوع على موضوعات السياسة الداخلية الأُخرى والاستقطاب الذي أحدثه أديا إلى قفزة غير متوقعة في قوة حركة شينوي بقيادة يوسف (طومي) لبيد من ناحية، وإلى ازدياد قوة حزبي شاس ويهدوت هتوراه من ناحية أُخرى. يضاف إلى ذلك النجاح في عملية تشويه شخصية نتنياهو ونشوء حزب مثل حزب الوسط يجمع بين أعضائه هدف واحد هو إسقاط نتنياهو.
لقد تشظى اليمين الإسرائيلي واخترقه الفرز بين موقف متهادن مع الأحزاب الدينية وبين موقف مناهض لسطوتها. لكن هذا لا يعني أن اليمين الإسرائيلي قد ضعف عددياً، أو أن اليمين قد هزم. وإذا ما أحسن "اليسار" استغلال هذا المزاج فسيكون في الإمكان وبالتدريج إضعاف اليمين فعلاً، وتمرير قرارات وبرامج سياسية وإحداث انقلاب في سلم أولويات مختلف الوزارات في فترة الأعوام الأربعة المقبلة. لكن هل هناك رغبة في القيام بذلك أو نية؟ وهل هنالك يسار سينهض مع هبوط اليمين معنوياً؟ لا شك في أن الاحتفال العفوي في ساحة رابين، بعد نشر نتائج الانتخابات من ليلة السابع عشر من أيار/مايو حتى صباح الثامن عشر منه يحمل معاني كثيرة، ولا يجوز الاستخفاف بعشرات الآلاف من الناس الذين يشعرون ويعبرون عن شعورهم بأن حمل نتنياهو الثقيل أزيح عن صدورهم. لقد وقع ما يشبه الانفجار لمشاعر مكبوتة عند فئات سياسية شعرت بأن نتنياهو وصل إلى السلطة بصورة غير شرعية، وبأن مقتل رابين يلقي بظلاله الكثيفة على شرعية حكمه. وبمعنى ما فإن فترة حكم نتنياهو في نظر هذه الفئات هي فترة انحراف للتاريخ عن مساره، وسقوطه هو تصحيح لمسار التاريخ وعودة إلى النقطة التي انتهى إليها "رابين"[2].
لكن هذا كله لا يكفي ولا يفي بغرض تفسير الفرحة العارمة التي شملت نصف المجتمع الإسرائيلي بعد سقوط نتنياهو، وخصوصاً أننا لم نواجه هذه الظاهرة بعد سقوط شمير. فما الفارق؟ خلافاً لمراحل سيطرة اليمين الأُخرى على مقاليد الحكم في إسرائيل، تميزت مرحلة نتنياهو بمحاولة إحداث انقلاب جذري في تركيبة النخبة الإسرائيلية. فشمير اكتفى بالحكم، وبتغيير السياسة لمصلحة اليمين، وبتجميد العملية السلمية، وذلك من دون أن يمس المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، بدءاً بحزبه هو وانتهاءً بالنخب السياسية والقضائية والاقتصادية؛ بينما نتنياهو جاء ببرنامج طموح لتغيير النخب القائمة، بدءاً بالصراع داخل الليكود نفسه مع قيادات الحزب التاريخية وأبناء قياداته (الأمراء) وانتهاءً بالصدام مع النخب الأكاديمية والثقافية والقضائية... إلخ؛ كل ذلك بالتحالف مع عناصر هامشية في المؤسسة الإسرائيلية، مثل الأحزاب الدينية التي أدارت "إمبراطورية" وزارة الداخلية من دون حسيب أو رقيب، ومع عناصر من الأثرياء السماسرة غير المنتجين والذين يعملون في المساحة الرمادية الواسعة الفاصلة بين القانوني وغير القانوني. وعندما تطلب الأمر تصفية الحسابات مع النخب القائمة لم يكن لدى نتنياهو مانع في استخدام وسيلة مخاطبة الانتماءات الطائفية، ونقمة العناصر الاجتماعية المهمشة ضد المؤسسة القائمة.
لقد دخل نتنياهو في صراع مع المؤسسة الإسرائيلية التي ترى نفسها استمراراً للنخبة التي أقامت الدولة. وساد شعور عام لدى نصف المجتمع الإسرائيلي بأن هنالك محاولة لاستثنائه وإخراجه من السلطة في عملية تتجاوز تداول الحكم بين أحزاب في عملية انتخابات. لكن نتنياهو فشل. وإذا تجاوز المحتفلون دوافع الاحتفال في اتجاه تغيير حقيقي في سلم الأولويات الاجتماعي واستنتاج النتائج الصحيحة سياسياً، فربما تنجم أمور إيجابية عن هذا الفشل. نقول هذا آخذين بعين الاعتبار التغييرات الجدية التي مر بها المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك أنماط الخطاب السياسي السائدة فيه والتي تجعله جاهزاً للقبول بتغييرات جدية في السياسة. لكن إذا ما اعتبر معسكر براك مجرد فوزه هو فوز للنخبة العقلانية العلمانية الأوروبية في مواجهة مرحلة نتنياهو، كمرحلة غياب العقل وسيطرة القوى الهامشية في المجتمع على الدولة وغير ذلك مما يكثر استخدامه من مفاهيم في أوساط اليسار الصهيوني، فهذا يعني استمرار السياسة العمالية نفسها التي أدت إلى وصول نتنياهو إلى السلطة أصلاً.
انتصار الوسط ونهاية حقبة الاستقطاب
يبدو أول وهلة أن الخاسر في الانتخابات الإسرائيلية "بامتياز" هو حزب الوسط الذي أقامه قادة سابقون في حزب الليكود (دان ميريدور وروني ميلو ثم يتسحاق مردخاي)، وشخصيات سياسية وعسكرية قيادية في حزب العمل أو محسوبة عليه كمعسكر (حغاي ميروم، ونِسيم زفيلي، والدبلوماسي أوري سافير المدير العام لوزارة الخارجية في مرحلة أوسلو، وأمنون شاحك رئيس الأركان السابق وأحد أركان اتفاقية أوسلو الثانية، وداليا رابين ابنة يتسحاق رابين). لكن هذا الحزب خسر في الانتخابات لأن وسط الخريطة السياسية الإسرائيلية تشكل وانتصر أيضاً في الانتخابات من دون الحاجة إليه. لقد خسر الوسط لأنه انتصر. وهيمن، عملياً، الخطاب السياسي التوفيقي الذي مهدت له حقبة نتنياهو المتميزة في التاريخ الإسرائيلي القصير كمرحلة انحطاط في نظر النخب المسيطرة على المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية، والتي تشكل نوعاً من حرس الحدود للنخب المهيمنة على مجالات القضاء والجامعات والجيش والاقتصاد وغيرها.
وقبل أن نتناول هذا التحول بالتحليل لا بد من التحذير من ظاهرة التقليل من أهمية العوامل الثقافية والنفسية التي أدت إليه، والتي تبدو أنها ليست عظيمة الأهمية، أو أنها ليست سياسية بما فيه الكفاية قياساً بالعوامل السياسية الصرف التي تتلخص بلعبة القوى بين الأحزاب والتيارات الأيديولوجية والاجتماعية.
ولا يجوز التقليل من عامل مهم مثل اغتيال رابين وأثره في المجتمع الإسرائيلي. فقد تركت مرحلة نتنياهو جرح مقتل رابين مفتوحاً ينزف، وبدا أن أولئك الذين قتلوا رابين قد ورثوه، تذكيراً بسؤال الله الأبدي إلى قايين في التوراة: "أقتلت وورثت؟" وقد أطالت حقبة نتنياهو فترة حداد أتباع معسكر رابين في المجتمع الإسرائيلي إلى درجة تحويل الأخير إلى رمز وأسطورة استُثمرت في الصراع ضد نتنياهو. ومن هنا لم تعد المسافة قصيرة للتحول من صورة الأب إلى صورة الطوطم الذي يعيد إنتاج وحدة القبيلة كدين جديد.
لقد أخذ براك على عاتقه مسؤولية إعادة اللحمة إلى القبيلة، مسؤولية دمل الجرح المفتوح منذ مقتل رابين. وما كان في الإمكان تخيّل وضع يكرر فيه براك تقسيم المجتمع اليهودي الإسرائيلي إلى نصفين، أحدهما ممثل في الحكومة بفارق نصف في المئة أو واحد في المئة عن النصف الآخر القابع في المعارضة. وبدا واضحاً قبل الانتخابات أن رئيس الحكومة المنتخب سيتجه نحو حكومة وحدة وطنية، أو حكومة تستند إلى "أغلبية يهودية" واسعة على الأقل. وما ندعيه هنا ليس حكماً بأثر رجعي، وإنما موقف عبّرنا عنه بقوة قبل الانتخابات، واختلفنا فيه مع القوى العربية في الداخل والخارج، التي راهنت على ائتلاف يستند فيه براك إلى الأصوات العربية في الكنيست للحصول على أغلبية. فقد كان من المفروض أن يتم ابتزاز براك عندما كان بحاجة إلى الأصوات العربية للحصول على أغلبية من أجل الوصول إلى رئاسة الحكومة. وكانت هذه القناعة أحد أسباب ترشيح عربي لرئاسة الحكومة[3]، تضاف إلى السبب الأساسي وهو تحدي الطبيعة الصهيونية لدولة إسرائيل.
تنطلق الطريقة الأسهل لشرح توجه الأحزاب نحو الوسط من نشوء معسكرين يتنافسان في كسب ود الناخب المتردد بينهما، أي الناخب القابع في الوسط. لكن هذا المنهج سطحي وانتقائي؛ فهو لا يتمكن من شرح الاستقطاب (عكس التوجه نحو المركز) الحادث في عدة حالات يتنافس فيها معسكران بشأن الحصول على صوت الناخب المتردد بينهما: ريغن ومونديل سنة 1984 في الولايات المتحدة؛ تاتشر وفوت سنة 1981 في بريطانيا.[4]
بدأ توجه حزب العمل نحو ابتكار مركز أو وسط للخريطة السياسية الإسرائيلية بعد مقتل رابين مباشرة. وقد اختلف برنامج الحزب سنة 1996 عنه سنة 1992 بإعادة عبارة أُسقطت من برنامج سنة 1992 وتنص على أن "حزب العمل يرى في هضبة الجولان منطقة ذات أهمية قومية لدولة إسرائيل." كما أضيفت عبارة مفادها أن تطالب إسرائيل، في المفاوضات مع الفلسطينيين، بالسيادة على غور الأردن، وعلى منطقة مستعمرات "غوش عتسيون" الواقعة جنوبي بيت لحم، وعلى مناطق أُخرى "حيوية لأمن إسرائيل".
ومع أن اشتراك المفدال في حكومة برئاسة حزب العمل بدا مفاجأة للكثيرين ممن يقسمون الخريطة السياسية الإسرائيلية ببساطة إلى قوى سلام وقوى معادية للسلام، أو إلى يسار ويمين، إلاّ إن المفاوضات لضم المفدال إلى حكومة برئاسة شمعون بيرس، في حالة فوزه، بدأت قبل انتخابات سنة 1996. ونستطيع أن ندعي أن التفاهمات التي توصل إليها في حينه يوسي بيلين (العمل) ويوئيل بن - نون (المفدال) تم تطبيقها فعلاً في سنة 1999. ومن المفيد، بل من الضروري العودة إلى تلك التفاهمات في سياق المفاوضات بشأن الحل الدائم في حكومة برئاسة براك شبيهة بتلك التي تخيلها بيرس بعد مقتل رابين. لقد قيل في مقدمة التفاهم: "لا نقاش بين حزب العمل والحركة الدينية القومية بشأن حق شعب إسرائيل في أرض إسرائيل، وبشأن حقه القانوني في استيطان كل أجزائها."[5]
في الإمكان، طبعاً، الادعاء أن هذا حديث غير ملزم عن حقوق تاريخية يصلح كمقدمة نظرية لموقف عملي مخالف لها، وهذا كلام سليم. لكن المقدمات النظرية ليست نظرية بالكامل، وإنما تشكل الإطار الخلقي والذهني وربما النفسي المسلم به، بمعنى أن لا خلاف بشأن القيم التي تجمع الشعب ضمن ما يشبه العائلة الواحدة، الأهل (community)، ويبقى الخلاف بشأن إمكانات تحقيقها.
لكن الطرفين تفاهما في حينه أنه خلال المفاوضات مع الفلسطينيين بشأن "الحل الدائم" ستطالب حكومة حزب العمل ببقاء المستعمرات، وبأن تُفرض السيادة الإسرائيلية على كل المناطق الحيوية لأمن إسرائيل بحيث تشمل أغلبية المستوطنين.
هذا التوجه نفسه الذي حكم تفاهمات بيلين - إيتان، هو ما جعل المفاوضات بين حزب العمل وحزب الليكود بشأن إقامة حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات الأخيرة ممكنة. لذلك فإن النزعة نحو الوسط محكومة بأكثر من التنافس في كسب الأصوات المترددة. إنها محكومة برباط يشد الأحزاب الرئيسية في إسرائيل، أي رباط الإجماع القومي على طبيعة الحل الدائم مع الفلسطينيين الذي يقربها بعضها من بعض، ويوجِد مركزاً سياسياً وسطاً متخيلاً بسهولة ولا حاجة إلى التعبير عنه بحزب مستقل هو حزب الوسط.
ومن أجل الانطلاق نحو الحوار بين الأحزاب بشأن الحل الدائم والتأثير في هذا الحل، تسلم الأحزاب الإسرائيلية باتفاقيات أوسلو، وبوجود كيان فلسطيني كواقع، بحيث يبقى النقاش فقط في شأن حجم هذا الكيان والأرض وسيادته وحدوده وصلاحياته... إلخ[6].
الانتخابات المباشرة وتجزئة الهوية الجماعية
تغيرت طريقة الانتخابات في إسرائيل، من طريقة برلمانية نسبية يشكِّل فيها البلد كله منطقة واحدة، وتتمثل من خلالها الأحزاب في الكنيست بنسبة مساوية لنسبتها في الأصوات، ويقوم فيها الكنيست بانتخاب رئيس الحكومة وحكومته، إلى انتخابات مباشرة لرئيس الحكومة منفصلة عن الانتخابات البرلمانية وموازية لها في الوقت ذاته.
