An Interview with Dr. Ramadan Shallah
Keywords: 
حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين
المقاومة الفلسطينية
حركة حماس
الإسلام السياسي
الإخوان المسلمون
منظمة التحرير الفلسطينية
الكفاح المسلح
مقابلات
Full text: 

هل لكم أن تحدثونا عن نشأة الحركة: ظروفها، مؤسسيها، جذورها التنظيمية والفكرية، وكذلك تطورها اللاحق، ومن ثم تجربتكم الشخصية في الحركة؟

□ لقد كان نشأة حركة الجهاد الإسلامي ثمرة حوار فكري وتدافع سياسي شهدته الحركة الإسلامية الفلسطينية أواخر السبعينات، وقادته مجموعة من الشباب الفلسطيني في أثناء وجودهم للدراسة الجامعية في مصر؛ كان على رأسهم مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، رحمه الله.

كان فتحي الشقاقي عضواً في حركة الإخوان المسلمين التي كانت تعاني آنذاك أزمة حقيقية، من وجهة نظر الشقاقي، انعكست بصورة أساسية في إهمال المسألة الوطنية وطرح أولويا بديلة، وكذلك الهروب من الهموم الحقيقية والتحديات الجوهرية التي تواجهها الأمة إلى القضايا الهامشية والشكلية والجزئية. كان الشقاقي يركز على مسألة غياب المنهج في تناول وفهم الإسلام والواقع والعالم، الأمر الذي أحدث خللاً في سلّم أولويات الحركة الإسلامية وأوقعها في مأزق التعارض الوهمي بين العروبة والإسلام، أو بين الوطنية والإسلام، فبدت الحركة الإسلامية أنها لا تملك إجابة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية التي بقيت تتراوح، لدى الإسلاميين، بين الإهمال والتأجيل.

هذا على صعيد مناخ الحركة الإسلامية. أمّا من ناحية الحركة الوطنية الفلسطينية فقد رأى الشقاقي أن القوى الوطنية الفلسطينية في معظمها تستبعد الإسلام، ثقافة وهوية وأيديولوجيا، عن إدارة الصراع فغيّبته عن برامجها النضالية وحياتها اليومية.

من هنا كانت حركة الجهاد الإسلامي، كفكرة وكمشروع في ذهن مؤسسها الدكتور فتحي الشقاقي، حلاً لهذا الإشكال، إشكال الدين والوطن، أو العروبة والإسلام، حيث وطنيون بلا إسلام وإسلاميون بلا فلسطين. فجاءت حركة الجهاد الإسلامي إجابة إسلامية ثورية عن السؤال الفلسطيني، ورفعت شعارات الإسلام والجهاد وفلسطين: الإسلام كمنطلق، والجهاد كوسيلة، وفلسطين كهدف للتحرير.

أما من حيث أطوار النشأة، فقد تجمعت النواة الأولى لمشروع الجهاد الإسلامي من خلال تنظيم أسّسه الدكتور الشقاقي في مصر أواخر السبعينات، منفصل عن حركة الإخوان المسلمين التي كان الشقاقي عضواً فيها حتى بعد تأسيس التنظيم المستقل.

وفي فترة مصر، اقتصر نشاط التنظيم على انتقاء العناصر الطالبية وتجنيدها وتعهدها بتربية إيمانية وفكرية خاصة ومتميزة مما كان عليه البرنامج التثقيفي في التنظيم الإخواني التقليدي، على الرغم من استفادة التنظيم من فكر حركة الإخوان المسلمين وأدبياتها. لقد قرأنا تجارب وأفكار الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب والمودودي ومحمد الغزالي ومالك بن نبي وتوفيق الطيب ومحمد باقر الصدر وآية الله الخميني وعلي سريعتي، ولاحقاً الترابي والغنوشي وفضل الله والعوا والقرضاوي، وغيرهم من أعلام الحركة الإسلامية. هذا بالإضافة إلى الاهتمام بمجالات أُخرى من المعرفة، كالأدب والسياسة والتاريخ والاقتصاد والمذاعب الأيديولوجية الأُخرى وغيرها. وقد كانت مجلة "المختار الإسلامي" في مصر هي القناة الأولى التي عبّر الشقاقي بها عن بواكير مشروعه الفكري والإسلامي. كما كانت مجلة "المسلم المعاصر"، الرائدة، منهلاً أساسياً في التربية الفكرية للرعيل الأول من أبناء الحركة.

 بعد عودتنا من مصر، أوائل الثمانينات، تهيأ التنظيم لخوض غمار التعبئة الشعبية والسياسية في المساجد والجامعات والمدارس، مع التركيز على الجانبين التعبوي والسياسي للعبادة والشعائر الإسلامية بإقامة صلوات العيد في العراء وإحياء ليلة القدر بمهرجانات في ساحة المسجد الأقصى، وذلك للتعريف بفكرة الجهاد وغرسها في النفوس قبل أن تتبلور كحركة وكفصيل مقاتل على الساحة الفلسطينية منذ منتصف الثمانينات.

 وفي طور التأسيس والانتشار في قطاع غزة والضفة الغربية، سعت الحركة لتفادي الصدام الذي فّرض علينا فرضاً مع الإخوان المسلمين الذين رأوا في أفكار الحركة وتنامي قاعدتها في صفوف الشعب خطراً على قاعدتهم التنظيمية، الأمر الذي استنزف طاقات الحركة الإسلامية في مجملها للأسف.

 وقد احتل الموقف من الثورة الإسلامية في إيران، وتأييدها في مواجهة الهجوم الأميركي والإقليمي ضدها، حيزاً كبيراً في الصدام وصل إلى حد اتهامنا بالتشيّع، بل تكفيرنا (!). وكان ذلك على حساب العنوان الرئيسي للخلاف، وهو موقف حركة الإخوان المسلمين من مسألة الكفاح المسلح. وكان الخروج من أجواء الخلاف السلبية بأخذ زمام المبادرة العسكرية والانتقال إلى طور صناعة الحدث؛ وهذا ما فعلته الحركة بالإشراف المباشر للشهيد الشقاقي، الذي كان يتولى شخصياً قيادة المجموعات العسكرية الأولى منذ منتصف الثمانينات، فاعتُقل في آذار/ مارس 1986 من قبل سلطات الاحتلال بعد تنفيذ الحركة عدة عمليات عسكرية. وبلغت ذروة العمل الجهادي للحركة آنذاك في معركة الشجاعية (6/10/1987)، إذ اشتبك مجاهدو الحركة الفارون من السجن وغيرهم مع قوات الاحتلال. وكانت هذه المعركة سبباً مباشراً ومقدمة حرّكت الشارع الفلسطيني وقادت إلى اندلاع الانتفاضة، التي كان لحركة الجهاد الإسلامي دولا ريادي فيها، إلى درجة أن اعتبرها الإسرائيليون الحركة التي دحرجت صخرة الانتفاضة.

 في آب/ أغسطس 1988، أبعدت إسرائيل الشهيد الدكتور فتحي وآخرين إلى لبنان، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الحركة على كل المستويات، ولا سيما على صعيد توثيق علاقاتها بالعمق العربي والإسلامي.

