Right of Return: How Many and Where To?
Keywords: 
حق العودة
اللاجئون الفلسطينيون
التأريخ
المؤرخون الجدد
حقوق اللاجئين
إيليا زريق
Full text: 

 

لا يوجد موضوع مشحون وحساس، بالنسبة إلى الإسرائيليين أو الفلسطينيين، أكثر من مسألة "العودة" أو ما يُسمّى "حق العودة". إن معظم اليهود في إسرائيل ينظر إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين باعتبارها تهديداً حقيقياً لوجود الدولة اليهودية، على الأقل في صورتها المألوفة لدينا حالياً. وقد لا يوجد مستوطنة أو حي في إسرائيل، لا تختفي تحتها أو تحته، على عمق طبقة واحدة فقط، قرية عربية، أرضها في نظر سكانها هي وطنهم منذ أجيال. إضافة إلى ذلك، إن القليلين من سكان هذه القرى الذين ما زالوا أحياء، وذريتهم جميعها ـ جيل ثان وثالث ورابع من سكان مخيمات اللاجئين، أو مجرد منفيين ومقتلعين ـ ما زالوا يرون في مخيّلتهم المنازل والأحياء والحقول وأشجار الزيتون والحمضيات في القرى التي دُمِّرت، كأنها لا تزال موجودة في انتظار عودة أصحابها، كما لو أن الزمن توقف عن الجريان ذات يوم عاصف في سنة 1948. إن اقتلاع الفلسطينيين من قراهم يبدو في نظرهم كأنه اختلال في النظام الكوني، لن يصحح إلاّ عندما يعالج ما يبدو في نظرهم ظلماً فادحاً. ولا يتحمل المسؤولية عن هذا الظلم، بالنسبة إليهم، اليهود ـ الصهيونيون فقط، بل أيضاً العالم بأسره (المقصود بذلك، أساساً، العالم "الغربي البربري")، الإمبريالي والكولونيالي، الذي أراد أن يزيل ما ألحقه من ظلم بيهود أوروبا على حساب شعب غير أوروبي، شرقي، وبالتالي لا أهمية له كما يبدو.

هل من المستغرب، إذاً، ألاّ تظهر مشكلة اللاجئين، إن ظهرت أصلاً، إلاّ على هامش مشاغلنا اليومية العامة، وبصورة عامة في مبادرة من الجزء اليميني من القوس السياسي الإسرائيلي، كفزاعة تخويف طبيعية تدل على "نية العرب" إبادة الدولة اليهودية؟ حتى قادة فتح وم. ت. ف.، عندما أجروا المفاوضات من أجل الصلح مع إسرائيل، امتنعوا، بصورة عامة، من إثارة الموضوع بكامل خطورته وحدته، لأنه معقد ومشحون بالمخاطر أيضاً بالنسبة إليهم. ولا أحد يعرف، في الواقع، كيف يمكن معالجة هذا الموضوع.

ومن المفارقات أن حفنة الباحثين الذين يسمون أنفسهم ـ أو يسميهم خصومهم السياسيون والأكاديميون ـ "المؤرخين الجدد" ساهموا هم أيضاً، من دون أن يعوا ذلك، في حرف النقاش العام إلى قنوات قليلة الأهمية، مع أن معظمهم مشغول أيضاً بمشكلة اللاجئين وتكونها وبدراسة الحروب العربية ـ الإسرائيلية. إن تقصي الحقائق التاريخية "الفعلية"، وتنقية كتب التاريخ من التزييفات والتشويهات المقصودة وغير المقصودة، هما أمران مهمان في حد ذاتهما في الواقع، ولهما قيمة كبيرة بالنسبة إلى التاريخ كعلم وإلى المؤرخين أنفسهم. لكن المشكلة تبدأ عندما يحمّل [المؤرّخون] عندنا (وليس عندنا فقط) التاريخ مهمات لا يستطيع، ولا يجوز له، أن يقوم بها. إن التاريخ ليس محكمة استئناف لإصدار أحكام "عدل تاريخي"، وليس أيضاً دائرة طابو لتسجيل صكوك ملكية لممتلكات غير منقولة، شخصية أو قومية، كما أن بارئ الكون (الذي يشكل التاريخ، بالنسبة إلى العلمانيين، بديلاً منه) ليس دائرة لإصدار صكوك ملكية أو وعود جغرافية أو لرسم حدود دول.