جرت أول انتخابات من هذا النوع سنة 1996. وقد وجد المواطن الإسرائيلي نفسه، أول مرة، مضطراً إلى اتخاذ قرارين والتعبير عنهما ببطاقتين: واحدة لرئاسة الحكومة، والثانية للكنيست. وهذا التعبير لا يشكل انعطافاً حاداً بالنسبة إلى الحزبيين أو إلى المؤدلجين الذين ينسجم تصويتهم لرئاسة الحكومة مع خيارهم الحزبي. لكن التغيير بالنسبة إلى الجمهور الواسع كان انقلابياً. فقد كان المواطن الإسرائيلي في الماضي يجمع كل حساباته السياسية والمصلحية، تلك المتعلقة بشخصه أو بهويته الجماعية وتلك المتعلقة بموقفه السياسي، ويعبّر عنها في ورقة اقتراع واحدة بغض النظر عن ترتيب هذه القضايا من حيث أولوياتها أو مدى تأثيرها في عملية صنع القرار ذاته. لكن مع نشوء إمكانين للتعبير السياسي، أصبح في الإمكان تقسيم الاعتبارات إلى اثنين. والنمط الذي انتشر منذ سنة 1996 هو: 1) التعبير عن الموقف السياسي من خلال التصويت للمرشح لرئاسة الحكومة من الحزبين الكبيرين التقليديين، بحيث يحسم المواطن موقفه مع معسكر سياسي كبير أو ضده، بغض النظر عن الدوافع. القرار هنا سياسي، لكن الدوافع ليست دائماً سياسية؛ فقد ترتبط بالمصلحة اليومية مثلما يراها الناخب، وقد ترتبط بموقف من قضية السلام مثلاً. وكما نفصل بين القرار ودوافعه، كذلك من المفيد أن نفصل بين الدوافع والأسباب البيئية والاجتماعية. وتشير الإحصاءات إلى أن هنالك علاقة بين المستوى الثقافي ودرجة التدين والمكانة الاقتصادية - الاجتماعية من جهة، وبين التصويت لأحد المعسكرين من جهة أُخرى؛ 2) التعبير عن الهوية الجماعية التي ينتمي إليها الفرد ويرغب في أن تمثل في الكنيست، بحيث يتم تمثيل مصالح هذه الجماعة برلمانياً. يمكن في هذه الحالة طبعاً استثناء الأحزاب الأيديولوجية التقليدية، وخصوصاً في اليمين. وبهذا المعنى لم تعد الأحزاب الدينية أحزاباً أيديولوجية من حيث مخاطبتها الجمهور، وإنما أصبحت تمثل قطاعاً هو قطاع المتدينين في حالة "يهدوت هتوراه" مثلاً، أو في حالة "شاس" المرتبط بتمثيل المغاربة واليهود من أصل شرقي ذوي الطابع التقليدي. وبقي حزب المفدال حزباً أيديولوجياً، وكذلك "الاتحاد الوطني" (موليدت وعناصر يمينية منشقة عن الليكود والمفدال). وبات حزب "ميرتس" العلماني الليبرالي الطابع يمثل أيضاً مصالح وأسلوب حياة قطاع من الجمهور الأشكنازي العلماني من الطبقة الوسطى فما فوق. وهناك قسم من الأحزاب العربية أيضاً، على الرغم من كونه أيديولوجي الطابع والبرنامج، يمثِّل في الكنيست، بصورة عامة، مصالح الجمهور العربي تحديداً، مع التفاوت في محاولة ربط مصالح هذا الجمهور برؤية شاملة للمجتمع الإسرائيلي ولقضايا الدين والدولة وغيرها. وإضافة إلى هذه الأحزاب، نشأت طبعاً حالات سافرة من تمثيل المصالح الجزئية القطاعية، مثل حالة "يسرائيل بعلياه"، حزب المهاجرين الروس.
أدى هذا التغيير الدستوري إلى انقلاب حقيقي في الخريطة السياسية الإسرائيلية، تنقسم الآراء بشأن مدى نفعه أو ضرره. وقد تبلورت معارضة لهذا التغيير من القوى الأكثر ليبرالية في إسرائيل والممثلة عبر باحثي "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" مثلاً، وعدد كبير من أعضاء الكنيست من مختلف الأحزاب. ومشكلة هذه الطريقة الأساسية أنها تحاول الجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني، وهو طموح إسرائيلي يصل إلى حد التمادي في مراكمة تجارب ديمقراطية، أوروبية وأميركية، استمرت قرنين من الزمن. والرئيس المنتخب مباشرة من الشعب يؤلف في النظام الرئاسي حكومة غير ائتلافية وليست بحاجة إلى ثقة البرلمان إلاّ شكلياً. أمّا الحكومة المنتخبة برلمانياً فرئيسها أيضاً يكون كذلك، وكلاهما خاضع لثقة البرلمان. لكن في الحالة الإسرائيلية فإن رئيس الحكومة منتخب مباشرة وخاضع لثقة الكنيست، وهو بحاجة إلى تأليف حكومة ائتلافية تحصل على تأييد أغلبية أعضاء الكنيست. وفي الوقت نفسه تؤدي هذه الطريقة إلى تفتيت الأحزاب الكبيرة، وإلى ازدياد عدد وقوة الأحزاب الصغيرة والمتوسطة، الأمر الذي يعقد عملية بناء الائتلاف.
لقد ازدادت قوة رئيس الحكومة وصلاحياته ازدياداً ملموساً. كما تأكد، عملياً، أن رئيس الحكومة المنتخب هو وحده القادر على تأليف حكومة. لكن عملية تأليف الحكومة تحولت، في الوقت ذاته، إلى عملية ائتلافية عسيرة تشبه تجميع الشظايا المتناثرة في صورة تبقى فيها آثار الصمغ المصلحي اللاصق واضحة للعيان، ومؤذية لنظر المراقب ذي العقلية الجمهورية.
وفي دولة قامت على اعتبار أن عملية بناء الأمة عملية صهر للثقافات والهويات الجماعية الثقافية والأقوامية، وتتراوح فيها القيم السياسية الجمهورانية الطابع والسائدة فيها بين المساواتية اشتراكية الطابع والفردية الليبرالية ضمن المسلمات القومية والقومية الرومانسية، أفاقت النخب مرعوبة على مفاوضات مصلحية لتركيب ائتلاف حكومي يقود الدولة، تجري لا على أساس مصالح فحسب، بل أيضاً على أساس مصالح قطاعات اجتماعية تجمعها هويات ثقافية أو أقوامية ليست قومية جامعة في نظر النخب الجمهورانية الكثيرة الوعظ، وهي رذيلة في حد ذاتها.
يبين الجدول التالي النزعة القائمة في انتخابات الكنيست إلى تفتيت الأحزاب الكبيرة، وإلى زيادة قوة الأحزاب المتوسطة والصغيرة. وقد كان أحد أهداف تغيير طريقة الانتخابات المعلنة، الحدّ من قوة هذه الأحزاب في ابتزاز الأحزاب الكبيرة ومن انتدب منها لرئاسة الحكومة، وكانت النتيجة غير المتوقعة ازدياد قوة هذه الأحزاب عددياً وبقاء قوتها الابتزازية قائمة. وكانت أول حكومة إسرائيلية تؤلَّف على أساس الطريقة الجديدة مسرحاً تراجي - كوميدياً، توالت عليه فصول هذا الابتزاز في دراما إعلامية لم تتوقف طوال فترة حكم نتنياهو الذي تحول إلى عملية إدارة أزمات مستمرة من دون توقف.
ملاحظات على الجدول
1) يغيب عن القائمة، طبعاً، حزبان كانا ممثَّلَيْن في الكنيست 13 أو في الكنيست 14 وغابا تماماً، أو انقرضا في الكنيست الأخير: الأول هو تسومت اليميني العلماني بزعامة رئيس الأركان السابق رفائيل إيتان، والذي حاز 166.366 صوتاً، أي ما نسبته 6.69% من الأصوات وثمانية مقاعد سنة 1992، ثم اندمج مع الليكود سنة 1996، أي أن نتائج الليكود سنة 1996 مقارنة بنتائجه سنة 1992 لا تظهر الخسارة كاملة، إذ إنه خاض الانتخابات سنة 1996 بالتحالف مع حزب تسومت بزعامة رفائيل إيتان ومع حزب غيشر بزعامة دافيد ليفي؛ الثاني هو "الطريق الثالث" الذي قام نتيجة الانشقاق عن حزب العمل في اتجاه يميني علماني لمقاومة أي انسحاب من الجولان، وحاز 96.457 صوتاً وأربعة مقاعد سنة 1996، وفي سنة 1999 لم يحصل إلاّ على 23.454 صوتاً، أي 0.7% من الأصوات ولم يتجاوز نسبة الحسم. وقد ترك هذان الحزبان فراغاً ملأته أحزاب وحركات مثل حزب المركز وشينوي وإسرائيل بيتنا وغيرها. ولا شك في أن قسماً من أصوات حزب تسومت انتقل إلى حزب "الاتحاد الوطني" أيضاً.
2) يمكن بسهولة ملاحظة أنه إضافة إلى الانحسار المستمر في قوة الحزبين الكبيرين، ازداد عدد الكتل المشكلة للكنيست من 10 كتل سنة 1992 إلى 11 كتلة سنة 1996 وإلى 15 كتلة سنة 1999.
3) الارتفاع المستمر في: أ) قوة حزب شاس، في رأينا، على حساب الليكود ثم المفدال في أوساط اليهود الشرقيين. وفي سنة 1999، يكاد حزب شاس يوازي في قوته الليكود ذاته؛ ب) قوة الأحزاب العربية، من 5 نواب سنة 1992 إلى 9 نواب سنة 1996، ثم إلى 10 نواب سنة 1999.
4) الانخفاض في قوة حزب المهاجرين الروس ما بين سنة 1996 وسنة 1999، والذي يبدو أنه يناقض النزعة التي توجدها طريقة الانتخابات الجديدة، لكنه يعود في الواقع إلى الانشقاق في صفوفه وتوجه أصوات إلى حزب "إسرائيل بيتنا" المؤلف أساساً من المهاجرين الروس المبلورين أيديولوجياً في اتجاه يميني في محاولة لإقامة حزب أيديولوجي "يميني جديد" لا حزب قطاعي.
5) الانخفاض في قوة حزب المفدال ما بين سنة 1996 وسنة 1999 ناجم أيضاً عن انشقاق بقيادة حنان بورات في اتجاه تحالف مع حزب موليدت ضمن الاتحاد الوطني - والحزبان أيديولوجيا الطابع على الرغم من اتهام المفدال بالانتهازية.
بات من الواضح أن التوسع المستمر لحزب شاس، مثلاً، يتم على حساب حزب كبير هو حزب الليكود الذي يكاد يعود إلى صيغته الأصلية: حزب حيروت اليميني الذي يعتمد على طبقات وسطى أوروبية الأصل. وقد زال أصلاً حزب الليبراليين التاريخي الذي شكل معه بيغن حزب الليكود واندمج تماماً في الليكود ذاته. أمّا قواعده الاجتماعية العلمانية المنادية بالاقتصاد الحر، فقد انتقلت عملياً إلى تأييد حزب العمل مثلاً، أو حزب "شينوي" حالياً الذي يشبه الليبراليين في طابعه، والذي فاجأنا حصوله على ستة مقاعد. لقد شكّل التحالف بين حيروت والليبراليين نوعاً من منح الاعتبار والشرعية لحيروت في أوساط رجال الأعمال والفئات العلمانية الوسطية، الأمر الذي أهل حزباً يمينياً متطرفاً للوصول إلى السلطة. لكن العنصر الأساسي في تشكيل الليكود سنة 1977 كان القاعدة الشعبية الواسعة في أوساط اليهود الشرقيين، التي دأب بيغن في استمالتها عبر عملية تاريخية طويلة بدأت بنشوء نخبة شباب يهود شرقيين في مدن التطوير في الأطراف والبلدات الجديدة التي قامت في المركز ونقل إليها أهاليهم من معسكرات الاستيعاب الموقتة (معبروت). لم يستوعب حزب العمل (مباي) هؤلاء الشباب، ونفروا هم بدورهم منه كحزب السلطة الذي تعامل مع أهلهم ووسطهم الاجتماعي والثقافي بازدراء واضطرهم، بصورة غير مباشرة، إلى الخجل من أصلهم وثقافتهم. هذه مرحلة تماثل قيادات شرقية شابة مع الليكود، وقد برز منها دافيد ليفي، وموشيه كتساف، ومئير شيطريت، وشاؤول عمور، وعوفاديا ملافي، ممن بدأوا رؤساء بلديات في مدن التطوير في شديروت وكريات ملاخي ومغدال هعيمك والعفولة وغيرها، وأعضاء كنيست ووزراء فيما بعد.
واجه أفراد الإنتلجنسيا الشرقية الصاعدة فترة حكم مباي، الذي أصبح حزب العمل بعد انصهاره مع حزب أحدوت هعفوداه، بمرارة يشوبها الشعور بالنقص أمام النخبة الأوروبية الصهيونية التي أقامت الدولة ثم أتت بهم كمهاجرين. لكنْ هنالك أمر أساسي ميّز هؤلاء المهاجرين، ويميزهم حتى اليوم، من المهاجرين أو من الأقليات الثقافية، وهو الفارق الذي تصدق في تقويمه ووصفه أي مبالغة؛ إنه الادعاء الصهيوني الذي يجمع اليهود كلهم في أمة واحدة، ويجعل إسرائيل دولة لليهود كافة، على الرغم من أصولهم وانتماءاتهم. إن الصهيونية كدوغما رسمية للدولة العبرية لا تنكر على اليهودي، أياً يكن أصله، نوعاً من أسهم الملكية في إسرائيل، بل تشجعه على أن يتعامل مع الدولة كأنها ملك له. إذاً، فإن ردة الفعل على التمييز ضد اليهودي الشرقي الأصل قد تكون مرارة يشوبها الشعور بالنقص وإنكار الشرقي لشرقيته أو لعروبته، محاكاة لأولئك الذين يحكمون الدولة. وقد يتطور هذا الإنكار أو الخجل من الأصل إلى حقد على هذا الأصل، وعلى العرب عامة؛ حقد الإنسان على ما يحول دون أن يصبح مساوياً للنخبة الحاكمة في إسرائيل والمتنفذة في جيشها واقتصادها وبرلمانها وقضائها... إلخ.
لكن مهما يبلغ إنكار الذات من حدة فإن العلاقة بالدولة لا تتحول إلى علاقة اغتراب، وإنما تبقى المرارة مدفوعة بالرغبة في الانتماء، هذه الرغبة المؤسسة على كون الدولة دولة اليهود. ويجد اليهودي الشرقي نفسه مشدِّداً على يهوديته، ومبالِغاً في التشديد عليها. وربما لأنه لا يستطيع التشديد على عناصر التشكل القومي المشترك، أي الشراكة في المراحل الأولى لبناء الصهيونية، أو الهولوكوست كأحد العناصر الأساسية المكونة للذاكرة الجماعية، فإن التشديد يتم عبر العناصر السلبية المكونة للوعي القومي الحالي والتي ترسم الحدود مع الآخر العربي. وهذا أحد أسباب الظاهرة المحيرة لانتشار الآراء المسبقة والمواقف الأكثر حدة ضد العرب بين الطوائف الشرقية.
إن اليهودي الشرقي، خلافاً للعربي ابن الأقلية القومية العربية، يطالب بحصته من الدولة عن طريق التشديد المبالغ فيه على صهيونيته، بما في ذلك بإسقاطها على التاريخ بأثر رجعي عبر إعادة كتابة التاريخ[7]. وقد نشأ تاريخياً لدى أبناء النخبة السياسية اليهودية الشرقية ثلاثة أنماط فيما يتعلق بمواجهة واقعها المتردي في محاولة لتحسين مواقعها في مؤسسات الدولة القائمة: 1) الاندماج في حزب مباي (العمل)، وأداء دور اليهودي الشرقي في "بلاط" هذا الحزب. وقد نجحت الاستراتيجيا، بصورة خاصة، لدى اليهود من أصل عراقي الذين قدموا إلى الدولة العبرية من خلفية اقتصادية/ثقافية أقوى كثيراً من بقية اليهود الشرقيين، وشغلوا مناصب في الحكم العسكري نتيجة تمكنهم من اللغة العربية الفصحى - خلافاً ليهود المغرب العربي - وفي الجامعات، وفي الإذاعة والتلفزة بالعربية، وفي جهاز الدولة - ومن هؤلاء: مردخاي بن بورات؛ شلومو هيلل؛ موشيه شاحك؛ رعنان كوهين؛ ومؤخراً بشكل مختلف تماماً آفي يحيزكيل؛ داليا ايتسيك؛ بنيامين بن - إليعيزر. وشملت هذه الاستراتيجيا بعض المغاربة: رافي إيدري؛ إيلي بن - مناحم؛ رافي إيلول؛ والشخصية البارزة شلومو بن - عمي؛ 2) الحركات الاجتماعية: الفهود السود في نهاية الستينات وبداية السبعينات؛ حركة عمال ميناء أشدود في 8/10/1975؛ تمرد وادي الصليب سنة 1959؛ حركة أوهليم؛ ومؤخراً جداً حركة "هكيشت همزرحيت" (القوس الشرقي). وقد دمجت هذه الحركات الاحتجاج الطبقي الاجتماعي في التشديد على أن طابع الدولة هو طابع أوروبي يميز ضد اليهود الشرقيين. ثم تجاوزت الطابع الاحتجاجي الاجتماعي في فترة انقراض حركة الفهود السود بعد أن فقدت قواعدها الاجتماعية، إذ حاولت الربط بشكل هش ومصلحي بين الاحتجاج الاجتماعي والتأكيد المشترك مع العرب هويةً وقضيةً. ونلاحظ هذا التوجه بصورة أكثر جذرية حالياً لدى "هكيشت همزرحيت"، مع الإشارة إلى كونها حركة سياسية ثقافية نخبوية الطابع. وما عدا الحركة الأخيرة التي تنجح من حين إلى آخر في إثارة قضية اليهود الشرقيين كقضية شاملة، نستطيع القول إن هذه الحركات الاجتماعية قد فشلت كاستراتيجيا في اختراق المؤسسة الحاكمة، إلاّ في إجبارها المؤسسة الصهيونية على التكيف وفقها في كل مرة. والتكيف يعني التعبير عن استيعاب رموز وقادة هذه الحركات في هذه المكانة البرلمانية أو تلك؛ 3) ظلت استراتيجيا النخب اليهودية الشرقية لتجاوز أوضاعها المتردية، ومن أجل التقدم في الهرم السياسي، تتمحور حول الانضمام إلى أحزاب اليمين الإسرائيلي كحركة معارضة قادرة على إطاحة حزب العمل، وتستخدم التمييز ضد اليهود الشرقيين أداة لتحرضهم ضد حزب العمل. لقد كان حزب الليكود، ذو القيادات الأوروبية الأصل، أكثر قدرة على التعامل مع الأوساط الاجتماعية الفقيرة الشرقية الأصل، وأكثر دينامية في إبراز قيادات يهودية شرقية.