 وعندما بدأت شعلة الانتفاضة تخبو في ظل هجوم مشروع التسوية السياسة، تصاعد دور الحركة المشهود في تقديم المبادة الجهادية المميزة بالعمليات الاستشهادية النوعية التي أكسبت الحركة مزيداً من الصدقية، فتحولت رقماً فاعلاً في ساحة الصراع مع العدو، وهو ما جعلها في دائرة الاستهداف الصهيوني الشرس، فتلقت ضربات متتالية من العدو وحلفائه بتصفية عدد من قيادات وكوادر الحركة السياسية والعسكرية، مثل الشهيد هاني عابد والشهيد محمود الخواجا. لكن الحدث الأخطر والأكثر إيلاماً كان فاجعة اعتيال القائد والمؤسس، الدكتور فتحي الشقاقي على يد جهاز الموساد الإسرائيلي في مالطا (26/10/1995). وبذلك دخلت الحركة طور الابتلاء والتمحيص باغتيال الرمز الذي مثّل المركزية لمشروع الجهاد الإسلامي. وقد تزامن هذا الحدث مع تفاقم هجوم أوسلو داخل فلسطين على المستويات كافة، فبدأت السلطة توسع قاعدة انتشارها وتُحْكِم قبضتها الحديدية، بالتنسيق مع أجهزة الأمن الإسرائيلي، على كل مفاصل الفعل في الشارع الفلسطيني، بل في البيت الفلسطيني. وفي هذا الطور أنصبّت جهود الحركة، في جزء كبير منها، على تنظيم شأنها الداخلي وترتيب أمرها بما يعينها على الثبات ومواصلة الطريق والنهج الذي خطّه الشهيد والمؤسس.

 وبتساقط بعض المفردات التي التحقت بالمشروع، في أوقات أكثر فسحة وأقل محنة، تمت عملية فرز وتنقية طبيعية للصف. وقد قطعت الحركة شوطاً كبيراً في إعادة البناء المتواصل حتى تجاوزت مرحلة الخطر، وبلغت حالة من النضج والاستواء مكنتها من استيعاب آثار غياب المؤسّس، وتكاملت منظومة عملها بامتداداتها الداخلية والخارجية في انسجام تام، واستعادت قدرتها على الفعل الجهادي والحضور الشعبي كرقم حقيقي لا يمكن تجاوزه أو تجاهله في الساحة الفلسطينية.

 أمّا عن تجربتي الشخصية في الحركة، فلا أريد أن أتحدث عن نفسين وأكتفي بالقول إنني كنت مع الشهيد الشقاقي – كما كان آخرون – منذ البدايات قبل أكثر من عشرين عاماً. وعلى يديه، رحمه الله، تعرفت على الإسلام كانتماء عقادئدي وطريق للانبعاث الحضاري للأمة الإسلامية من جديد.

بعض الدارسين والمختصين بالحركات الإسلامية في فلسطين تساءل: لماذا لم تحقق حركة الجهاد الإسلامي الانطلاقة المتوقعة لها في الشارع الفلسطيني وبقيت حركة صغيرة محدودة الانتشار؟ وطرح عدة أسباب لذلك، منها: بروز حركة "حماس"؛ الضربات الإسرائيلية ضد الحركة؛ الانشقاقات التي حدثت في صفوفها؛ عدم اهتمام الحركة بالعملين الاجتماعي والسياسي. ما رأيكم في ذلك؟

□ أولاً، من حيث قوة الحركة وانتشارها في الشارع الفلسطيني فإن استطلاعات الرأي كلها تؤكد أن حركة الجهاد هي القوة الرئيسية الثالثة بعد "فتح" و"حماس" داخل فلسطين. ثانياً، بعض الأسباب المطروح هنا صحيح، وبعضها الآخر غير صحيح، مثل الحديث عن الانشقاقات. أنا أفهم الانشقاق بأن يخرج قسم من عناصر الحركة وكوادرها بناء على موقف فكري أو سياسي مخالف لخط الحركة العام ويعلن حالة جديدة بأهداف جديدة وأسلوب جديد واسم جديد، كما حدث في كثير من القوى والفصائل في الساحتين العربية والفلسطينية. لكن هذا لم يحدث في حركة الجهاد الإسرمي. كل ذلك حدث أنه قبل استشهاد الدكتور فتحي، رحمه الله، كان لبعض الأشخاص مشكلات شخصية وطموحات ذاتية لا علاقة لها بالجهاد الإسلامي كفكرة وكمشروع نضال. وقد انتهت هذه المشكلات قبل استشهاد الدكتور فتحي، ثم حُسمت نهائياً بالتحاق بعض مفتعليها بعرفات ومشروع أوسلو في غزة.

 أمّا العمل الاجتماعي والخيري فلسنا ضده، بل إن عملنا كله في النهاية من أجل شعبنا وأمتنا. لكن المسألة كانت محكومة، منذ البدايات الأولى للحركة، باعتبارين أساسيين: سلّم الأولويات النضالية، وتوفر الإمكانات المادية. فحركة الجهاد لم تأت لمنافسة أحد، أو لمزاحمته على العمل الخيري أو النقابي الذي شكّل أولوية بالنسبة إلى الحركة الإسلامية التقليدية. لو سلكنا هذا الطريق منذ البداية لما كان هناك أي إضافة جديدة إلى الحركة الإسلامية، ولما كان هناك ضرورة لنشأة حركة الجهاد الإسلامي.

 لذلك كانت قناعتنا الشرعية والوطنية أن تتقدم الدعوة إلى الجهاد ومقاومة الاحتلال على كل الأنشطة. وبما أننا لم نملك أية موارد ذات قيمة كان من الطبيعي أن توجَّه كل إمكاناتنا الذاتية، على الرغم من محدوديتها، إلى التعبئة والحشد لهدف الجهاد. وهنا يجب أن أسجل أن حركة الجهاد كانت أول مَن طرح شعار "فلسطين هي القضية المركزية للحركة الإسلامية". وعبر الدراسات الجادة أعاد الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي وإخوانه اكتشاف رموز الحركة الإسلامية الجهادية في فلسطين، وعلى رأسهم الشهيد الشيخ عز الدين القسّام.

ومع تركيز خطاب الحركة على الجانب الأيديولوجي المحرّض على الجهاد، على حساب الاهتمام بإشباع الحاجات والمصالح المادية للناس، ربما بدت حركة الجهاد – في نظر البعض – الأكثر تشدداً أو الأقل براغماتية. وفي زمن الضعف والتراجع فإن قطاعات من الناس تنحاز إلى مصالحها الذاتية، ولا تريد أن تتحمل الثمن الباهظ الذي يفرضه تبني مواقف حركة الجهاد والسير في خطها تحت وقع الضربات القاسية من الأعداء. لكن هذا لا يعني أن حركة الجهاد هامشية أو معزولة. فالحركة، والحم لله، موجودة في كل زوايا المجتمع الفلسطيني كجزء أساسي وحيوي من نسيج هذا المجتمع.

■ في ضوء الخلفية التاريخية للعلاقة بينكم وبين حركة الإخوان المسلمين، كيف تنظرون إلى حركة حماس، وما هي طبيعة العلاقة بينكم، وهل هناك فرصة لاندماج الحركتين في حركة واحدة؟

□ أولاً، بخصوص ما ذكرته من خلفية نشأة الحركة ما كنت أود الخوض في ذلك لولا المسؤولية والأمانة التاريخية لأن هذا ما حدث، على الأقل من وجهة نظرنا.

أمّا بالنسبة إلى حركة حماس، فأنا شخصياً أعتقد أن "حماس" هي أهم إنجاز لحركة الإخوان المسلمين بعد ظهور الحركة على يد مؤسسها الشهيد حسن البنا سنة 1928. لكن التحدي الذي يواجه "حماس" اليوم، والحركة الإسلامية في مجملها، هو المحافظة على هذا الإنجاز الذي لم يتحقق إلاّ بالجهاد والاستشهاد.