ما زال انقلاب 17 أيار/مايو 1977 قادراً على إثارة مشاعر الكبرياء لدى أوساط واسعة من اليهود الشرقيين شعرت بأنها استردت كرامتها في ذلك اليوم بعد أن أخذت بثأرها من حزب العمل، وأن فترة حكم مناحم بيغن فتحت المجال لنوع من تساوي الفرص أمام النخب اليهودية الشرقية، على الرغم من أن الفجوة بين الغني والفقير ازدادت بوتائر متسارعة في عهده.
كانت هذه الاستراتيجيات جميعاً استراتيجيات اندماجية في نهاية المطاف، تسلم ببوتقة الصهر، وبعملية بناء الأمة والتقدم من خلال هذه العملية. وقد رافقتها عملية أسرلة للطوائف الشرقية عبر الخدمة العسكرية، والاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي، وفي المؤسستين السياسية والثقافية الإسرائيليتين. لكن يبدو أن هذه العملية لم تتغلب على مشاعر الغبن والقهر التي لم تقم الذاكرة الجماعية المهانة بتغذيتها فحسب، بل غذّاها أيضاً الواقع ذاته الذي بقيت فيه أغلبية ساحقة من الفقراء وسكان أحياء الفقر ومدن التطوير من أبناء الطوائف الشرقية، الذين يشكلون بين طلاب الجامعات نسبة أقل كثيراً من نسبتهم بين السكان، في حين تنقلب النسبة بين نزلاء السجون.
وعندما قام حزب "شاس" مجسِّداً نمطاً جديداً من التعامل مع واقع اليهود الشرقيين في الدولة، وجد واقعاً شعبياً محافظاً. وهذا الواقع حافظ على نوع من الهوية الفولكلورية الشعبية على الرغم من الأنماط الاندماجية السائدة، وعلى الرغم من قوة الهويتين اليهودية والإسرائيلية والتشديد عليهما، إذ إن بعض التقاليد الشعبية الدينية لم ينقطع في الأوساط الشعبية اليهودية الشرقية، وذلك عبر تقديس الأولياء وقبورهم والتبرك بهم والبحث عن تعاويذهم وشرائها. كما لم تنقطع في هذه الأوساط تقاليد محلية موروثة من البلاد التي هاجروا منها. فالمغاربة يحتفلون سنوياً بعيد "الميمونة"، والأكراد يحتفلون سنوياً بعيد "سهرانة"... وهكذا.
أنشئ حزب "شاس" سنة 1984، بقيادة روحية من حاخام أشكنازي من القيادة الأورثوذكسية الأشكنازية، هو الحاخام إليعيزر مناحم شاخ، احتجاجاً على عدم تمثيل اليهود الأورثوذكس الشرقيين في قائمة "أغودات يسرائيل" التي كانت الممثل السياسي الحزبي الوحيد للأورثوذكسية اليهودية. وقد أقام الحاخام شاخ في حينه حركة أورثوذكسية أُخرى هي "ديغل توراه". كانت بداية حزب "شاس"، إذاً، بداية نخبوية أورثوذكسية لا علاقة لها بالتدين الشعبي والفولكلور اليهودي الشرقي ضمن الهوية الإسرائيلية. وبعد عملية طويلة من النقاش اللاهوتي، وجدلية العلاقة بالواقع اليهودي الشرقي التي طغت على النقاش اللاهوتي نتيجة الدينامية التي يفرضها شكل التنظيم الحزبي والبراغماتية اللازمة للتحول إلى قيادة لقطاع واسع من السكان محدد ومعرف بهويته، تم فسخ العلاقة الحزبية وحتى الروحية بالتدريج مع القيادة الأشكنازية، وتوثيق العلاقة بأحد رموز التدين الشرقي المتسامح مع التدين الشعبي الفولكلوري، على الرغم من كونه جزءاً من المؤسسة الدينية، ألا وهو عوفاديا يوسف. وقد قاد هذه العملية السياسي الشاب أرييه درعي.
طور حزب "شاس" نمطاً جديداً من العمل السياسي في أوساط اليهود الشرقيين، لا هو احتجاجي ولا هو اندماجي في أحد الأحزاب الكبيرة القائمة، وإنما هو نمط يراهن على الهوية اليهودية الشرقية في لباس ديني تقليدي من أجل توسيع التمثيل البرلماني لحزب يعلن بوضوح أن هدفه الأساسي هو الوصول إلى المشاركة في السلطة، وفي عملية تقسيم الثروة القومية اليهودية، عبر التأثير في ميزانية الدولة لمصلحة القطاع الاجتماعي الذي يمثله.
وقد أثبت هذا النمط من العمل السياسي نجاحاً منقطع النظير، وخصوصاً في ظل طريقة الانتخابات الجديدة، والتي ازداد تمثيل الحزب في ظلها من 6 أعضاء في الكنيست، قبل تغيير طريقة الانتخاب سنة 1992، إلى 10 أعضاء سنة 1996، ثم إلى 17 عضواً سنة 1999. فقد مكنت طريقة الانتخاب الجديدة النخبة الشرقية القادمة من المدارس الدينية الأورثوذكسية من استخدام الهوية، والفولكلور، ومشاعر الانتماء، والذاكرة الجماعية، والمهانة، والاغتراب التاريخي عن عملية نشوء وتشكُّل الحركة الصهيونية رأسَ مال رمزياً يستثمر في الصراع بشأن مواقع السطوة والقوة في الدولة، كمقدمة لإعادة توزيع الثروة. لدينا مثال كلاسيكي لاستخدام القوة الانتخابية من أجل الوصول إلى مواقع التحكم في عملية صرف ميزانيات الدولة كتعويض عن عدم القدرة على التنافس الاقتصادي ضمن قوانين السوق السائدة. ولقد كان هنالك، في السابق، محاولة مشابهة قام بها أهرون أبو حصيرة لتأسيس حزب ديني شرقي الطابع بعد انشقاقه عن حزب المفدال، وحاز ثلاثة مقاعد برلمانية في انتخابات الكنيست العاشر سنة 1981، لكن هذا العدد تراجع إلى مقعد واحد سنة 1984 بعد أن خسر الحزب عدة أصوات لحزب شاس الذي استمر في الطريق نفسه بنجاح أكبر.
يبدو حزب "شاس" معتدلاً فيما يتعلق بقضايا السلام. والحقيقة أنه غير معتدل بقدر ما تعتبر قضيتا السلام والحرب قضيتين ثانويتين لا بالنسبة إلى الدولة والمجتمع، وإنما بالنسبة إليه كحزب يمثل قطاعاً اجتماعياً محدداً. و"شاس" مستعد لأن يكون في أي ائتلاف، ائتلاف حرب أو ائتلاف سلام، من أجل خدمة مصالح هذا القطاع السكاني، على الرغم من ميله إلى مواقف توفيقية تدعم الحلول الوسط في قضية السلام وتدعو إلى الانسحاب من لبنان، ولا تختلف جذرياً عن مواقف حزب العمل. القضية الأيديولوجية الوحيدة التي تمثل موقعاً عالياً في جدول أعمال حزب "شاس" هي قضية علاقة الدين بالدولة، وطابع قوانين الأحوال الشخصية المحافظ، والحفاظ على السبت... إلخ. وحتى في هذه القضية لا يرفع حزب "شاس" راية الأصولية الدينية بالتصلب والتزمت أنفسهما اللذين لدى حزب "أغودات يسرائيل" أو استمراره الحالي "يهدوت هتوراه".
هذا النوع الجديد من الحركات السياسية القطاعية (sectorial) يبدي قدرة ملحوظة على المناورة تفسر خطأً بأنها اعتدال سياسي أيديولوجي. وهذه المرونة السياسية نفسها قائمة لدى حزب المهاجرين الروس، وكذلك بدأنا نلحظ بوادرها مؤخراً لدى بعض الأحزاب العربية التي باتت تتصرف كأحزاب قطاعية (بدلاً من إسلامية أو شيوعية) ضمن عملية الأسرلة ونمو الهويات الجزئية في ظل الأسرلة كعملية جدلية واحدة.
أخطأ بعض المعلقين العرب (الذين يطلق عليهم غالباً لقب غريب خاص بثقافتنا هو لقب "المراقبين") عندما اعتبر ظاهرة التعبير السياسي عن القطاعات الاجتماعية، المعرفة بالأصل والثقافة وغيرهما، دليلاً على تفتت المجتمع الإسرائيلي ومؤشراً إلى إمكان انهياره في المستقبل في حالة التوصل إلى اتفاقيات سلام مع إسرائيل. والفرضية هنا أن ما يعين اليهود على تفتتهم ويوحدهم عليه هو حالة الحرب مع العرب والتهديد الأمني المستمر، وأنه عندما تزول أسباب الوحدة لن يجدوا ما ينصرهم على حالة التفتت فيتمزق المجتمع شر تمزق. وقد بدأ التعبير السياسي عن الحالة الثقافية والاجتماعية غير المتجانسة في أحزاب وقوائم انتخابية قطاعية بعد أن شارف المجتمع الإسرائيلي على إنجاز عملية بناء الأمة وفي سياق هذه العملية بحيث تنشأ عن الوحدة تعددية، وعن التعددية صوغ جديد للوحدة. والتعددية السياسية الجديدة التي أتاحتها الطريقة الجديدة في عملية الانتخاب ليست حرباً أهلية بين طوائف بشأن استلام السلطة ضد الطوائف الأُخرى، أو بهدف الانفصال عنها. وقد يختلف الصهيونيون التقليديون مع الجدد في تقويم هذه التعددية سلباً أو إيجاباً، لكنها تعددية ضمن قواعد لعبة سياسية مقبولة عملياً، حتى من أولئك المعارضين أيديولوجياً لمبدئها الديمقراطي. وهنالك أمور تم إنجازها متعلقة بأولوية وحدة "الأمة" (بغض النظر عن تعريفها) ووحدة الكيان السياسي الذي يضمنها وقواعد اللعبة السياسية السائدة فيه، وأن لبنة هذا الكيان الحقوقية الأساسية ليست الجماعة الثقافية أو الأقوامية، وإنما الفرد المواطن ضمن "الأمة اليهودية" (مع إقصاء المواطن العربي طبعاً، لكننا نتحدث هنا عن تعددية ضمن إنجاز عملية بناء أمة لا تشمل العربي)، وأن هذا الكيان هو دولة اليهود؛ وهي دولة يهودية الطابع في الوقت ذاته (مع اختلاف في تعريف مضامين هذه التعابير تسمح به التعددية القائمة)، هذا عدا المقومات الموضوعية التي تشكلت كمعطى تاريخي: اللغة والثقافة العبرية ومؤسسات الدولة القومية ذات الشرعية الكاملة بالنسبة إلى الوجدان الشعبي: الكنيست؛ القضاء؛ الجيش؛ الحكومة.. والاقتصاد الجامع. إنها أطر جامعة تتم إدارة الخلافات داخلها، في حالة النقاش الأيديولوجي بين أحزاب أيديولوجية تختلف بشأن نوع العلاقة بين الدين والدولة، أو بشأن سياسة الحكومة، أو بشأن الاقتصاد وعملية توزيع الثروة والسياسة الضرائبية القائمة. لكن ألا تشذ الأحزاب ذات الطابع "الطائفي" والمعبرة عن مصالح قطاعية عن هذه القاعدة، وألا تشكل تهديداً للنسيج الجامع في عملية بناء الأمة؟ الإجابة هي لا. صحيح أن هذه الأحزاب تعبر عن مصالح قطاع معين، لكن ضمن التسليم بالمقومات القائمة للدولة والمجتمع والسعي من أجل حصة أكبر على صعيد الثروة القومية، أو من أجل استثمار الهوية رأسَ مال سياسياً في التنافس الحزبي البرلماني. لقد تأسرلت حتى الأحزاب الدينية الأورثوذكسية كي يكون في إمكانها أن تشدد على مصالح قطاعية ضمن المجتمع الإسرائيلي، وليس التعبير عن نيات أيديولوجية لقلب نظام الحكم في إسرائيل، أو لتغييره من أساسه.
وغالباً ما تضطر هذه الأحزاب لا إلى استخدام اللعبة البرلمانية أداتياً للحصول على مكاسب فقط، بل أيضاً إلى التسليم في خطابها السياسي بالإجماع الصهيوني القائم بالنسبة إلى قضايا الحرب والسلم، الأمر الذي يجعلها قابلة للدخول في عدة ائتلافات وراء الأحزاب الكبرى، ولاستخدام لغة قومية على صعيد "وحدة شعب إسرائيل" و"كلنا يهود"، ولغة الديمقراطية والمساواة من أجل تبرير مطالبتها بحصتها من الميزانية أو السلطة، أو للاحتجاج على مظاهر تمييز وانتشار آراء مسبقة بشأن ثقافة القطاع الذي تمثله.
والحقيقة أن وراء أساطير الأحزاب القطاعية عن الهوية الجامعة، وإيجادها لتقاليد جديدة لم تكن قائمة، وإسقاطها على التاريخ كثقافة فولكلورية جماعية، واستخدامها هذا كله رأسَ مال رمزياً في الصراع بشأن حصة أكبر على صعيد الحكم والميزانية ووظائف الدولة، يكمن أيضاً واقع تقف عليه، وهو الهوة الاقتصادية والثقافية الباقية على حالها بين الشرقيين والغربيين في إسرائيل، على الرغم من وصول أبناء أصول شرقية إلى سدة الحكم وإلى المناصب العليا في الدولة، بما في ذلك وزارات الخارجية والدفاع والمالية في حكومة نتنياهو، وبما في ذلك رئاسة الأركان وقيادة سلاح الجو، وعلى الرغم من وصول أفراد إلى نخبة رجال الأعمال في الصف الأول وملكية وسائل إعلام مركزية مثل صحيفة "معاريف". فإذا حسبنا أجر الفرد الشهري سنة 1998 بمعدل 100 نجد أن معدل أجور ذوي الأصل الغربي 146 والشرقي 92. أمّا العربي فمعدل أجره الشهري 72.[8]
كما نجد أن نسبة الشرقيين الذين حصّلوا تعليماً فوق الثانوي تبلغ 23.1%، في حين تبلغ النسبة بين ذوي الأصول الغربية 53.4%.[9]
وتلقي الأرقام التالية بعض الضوء على الهوة التعليمية الثابتة بين القطاعات الاجتماعية من أصول متنوعة:
يتضح من الجدول أن الفارق في نسبة طلاب الجامعات بين الشرقيين والغربيين كان 9% عام 1964/1965، وأصبح 10% عام 1995/1996.
لكن علينا أن نضيف هنا ملاحظتين بشأن هذه المقارنة النسبية:
1) إن الفارق بين أبناء آباء من مواليد إسرائيل وبين أبناء آباء من مواليد أوروبا وأميركا ليس كبيراً، مع أن قسماً كبيراً من الأوائل هو من أصول شرقية. وهذا يعني أن الوضع في الجيل الثاني ثابت، لكن الحالة التعليمية في الجيل الثالث تقترب من الانسجام ضمن هوية إسرائيلية واحدة.
2) إن نمط السلوك السياسي والاجتماعي لا يحدَّد بالفوارق النسبية فحسب، بل أيضاً بالتحسن القائم بالأرقام المطلقة. وهذه الفرضية الأخيرة تشمل أيضاً المقارنات الاقتصادية في الظروف المعيشية.
وعليه، فالفجوة في بداية وجود دولة إسرائيل كانت تفصل بين فقراء معدمين في معسكرات مهاجرين أُعدت للقادمين الجدد وبين المستعمرات الزراعية والنخب العسكرية والعمال المنظمين في نقابات، في حين أن الهوة حالياً تفصل بين من لديه حاسوب ومن ليس في حيازته حاسوب، أو بين عائلات تملك سيارتين كمعدل وعائلات تملك سيارة واحدة، وبين هامش متقلص جداً ممن لا يملكون سيارة على الإطلاق. فقد ارتفع مستوى المعيشة وتحسنت الظروف الحياتية اليومية بصورة عامة. وهذه معطيات تحدد السلوك السياسي بما لا يقل عن، أو ربما أكثر من، الهوة النسبية القائمة. ونمط العمل السياسي ينتقل من الاحتجاج الراديكالي، مثل انتفاضة وادي الصليب في 9/7/1959 من ناحية، أو محاكاة نخب حزب العمل المهيمنة ثقافياً والحاكمة سياسياً وتملقها من ناحية أُخرى، إلى نمط فيه قدر أكبر من الثقة بالنفس، والمطالبة لا برفع الجور والظلم فقط، بل أيضاً بالمساواة الكاملة ضمن "حصة مناسبة من الدولة"، أي ضمن الاندماج، في نهاية المطاف، في هذه الدولة والتشديد على الهوية الجامعة، انطلاقاً من حق الهوية الجزئية المستثمرة سياسياً في المشاركة في هذه الهوية الجامعة. ويحتاج المرء إلى قدر كبير من عقلية وخطاب التمني كي يستنتج من هذه الجدلية تفتتاً وانهياراً للمجتمع الإسرائيلي.
وفي بحث أجراه الباحثان آشر أريان وميخال شمير طُلب من الذين أُدرجوا في العينة المختارة من البالغين اليهود في إسرائيل أن يرتبوا هوياتهم بحسب الأولوية في نظرهم: يهودي أو إسرائيلي؛ الطائفة (شرقي أو غربي)؛ التدين أو العلمانية. وقد اختار 97% منهم هوية يهودي أو إسرائيلي كهوية أولى، وتتخلف الهويات الأُخرى بعيداً عن هاتين الهويتين.[10] ويحتل التقسيم شرقي وغربي المكانة الثانية.
نحن لا نوافق، طبعاً، على أن ما يتحكم في التصرف السياسي للفرد هو كيفية ترتيبه لهوياته المختلفة بحسب سلم أهمية في إجابات عن أسئلة استمارة. فالفرد لا يجيب كما يشعر فحسب، بل أيضاً كما يجب أن يظهر في اعتقاده. لكن الهوية المرغوب فيها (خلافاً للموجودة) مهمة أيضاً من حيث تعبيرها عن ثقافة سائدة في المجتمع، وبالتالي مهمة سياسياً أيضاً. كما لا نوافق على اعتبار التدين والعلمانية مجرد هوية مثل الهويات الثقافية القطاعية الأُخرى، وذلك لأن مسألة التدين والعلمانية في الحالة الإسرائيلية تطرح قضايا أُخرى تطال أسس الكيان الصهيوني وتعريف الأمة ومسألة الديمقراطية في إسرائيل، وكلها قضايا لم تعد التقسيمات بين طوائف شرقية وغربية تمسها وذلك بنشوء الهوية اليهودية الإسرائيلية الجامعة.
مسألة العلمانية والتدين في انتخابات سنة 1999
ساهم استثمار براك لمسألة الصراع بشأن طابع الحياة في الدولة العبرية بين المتدينين والعلمانيين، إلى حد بعيد، في انتقال أصوات يمينية علمانية التوجه من معسكر نتنياهو إلى معسكره. وقد أدرك خبراء الدعاية، الذين أحاطوا به، أهمية هذا الموضوع بالنسبة إلى الرأي العام الإسرائيلي العلماني مع ازدياد قوة وتأثير الأحزاب الدينية في الكنيست، وخصوصاً بعد انتخابات سنة 1996، إذ بلغ عدد نواب الأحزاب الدينية في الكنيست في مرحلة نتنياهو (الكنيست الرابع عشر) 23 نائباً، وكان عددهم في الكنيست الثالث عشر 16 نائباً. وبلغ عدد نواب الأحزاب نفسها 27 نائباً بعد انتخابات الكنيست الخامس عشر سنة 1999.
وقد تميز العقدان الأخيران عامة بصهينة الخطاب السياسي الديني الأورثوذكسي بصورة لم يسبق لها مثيل، إضافة إلى تديين الخطاب السياسي اليميني العلماني فيما يتعلق بقضايا "أرض إسرائيل"، لينتصر خطاب حزب المفدال الذي يجمع أصلاً بين الصهيونية والتدين في خطاب سياسي واحد. والجديد في الأمر أن مصوتي الأحزاب الدينية أصبحوا بعد تغيير طريقة الانتخابات مصوتين فوريين لمرشح معسكر اليمين، وبالتالي قام في إسرائيل معسكر سياسي ديني - يميني يكاد يكون عضوياً في تركيبه.
لكن، في فترة نتنياهو، تبيّن ثمن هذا التلاحم لا من حيث تأثيره في عقلانية عملية صنع القرار فقط، بل أيضاً من حيث عدم اكتفاء الأحزاب الدينية بالتعبير عن مصالح قطاع معين من السكان، وإنما عن رغبتها في التأثير في طابع الحياة في الدولة وتطوير مصالح جديدة تشمل ازدياداً في قوة المجالس الدينية وموظفيها وبيروقراطيتها، وفي نفوذ "الحاخاميات الرئيسية" التي تضم الحاخام الأعلى للأشكناز والحاخام الأعلى للشرقيين، وكلاهما موظف دولة (لكنهما باتا يتصرفان كقيادة روحية ودنيوية لجهاز إكليروس يهودي من نوع جديد نشأ في إسرائيل). كما تشمل هذه المصالح صناعة اقتصادية كاملة تجبي "ضرائب" وعائدات من مراقبة أهلية الطعام دينياً (كشروت) في المطاعم والفنادق، وتشمل المحاكم الدينية الشرعية التي تسيطر على الأحوال الشخصية: الزواج والطلاق والإرث وغير ذلك، وتشمل حتى عملية دفن الموتى. هذا عدا استغلال هذه الأحزاب لمختلف الوزارات والبلديات في سبيل تحويل الأموال إلى جمعياتها بأساليب متنوعة.
ومع ازدياد قوة الأحزاب الدينية انتشر نمط جديد من الدعاية الانتخابية يشمل استخدام التعاويذ واللعنات، وكتابة الحجب، والتبرك بالأولياء، ومباركة مرشح اليمين لرئاسة الحكومة، وحجيج السياسيين إلى الاحتفالات التي تقام على الأضرحة والمزارات، وطلب ود من كانوا يعتبرون في الماضي الصهيوني دجالين ومشعوذين، وازدياد عدد تلامذة المدارس الدينية المحررين من الخدمة العسكرية، والذين يبلغ عددهم حالياً نحو خمسين ألفاً.
لم تنشأ هذه المعطيات في مرحلة حكم الليكود أو نتنياهو، وإنما من خلال تطور مستمر بدأ بتحالفات حزب العمل مع الأحزاب الدينية باعتبارها، في حينه، أحزاباً وسطية سياسياً إلى أن أصبحت هذه الأحزاب ذات وزن يرجح كفة هذا المعسكر على ذلك، عند نشوء نظام المعسكرين في إسرائيل بعد انتخابات سنة 1977. ولذلك من غير المنصف تاريخياً تحميل مسؤوليتها لليكود (الذي لا يقل علمانية عن العمل، لكنه في نظر الناس البسطاء أكثر يهودية من حزب العمل).
غير أن نشوء التحالف العضوي بين اليمين والمتدينين، والمحكوم بلقاء الخطاب الديني المتطرف مع الخطاب القومي المتطرف بعد حرب 1967 - أي بعد لقاء مفهوم دولة إسرائيل مع مفهوم "أرض إسرائيل" - يضاف إليه فقدان الأمل لدى حزب العمل واليسار الصهيوني باجتذاب أصوات المتدينين في انتخابات رئاسة الحكومة، أدى إلى توجيه الدعاية السياسية نحو اليمين العلماني لاجتذابه. وقد بدأت الدعاية باستثمار تذمر المواطن اليهودي العادي إزاء خدمته الطويلة في الجيش والتي تشمل ثلاثة أعوام مهمة من حياته كشاب، تتلوها خدمة سنوية تبلغ 45 يوماً في الاحتياط، في مقابل تحرر اليهود المتدينين من تلامذة المدارس الدينية (يشيفوت) من هذا العبء وازدياد "امتيازاتهم" في الدولة على الرغم من ذلك بفعل قوة الأحزاب الدينية سياسياً. ثم انتقلت هذه الدعاية إلى استثمار نمط الحياة العلماني اللاهث وراء أسلوب الحياة الأميركية، والذي تتهدده قيود وإملاءات الأحزاب الدينية بشأن يوم السبت ونوع المأكل والمشرب وحرية الفنون وغيرها مما لا يتلاءم مع نمط الحياة السائد في مجتمع حديث واستهلاكي في نهاية القرن العشرين. وقد وجدت دعاية اليسار الصهيوني أرضاً خصبة.
وفي الماضي، عندما سادت المجتمع الصهيوني قيم جمهورانية تعبوية تطبقها عملية الاستيطان وبناء مؤسسات الدولة والجيش والاقتصاد، أو عملية بناء الأمة الحديثة، لم يكن اليسار الصهيوني بحاجة إلى مثل هذه الدعاية. فقد كانت الأحزاب الدينية هامشية التأثير وفي حالة دفاعية أصلاً عن نمط حياة المتدينين خارج المعسكر الصهيوني، معسكر بناء الدولة. وكانت القيم الجمهورانية القومية العلمانية اشتراكية الطابع، رافضة في الأساس للقيم الدينية من ناحية، وللقيم الاستهلاكية من ناحية أُخرى، ومعارضة للإملاء الديني بسبب طابعها العلماني، ولحق الفرد الليبرالي في اختيار نمط حياته على حد سواء بسبب طابعها الصهيوني التعبوي. ولقد كان آباء الصهيونية على قناعة تامة بأن معسكر المتدينين (حريديم) سينقرض وحده بفعل الضرورة التاريخية التي يفرضها نشوء دولة قومية حديثة، وباعتباره ظاهرة من ظواهر الشتات والمنفى.
لكن ما حدث في العقود الأخيرة هو نشوء ابن الطبقة الوسطى المصرّ على حقه في اختيار نمط حياته بعد الخدمة العسكرية، ومجتمع إسرائيلي استهلاكي يتفنن في صناعة أوقات الفراغ، وأحزاب دينية هجومية ترغب في فرض نمط حياة ديني ضمن عملية بناء الدولة اليهودية لا خارجها، وذلك خلافاً لما كان عليه الحال في دول المهجر.
هذا وضع جديد، لا شك في ذلك، إذ لم يخطر ببال الصهيوني العلماني، في الخمسينات والستينات، ابن المستعمرة الزراعية أو النقابة العمالية أو الكيبوتس الذي يختار الخدمة العسكرية في وحدات الجيش القتالية النخبوية، أن يطالب بخدمة المتدينين الأورثوذكس في الجيش تذمراً. فهو لم يعتبر الخدمة العسكرية واجباً فقط، بل اعتبرها أيضاً قيمة جمهورانية صهيونية تميزه من المتدين الأورثوذكسي ومن يهود الشتات، وتجعل منه يهودياً جديداً، إسرائيلياً. واليهود الأورثوذكس لم يدخلوا في اعتباراته ولم يقارن نفسه بهم، وربما لم يرغب في أن يخدموا معه في الجيش، لأنه أراد ألاّ يختلط بهم وأن يتركوا الجيش والدولة له. لكن العلماني اليساري الصهيوني اليوم يطالب بأن يُجنَّد أولئك للخدمة العسكرية، وينطلق من حقه كفرد في اختيار نمط حياته من دون إملاء الأحزاب الدينية.
في هذه المرحلة التي تتناقض فيها تطلعات وطموحات الجمهور العلماني التوجه في إسرائيل مع الائتلافات التي تضطر أحزابه إلى تشكيلها في الكنيست، توجه هذا الجمهور، بصورة مكثفة، إلى محكمة العدل العليا باعتبارها حصن العلمانية وحصن الديمقراطية الليبرالية الأخير ضمن المسلمات الصهيونية. وقد قبلت المحكمة العليا بهذا التحدي، وكاد الصراع بين العلمانية والتدين في إسرائيل يأخذ شكل صراع بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية، محدثاً أول اهتزاز حقيقي يهدد التقسيم الوظيفي بين السلطات في الدولة. فالمحكمة العليا لا تعتبر الديمقراطية حكم الأغلبية، وإنما حكم القيم الديمقراطية الليبرالية كما تراها هي، وقد تتناقض هذه القيم مع الحلول الوسط الجارية في الكنيست لإقامة ائتلاف أغلبية يرضي الأحزاب الدينية. لذا وضعت المحكمة العليا الكنيست أمام خيار صعب، إذ طالبته بسن قانون ينص على تجنيد طلبة المدارس الدينية اليهود أو يحررهم من الخدمة العسكرية، بحيث لا يترك الموضوع لسياسات الحكومات الائتلافية المتعاقبة. كذلك رفضت المحكمة العليا إغلاق شارع بار - إيلان الرئيسي في القدس أيام السبت، على الرغم من كون الحي الذي يشقه الشارع آهلاً بكامله بالمتدينين. أضف إلى ذلك عدم تساهل القضاء ومثابرته على محاكمة زعيم حزب شاس، أرييه درعي، راسماً حدوداً للهامش الأوسع الذي تمتع به وزراء الأحزاب الدينية عند التصرف في أموال الدولة. ولم يعد نادراً أن تسمع في الحوارات الأكاديمية الإسرائيلية مصطلحات منتزعة من سياقات تاريخية أُخرى، مثل "حرب ثقافية" (Kulturkamf) من ألمانيا القرن التاسع عشر، أو الحاجة إلى تطوير نظرية "مجتمع مدني"، أو الإكثار من الاستشهاد بالنظام السائد في الولايات المتحدة على صعيد القانون والسياسة.
تميزت السنوات الثلاث من حكم نتنياهو، 1996 - 1999، بتمحور النقاش السياسي والثقافي في إسرائيل حول موضوع العلاقة بين المتدينين والعلمانيين في المجتمع والدولة بصورة لم يسبق لها مثيل، وخصوصاً في ظل تطور لا سابقة له أيضاً في استهلاك وسائل الإعلام وتنافسها في عرض الدراما على الجمهور. ولا شك في أنه كان من الأسهل، في نظر المعارضة السياسية خلال مرحلة نتنياهو (حزب العمل وحزب ميرتس)، تسليط الاستراتيجيا الهجومية على نقطتين: 1) شخصية نتنياهو من خلال عملية إعلامية مكثفة هدفت إلى القضاء على شخصيته كسياسي؛ 2) قوة الأحزاب الدينية في ائتلافه ضمن أجواء ثقافية وسياسية محتدمة النقاش بشأن طابع المجتمع والنخبة. وقد بلغ هذا الصراع أوجه الرمزي في تظاهرة الآلاف من المتدينين "الحريديم" ضد المحكمة العليا بتاريخ 14/2/1999، والتي كان من السهل تسويقها كتحدٍ لسيادة القانون أمام حصن القانون والديمقراطية في إسرائيل؛ هكذا على الأقل في نظر أغلبية المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً في المراحل الأخيرة من محاكمة أرييه درعي بتهمة الفساد الإداري والمالي.