علاقتنا بحركة حماس جيدة، وفجوة الخلاف التي كان بيننا وبين الإخوان ضاقت إلى حد كبير. فالنظرة إلى الحركتين لم تعد قائمة على التفرقة بين حماسة الشبابا وحكمة الشيوخ. الشباب هم الذين يقودون الحركتين اليوم باحترام كبير للشيوخ، وبوعي وموضوعية وتفاؤل كبير بالمستقبل. وكما قال الشافعي، رحمه الله، "العلم بين أهل الفضل والعقل رحم متصل." علمنا بالله وواعتصامنا بحبله، ووعينا لقضيتنا وواقع أمتنا هو صلة الرحم بيننا وبين إخواننا في "حماس". فعلى الرغم من سلبيان العلاقة في الماضي فنحن ندرك معاً أن خلافاتنا اليوم، مهما يكن حجمها، لا تتلاءم مع حجم التحديات والمخاطر التي تتعرض لها أمتنا وقضيتنا المركزية فلسطين، التي تستوجب الوحدة. فالوحدة بالنسبة إلينا هي الهدف الأكبر. وإذا تعذر تحقيق وحدة الإطار فنحن حريصون على وحدة العمل الإسلامي والنضالي. وقد خضنا تجارب نضالية مشتركة في الجامعات والمؤسسات والمعاهد في فلسطين، كان آخرها تحالف "حماس" والجهاد في جامعة النجاح، حيث كانت الوحدة هي طريق الفوز الساحق في الانتخابات.

 ليس مطلوباً أن نكون نسخة كربونية نحمل رؤية موحدة لكل شيء. المهم أن نؤسس نوعاً من التعايش الأخوي والتنوع الإيجابي بما يفيد في تقريب وجهات النظر على قاعدة الإخلاص والمصارحة الكافية، والتعاون في طلب الحق، من أجل بلورة مواقف مشتركة إزاء القضايا المصيرية للأنمةز نحن نسعى جادين لتحقيق المؤاخاة والتناصر بين الحركتين، في السرّاء والضرّاء، وصولاً إلى الوحدة الكاملة إن شاء الله.

معروف أن موقفكم هو الرفض المطلق لأي نوع من التسوية، في حين بات الموقف العربي الرسمي يقول بأن إمكان القضاء على إسرائيل وتحرير فلسطين هو نوع من الوهم. ما هو موقفكم من ذلك؟

□ لو أخذنا الموقف العربي الرافض إسرائيل، على الأقل في لاءاته الثلاث الشهيرة، التي أقرتها القمة العربية في الخرطوم سنة 1967 – لا اعتراف، ولا تفاوض، ولا سلام مع إسرائيل – لوجدنا أن هذه اللاءات سقطت. فقد اعترف بعض العرب بإسرائيل وتفاوض معها. لكن السلام، على الرغم من ذلك، لم يتحقق وبقي وهماً كبيراً، لأن طبيعة المشروع الصهيوني والدولة اليهودية لا تتفق مع السلام العادل الذي ينشده العرب، إذ إن مقتضى العدالة في هذا الصراع هو زوال إسرائيل وعودة فلسطين بكامل ترابها إلى الخريطة.

وإذا أردنا أن ننفذ إلى عمق ما يجري في المنطقة اليوم تحت شعار ما يسمى عملية السلام، يمكننا ملاحظة ما يلي: إن اعتراف العرب بإسرائيل الآن هو نوع من "التسليم الإجباري" بوجودها سيظل عرضة للتغير والزوال بزوال مسبباته. وإن هناك سببين أساسيين لهذا التسليم أو الاستسلام: الأول، اختلال ميزان القوة الدولي والإقليمي لمصلحة إسرائيل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج؛ الثاني، وجود أنظمة عربية حليفة للولايات المتحدة الأميركية تقدم مصالحها الذاتية الضيقة على تحقيق إجمال عربي في مواجهة إسرائيل، على الأقل ليس على قاعدة الحرب لتحقيق النصر، وإنما على قاعدة الانتظار والصمود كاستراتيجيا بعيدة المدى.

ونحن نعتقد أن موازين القوة في العالم ليست ثابتة وإنما قابلة للتغيير. وإذا لاحظنا الموقف الروسي الأخير، والمتميز جداً، من العدوان الأميركي – البريطاني على العراق، وايضاً الموقف الصيني، ندرك حجم الرفض العالمي لهيمنة الولايات المتحدة وتفردها بقيادة النظام الدولي. كذلك فإن الأوضاع الداخلية في كثير من الدول العربية لن تبقى في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل إلى ما لا نهاية. وإسرائيل نفسها تدرك ذلك، بل تدرك أن القضاء على إسرائيل هو حلم كل العرب والمسلمين، بما في ذلك حكّام، لكنهم لا يستطيعون الجهر بذلك. ويدرك العرب والمسلمون أن إسرائيل خطر عليهم جميعاً. فالحلم الصهيوني لا ينحصر في فلسطين ولا يقوم على أقل من إمبراطورية، ليس بالضرورة بالمعنى الجغرافي. فإذا كان بعض أطراف المشروع الصهيوني وقواه لا ينادي اليوم بإسرائيل الكبرى، فهناك إجماع صهيوني على "إسرائيل العظمى". وبهذا، فإن فلسطين في البرنامج الصهيوني ليست سوى نقطة ارتكاز وقاعدة للوثوب على بقية أجزاء الوطن العربي والإسلامي.

إضافة إلى هذا كله، فإن قضية فلسطين والصراع مع العدو هي قضية حق وباطل. وليس هناك قوة على وجه الأرض، مهما عظمت، تملك رخصة في تحويل الباطل إلى حق وفي تغيير حقائق التاريخ وتزويره.

والآن، بعد خمسة أعوام من تطبيق اتفاق أوسلو، هل حُلّت المشكلة الفلسطينية؟ هل عاد اللاجئون إلى وطنهم؟

واضح أن الاستراتيجيا الإسرائيلية تقوم على إجبار الفلسطينيين والعرب على العيش على "وهم الحل" للقضية الفلسطينية بدلاً من "الحل" الفعلي. وهذا طبيعي، لأن القضية الفلسطينية ليس لها حل عن طريق المفاوضات أو التسوية. فالصراع في شأن فلسطين صراع تاريخي سوف يستمر عبر الأجيال، على الرغم من كل محاولات احتوائه أو إنهائه، ولن يتوقف إلاّ بالقضاء على أحد طرفيه. وإسرائيل، الكيان الغريب في محيط عربي إسلامي يحلم بزوالها، وإن أُجبر على التسليم بوجودها لمرحلة من الضعف أو العجز، لا يمكن ولا يعقل أن تحلم بزوال العرب والمسلمين لترث هي الأرض.

أنتم، إذاً، ترفضون عملية التسوية جملة وتفصيلاً. لكْ هناك واقع جديد تمخّض عن استعادة جزء من الأرض وإنشاء "سلطة وطنية" عليه، ترفضون الانخراط في مؤسساتها للمشركة في عملية البناء الوطني، الأمر الذي يدفع البعض إلى اتهامكم، أنتم و"حماس"، بعدم الواقعية، وبأنكم لا تطرحون برنامجاً يستجيب لمتطلبات المرحلة الجديدة. ما تعليقكم على ذلك؟

□ إن جوهر اتفاق أوسلو هو حفظ أمن إسرائيل لا استعادة الأرض الفلسطينية. واتفاق "واي ريفر" ربط ما يسمى إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في أي نسبة من الأرض بتحقيق أمن كامل لإسرائيل. وهم يعرفون أن هذا مستحيل، وهو ما يجعل أي تقدم في هذه العملية مبنياً على المستحيل.