لقد كان من السهل توحيد النخب القضائية والإعلامية والاقتصادية نفسها الخائفة من شخصية نتنياهو، ومن الانقلاب الذي يحاول إحداثه في مبنى الدولة، مع الخوف الصهيوني القديم الدفين من هيمنة قوة ثقافية واجتماعية "ظلامية" أو "قرسطوية" على الدولة والمجتمع تذكّر بالقوى التقليدية التي سيطرت على الغيتو اليهودي في الصراع ضد صهيونية القرن التاسع عشر من ناحية، وضد الاندماج في سائر الشعوب من ناحية أُخرى.
أثارت تصريحات أفيغدور (إيفيت) ليبرمان، في الأسبوع الواقع ما بين 1 و7/4/1999، بعد انسحابه من إدارة ديوان رئيس الحكومة وعشية تشكيله حزباً جديداً هو حزب "إسرائيل بيتنا"، زوبعة إعلامية عبّرت عن مخاوف النخب المسيطرة على المؤسسة الإسرائيلية من تهديد يميني شعبوي الطابع يهاجم، من دون هوادة، جهاز الدولة البيروقراطي وقسم الميزانيات في وزارة المالية الذي يمنع انفلات عقال الاقتصاد الشعبوي، ويهاجم قناة التلفزة الأولى الرسمية والادعاء العام والشرطة والمحاكم بشكل سافر. وكان من الواضح أن المؤسسة الإسرائيلية التي تضم كل ما شمله ليبرمان في هجومه، يضاف إليها نخب الأحزاب الكبيرة، بما فيها الليكود، والتي اتهمها بالتواطؤ مع الأولى في عرقلة حكم نتنياهو، قررت أن تقاوم وأن تدافع عن وجودها أمام التهديدين: تهديد المتدينين، وتهديد اليمين الشعبوي الجديد.
لكن المتدينين لا يتحملون وحدهم المسؤولية عن تأجيج الصراع ووصوله إلى هذه الحدة. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر والصهيونية العلمانية تعرّف ذاتها، وتحدد موقعها السياسي والثقافي قياساً بالقيادة الدينية اليهودية في الغيتو. وهي على خلاف معها بشأن تعريف القومية اليهودية، وبشأن اعتبار الصهيونية عودة خلاصية إلى أرض الميعاد أم مجرد حركة علمانية (مسيانية أو خلاصية كاذبة من نوع حركات المسيح الكذاب شبتاي بن تسفي وغيره)، وبشأن اعتبار اليهود شعباً كباقي الشعوب تلزمه دولة قومية أم لا. وقد تحولت العلاقة علماني - صهيوني/متدين معاد للصهيونية إلى العلاقة المحددة للهوية الذاتية لكل طرف بتمييزها من الآخر. فالمعسكر العلماني هو علماني ضمن العلاقة بمعسكر متدين، وبمعسكر الحريديم كمعسكر مر بعدة تغييرات في تعريفه لهويته كردة فعل على التغييرات السريعة داخل المعسكر العلماني. وبهذا المعنى، وخلافاً للرأي السائد بشأنها كهوية جامدة غير متغيرة، عصفت بالهوية الدينية، كثقافة وكسياسة، تغييرات كثيرة ومتسارعة.
ونستطيع أن نحدد 5 محطات أساسية كانت فيها هذه الجدلية تحدد الفارق والتناقض الذي تُبنى من صراع أضداده وحدة واحدة جامعة جديدة:
1) في نهاية القرن التاسع عشر: في مقابل الحركة الصهيونية المنظمة ينتظم المتدينون الحريديم سياسياً في أحزاب وحركات مثل "أغودات يسرائيل"؛ 2) الوحدة بين الدين والصهيونية في أعمال الحاخام كوك الفكرية؛ 3) إقامة الدولة ونشوء الشرخ في الوعي اليهودي التاريخي بين الدولة العلمانية والدولة اليهودية؛ 4) تحويل التدين بعد حرب 1967 إلى قومية متطرفة عند المستوطنين، واللقاء بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل؛ 5) الشرخ العلماني/الديني بشأن نمط الحياة في إسرائيل، وقانون التهويد، وقوة الإملاء عند الأحزاب الدينية، والصراع مع المحكمة العليا، ونشوء حزب شاس في أواسط الثمانينات.
ولنأخذ أمثلة متأخرة لهذه الجدلية ساهمت في تحديد نتائج الانتخابات الأخيرة. فبعد مقتل رابين، عشية انتخابات سنة 1996، كان يبدو أن بيرس سينتصر بنسبة عالية تصل إلى الستين في المئة تقريباً، وأن تمثيل حزب ميرتس في الكنيست سيهبط إلى خمسة نواب، ذلك بأنه فقد تميزه من حزب العمل الذي فاوض منظمة التحرير الفلسطينية، وقاد عملية السلام من دون الاستناد إلى الأحزاب الدينية. إذاً كيف يميز ميرتس نفسه من حزب العمل الذي لم يهدم الجسور مع الأحزاب الدينية لحاجته إليها في الائتلاف؟ لقد قرر ميرتس أن يميز نفسه باتخاذ موقف من الأحزاب الدينية أكثر تشدداً من حزب العمل. هنا يبدأ ميرتس معركة حامية الوطيس ضد الأحزاب الدينية في محاولة منه لاجتذاب الأصوات العلمانية المتشددة. وهنا تردّ الأحزاب الدينية بهجوم على نمط الحياة في الكيبوتسات مثلاً، وضد العمل فيها يوم السبت. والأمر الأهم أن الرد كان يتم بالميل نحو اليمين والارتباط بالأحزاب اليمينية والتصويت الجارف لنتنياهو. لقد تحولت آلية الصراع داخل المعسكر العلماني بين حزب ميرتس وحزب العمل، وبسهولة فائقة، إلى تحديد للهوية الذاتية في مقابل الأحزاب الدينية، وإلى تحديد الأحزاب الدينية لهويتها بصورة كاملة كجزء من معسكر اليمين ضد هجومية اليسار الصهيوني المدفوعة بتناقضاته الداخلية.
مثال آخر لذلك يرافقنا منذ انهيار المنظومة الاشتراكية هو التأثير في التعريف الذاتي لكل من الهوية العلمانية والدينية عقب الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي سابقاً. لقد طرحت هذه الهجرة الجبارة، قياساً بحجم إسرائيل السكاني، والعلمانية إلى أبعد الحدود، من جديد وبحدة، مسألة العلاقة بين الهوية القومية اليهودية والهوية الدينية، وخصوصاً أن هذه الهجرة شملت على أقل تقدير ما يزيد على 200 ألف مهاجر غير يهودي بأي مقياس ديني. وقد رفضت المؤسسة العلمانية الحاكمة تعريض هذه الهجرة بأجمعها للخطر بنبش الأصل الديني لكل مهاجر، واعتبرت خدمة المهاجر في الجيش أو مقتل ابنه خلال خدمته في الجيش معيارين كافيين لمنحه المواطنة، في حين رفضت المؤسسة الدينية برمتها هذه الاعتبارات البراغماتية وأصرت على تحديد الأصل من طرف الأم، أو القيام بعملية تهويد معقدة بحسب الأصول الأورثوذكسية المعقدة الإجراء. وهنا طُرح سؤال جديد بشأن شرعية التهويد الأكثر سهولة بحسب الأصول الإصلاحية والمحافظة (reformist, conservative)، المستوردة من يهود الولايات المتحدة الذين يمرون بانقلاب لاهوتي لمسايرة الحداثة الأميركية[11]. فالأحزاب الدينية والمؤسسة الدينية اعتبرت أي تهويد آخر غير التهويد التقليدي المرعي، الذي تحتكره، اعتداءً على صلاحياتها وعلى نفوذها باعتبارها حارسة حدود الهوية اليهودية، وهي شرط حيازة المواطنة الإسرائيلية بموجب قانون العودة.
ما زلنا غير قادرين على حصر تأثير الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي سابقاً في الهوية اليهودية، إذ طرحت سؤالاً عن معنى الأمة اليهودية إذا لم يكن حراسها رجال الدين، لكنها طرحت سؤالاً آخر عن معنى عداء "الحريديم" أو المتدينين الأورثوذكس للصهيونية ما داموا يريدون الاضطلاع بدور البواب الذي يصنف أهلية الوافدين إلى المشروع الصهيوني ويوزع تذاكر الدخول فيه. فلو أن الأحزاب الدينية غير صهيونية، كما كانت، لما اكترثت - إلى هذا الحد - لمواطنة المهاجر إلى إسرائيل، أو لعدم مواطنته. فقد انطلقت هذه الأحزاب تاريخياً من التسليم بأن إسرائيل ليست هي دولة اليهود - الانخراط في جدلية العلاقة العلمانية الصهيونية يؤدي بالتدريج إلى صهينة الأحزاب الدينية.
ومثال ثالث لهذه الجدلية العنيفة، والتي يتسارع فيها تحول الضد إلى ضده، يبدأ من تبني اليسار الصهيوني والحركات النسائية لمقولات اللائق سياسياً (politically correct) من الولايات المتحدة[12].
فمن المفترض أن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة وخصخصة الخيار الديني. ولم يتدخل العلمانيون، في السابق، في مسألة الطقوس الدينية والفرائض وكيفية تنظيمها. لكن نلاحظ مؤخراً ازدياداً في المطالبة بأن تصلي النساء مع الرجال أمام حائط المبكى، والتقليد الديني يمنع ذلك.
لقد تأثرت الهوية العلمانية هنا بالصراع الدائر داخل المعسكر الديني بين الأورثوذكس والإصلاحيين (الذين يشكلون أغلبية ساحقة بين يهود الولايات المتحدة وأقلية ضئيلة بين اليهود في إسرائيل). فالتيار الإصلاحي يصر على صلاة النساء والرجال معاً، بما في ذلك أمام حائط المبكى، كما يطالب بتمثيل نساء عنه في المجالس الدينية اليهودية في عدة مدن في مركز البلد. وحزب ميرتس العلماني، الذي يفترض فيه أنه بعلمانيته لا يتدخل في الطقوس الدينية ولا يهمه كيف تدار الصلاة أمام حائط المبكى، والذي يفترض فيه أيضاً أن يطالب بحل المجالس الدينية (المعيَّنة من البلديات ووزارة الأديان) كجزء من فصل الدين عن الدولة، يدافع عملياً عن تمثيل النساء في المجالس الدينية وصلاتهن أمام حائط المبكى؛ أي أنه يقوم بعملية إصلاح ديني. من أجل ذلك عليه أن يبرر ذاته ضمن اليهودية. وهنا يبدأ التنظير العلماني بشأن الثقافة اليهودية والتعددية الدينية داخل اليهودية. وتنتشر مؤخراً في إسرائيل مدارس دينية علمانية لدراسة التلمود. أي أن الجدلية المذكورة أعلاه تساهم لا في صهينة الأحزاب الدينية فقط، بل أيضاً في تهويد الأحزاب العلمانية ثقافياً، وذلك بتعريف اليهودية من جديد في كل مرحلة.
الصراع العلماني الديني لم يفك إسار الهوية اليهودية، ولا يزال يتطور داخلها ويطورها في آن واحد. وقد تحول إلى محور الصراع الأساسي في المجتمع الإسرائيلي، وشهدت السنوات التي سبقت انتخابات سنة 1999 عدداً لا يحصى من الإصدارات والمؤتمرات والندوات بشأن الموضوع. وبذل منظرون من اليسار الصهيوني جهداً فائقاً في تطوير مفهوم جديد للأمة اليهودية لا يحتكر رجال الدين رسم حدوده.[13] كما حاول آخرون تحديد الصراع مع الغيبية الدينية بأنه الخطر الأساسي الذي يهدد إسرائيل.[14] وقد بلغت مبيعات كتاب سافي رخلفسكي ("حمار المسيح") رقماً قياسياً لم يسبق له مثيل، إذ تم بيع 155 ألف نسخة في عام واحد.[15] وهو ظاهرة تستحق التوقف عندها بسبب انتشاره الواضح وضعفه من حيث المستوى البحثي، مقارنة بالكتب التي صدرت في السبعينات والثمانينات والتي تحلل ظاهرة غوش إيمونيم والمسيانية والمعسكر الأورثوذكسي (حريديم). إذ يغلب على كتاب رخلفسكي الطابع الصحافي والتعميمات السريعة والعداء الشديد للأحزاب الدينية باعتبارها الخطر الأكبر على المجتمع الإسرائيلي لا على العرب. والجديد في هذا الكتاب أنه يحوّل الصراع من صراع مع المستوطنين بشأن قضية السلام إلى صراع مع الأحزاب الدينية كلها، بما في ذلك شاس وأغودات يسرائيل، باعتبارها جميعاً أحزاباً (مسيانية) خلاصية خطرة الطابع وتهدد بنية إسرائيل الديمقراطية. والحقيقة أن في الإمكان قول الكثير عن حزب شاس عدا أنه حزب خلاصي ثوروي الطابع؛ فلاهوته السياسي والديني ليس لاهوتاً مسيانياً وخلاصياً على الإطلاق.
وفي سياق هذا الخراج الثقافي والسياسي طرح براك وهو زعيم للمعارضة اقتراح قانون في الكنيست لتجنيد طلبة المدارس الدينية وتحديد عدد المحررين من الخدمة العسكرية. وسمح لنفسه، في هذا المجال، بألاّ يتملق الأحزاب الدينية على الإطلاق في المعركة الانتخابية. وفي هذه المرحلة التاريخية نشأت أحزاب جديدة علمانية يمينية الطابع تحاول أن تذكّر بالصهيونية المبكرة ذات الطابع الجمهوراني؛ أي أن محاولة حزب شاس إعادة "العز إلى سابق عهده"، كما ينص على ذلك شعاره الداعي إلى العودة إلى التقاليد، قوبلت بحركة علمانية، مثل حركة شينوي، تطرح عودة العز الصهيوني العلماني إلى سابق عهده.
في ظل هذا الخطاب العلماني يبدو "المفدال"، المتطرف سياسياً، أكثر قرباً من العلمانيين لأنه أكثر اعتدالاً في القضايا الاجتماعية، ولأنه يشارك في القيم القومية الجمهورانية مثل الخدمة في الجيش واعتبار الدولة قيمة عليا (على الرغم من مسؤوليته التاريخية عن مقتل رابين، لكن بعد انشقاق أوساط عنه تضع قضية "أرض إسرائيل" فوق مؤسسات الدولة). وكان مفروغاً منه أن يكون في ائتلاف براك على الرغم من تشدده في قضايا السلام والأرض والاستيطان. وكان حزب مثل ميرتس مستعداً لتفضيل الليكود على حزب شاس في الحكومة، إلاّ إنه اضطر إلى قبول الائتلاف معه مدفوعاً بضرورة وجوده مع حزب العمل في الائتلاف، وهو فرصته الوحيدة ليشارك في الحكم. ولم يطرح ميرتس سؤالاً عن وجود المفدال في الحكومة. وعادت إلى الأذهان دعاية ميرتس الانتخابية المتلفزة، والتي ظهر فيها يوسي سريد شخصياً يجول في شوارع إحدى المستعمرات غير الآهلة في الضفة الغربية، ويصدح في البيوت الخاوية: "هل يوجد أحد هنا؟"؛ هذه الدعاية عادت إلى الأذهان مثل مسرحية هزلية، وخصوصاً أن ممثل المفدال، يتسحاق ليفي، يتبوأ في الحكومة التي يشارك فيها ميرتس منصب وزير الإسكان.