 أمّا إنشاء "السلطة الوطنية"، فما قيمته إذا كان ثمنه الاعتراف بإسرائيل، وهدفه الحفاظ على أمنها؟ وليس غريباً، ضمن عملية التزوير الكبيرة لوعي شعبنا وتاريخه من أجل تمرير مشروع أوسلو، أن يزعم أصحاب السلطة أن مشروعهم يستند إلى مقررات المجلس الوطني الفلسطيني والبرنامج المرحلي الذي اعتُمد سنة 1974 برنامجاً سياسياً لمنظمة التحرير. فعلى الرغم من موقفنا الرافض لهذا البرنامج الذي أسس بصورة واضحة للانهيار الجاري في المشروع الوطني الفلسطيني اليوم، فإن النقطة الثالثة في برنامج النقاط العشر نصت على أن "تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة" لإسرائيل.

 إن ما حصلت منظمة التحرير عليه في أوسلو من حكم ذاتي كان معروضاً على الفلسطينيين منذ أمد بعيد. ولو كان فيه أي خير للشعب أو للقضية لقبلوا به مبكراً، ولوفروا كل التضحيات والدماء التي سالت طوال أعوام الاحتلال. عندما سُئل بسام الشكعة سنة 1979 هل أنت مستعد للدخول في مفاوضات من أجل حكم ذاتي؟ قال: لماذا أدخل في مفاوضات بشأن الحكم الذاتي وأنا أعيش حالياً في ظل الحكم الذاتي؟!

 صحيح أن الحكم العسكري الإسرائيلي كان موجوداً، لكن الشؤون المدنية – كالتعليم والصحة – والشؤون الاجتماعية وغيرها كان يديرها مديرون عامون فلسطينيون بإشراف الحكم العسكري وتدخله. ولم يكن هناك بين الفلسطينيين والحكم العسكري تنسيق أمني لضرب المقاومة الفلسطينية، وتدمير مقومات صمود الشعب الفلسطيني. وأي ميل لحدمة السياسات والمصالح الإسرائيلية كان له وصف واحد هو العمالة.

 واين هو البناء الوطني اليوم؟ لم نسمع عن "خطة تنمية" تنفّذها السلطة الفلسطينية. فالمطلوب من السلطة وضع "خطة أمنية" لضرب حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، وتدمير عناصر الصمود والمقاومة بحجة مكافحة "الإرهاب". هل هذا هو البرنامج الوطني الواقعي للسلطة؟ أن تنفّذ السياسات والأجراءات القمعية الإسرائيلية نفسها التي اعتمدت طوال أعوام الاحتلال لضرب المشروع الوطني الفلسطيني وتصفيته، من ملاحقة المجاهدين وتصفيتهم واعتقالهم ومصادرة أسلحتهم وغيره؟ نحن لا نفهم كيف يمكن للمشروع الوطني اليوم أن يتحقق بممارسته للاستراتيجيا الإسرائيلية ذاتها التي اعتُمدت لتدميره؟ إن الحديث عن "البناء الوطني" بينما الاحتلال ما زال جاثماً على أرضنا، بجيشه ومستوطنيه، هو ذر للرماد في اليعون. نحن ما زلنا نعيش مرحلة تحرر وطني. وتحرير الأرض من العدو الغاصب هو الهدف الكبير والمهمة المقدسة التي لا يأتي قبلها شيء، ولا يعلو عليها شيء.

 لكن علينا أن نلاحظ هنا أن نهوض الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، في مواجهة إسرائيل، يجب ألاّ يقتصر على هد التحرر الوطني. كما أن مناهضة إسرائيل ومقاومتها يجب ألاّ تُختصران في جهد هذا الفصيل أو ذاك. فإسرائيل معضلة حضارية شائكة لا يمكن تفكيكها وتجاوز آثارها إلاّ بخوض صراع حضاري شامل تتطهر الأمة، في سياقه، من كل أدرانها، وتتطهر الأرض المقدسة من دنس الغزو الصهيوني.

 ثم هل "البناء الوطني" يتم بالفساد، والمحسوبية، وملاحقة أبناء الشعب في رزقهم ولقمة عيشهم، واضطهاد الشرفاء وقمعهم، ومكافأة المدانين بالفساد وسرقة أموال الشعب بتعيينهم "وزراء"، وربط اقتصادنا باقتصاد العدو ورهنه له عبر الوكلاء والسماسرة الذي اغتنوا وبنوا القصور من عرق الشعب ودمائه؟ هل هذا من "البناء الوطني"؟

 في الواقع، إن ما يجري في ظل السلطة ليس فساداً وإنما هو غفسادٌ مخططٌ ومقصود لتدمير أخلاق الشعب الفلسطيني وقيمه، ولكسر إرادته وروحه النضالية من أجل تيئيسه وسلبه القدرة على أي نوع من المقاومة.

 كما أن إغراق المجتمع الفلسطيني بكل أنواع الفساد وأشكال القمع، ومن ثم انشغال قوى المعارضة الفلسطينية بآثار هذا القمع وذاك الفساد، والتركيز في خطابها على الجوانب المطلبية الحياتية، يهدف في النهاية إلى صرف هذه القوى عن وظيفتها الأساسية، المتمثلة في مقاومة الاحتلال. بل إن هذا الوضع يؤسس لتفسير الجهاد والنضال بأنهما نقمة على الأوضاع السائدة في المجتمع، وردة فعل على فساد السلطة لا على وجود الاحتلال.

 إن تجربة خمسة أعوام مريرة من تطبيق اتفاق أوسلو، إضافة إلى حقائف هذا الصراع التاريخية والبديهية، تؤكد أن التعايش والسلام اللذين يتحدثون عنهما وهم كبير، وأن الرخاء الذي يعدون به مستحيل. فهل الرهان على الوهم والمستحيل من الواقعية التي نفتقدها نحن و"حماس" وكل الرافضين لهذا السلام الإسرائيلي؟

إننا نؤمن بأن البحث عن تسوية للصراع مع إسرائيل هو نهج غير واقعي في حد ذاته، لما ينطوي عليه من تشويه للواقع وللتاريخ. لقد تعلمنا أن ليس هناك واقعية معادية للتاريخ، وليس هناك تاريخ يتنكر للواقع. لذلك، فإن اعترافنا بضعف العرب والمسلمين، أو بعجزهم، يجب ألاّ يقودنا إلى الاستسلام والاعتراف بإسرائيل. بل إنه يدعونا إلى الثبات والصمود وامتلاك القوة التي تؤهلنا لمواجهة إسرائيل واستعادة أرضنا وحقوقنا منها. أمّا أن نرتمي في حضنها ونعمل حرّاساً لأمنها، بأمل أن تجود علينا بما يفيض عن حاجاتها من الأرض أو الموارد، فليس هذا برنامجاً كي نصوغه أو نتبناه فنكون واقعيين.

ما هي مصادر تمويل الحركة، وهل إيران أحد هذه المصادر؟ وما هي طبيعة علاقتكم بطهران، وخصوصاً أن السلطة صعّدت مؤخراً من لهجتها في اتهامكم بأنكم تتلقون أوامر من جهات خارجية "لتخريب عملية السلام"، في إشارة إلى إيران وسورية؟

□ نحن، تاريخياً، حركة فقيرة محدودة الموارد والإمكانات المادية. لذلك ظلت أوجه إنفاقنا وأنشطتنا محكومة دوماً بمحدودية الإمكانات هذه. ونحن نعتمد في تمويل نشاطنا وحركتنا على قدراتنا الذاتية، بما يدفعه بعض أعضاء وأنصار الحركة الأثرياء من التزامات وتبرعات، وعلى التبرعات الشعبية من أموال زكاة وصدقات من جماهير أمتنا العربية والإسلامية، بمن فيها الشعب الإيراني، حيث أننا لا نتلقى أية مساعدات رسمية من إيران. هناك مؤسسات أهلية خيرية وأوساط العلماء نتلقى منها دعماً إنسانياً لدعم أُسر الشهداء والمعوقين والأسرى في سجون الاحتلال وسجون السلطة.

 وعلاقتنا بإيران مثل علاقتنا بأي طرف آخر؛ فهي تخضع لاعتبارات الحفاظ على استقلالية قرارنا، وتأييد قضية شعبنا وأمتنا المركزية، قضية فلسطين. وموقفنا من إيران لم يتغير منذ انتصار الثورة الإسلامية، بل أثبتت الأحداث والتطورات صدق وصوابية كل من موقفنا ورؤيتنا. والكل يردد الآن ما قلناه قبل عشرين عاماً بالنظر إلى إيران الثورة قاعدة إسلامية وحليفاً استراتيجياً للعرب في مواجهة الحلف الصهيوني – الأميركي في المنطقة.

 أمّا عن اتهامات السلطة الفلسطينية لنا بوقوف جهات أجنبية وراءنا، فهي اتهامات تمثّل إهانة للشعب الفلسطيني، بما تعنيه من أنه شعب لا يتحرك للدفاع  عن نفسه وأرضه أمام الاعتداءات الإسرائيلية إلاّ بتحريك الآخرين له. كما أن وصف سورية وإيران بأنهما جهات أجنبية، في الوقت الذي تتحالف فيه السلطة مع إسرائيل ضد شعبها وأمتها، يتضمن إدانة للسلطة نفسها. فهل أصبحت سورية طرفاً أجنبياً يُعتبر تأييده لنضال شعبنا وقضيته العربية تهمة، بينما إسرائيل حليف وصديق يُعتبر التحالف معه نعمة ومفخرة؟ إن هذا تحريف وتزوير خطر على صعيد مَنْ هو الأصيل ومَن}ْ هو الدخيل في هذه المنطقة.

أنتم تطرحون بديلَ الكفاح المسلح طريقاً لاستعادة الأرض والحق، بينما المؤيدون للسلام يقولون إن الكفاح لم يفلح في استعادة شيء من الأرض. المفاوضات وحدها هي التي بدأت تستعيد شيئاً فشيئاً، كما أن السلطة ملزمة بتنفيذ التزاماتها على صعيد منع أي عمل عسكري ضد أي أهداف إسرائيلية. ماذا ستفعلون في مواجهة هذا الوضع؟

□ التحول الذي طرأ على مواقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هو الأغرب في التاريخ، وربما لم تشهد مثله حركة تحرر في العالم. فخلال ثلاثة عقود من عمر الثورة الفلسطينية المعاصرة انقلب موقف هذه القيادة مئة وثمانين درجة، من النقيض إلى لنقيض. لقد نادت يوماً بأن الكفاح المسلح هو "الطريق الوحيد" لتحرير الأرض، واليوم تقول لنا إن المفاوضات هي "الطريق الوحيد" لاستعادة الأرض. فـ"الكفاح المسلح" لدى هذه القيادة تحول من "مقدَّس وطني" إلى محرَّم وطني"، في حين أن العكس حدث بالنسبة إلى المفاوضات التي كانت من المحرمات الخيانية، وأصبحت اليوم "الخيار الوحيد" المتاح والمباح لدى هذه القيادة.

 ليس من المعقول ولا المقبول أن تكون القضية اللسطينية أو الشعب الفلسطيني رهينة مزاج هذه القيادة أو انهياراتها. مَنْ الذي نصّب هذه القيادة حاكماً بأمره، يشرّع ويحرّم كما يحلو له. فالاتفاقات التي وقّعتها السلطة ليست ديناً أو شرعاً إلهياً. وهي ليست ملزمة للشعب الفلسطيني لأنها لا تعبّر عن إرادته ولم توقّّع بمشورته. وبأي وجه حق تعتبر السلطة العنف ضد أبناء شعبها، بإطلاق النار على المتظاهرين وإزهاق أرواح الناس تحت التعذيب في سجونها، مشروعاً بينما العنف ضد الاحتلال والمستوطنين غير مشروع.

إن الكفاح المسلح ومقاومة الاحتلال والاستعمار الأجنبي حق طبيعي ومشروع كفلته كل الشراع السماوية والوضعية، للشعوب التي تتعرض للعدوان من أجل الدفاع عن نفسها. فمن حقنا أن نتمسك بحق الدفاع عن شعبنا في مواجهة الاحتلال والعدوان الصهيوني المتواصل. ومن العار أن يطالبنا أي فلسطيني أو عربي أو مسلم بالتنازل عن هذا الحق مراعاة لاتفاقات صُمِّمت لحفظ أمن العدو وتثبيت احتلاله لأرضنا. ما تفعله السلطة اليوم والغزو الأجنبي، وربما يقود ذلك مستقبلاً إلى مراجعة الكثير من الاتفاقات والمواثيق الدولية التي كفلت للشعوب حق مقاومة الاحتلال والاستعمار.

 نحن نقول إن الكفاح المسلح، كوسيلة للنضال، لم يصل إلى طريق مسدود، ولم يثبت عقمه أو عدم جدواه. وما يحدث في الجنوب اللبناني خير شاهد على ذلك. لكن المشكلة هي في الفكر والبرنامج السياسي الذي تبنّى الكفاح المسلح الفلسطيني ورفعه يوماً إلى مستوى "المقدَّس"، واليوم ينزل به إلى الحضيض ويعتبره "المحرَّم" المطلوب تصفيته لمصلحة "المدنِّس"، أي الاحتلال، أي انهيار هذا الذي لم تسبق إليه ثورة في العالم؟!

 السلطة اليوم تصرخ ضد الاستيطان، لكنه لا تملك أي برنامج أو خطة عمل لمواجهته ومنع تمدده على الأقل. نحن نطرح الكفاح المسلح أسلوباً يمكن أن يردع المستوطنين ويدفعهم إلى إخلاء المستعمرات والرحيل عن أرضنا. وأكثر من ذلك، فالكفاح المسلح الذي ينقل المعركة إلى قلب العدو، وخصوصاً بالعمل الاستشهادي في تل أبيب والقدس وغيرهما من المدن الكبرى، يمكن أن يحقق نوعاً من توازن الرعب مع العدو، بل سيشجع الهجرة المعاكسة ويحد من حركة السياحة بما يضعف اقتصاده.

 في ربيع سنة 1996، عقب سلسلة العمليات الاستشهادية التي نفذتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، والتي هرع قادة الاستكبار العالمي في إثرها إلى قمة شرم الشيخ، رأينا الجمهور الصهيوني يصرخ على شاشات التلفاز بأنه موجود في المكان الخطأ. وهذه أول مرة في تاريخ الكيان الإسرائيلي يطرح العمل الاستشهادي أسئلة على العقل اليهودي في شأن جدوى إقامة الدولة اليهودية على أرض مغصوبة، وعلى أنقاض شعب سيلاحقهم بالجهاد والمقاومة، ولو إلى آخر الزمان.