وما دام الطرف الثالث في جدلية متدين/علماني غائباً فستبقى هذه الجدلية تنتج وحدة جديدة بين طرفي النقيض فيها، ونقصد بالطرف الثالث المواطنين العرب في إسرائيل. فإذا ولج هؤلاء معركة الديمقراطية الإسرائيلية فعلاً بمشروع دولة المواطنين، كمعركة علمنة للكيان الإسرائيلي، ستختلف قواعد الصراع، وبالتالي وحدة الأضداد القائمة، إذ لا يمكن أن يعيد الصراع في هذه الحالة إنتاج وحدة الهوية اليهودية الجامعة. لكن سلوك الأقلية العربية، كقطاع سكاني (sector) يدافع عن مصالحه من دون موضعتها في سياق مجمل الصراع الوطني الجاري من ناحية، وضمن السياق الشامل للصراع الجاري بشأن طابع دولة إسرائيل من ناحية أُخرى، يجعل دورها ثانوياً في جدلية العلمانية/التدين في إسرائيل. ففي الإمكان حالياً تخيل وضع يتحالف فيه العرب مع حزب شاس تكتياً ضد مطالب علمانية، وذلك خدمة لمصالح قطاعية. وقد حدث هذا فعلاً في الكنيست الرابع عشر عدة مرات. كما أن في الإمكان تخيل وضع يشترك فيه وزير عربي مع المفدال في الحكومة نفسها. وقد كان هذا مطلب إحدى القوائم العربية في المفاوضات الائتلافية مع براك. ويتطلب ولوج جدلية تدين/علمانية وتأجيجها، في اتجاه علمنة المجتمع والدولة في إسرائيل، قفزة كبيرة في التفكير السياسي عند العرب في إسرائيل وخروجاً من الهامش. ويؤدي السلوك الهامشي إلى الاستغناء عن المشروع السياسي الشامل بالمزايدة الوطنية اللفظية والبحث عملياً عن موقع ومصلحة ضمن النظام الإسرائيلي القائم، بحيث يقسم السياسي بأغلظ الأيمان أنه ليس ضد أمن دولة إسرائيل ولن يفضح لها سراً ليدخل لجنة الخارجية والأمن باعتباره مواطناً إسرائيلياً، ثم يزايد ويبالغ في وصف الغبن اللاحق به في الخطاب السياسي العربي كي يُقبل به عربياً. وهذه الازدواجية السياسية التي تكرس البقاء في الهامش لا تمنع السياسة العربية من اقتحام جدلية التدين/العلمانية إسرائيلياً.
اليمين واليسار بعد الانتخابات
يرتكز التقسيم الرائج في إسرائيل، إلى معسكري اليسار واليمين، على تقاليد تاريخية تمتد إلى الصراع بين حركة العمل الصهيوني التي سيطرت على "الييشوف" من جهة، وبين الحركة التنقيحية التي انشقت عن المؤتمر الصهيوني العالمي بقيادة جابوتنسكي من جهة أُخرى: الأولى اشتراكية الطابع بموجب التعريف الستاليني الرائج في حينه للاشتراكية بصفتها اقتصاد دولة؛ الثانية ليبرالية الطابع تستند إلى الطبقات الوسطى في المدن أكثر مما تستند إلى الاستيطان الزراعي العسكري الطابع وإلى العمل المأجور.
لكن هذه التقسيمات الطبقية السمات تغيرت تغيراً جذرياً مع التحول المتدرج الذي طرأ على أجنحة السياسة الإسرائيلية، والذي يشبه - إلى حد بعيد - التحولات التي طرأت على مفاهيم اليسار واليمين في أوروبا مع تطور الاقتصاد الرأسمالي، ومع ازدياد تأثير وسائل الاتصال في السياسة حتى ظهور المشهدية السياسية. فلقد فَقَد اليسار قاعدته الاجتماعية العمالية الشعبية، وبات يستند إلى طبقات وسطى جديدة تتسع باستمرار، وتحوّل اليمين الجديد (حتى التقليدي في الحالة الإسرائيلية) إلى مخاطبة فئات شعبية واسعة لها مصلحة معيشية في تدخل الدولة في الاقتصاد.
ورافق هذا التحول الاجتماعي الطبقي في تركيبة اليسار واليمين، وخصوصاً منذ السبعينات، توزيع لليسار واليمين بموجب الاستعداد للتسوية التاريخية مع الدول العربية، والتي تبدأ بالاستعداد لتسوية إقليمية تشمل الانسحاب من قسم، أو من كل الأراضي التي احتلت سنة 1967 في مقابل الاعتراف بإسرائيل والسلام الشامل معها. وظهر سلم جديد يتدرج عليه اليسار المتطرف واليسار والوسط واليمين المتطرف، يبدأ بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والقبول بها طرفاً في المفاوضات، والاستعداد للقبول بدولة فلسطينية كاملة السيادة (موقف يساري متطرف بموجب التقسيم الإسرائيلي في السبعينات)، وينتهي إلى مواقف استيطانية غيبية تعتبر الاستيطان في الأراضي التي احتلت سنة 1967 فريضة دينية وواجباً قومياً في آن واحد، وتعتبر السلام مع العرب قضية ثانوية في مقابل السلام الإسرائيلي القومي والداخلي.
همش هذا التقسيم العلاقة الضرورية بالطابع الاجتماعي الطبقي لليسار أو اليمين. وعلى الرغم من التقاء التعريفين في بعض الحالات، فإنهما افترقا في عدة حالات أُخرى. ثم تعدلت المعايير من جديد ليصبح الاستعداد للتسوية الإقليمية موقفاً وسطياً، ثم أصبح مجرد الاستعداد للتفاوض مع منظمة التحرير موقفاً لا يميز اليسار بعد أوسلو. وأضيفت مقاييس جديدة إلى اليسار واليمين في إسرائيل تتعلق بالعلاقة بالأحزاب الدينية ومدى أهميتها بالنسبة إلى كل حزب. واستطاع حزب العمل (إسرائيل واحدة) في الانتخابات الأخيرة أن يلتقي مع فئات علمانية يمينية (يسرائيل بعلياه وحركة شينوي) منحته أصواتها لرئاسة الحكومة، وذلك نتيجة عدم الارتياح الذي أحدثته التعريفات الجديدة لليمين في فترة نتنياهو، والتي جعلت التداخل العضوي البنيوي بين اليمين والأحزاب الدينية من سمات اليمين الأساسية. وقد عبّر نتنياهو عن هذا الإشكال الذي أصاب اليمين العلماني في خطاب ألقاه أمام طلاب إحدى المدارس الدينية في القدس، بعد أسبوع فقط على سقوط حكومته في 17/5/1999، عندما أكد حرفياً استحالة الفصل بين الدين والدولة في إسرائيل، واستحالة الفصل بين الدين والقومية في اليهودية. وقد عبّر بهذه الجملة اليتيمة عما نحاول إثباته في أبحاث مطولة عن تناقض الموقف الصهيوني العلماني في هذا البلد؛ فجملته هذه كانت أكثر قيمة من عشرات الأبحاث عن الموضوع.
قلنا، في بداية هذا المقال، إن الكنيست الإسرائيلي الحالي يميني الطابع في أغلبيته. لكن هذه الأغلبية، في المنظور السياسي، تندرج ضمن "إجماع قومي" إسرائيلي يمتد من ميرتس حتى الليكود مروراً بحزبي العمل وشاس، ويقبل بتسوية إقليمية مع سورية ولبنان والفلسطينيين، فيطمس بذلك الحد الفاصل بين ما اصطلح على تسميته اليسار واليمين ضمن الأحزاب الصهيونية. وتتغير طبعاً هذه الأحكام الأخيرة طبقاً لموقع الأحزاب: خارج السلطة أو داخلها. فوجودها في السلطة يجعلها أكثر تكيفاً وفق "الإجماع"، وبقاؤها في المعارضة يعني أيضاً التشديد على تمييزها من السلطة، وبالتالي تغييب الإجماع. وهكذا نستطيع أن نجزم أنه لو نجحت المفاوضات الائتلافية مع حزب الليكود لكانت مواقفه، فيما يتعلق بالمفاوضات مع العرب، أكثر اعتدالاً مما سيتخذه من مواقف مشاكسة وهو في المعارضة.
وحتى حزب المفدال الأيديولوجي الطابع، فيما يتعلق بقضية "أرض إسرائيل"، فقد بات مستعداً للتكيف وفق واقع أوسلو، أي الاعتراف بالكيان الفلسطيني حقيقةً ناجزةً بشروط بقاء الاستيطان تحت السيادة الإسرائيلية ضمن حيز حياة حيوي يشمل التوسع كما يشمل الشوارع الالتفافية ومحاور المواصلات الرئيسية. لقد أصبح النقاش بين هذه التيارات نقاشاً تفصيلياً يدور في شأن مساحة أرض الكيان الفلسطيني، وحجم سلطاته ضمن كونه كياناً مجتزأ الأرض ومجتزأ السيادة على الأرض. لكن تقسيم الموقف مع أوسلو، أو ضده، لم يعد يصلح أساساً للتوزيع بين يسار ويمين ضمن المعسكر الصهيوني، فقد تم التسليم بأوسلو إسرائيلياً. ويتمحور الصراع حالياً بين مغزى هذا التسليم الإسرائيلي بأوسلو، أو بكلمات أُخرى الإجماع القومي الإسرائيلي، وبين الشروط المتفق عليها فلسطينياً وعربياً للسلام العادل والدائم.
وكما اختلطت تعريفات اليمين واليسار بشأن قضية العلاقة بالأحزاب الدينية، فإن قسماً كبيراً من اليمين الإسرائيلي أخذ يتبنى مواقف اليسار الصهيوني العلماني من سطوة الأحزاب الدينية، وخصوصاً من قضيتين اثنتين: 1) تجنيد طلاب المدارس الدينية (يشيفوت)؛ 2) أولوية القانون الوضعي والمحاكم المدنية، وعلى رأسها المحكمة العليا، على الشريعة اليهودية وأحكامها. وهذا إضافة إلى عدة قضايا تتعلق بعلمنة الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق وميراث ورفض إملاءات التقاليد الدينية على نمط الحياة السائد.
ومع أن فئات واسعة من اليمين الإسرائيلي من حزب الاتحاد الوطني (موليدت بالتحالف مع أعضاء كنيست يمينيين من المفدال والليكود)، وحتى أوساطاً في الليكود، ما زالت تتبنى المواقف التقليدية لليمين من قضية التسوية ومن قضية العلاقة بالأحزاب الدينية، وعلى الرغم من أن فئات من اليسار الصهيوني ينضوي بعضها خلف لواء حزب ميرتس وحزب العمل تشدد على مواقف أكثر جذرية من قضية السلام، فإننا في المجمل أمام واقع جديد وتقسيمات جديدة جعلت انتصار إيهود براك انتصاراً غير انقلابي لأنه لا يعبّر عن انتصار اليسار على اليمين، ولا عن انتصار قوى السلام على قوى الحرب، وإنما عن انهيار التعريفات القديمة لليسار واليمين وفرض مفهوم الإجماع القومي للسلام كتسوية ضمن الشروط الإسرائيلية.
إذا كان هناك إصرار على مفاهيم اليسار واليمين على الساحة الإسرائيلية، يُسأل إذاً السؤال: ماذا يعني اليسار واليمين بمعايير قضية السلام والحرب؟ وماذا يعني اليسار واليمين بمقاييس العلاقة بالأحزاب الدينية والدين والدولة؟ وماذا يعني اليسار واليمين بالتعريف الاجتماعي الذي لا يكاد يعار انتباهاً؟ وهل هنالك مقاييس أُخرى، غير مستخدمة حتى اليوم ونحتاج إلى استخدامها من أجل هذه التقسيمات، ذات معنى في هذه المرحلة الجديدة؟ لم يعد في الإمكان، إذاً، التمييز بين اليسار واليمين في إسرائيل بحسب الموقع الذي يحتله الحزب على إحداثيات الموقف من أوسلو من ناحية، والموقف من الأحزاب الدينية من ناحية أُخرى، ما عدا في الحالات الراديكالية الجذرية. فقد اتفق كل من اليسار واليمين الصهيوني العلماني على معادلة تجمع بينهما، وتحدد موقفاً من عملية أوسلو كواقع تاريخي يجب الاتفاق على محصلته النهائية في إجماع قومي. كذلك تجمع بينهما الرغبة في الحد من نمو الأحزاب الدينية على حساب الطابع العلماني للحياة اليومية، وعلى حساب قوة الأحزاب اليمينية، مثل الليكود. لكن التسليم بواقع أوسلو لا يعني التسليم بمبادئ مثل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، أو بمبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة. كما أن اقتناع اليسار واليمين الصهيونيين بضرورة وقف النمو السريع للأحزاب الدينية لا يعني الاقتناع بمبدأ فصل الدين عن الدولة. وفي تصريح لموشيه أرينز،[16] تعقيباً على الائتلاف الممكن بين حزبه وحزب العمل، يؤكد الوزير التقليدي في نزعته اليمينية الحيروتية أنه منذ سنة 1967، وبعد أن تبين عدم إمكان ضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى إسرائيل، أصبح الفارق بين الليكود وحزب العمل من حيث التعامل مع التسوية فارقاً في الدرجة، لا في الجوهر. فالليكود يسعى لأقل انسحاب ممكن ضمن التسوية، ووجوده في السلطة (أو وجوده قوياً في المعارضة) ضمان لذلك. وينفي أرينز، في هذا التصريح، وجود خلافات اجتماعية بين العمل والليكود. وهذا هو بالضبط ما نقصده عند الحديث عن خلاف في الدرجة، أو في النسبة بين العمل والليكود. ولا شك في أن وجود الليكود في المعارضة سيزيد في تشدده، في حين تخفف المشاركة في الائتلاف من حدة الفوارق. وهذا التدرج في المواقف بين اليسار واليمين الصهيونيين يوجِد فارقاً بينهما، لكنه يؤطره ضمن وحدة قيمية واحدة، سواء في القضايا الاجتماعية: التسليم باكتساح قوانين السوق للاقتصاد، مع الخلاف بشأن سيطرتها على كل نواحي الحياة الأُخرى؛ التسليم بوحدة الدين والأمة وبالعلاقة الإسرائيلية الخاصة بين الدين والدولة؛ أو في القضايا السياسية: إملاء الشروط الإسرائيلية التاريخية على الأطراف العربية، وذلك بفعل موازين القوى عند الحديث عن تسوية تاريخية بين العرب وإسرائيل؛ التسليم بيهودية الدولة كأمر مفروغ منه عند التعامل مع موضوع مساواة العرب في إسرائيل... إلخ.
يُفترض، إذاً، عند تشكيل يسار يطرح مواقف متميزة قيمياً ضمن الخريطة السياسية القائمة، وعلى قاعدة الرغبة في التأثير ورؤية الفارق ولو في الدرجة بين مختلف القوى السياسية، البحث عن قيم اليسار، وقيم الحرية والمساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية المناقضة لقيم اليمين ليس فقط في الدرجة. والقيم توجه برامج سياسية، والبرامج السياسية تصنع بغرض قيادة عمل القوى السياسية وتجنيد القوى الاجتماعية المؤيدة لها من أجل التأثير. ويتطلب هذا التأثير رؤية الفوارق ولو في الدرجة والنسبة بين القوى السياسية القائمة، كما يتطلب الكشف عن تناقضات المجتمع الإسرائيلي الاجتماعية والسياسية، والتي تجعل هذه القيم السياسية تتحول من صيغة الحلم واليوتوبيا إلى صيغة البرنامج السياسي الذي يستند إلى واقع يتم الانطلاق منه، وليس فقط إلى غاية ينشدها. ولقد طرحنا في حينه، وما زلنا نطرح، مشروع "دولة المواطنين" أو "دولة لجميع مواطنيها" كمشروع يتضمن مطلب المساواة للعرب في إسرائيل مؤطراً هذا المطلب في صيغة معادية للصهيونية. فتحويل الدولة من دولة يهودية إلى دولة جميع المواطنين يناقض طابع الدولة الصهيوني، ويتطلب أيضاً فصل الدين عن الدولة. ويضمن تبني هذا المشروع أن تشير بوصلة مطلب المساواة لدى المواطنين العرب إلى اتجاه معاد للصهيونية. وهذا يفسح المجال ضمن ظروف الأسرلة الاقتصادية والسياسية لتسهيل معركة التمسك بالثقافة والهوية القومية والوطنية.