عرفات يهدد بإعلان الدولة الفلسطينية في أيار/ مايو 1999، على الأرض الموجود عليها اليوم، وأنتم تصرون على تحرير فلسطين كلها، في حين أن المطالبة بدولة فلسطينية على جميع أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة أصبحت صعبة التحقيق، وقد لا تجد التعاطف الدولي الواضح في ظل موازين القوى الراهنة. فلماذا لا تؤيدون ما تم إنجازه إلى اليوم مع الاستمرار في النضال لتحصيل المزيد؟

□ أولاً، عرفات لن يعلن دولة في أيار/ مايو المقبل لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك من دون موافقة الإسرائيليين والأميركيين. وفي تقديرنا، سيجري تمديد ما يسمى المرحلة الانتقالية من اتفاق أوسلو، وسيبتلع عرفات تهديداته. كما أن إعلان الدولة هذا يطرح أسئلة في شأن مسألة أرض الدولة، والسيادة على الأرض ومصير المستعمرات الموجودة داخل حدود الدولة المزعومة، وغيرها من المسائل التي لا يملك عرفات أي إجابة عنها. إذاً تبقى تهديدات عرفات مناورات ومفرقعات يحاول التغطية بها على حجم التنازلات التي قدمها للإسرائيليين.

 وفي ظل مشروع أوسلو لم تعد الأرض هي الهدف، وإنما تم صوغ هدف جديد ووهم كبير اسمه "الدولة". ومطلوب من الشعب الفلسطيني أن يصمت وألاّ يحرك ساكناً في الدفاع عن أرضه التي تُنْهَب وتُصادَر لإثبات حسن سلوكه أمام اليهود لعلهم يجودون عليه بدولة! ينسى عرفات أن الحقوق تُنتزع انتزاعاً، وأن الدول تُبنى بالدماء والتضحيات ولا تُهدى إحساناً. لم يحدث في التاريخ أن أهدى شعب إلى شعب آخر دولة، كما ينتظر عرفات. ولم يحدث في التاريخ أن قامت دولة بثمن شطب هوية الشعب كما تم في فضيحة شطب الميثاق الفلسطيني في غزة. أمّا قصة تحرير الأرض عبر المفاوضات فهي كذبة كبيرة. فالأرض لم تحرَّر، وإنما تحولت إلى كسور عشرية وكانتونات ومعازل يعيد جيش الاحتلال انتشاره فيها عندما يتأكد أن الشرطة الفلسطينية وأجهزة الأمن الفلسطينية ستقوم، بالنيابة عنه، بكل الأعمال التي كان يقوم بها للحفاظ على أمنه ومستوطنيه، حتى لو تطلب الأمر ذبح الشعب الفلسطيني.

 أمّا أن نقبل بما أُنجز اليوم على أمل مواصلة النضال، فكذبة قديمة أيضاً. فاتفاق أوسلو كشف زيف ما يسمى فكرة "القاعدة الآمنة" التي خُدع الشعب بها، وعلى أساسها جرى تسويق البرنامج المرحلي وتمرير فكرة "السلطة الوطنية" أو "الدولة المستقلة" على جزء من الأرض، كي تكون قاعدة انطلاق لمواصلة النضال حتى إكمال تحرير باقي الأرض. كما أن اتفاق أوسلو وما يجري على الأرض اليوم أثبتا أن هذا كلام فارغ وساذج، بل جزء خطر من التضليل الذي مورس وما زال يمارَس في الساحة الفلسطينية للتغطية على نهج التراجع والتفريط لذلك نعود فنقول إن تهديدات عرفات بإعلان الدولة هو استمرار منه في مسلسل التضليل للتغطية على مسلسل التنازل الذي يقدمه. وهو لن يجرؤ على ذلك ما دامت إسرائيل غير موافقة. وبالنسبة إلينا فإن مطالبتنا بكامل حقنا في كامل وطننا ليست مرهونة بالتعاطف الدولي معنا أو عدمه.

ألا تعتقد أن هناك تغيّراً إيجابياً، داخل الأحزاب الإسرائيلية وفي الولايات المتحدة، لمصحرة الدولة الفلسطينية؟ فقد أشار الرئيس الأميركي، في خطابه في غزة، إلى حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وتزامن هذا مع تزايد في التأييد العالمي لقيام الدولة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية تقول إن هذا كان متعذراً قبل عملية السلام وتوقيع اتفاق أوسلو، فما ردكم على ذلك، وهل يمكن أن توافق إسرائيل فعلاً على قيام دولة فلسطينية مستقلة؟

□ دعني أبدأ بالموقف الدولي، فأقول: إن الموقف الدولي بصورة عامة، بعيداً عن الولايات المتحدة، لم يكن عقبة كبيرة سواء على صعيد الدول أو على صعيد المؤسسات الدولية. فامجتمع الدولي – إن جاز التعبير – أقر في قرار التقسيم سنة 1947 قيام دولة عربية مستقلة في فلسطين إلى جوار الدولة اليهودية التي قامت لاحقاً على نحو 80% من فلسطين سنة 1948 بموافقة الأمم المتحدة. وقد كان قرار الأمم المتحدة، الذي اعترفت فيه بالدولة اليهودية، هو القرار الوحيد الذي طُبّق من قرارات ما يسمى الشرعية الدولية بشأن فلسطين. لقد أصدرت الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة، خلال السنوات 1980، و1983، و1986، و1988، قرارات أكدت فيها حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أرض فلسطين. لكن هل وجدت هذه القرارات طريقها إلى التنفيذ؟

 وهل استطاعت منظمة التحرير، التي سلكت طريق الدبلوماسية منذ خطاب عرفات في الأمم المتحدة سنة 1974، والمفاوضات واللقاءات السرية مع الإسرائيليين منذ أكثر من عقدين من الزمان – هل استطاع هذا كله أن يغير موقف إسرائيل من الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية؟ كل هذا لم يغير قناعة الإسرائيليين. المقاومة وحدها، والانتفاضة بما مثلته من مأزق وكابوس متعدد الأبعاد لإسرائيل، وبما أحدثته من عزلة لها في العالم ومن إحراج لحاميتها الولايات المتحدة، هما اللتان دفعتا الإسرائيليين إلى التسليم بوجود شيء اسمه الشعب الفلسطيني، الذي قالت عنه غولدا مئير يوماً أنها لم تسمع بوجوده (!) وعلى الرغم من أن الإسرائيليين أصبحوا يناقشون مسألة الدولة الفلسطينية في العلن منذ أن تخلصوا من كابوس الانتفاضة وأطفأت التسوية نارها، فإن أياً من الأحزاب الإسرائيلية الكبيرة لم يصدر عنه اعتراف رسمي بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة. وفيما عدا بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة التي لا وزن لها، والتي أيدت الدولة بطريقة مواربة، فإن اليمين الإسرائيلي بكل قواه التي يزداد نفوذها في الشارع الإسرائيلي ما زال يواصل رفضه الشديد لجميع حقوق الشعب الفلسطيني السياسية. وإذا كانت المواقف في حزب العمل ما زالت ملتبسة برفع الاعتراض لا الموافق على الدولة من برنامجه السياسي، فإن هذا الالتباس ينجلي فيما أفصح عنه شمعون بيرس في كتابه "معركة السلام". فهو يتحدث عن مناقشة الخيار الأردني في لقاء له مع الملك حسين، قائلاً: "إننا عارضنا خلق دولة فلسطينية مستقلة"، ويتابع: "في رأيي فإن دولة فلسطين، حتى وإن تجردت من السلاح أول الأمر ستجاهد دون تراجه كي تشيد لها قوة عسكرية وأن المجتمع الدولي، القائم على المعونة الكبيرة للعالم الثاني والثالث في الأمم المتحدة، لن يفعل شيئاً لوقف ذلك، وسينشر هذا الجيش في النهاية، على بوابات القدس نفسها الطول الكامل والضيق لإسرايل وسيفرض تهديداً دائماً لأمننا ولسلام المنطقة واستقرارها." ثم يضيف: "ثمة سبب آخر في معارضتنا لدولة فلسطينية مستقلة هو معونتنا الطويلة العهد، وإن كانت غير مباشرة، للأردن... إن وضع الأردن، وفي الحقيقة وجوده سيهدده ظهور دولة فلسطينية مستقلة."