هذه أهداف تستحق أن يتم من أجلها تبني مشروع دولة المواطنين كمشروع للأقلية القومية العربية. فمطلب المساواة يجب ألاّ يتحول إلى عملية صهينة، فضلاً عن أن هذا المشروع قد فتح الأعين على عدة مطالب لم تكن قائمة في السابق، وألقى الضوء على المجتمع الإسرائيلي من زاوية لم تكن قائمة في السابق، سمحت بنقده من الزاوية الديمقراطية. كل هذا جيد وحسن من ناحية الأقلية العربية. فهذه الأقلية قادرة، لو توفرت الإرادة لدى قواها السياسية الفاعلة، على تبني المشروع من أجل هذه الأهداف، في حين أنها غير قادرة وحدها على تنفيذه بالنسبة إلى مجمل المجتمع الإسرائيلي، أي تحويل إسرائيل فعلاً من دولة اليهود إلى دولة لجميع مواطنيها. من أجل ذلك يجب أن تتبنى المشروع قوة سياسية إسرائيلية تعبّر عن مصلحة اجتماعية أو سياسية ما، أي تستند إلى تناقضات فعلية قائمة في الواقع الإسرائيلي الاجتماعي والسياسي. إذا لم يتميز اليسار من اليمين في إسرائيل قيمياً، بأن يطالب بالمساواة الديمقراطية فعلاً عن طريق تبنيه مشروع دولة المواطنين كمشروع يؤدي إلى فصل الدين عن الدولة، فإنه ليس يساراً. هذا هو التميز الفعلي الذي يجعل الموقف من الأحزاب الدينية علمانياً فعلاً لأنه ينطلق من فصل الدين عن الدولة. فالمغالاة في العداء لحزب شاس ليست تعبيراً عن موقف يساري، وذلك لأنها تتجاهل جذور شاس الاجتماعية وترجمته المشوهة - المحافظة واليمينية - لتطلعات جماهير واسعة ومسحوقة، وتعبيره عن أزمة هوية شرقية فقدت جذورها. ولا شك في أن مطلبي فصل الدين عن الدولة، ودولة لجميع مواطنيها، يتطلبان صراعاً مع حزب شاس، كحزب يميني ديني محافظ وصهيوني أيضاً، لكنه صراع من نوع آخر غير الذي تخوضه الأحزاب للحد من قوة شاس الائتلافية، أو خوفاً على نمط حياة الطبقات الوسطى العليا في إسرائيل.
عندما تتبنى الأقلية العربية في إسرائيل مشروع دولة لجميع مواطنيها، فيما يتجاوز التقليعة الدارجة والضريبة الكلامية، ستثار عدة أسئلة تلامس الأسئلة أعلاه. لكن الأقلية العربية في إسرائيل لا يمكنها أن تتحول بذاتها لتصبح اليسار الإسرائيلي الذي يطالب بفصل الدين عن الدولة، والذي يناقش الأحزاب الدينية اليهودية من منطلق يختلف عن منطلق حزبي العمل وميرتس: أولاً، لأنها غير قادرة على أداء هذا الدور من حيث موقعها في الكيان الصهيوني؛ ثانياً، لأننا لا يمكن أن نَسِمَ هذه الأقلية - من حيث موقعها وتأثيرها في المجتمع الإسرائيلي بالمجمل - بصفة اليسار، لمجرد أنها تتبنى شعارات تتلاءم مع مصالحها القطاعية كأقلية عربية، في حين لا تعبّر هذه الشعارات عن مشروع إسرائيلي شامل مناقض لمشروع اليمين في المجتمع الإسرائيلي.
وما قلناه بشأن العلاقة بين الدين والدولة ينطبق أيضاً على الموقف من القضية الفلسطينية. فموقف العرب في إسرائيل دفاعاً عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ودفاعاً عن أرضه، ليس موقفاً يسارياً مناقضاً نوعياً لموقف اليمين الإسرائيلي على الرغم من أنه يتميز من مواقف حزب ميرتس وحزب العمل وغيرهما، المتميزة بعضها من بعض في الدرجة. والفارق الجوهري هو أن موقف المواطنين العرب، أبناء الشعب الفلسطيني، لا ينطلق بطبيعة الحال من مصلحة إسرائيل أو أمنها. لكن القوة اليسارية نفسها الغائبة في القضية أعلاه غائبة أيضاً في الموقف من القضية الفلسطينية، مسقطةً بغيابها الموقف الذي يؤكد أن لا حل، بمفاهيم الأمن وموازين القوى، من دون مفاهيم العدالة النسبية والإنصاف وغيرها. ومع تحول العرب في إسرائيل إلى مجرد قطاع من قطاعات المجتمع الإسرائيلي المشددة على مصالحها ضمن التركيبات الائتلافية الممكنة، يصبح من الممكن دخول عربي لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، حيث لا يمكن أن تناقش القضايا إلاّ ضمن التسليم بالأمن الإسرائيلي كمنطلق.
كان من الصعب فرز هذا اليسار في فترة حكم اليمين الإسرائيلي، لأن المعارضة له كانت موحدة وراء مطلب التخلص من نتنياهو ومن التحالف الديني - اليميني الذي استند إليه. لكن فترة حكم حزب العمل، بعقلية ومفاهيم اليمين العلماني وبلبوس اليسار، هي الفترة التي قد ينجح فيها اليسار في أن يميز ذاته من الائتلاف الحاكم وميرتس داخله. قد يؤدي مواطنون عرب هذا الدور موقتاً فقط وذلك بطرح المواقف، لكن علينا أن نستمر في البحث عمن ينظم ذاته وراء هذه المواقف في المجتمع الإسرائيلي، كقوة يهودية إسرائيلية لا كقوة قومية عربية، كما تطرح ذاتها القوة العربية الوحيدة التي تتبنى هذا الموقف جذرياً، ألا وهي "التجمع الوطني الديمقراطي". الأقلية العربية، كما يبدو الحال حالياً، لا تؤدي هذا الدور وإنما تؤدي دور المدافع عن مصالحها الجزئية ضمن التسليم بالتقسيم القائم بين يمين ويسار، والانضواء تحت لواء الأخير المتميز - بالدرجة الأولى - من اليمين.
براك
نعرف القليل عن هذا الرجل الذي أمضى حياته، كبالغ، جندياً في الجيش الإسرائيلي. نعرف أنه ابن كيبوتس، وأنه خدم في الوحدات القتالية النخبوية للجيش مثل بقية أبناء الكيبوتسات، وأنه تدرج ببراعة فائقة إلى منصب رئيس الأركان بعد أن كان قائداً لوحدة رئاسة الأركان النخبوية، ورئيساً للاستخبارات العسكرية، ورئيساً لقسم العمليات. كذلك نعرف أنه شارك مباشرة كجندي في عملية اغتيال القيادات الفلسطينية (كمال ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار) في بيروت، وفي السيطرة على مختطفي طائرة سابينا، وفي الغارة على مطار عنتيبي في أوغندا. ويذكر الناس صورته باللباس الأبيض على جناح الطائرة في مطار عنتيبي، حين نظم الشاعر حاييم غوري قصيدة تضمنت بيتاً يقول: "هذا الشاب سيصبح رئيس حكومة." كانت هذه، على ما يبدو، نبوءة حققت ذاتها.
كان براك جريئاً كرئيس أركان يعبّر عن قناعاته السياسية ضد الفجوات الأمنية في اتفاق أوسلو، ومن أجل إبعادات جماعية لقيادات حركة "حماس" (مرج الزهور)، ومن أجل "حرب خليج" مصغرة ضد لبنان من البحر والجو والبر من دون إنزال جندي واحد (تصفية الحسابات وعناقيد الغضب). وكان يجرؤ على طرح أفكار لم يسبق أن طُرحت، حتى في قضايا مثل إعادة بناء الجيش الإسرائيلي بحيث تُخَفَّف سمنته ويتحول إلى جيش صغير ومهني لا ينفذ وظائف غير عسكرية (الاستيطان، وتعليم الجنود غير المتعلمين) تفرضها عليه عملية التجنيد الإجباري. ومنذ وصوله إلى رتب عالية في الجيش كان يتصرف ويصرح كأنه سيصبح رجلاً سياسياً. وقد كان انتقاله من الجيش إلى حزب العمل طبيعياً. إذ كان حزب العمل يبحث عن شخصية تنافس نتنياهو في الانتخابات الشخصية المباشرة لرئاسة الحكومة، ومن الواضح أنه حظي بتشجيع مباشر من رابين وغيره من قيادات حزب العمل.
وحين تبوأ براك منصب رئيس الحزب بعد هزيمة شمعون بيرس تبيّن أنه، مثل نتنياهو، قد دخل الحزب دخول الفاتحين، نجماً يحتاج الحزب إليه للانتصار لا العكس، ويدخل في صراع مع جهاز الحزب البيروقراطي فور دخوله، ويستعين برجالات الحزب من أجل تصفية جناح بيرس إلى أن يصل إلى السلطة، ثم يحاصر مؤازريه ممن قد ينافسونه في المستقبل، فيضع حاييم رامون بإمرته وقريباً من ناظريه وزيراً في ديوان رئيس الحكومة، ويبعد كلاً من بيلين وبن - عمي عن السياسة في وزارتي العدل والأمن الداخلي، ويتخلص تماماً من عوزي برعام.
براك، الذي حقد عليه العرب لأنه بدا مهزوماً في استطلاعات الرأي العام في النصف الثاني من سنة 1998، وندم قادة حزب العمل على دعمه في تلك الفترة، عاد فتحول إلى سوبرمان بعد انتصاره على نتنياهو. وكان في الإمكان الحديث مع مثقف عربي بارز، في سنة 1998، يُتْفِه براك وشخصيته لأنه لا يجلب له الانتصار على نتنياهو، كما أصبح في الإمكان الحديث مع المثقف العربي نفسه وهو يعدد مزايا براك وقدراته التحليلية الخارقة.
والحقيقة أن ثقافة براك كانت وما زالت متوسطة، وهو ليس عبقرياً ولا "سوبرمان". ولم يكن رجل سلام، كما لم يصبح رجل سلام بالمعنى المبدئي للكلمة. ولم يشب براك في كنف الديمقراطية الإسرائيلية بجهازها السياسي، على بيروقراطيته، وإنما في المؤسسة العسكرية، ولا يكنّ لهذا الجهاز أي احترام. وقد انتصر في الانتخابات الرئاسية من دون أن يتفوه بكلام واضح بشأن مواقفه السياسية، وبتركيز إعلامي بالغ على القضايا الاجتماعية. وبدت حملته الإعلامية مثل حملة كوكا كولا ضد بيبسي كولا.
تمثل مواقفه السياسية الإجماع القومي الإسرائيلي فيما يتعلق بالضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. وهو لا يؤمن بإمكان انسحاب من طرف واحد من لبنان من دون تسوية مع سورية، وسيحارب بشراسة بشأن شروط هذه التسوية. وثمة في حزب العمل واليمين الإسرائيلي مَنْ يضغط عليه باستمرار للتخلي عن الخيار السوري لمصلحة الانسحاب من لبنان من طرف واحد، وتجريد سورية من سلاح الضغط على إسرائيل في لبنان.
يندمج براك ضمن سياسة حزب العمل التاريخية بالانسجام مع الاستراتيجيا الأميركية وتفهم مصالحها ورؤيتها تجاه منطقة الشرق الأوسط. والولايات المتحدة جاهزة لقبول توجهه البراغماتي الأمني فيما يتعلق بقضايا الحدود والترتيبات الأمنية والشروط المفروضة على الفلسطينيين، وخصوصاً أنه لا يطرحها ضمن رؤية غيبية، وإنما من منظور أمني استراتيجي وبراغماتي. وإذا ما اصطدمت هذه الرؤية بسياسة شريك ائتلافي، مثل حزب المفدال، فسيكون براك أكثر صلابة في مواجهة ضغوط هذا الحزب، إلى درجة تخييره بين البقاء في الحكومة أو الخروج منها. ويندرج عدم ارتياح براك بشأن قضايا المرحلة الانتقالية على المسار الفلسطيني ضمن عدائه لأوسلو، ونقاشه مع رابين بشأن ضرورة الاتجاه فوراً نحو الحل الدائم من دون الحاجة إلى مراحل انتقالية تؤدي إلى: 1) "تنازلات إسرائيلية من دون مقابل"، أي من دون اتفاق سلام مع الطرف الفلسطيني؛ 2) إعطاء فرصة طويلة لمعارضي العملية السلمية للعمل ضدها، وبالتالي تحويل المرحلة الانتقالية من مرحلة بناء الثقة إلى مرحلة هدم الثقة بفضل الفرصة التي منحت للمعارضين لإثبات موقفهم.
وهكذا تتناقض قناعات براك مع ضرورات المرحلة. فهو مضطر إلى تنفيذ التزامات اتفاق واي التي طالب نتنياهو بتنفيذها، لكنه مقتنع - حقيقة - بموقف نتنياهو الداعي إلى دمج التزامات المرحلة النهائية ضمن مفاوضات الحل الدائم.
وقد تبدأ تناقضات براك الائتلافية إذا لم يحدث تقدم في العملية السياسية أيضاً بأسرع مما نعتقد. فحديثه عن حكم النخبة الممتازة (meritocracy) [17] أخاف الكثيرين من السياسيين، وأخاف الكنيست. فقد أحاط الرجل نفسه بالعسكريين السابقين، وأبعد السياسيين من حوله، متملقاً مزاجاً إعلامياً ما بعد حداثي يبدي تعباً من الأحزاب واستياءً من الائتلافات السياسية القائمة على المصالح[18]. وقد باشرت قيادة الحزب التمرد ضد إملاءاته واستخفافه بمؤسسات الحزب ونوابه بعد أن رفضت مرشحه لرئاسة الكنيست وانتخبت مرشحاً آخر هو أبراهام بورغ، الذي في إمكانه كرئيس كنيست أن يشكّل مصدر متاعب حقيقياً لبراك، وذلك بالإصرار الشكلي على استقلال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وبالإصرار على أمور إجرائية قد تحرج براك.
وفي الفترة التي يحتفي فيها الإعلام الإسرائيلي ببراك وزياراته المنتصرة للعواصم الغربية وتحريك العملية السلمية، يزداد عدد السياسيين المتربصين به، كما يرتفع مستوى التوقعات منه. فقد تجند الإعلام الإسرائيلي بصورة سافرة ضد نتنياهو وهو يحتفي ببراك احتفاء لم يسبق له مثيل، معتبراً زيارته للولايات المتحدة إعادة للعلاقات الإسرائيلية - الأميركية إلى مسارها. صحيح أن هذا التبجيل الإعلامي الغربي والإسرائيلي يقوي براك، لكنه يجعله أيضاً أسيراً له - فقد يصبح السياسي في عصر المشهدية الإعلامية أسير صورته الإعلامية، حيث يؤدي أي تحرر من إسارها إلى خيبة أمل كبيرة - ولا يعود في استطاعة براك فرض شروطه السياسية و"لاءات" الإجماع القومي الإسرائيلي من دون تحطيم صورته كرجل سلام، إلاّ إذا قبل العرب بشروطه واستطاع أن يصدّر التناقضات إلى الجانب العربي الذي سلمه زمام المبادرة.