 هذا، على الأقل، يفتح عيوننا على الطريقة التي يفكر الإسرائيليون فيها تجاه مسألة الدولة الفلسطينية، وتجاه حق تقرير المصير الذي أصبح كغيره من حقوق الشعب الفلسطيني، بموجب اتفاق أوسلو، مرهوناً بالإرادة الصهيونية لا بما يقوله الرئيس الأميركي الذي تحدث عن مجتمع فلسطيني ولم يتحدث عن دولة.

 وبناء عليه، وعلى الرغم من رفضنا فكرة الدولة المستقلة على جزء من أرض فلسطين، فنحن ندرك أن إسرائيل لا يمكن أن توافق على حق تقرير المصير للفلسطينيين بما يؤهلهم لإقامة الدولة المستقلة، وذلك للأسباب الثلاثة الرئيسية التالية:

  1- إذا كانت منظمة التحرير قد اجتازت اختبار الولاء لإسرائيل ولن تقيم دولة عقائدية لمواصلة القتال من أجل تحرير فلسطين، فإن إسرائيل بتياراتها جميعاً لا تضمن عدم انتقال هذه الدولة، لو قامت، إلى أيدي الإسلاميين أو حتى إلى أيدي عروبيين ممن لا يزالون يبشرون بزوال إسرائيل. وتاريخياً، عندما طُرحت فكرة الحكم الذاتي، كانت إسرائيل ترى مخاطرة في احتمال سيطرة عناصر راديكالية معادية لها على مؤسسات الحكم الذاتي، عندما طُبِّق الحكم الذاتي حرصت إسرائيل على تحقيق أكبر وأوسع اختراق لها داخل جميع مؤسساته وأجهزته الأمنية. إذا كان هذا على صعيد الحكم الذاتي، فكيف لو كان الأمر يتعلق بدولة؟

   2- لا يمكن الحديث عن حق تقرير المصير بالنسبة إلى سكان الضفة والقطاع وإغفال بقية الشعب الفلسطيني داخل الدولة اليهودية وفي الشتات، التي يزيد عددها على خمسة ملايين نسمة. إن بلداً كالأردن، فيه أكثر من مليونين ونصف مليون فلسطيني لا يمكن أن تستبعده إسرائيل عن أية مفاوضات تجري في شأن جق تقرير المصير ما دامت ترى في الدولة الفلسطينية المستقلة خطراص على وجود الأردن، كما يقول بيرس.

  3- لا يمكن أن توافق إسرائيل على حق تقرير المصير للفلسطينيين ما دام هناك شبر من أرض عربية غير فلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني، بما يعني إمكان نشوب صراع بينها وبين أي طرف عربي. وأكثر من ذلك، فإن إسرائيل لا يمكن أن تفكر في منح الفلسطينيين حق تقرير المصير ما لم توقع معاهدات سلام مع دول الطوق كلها، ومع معظم الدول العربية الأُخرى، بما في ذلك دول مركزية كالسعودية والعراق. وبناء عليه فإن الوهم الذي مَلَكَ، وما زال يملك، على بعض موظفي الحكم الذاتي، بأن أي حكومة إسرائيلية يمكن أن تصل معهم إلى حل نهائي بينما هي تخوض حرباً في الجنوب اللبناني وما زالت تحتل الجولان – هذا الوهم يدل على درجة عالية من الجهل بأبسط مبادىء السياسة، وبأبسط حقائق هذا الصراع.

 وبوجود دولة إسلامية مركزية في قلب المنطقة كإيران، التي ترفض الاعتراف بإسرائيل وتنادي بزوالها، فإن الأمر يزداد تعقيداً من وجهة النظر الإسرائيلية، ويرقص طرباً نتيجة فوز إيران على الولايات المتحدة في مباراة كرة قدم في دورة كأس العالم، تدرك حجم الخطر الذي قد يهدد أمنها إن هي مكّنت الفلسطينيين من إقامة أي كيان حقيقي مستقل يمتلك أي نوع من القدوة، بينما إسرائيل تشتبك مع أي طرف عربي أو إسلامي في المنطقة. وسيبقى الفلسطينيون دائماً الأكثر قابلية للاشتعال في حال اشتباك أي جزء من الأمة العربية والإسلامية مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.

في تحرك قوى المعارضة الفلسطينية في مواجهة شطب الميثاق الوطني الفلسطيني رأى البعض نوعاً من التناقض في خطاب الحركة الإسلامية ("حماس" والجهاد) حيث برز موقفكم التقليدي برفض اعتبار منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، لكنكم رفضتم إلغاء ميثاق المنظمة. هل لكم أن تفسروا ذلك وتوضحوا موقفكم من إلغاء الميثاق؟

□ نحن فعلاً لنا موقف واضح ومعروف من شعار "منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" الذي تحول إلى قرار قمة عربية في الرباط سنة 1974. نحن نرى أن هذا الشعار الذي نجم عنه شعار آخر هو "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"، كان بداية الطريق إلى فصل الفلسطينيين عن أمتهم العربية والإسلامية، وإلى وضع هذا الشعب المضطهد في قبضة تحالف دولي إمبريالي شرس رأس حربته إسرائيل. في ظل هذا الشعار تم دفع الشعب الفلسطيني إلى الحائط وإيهامه بأن العرب والمسلمين تخلوا عنه، وبأن الخيار الوحيد أمامه هو الاستسلام لعدوه. وهذا ما جرى فعلاً حين اعترفت منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود والعيش بسلام. لذلك نحن نعتقد أن منظمة التحرير، التي أُنشئت لهدف تحرير فلسطين، ومنه تستمد اسمها، قد انتهت وأصبحت في ذمة التاريخ. لقد كتب عرفات شهادة وفاتها فيما سُمِّي "رسائل الاعتراف المتبادل" بينه وبين رابين.

والذين يصرون على هذا الشعار اليوم هم واحد من اثنين: إمّا موالٍ لعرفات يريد استخدام اسم المنظمة لتسويغ وشرعنة الاستسلام والتفريط اللذين تمّا باسمها؛ وإمّا مكابر يعيش حالة من الحنين إلي شيء أصبح يتعلق بالماضي. وهذا ليس إنقاصاً لقّدْر أو قيمة المنظمة كإنجاز نضالي لشعبنا. لكن هذا الإنجاز للأسف لم يعد له أي معنى، والمنظمة اليوم تحولت إلى هيئة شبه حكومية يجري تفريغها من كل مضمون لمصلحة مشروع السلطة، وهي بما بقي منها من اسم أو هياكل تعيش على إعراف إسرائيل بها كثمرة لاعترافها هي بإسرائيل، الأمر الذي يفقدها أي شرعية.

وموقفنا هذا من المنظمة لا يتناقض مع موقفنا الرافض لإلغاء الميثاق أو شطبه. إذ على الرغم من تحفظنا تجاه إغفال الميثاق للبعد الإسلامي والعربي للقضية الفلسطينية، فنحن نعتبره قاعدة الإجماع التي يجب أن تلتقي عليها كل القوى في هذه المرحلة، من تأكيد حقنا في وطننا وبطلان شرعية الدولة اليهودية على أرضنا. وموقفنا من المنظمة، بعكس موقف كثير من القوى، هو دفاع عن الميثاق. فمقررات المجالس الوطنية المتعاقبة والبرامج السياسية لمنظمة التحرير، منذ البرنامج المرحلي وما تلاه، هي التي تناقضت مع الميثاق وشطبت عملياً أجزاء كثيرة منه.

إن الميثاق يعتبر فلسطين الوطن القومي للشعب الفلسطيني. والذين وافقوا على شطب هذه الحقيقة لمصلحة العدو الإسرائيلي، الذي يعتبر فلسطين الوطن القومي للشعب اليهودي، ارتكبوا جريمة كبرى في حق أنفسهم وفي حق شعبهم وأمتهم. وإذا كان أحمد قريع (أبو علاء) قد قدّم فلسطين هدية لشمعون بيرس في يوم عيد ميلاده عندما وقّع مسودة اتفاق أوسلو كما روى بيرس، فالذين صفقوا لذكر اسم رابين يوم شطب الميثاق كانوا يصفقون لذروة انتصار المشروع الصهيوني في فلسطين. ألم يقل بن – غوريون "إن نصرنا لن يكتمل إلاّ إذا حصلنا على توقيعهم"؟! لقد سلّموا بصحة الرواية الصهيونية لتاريخ والصراع، فماذا بقي لهم ليفاوضوا فيه؟ ألا يعلم هؤلاء الذين يصرخون من نتنياهو الذي يضرب بهم وبالاتفاقات معهم عرض الحائط أنهم بشطب الميثاق قدموا له هدية هي أهم ورقة يستخدمها في معركته الانتخابية المقبلة؟

في المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي عُقد في دمشق قيل إن موقفكم، أنتم و"حماس"، كان رافضاً أن يتجاوز هدف المؤتمر توجيه رسالة سياسية وصولاً إلى إنشاء منظمة أو هيئة قيادية بديلة أو إبراز مرجعية جديدة ولو بإعادة بناء منظمة التحرير على أسس جديدة. فهل هذا صحيح؟ وما هي رؤيتكم لمستقبل العلاقة بين قوى المعارضة الفلسطينية؟ وهل وضعَ مؤتمر دمشق آلية لإفراز مرجعية جديدة، أم أن الأمور ستقف عند حدود البيان الختامي للمؤتمر؟

□ لقد رُوِّج الكثير من الشائعات بشأن حقيقة مواقف الأطراف جميعها. وقد كان موقفنا واضحاً في تأكيد أهمية عقد المؤتمر لتسجيل موقف تاريخي وتوجيه رسالة سياسية فحواها أن الشعب الفلسطيني يرفض إلغاء ذاته بإلغاء ميثاقه استجابة لإرادة عدوه ورغباته. وقد بذلنا جهداً كبيراً مع الأطراف جميعاً لحشد أكبر اصطفاف من كل قوى شعبنا وقطاعاته، بغض النظر عن أية خلفيات أو حساسيات لا تتعارض مع توحيد الصفوف في وجه حدث إلغاء الميثاق.

  أمّا قضية منظمة أو هيئة قيادية بديلة فقد كان موقفنا واضحاً أيضاً، وقلنا إن هذا الأمر يتطلب شرطين أساسيين: الأول، تحقيق إجماع فلسطيني واسع على هذا الهدف، يراعي قاعدة الإجماع التي هي في نظرنا ما ينص عليه الميثاق؛ الثاني، وجود غطاء عربي وإسلامي يدعم هذه المرجعية البديلة ويعترف بشرعيتها. وكلا الأمرين لم يكن من السهل تحقيقه أو اعتباره في متناول اليد. لذلك كان موقفنا الدعوة إلى التريث، وعدم التسرع والاندفاع نحو خطوات غير محسوبة، يكون الفشل فيها هدية مجانية وعنصر قوة جديداً في يد المعسكر الآخر.

أمّا عن مستقبل العلاقة بين القوى والفعاليات التي شاركت في المؤتمر، وماذا يمكن أن ينتج من آليات وفعاليات تطرحها لجنة المتابعة التي انبثقت من المؤتمر، فالأمر في رأينا يتوقف على جدية كل الأطراف واستعدادهم للتجاوز واللقاء على قاعدة القاسم المشترك من أجل تحقيق ولو حد أدنى من الوفاق الوطني لمصلحة القضية.

 نحن لا ننكر أن هناك الكثير من التباينات الأيديولوجية والفكرية والسياسية، وحتى الجغرافية، بين القوى المشاركة في مؤتمر دمشق ومؤتمرات المعارضة في الداخل. لكننا نسعى دوماً لتقديم نموذج في القدرة على الجاوز، بينما البعض للأسف لا يتعامل بالمنطق نفسه.

في مؤتمري غزة والضفة، اللذين عُقدا بالتزامن مع مؤتمر دمشق، رفض بعض قوى المعارضة إضافة كلمة "إسلامية" القدس إلى جانب كلمة "عروبة"، وقال إن حذف كلمة إسلامية هو مراعاة لمشاعر المسيحيين المشاركين في المؤتمر سبحان الله! متى كان اسم الإسلام في وطننا يمس المسيحيين الذين عاشوا طوال قرون في هذه الديار مسلمين ثقافة وحضارة؟ وأي غباء سياسي هذا الذي يشطب خُمس سكان العالم من ميزان التعاطف والتأييد للقدس وفلسطين؟ نحن نعرف إحوة مسيحيين يطرحون صيغة "الإسلام الحضاري" نقطة للقاء التيارات كافة، ووعاء يحتضن الجميع بناء على فهم واحترام تاريخ الأمة وروافدها الحضارية والوطنية. فالمسيحيون أكبر من أن يتحولوا إلى شماعة يعلق عليها إصرار البعض على استبعاد الإسلام من القضية الفلسطينية. أي مرجعية هي التي نبحث عنها من دون الإسلام؟

 لقد اتفقنا على طي صفحة العصبيات الأيديولوجية والحزبية من أجل تضييق مواطن الخلاف والاختلال ما أمكن. لكن البعض ما زال يصر على اعتبار أن الأفكار الوافدة والأيديولوجيات المستوردة، والتي تتناقض في أجزاء كبيرة منها مع عقيدة الأمة  وتراثها وقيمها وأعرافها وعاداتها، يجب أن تكون الناظم والمرجع لحياتنا السياسية ومواقفنا العملية. لو طُرح هذا قبل ثلاثين عاماً لأمكن، ربما، اسيتعابه وتفسيره. أمّا عندما يصر البعض على شطب "إسلامية" القدس بينما الإسلاميون يمثلون رأس الرمح في المقاومة في فلسطين ولبنان، وفي التصدي للهجوم الصهيوني – الأميركي في المنطقة كلها، فنحن لا نجد له أي تفسير سوى اعتقاد البعض بمبدأ عصمة التنظيمات والفصائل. فالبعض يشعر بأن حزبه، منذ البيان الأول لنشوئه إلى اليوم، معصوم ولم يخطىء في شيء، وليس بحاجة إلى أن مراجعة، وبأن كل ما يقوله أو يفعله هو الصواب المطلقن وعلى الآخرين أن يبصموا ويسلّموا بذلك. نحن لا نقبل هذا الأسلوب، وهو سيدفعنا خطوات كبيرة إلى الخف. كما أن حرصنا على الوحدة وعلى تحقيق الوفاق الوطني لا يمكن أن يجبرنا على القبول بسياسة الإلحاق أو التهميش، التي ما زال البعض يمارسها بالعقلية ذاتها التي عانت الساحة الفلسطينية جرّاءها كثيراً.