براك يجمعنا وبراك يفرقنا
الحالة البائسة التي قَصَرت الاستراتيجيا العربية طوال فترة نتنياهو على انتظار سقوطه، وطوال فترة الانتخابات الإسرائيلية (6 أشهر لم يسبق لها مثيل في طولها) على انتظار فوز براك، ومنذ 17 أيار/مايو 1999 على انتظار تحركات براك الدولية وزياراته وتصريحاته بعد الزيارات؛ هذه الحالة سلمت براك زمام المبادرة بشأن العملية السياسية. لن ندخل هنا في تحليل أبعاد هذه الحالة الذهنية أو إسقاطاتها على الثقافة السياسية العربية بالتعادل الذي تفرضه بين أكثر من 150 مليون عربي مسلوبي الإرادة وبين 50 - 100 ألف إسرائيلي قد يغيرون موقعهم من هذا المعسكر إلى ذاك لأسباب اقتصادية أو اجتماعية إسرائيلية داخلية، قد يكون لها علاقة مباشرة بالصراع وقد لا يكون، لكننا نشير إلى أن تسليم زمام المبادرة للمخلص المنتظر يعني منحه هامشاً سياسياً كافياً لا ليُجمع العرب على تأييده فحسب، بل أيضاً لتفريقهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
بات مراسلو وسائل الإعلام العربية يداومون في الكنيست، وقد تعودوا اعتبار أتفه التصريحات أو المشادات البرلمانية، ذات الطابع الحزبي الداخلي الصرف، خبراً مهماً لوسائل الإعلام التي يعملون فيها.
وكنا في السابق نتوسل اهتماماً عربياً بإسرائيل وبما يجري داخلها، من منطلق ضرورة معرفة إسرائيل في غياب استراتيجيا عسكرية واضحة، ومعرفة الآليات السياسية والاجتماعية الداخلية الإسرائيلية وتوظيف هذه المعرفة في عملية الضغط عليها، والتأثير في رأيها العام ضمن المفاوضات. لكن الاهتمام العربي الراهن بإسرائيل، والذي يفوق كل التوقعات، لا يعكس مبادرة عربية لفهم ما يجري فيها، بقدر ما يعكس عجزاً عربياً ينم عن اعتماد كلي على موازين القوى الإسرائيلية الداخلية ومبالغة في تقويمها تبدأ بمقولة "براك أسوأ من نتنياهو" وتنتهي بـ "براك رجل السلام"؛ عبارات قد يتفوه بها رجل السياسة العربي نفسه إذا ما اختلطت عليه تصريحات براك، حتى من دون أن يغير براك موقفه. لقد جمع براك العرب على تأييده وانتظار فوزه، والذي جمع العرب يفرقهم حالياً بمنطق إمساكه زمام المبادرة نفسه. لقد نجح رابين، في حينه، في تشتيت المسارات التفاوضية العربية، ولم يتشاور أي طرف عربي في حينه مع الآخر عندما تقدم في المفاوضات. وبدا عدم ارتياح الطرفين الأردني والسوري واضحاً من عقد اتفاق أوسلو من دون معرفتهما، ثم بدا عدم الارتياح الفلسطيني والسوري واضحاً من عقد معاهدة سلام كامل بين الأردن وإسرائيل. وهكذا إلى أن أصبحت استقلالية المسارات التفاوضية بعضها عن بعض مسلَّماً بها. وقد أوجدت الدبلوماسية الإسرائيلية انطباعاً بأن التقدم على مسار تفاوضي قد يكون على حساب مسار تفاوضي آخر، فإذا أصر طرف عربي على موقفه في المفاوضات وامتنع من التقدم بالشروط الإسرائيلية، تهدده إسرائيل بالتقدم على مسار تفاوضي آخر، وتبدو أنها تفعل ذلك حقيقة. وهكذا يصبح المسار التفاوضي الآخر خصماً أشد من إسرائيل بالنسبة إلى هذا الطرف العربي. لقد ورث براك هذا الوضع، يضاف إليه حالة انتظار براك المستمرة عربياً ودولياً، والغطاء الدولي الذي مُنح له جائزة لإسقاطه نتنياهو.
هناك مساران تفاوضيان مجمدان في انتظار أن يحركهما براك، وهنا يُطرح السؤال الخلافي الأول: أين يبدأ؟ ثم يتلوه السؤال الخلافي التالي: هل سيتقدم على المسارين السوري واللبناني ويترك المسار الفلسطيني؟ وبمجرد طرح هذين السؤالين عربياً، وفي غياب الثقة بين القيادات العربية، يتسع هامش مناورة براك وقدرته على توسيع الخلاف وتأجيج التناقض.
فإذا لم يوافق الفلسطينيون على دمج تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية الموقعة في أوسلو 2 وبروتوكول الخليل ومذكرة واي ريفر - 1) إعادة الانتشار؛ 2) الممر الآمن؛ 3) إطلاق السجناء؛ 4) بناء ميناء غزة - في مفاوضات الحل الدائم، أي مبادلة جزء منها على الأقل بتنازلات فلسطينية في قضايا الحل الدائم، يلوّح براك بالتقدم على المسارين السوري واللبناني مع إبقاء المسار مفتوحاً مع الفلسطينيين... وعندما يحتج الفلسطينيون على ذلك تأتي إجابة السوريين واللبنانيين الموحدة أن الفلسطينيين لم يشاوروهم عندما تقدموا على مسار أوسلو ووقعوا الاتفاق. وهكذا تبدأ حملة إعلامية عربية متبادلة تزيد في التناقض وفي قدرة براك على المناورة. ولقد بدأت آلة الدعاية الإسرائيلية، التي لا تحتاج إلى من يوجهها - إذ تتطابق الذهنية السائدة فيها فيما يتعلق بفهم الصراع مع ذهنية النخب التي تحكم إسرائيل بعد نتنياهو - صنع أخبار تنحو بالحدث السياسي في الاتجاه المرجو للسياسة الإسرائيلية. فإذا كانت سورية تريد السلام مع إسرائيل، فهذا يعني أن اجتماعاً دورياً عادياً بين القيادة السورية والفصائل الفلسطينية في دمشق يقود إلى خبر كبير يتم فيه "إعلام" الفصائل الفلسطينية بأنها ستتحول إلى أحزاب سياسية، وسيكون عليها التخلي عن العمل المسلح. ولا تترك الصحافة المتنافسة في صنع الأخبار "ديمقراطياً" مجالاً للوقائع أو الحقائق أن تربكها أو تحيد بها عن قوانين العرض والطلب في صنع الأخبار. ولا يهم أن الفصائل الفلسطينية المقيمة بسورية لا تمارس أصلاً الكفاح المسلح من سورية ولبنان منذ أعوام طويلة، ومَنْ لم يتخل منها عن الكفاح المسلح قام به من مناطق السلطة الفلسطينية حيث يعتبر الكفاح المسلح أيضاً عملاً غير قانوني يتحدى اتفاقيات رسمية للسلطة مع طرف آخر. أين الخبر إذاً؟ لا يوجد خبر.
لكن الحقيقة أمر ثانوي بالنسبة إلى المشهدية الإعلامية التي تصنع الخبر وتحوله إلى واقعة إعلامية مؤثرة تنسجم في سياق "تخلي سورية عن القضية الفلسطينية" لمصلحة إحراز تقدم على المسار السوري - اللبناني. وسورية لم تتفق في حينه مع القيادة الفلسطينية بشأن أوسلو، لكنها أيضاً لم تقم بأي عمل ضد أوسلو أو لعرقلة تقدمه. كذلك فإن القيادة الفلسطينية لم تقم بأي عمل من شأنه عرقلة التقدم على المسار السوري أو اللبناني. لكن المشكلة أن الآلة الإعلامية الإسرائيلية باتت قادرة لا على خلق خبر إسرائيلي فحسب، بل على خلق خبر عربي أيضاً، بالقدرة نفسها التي لدى براك على توسيع شقة الخلاف بين الأطراف العربية.
كيف يمكن مواجهة هذه الحالة؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تنتظر نشوء رأي عام عربي ديمقراطي، مستقل عن الإعلام الإسرائيلي ومحصن أمامه لا بفعل عداء لكل ما هو يهودي أو لكل ما يأتي من إسرائيل، وإنما بفعل آليته الديمقراطية الداخلية وثقته بإعلامه هو، لو توفر. كما أن الإجابة عن هذا السؤال لا تنتظر الوحدة العربية، أو التكامل العربي، أو نشوء أنظمة عربية تنتظر إسرائيل نتائج انتخاباتها بدلاً من العكس، وتضع بعض زمام المبادرة في يدها بدلاً من انتظار سقوط نتنياهو وتصريحات براك بعد جولة أميركية - أوروبية، وتستطيع أن تؤثر في الرأي العام الإسرائيلي بدلاً من انتظار تفتت إسرائيل بعد عقد اتفاقيات سلام معها، مهما يكن ثمن هذه الاتفاقيات بناء على وهم مفاده أن ما يوحد إسرائيل هو الحرب مع العرب. الإجابة عن هذا السؤال لا تنتظر هذا التطور المرغوب فيه والذي لا بد منه في المدى البعيد؛ إنها تتطلب حداً أدنى من التنسيق العربي والإصرار على الموقف. فإذا أصر الطرف الفلسطيني على تنفيذ الالتزامات الموقعة، لن يستطيع براك أن يقاومها على مستوى الرأي العام المحلي والدولي، فهي التزامات تعهد بها اليمين الإسرائيلي. وإذا ما تمسك الطرف السوري بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو، لن يكون في إمكان براك أن يناور بشأن تناقض مختلق مع الطرف الفلسطيني.
إن المتوقع من براك إسرائيلياً هو أن ينفذ التزامات واي ريفر، وأن ينسحب من لبنان خلال عام واحد، وقد تعهد بأن تنتهي المفاوضات مع سورية في تشرين الثاني/نوفمبر 2000. ففي الإمكان تحويل هذه التوقعات والتعهدات إلى ضغط عربي. ولا تناقض بين اتفاقيات موقعة فلسطينياً وبين مفاوضات تجري لتوقيع اتفاقيات.
من الواضح أن التفاوض بشأن الحل الدائم فلسطينياً يكاد يشبه الحوار الأكاديمي في غياب نقاط التقاء مع الإجماع القومي الإسرائيلي، وأن انسحاب إسرائيل من سورية ولبنان - أو بقاءها فيهما - لا يغير في هذا الواقع على الإطلاق. وأكثر العلاقات الفلسطينية حميمية هي مع مصر التي تربطها بإسرائيل علاقات سلام كانت لعنة على الفلسطينيين عندما كانت استراتيجيتهم للضغط على إسرائيل عسكرية، وأصبحت حليفاً لهم عندما باتت الاستراتيجيا الفلسطينية تفاوضية بعد حرب لبنان سنة 1982.
وإذا تمسكت سورية بموقفها الذي يصر على الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو شرطاً للسلام، وليس هناك سبب يدعونا إلى الشك في ذلك، فلن يكون في الإمكان التوصل إلى اتفاق معها قبل تنفيذ التعهدات الإسرائيلية التي يتضمنها بروتوكول الخليل ومذكرة واي ريفر.
في الإمكان مخاطبة براك، والرأي العام الإسرائيلي من فوق رأس براك، بهذه اللهجة الواثقة. والمطلوب هو التنسيق، والثقة المتبادلة حتى لو كانت حذرة. لكن توفر حد أدنى من هذه الشروط كفيل بتفويت الفرصة على براك.
[1] لا للانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو؛ لا لأي مشاركة في السيادة على القدس؛ لا "لجيش أجنبي" غربي النهر، والمقصود هنا لا لدولة فلسطينية كاملة السيادة، وأغلبية المستعمرات تبقى تحت السيادة الإسرائيلية. أمّا عودة اللاجئين فلا تحتاج إلى "لا" خاصة بها، لأن رفضها مفروغ منه.
[2] هذه العبارة التي تستخدم لوصف شرط استمرار التفاوض مع سورية تستخدم هنا للتعبير عن رغبة من انتخبوا رابين في أن يعود التاريخ إلى مساره.
[3] كانت هذه ملاحظة ضرورية في هذا السياق من أجل تثبيت العلاقة الوثيقة بين التحليل السياسي النظري وبين الموقف السياسي العقلاني غير المستند إلى أوهام، أو إلى أفكار التمني.
[4] روفين حازان، "البحث عن المركز في الجهاز الحزبي الإسرائيلي"، في: آشر أريان وميخال شمير، "الانتخابات الإسرائيلية 1996" (المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، 1994)، ص 207.
[5] "يديعوت أحرونوت"، 17/5/1996.
[6] هذا النوع من التسليم بواقع معين ضمن إجماع قومي من أجل الاختلاف، فيما بعد، بشأن اتجاه تطور هذا الواقع، ومن أجل إيجاد موطئ قدم للتأثير في هذا الواقع، يميز العلاقة بين الأحزاب الرئيسية في إسرائيل من العلاقة بين التيارات السياسية على الساحة الفلسطينية.
[7] جرت طبعاً محاولات بائسة في الأكاديمية الإسرائيلية لتأسيس عناصر مشتركة إيجابية، مثل التشديد على تاريخ النشاط الصهيوني في العراق والمغرب والجزائر، والنخب عن دلائل تشير إلى أن الهولوكوست كانت في طريقها للوصول إلى يهود المغرب العربي قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.
[8] شلومو سفيرسكي، "أهداف السياسة الاجتماعية" (تل أبيب: إصدار مؤسسة أدفا، 1999)، ص 8.
[9] بحث أجراه البروفسور فكتور ليفي في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية ونشرت نتائجه في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 19/7/1999. ويتبين من هذا البحث أنه على الرغم من ارتفاع مستوى التعليم بصورة عامة في إسرائيل، فإن الهوة بين الغربيين والشرقيين وبين اليهود والعرب تبقى قائمة غير متغيرة، وأن تحصيل الفرد الطالب وقدرته على النجاح يقلان كلما انتقل إلى أعوام دراسية أعلى في المرحلتين الابتدائية والثانوية، وخصوصاً عندما تحتاج الدراسة إلى دعم ومساندة من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها.
[10] أريان وشمير، مصدر سبق ذكره، ص 61.
[11] التيارات الإصلاحية والمحافظة نشأت كلاهوت يهودي جديد في الولايات المتحدة لتسهيل الحفاظ على الهوية اليهودية في أوضاع مجتمع حديث ليبرالي يهدد الهوية اليهودية بالاندماج. ويدعي الإصلاحيون أنه لولا هذا الإصلاح، ولولا التسهيلات التي أدخلوها على قواعد الدين اليهودي وملاءمتها مع متطلبات الحداثة الأميركية، لما حافظ يهود الولايات المتحدة على يهوديتهم.
[12] لقد أدت محاكاة خطاب اليسار الصهيوني إلى تبني أوساط عربية بعض هذه المقولات في مرحلة ضياع البوصلة السياسية لتندرج مطالبها ضمن اللائق سياسياً، مثل المطالبة بوزير عربي في الحكومة (كالمطالبة بزيادة تمثيل النساء)، أو المطالبة بعربي في لجنة الخارجية والأمن وفي السفارات في الخارج. ويتحول النقاش مع الحكومة الجديدة (حكومة براك) إلى نقاش بشأن التمثيل، تمثيل العرب، بدلاً من النقاش السياسي. وذلك تمثلاً بالحركات النسوية وحركات اللواطيين (homosexuals) وغيرها التي تحارب من أجل شرعية تمثيلها وحقها في الاختيار، لا من أجل السياسة المتبعة في الهيئة أو المؤسسة التي تطالب بالتمثل من خلالها. وهكذا أصبح مطلب النساء دخول سلاح الجو مطلباً تقدمياً. وهكذا أيضاً تحول مطلب دخول لجنة الخارجية والأمن إلى مطلب عربي.
[13]انظر: يوسي بيلين، "موت العم من أميركا - اليهود في القرن 21" (تل أبيب: يديعوت أحرونوت، 1998).
[14] أمنون روبنشتاين، "من هيرتسل إلى رابين وبعد ذلك" (تل أبيب: شوكن، 1997).
[15] سافي رخلفسكي، "حمار المسيح" (تل أبيب: يديعوت أحرونوت، 1998).
[16] "هآرتس"، 3/6/1999.
[17] ربما تأكيداً للصورة التي رغبت المعارضة الإسرائيلية في أن ترسمها لفترة حكم نتنياهو كمرحلة حكم الرعاع.
[18] من أفضل ما كُتب عن شخصية براك في هذا السياق مقال لأرييه كسبي، "أنا"، "ملحق هآرتس"، 8/7/1999.