ويشترك المؤرخون جميعاً، الحديثون منهم والقدامى، في الخطأ نفسه: عزو قيمة خلقية ظاهرة أو مستترة لوضعيات وأحداث من الماضي، من خلال الانهماك في تفصيلات قليلة الأهمية في أساسها. على سبيل المثال، إن كلاً من شبتاي [طيفت] وبني موريس متفق، فيما يتعلق بنتائج حرب 1948، على أن جزءاً من الفلسطينيين فر من بيته خوفاً "مما سيفعله اليهود به"، وعلى أن  جزءاً آخر طرد بوحشية إلى "ما وراء الخطوط"، وفقاً لـ "خطة دالِت" أو عكسها. كما أنهما متفقان على أن لا بن ـ غوريون ولا أي زعيم مهم آخر عاقل في الييشوف اليهودي أعلن الحداد على "تنظيف البلد" من العرب.

وليعذرني هذان العالمان الكبيران المختلفان فيما بينهما عندما أقول إن مسألة ما إذا كان بن ـ غوريون أمر قادة القوات اليهودية، أو لمّح إليهم فقط، بطرد العرب، هي ذات أهمية ثانوية في مقابل الصورة العامة. إن حرب 1948 أبقت تحت السيطرة اليهودية نحو 102 ألف عربي فقط من مجموع 1.3 مليون عربي من سكان الدولة الانتدابية البريطانية، وأن نحو 650 ألف شخص (مع أننا لن نعرف الرقم الدقيق أبداً) وجدوا أنفسهم مقتلعين.

إن تقصي هذه الحقائق لا ينقص أو يزيد في المسؤولية الخلقية التي تتحملها إسرائيل والعرب والمجتمع الدولي، ولا يعفيهم من إيجاد حل معقول لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وللفلسطينيين كشعب. وليس لهذا الموضوع أو لأي "موضوع تاريخي" آخر أية صلة بـ "حق" إسرائيل أو عدم حقها. إن التاريخ لا يكترث ـ أو يجب أن يكون كذلك ـ للأحكام القاطعة الخلقية أو الفلسفية أو السياسية. ولن تؤدي المجادلات التاريخية والخلقية الزائفة إلاّ إلى حرف النقاش العام إلى قنوات عقيمة كلياً.

يُسجَّل لإيليا زريق، عالم الاجتماع الفلسطيني/الكندي المعروف، مؤلف هذا الكتاب الصغير الشامل، أنه لا يدخل في الجدال التاريخي ـ الخلقي الشائع لدى كلا الجانبين، مع أن صوته يعبر من دون شك عن الجانب الفلسطيني. وهو يعرض أبعاد المشكلة، وأوضاع اللاجئين المدنية والاقتصادية والسياسية في منافيهم المتعددة، ومواقف اللاجئين أنفسهم، ومواقف العرب، ومواقف الإسرائيليين، وإمكانات إصلاح أوضاعهم و"إعادة توطينهم".

كان إيليا زريق عضواً في مجموعة العمل المتعددة الأطراف المختصة بمشكلة اللاجئين، التي أُنشئت في إطار محادثات السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية في إثر اتفاقات أوسلو. وأعد من أجل المباحثات في اللجنة ورقة عمل، عرض فيها معظم ما هو معروف ومدروس في هذا المجال. واتسعت الوثيقة وتحولت إلى كتاب، يحوم في أجوائه ما تبقى من "روحية أوسلو". لقد كان إيليا زريق، في الواقع، جزءاً (خبيراً محترفاً) من الوفد الفلسطيني، لكن عمله خال من أية رطانة أيديولوجية وسياسية، ويثير الإعجاب برصانته الحِرْفية. فهو، على سبيل المثال، لا يستنكف من توجيه انتقادات حادة إلى الطرفين، العربي والفلسطيني، اللذين استغلا اللاجئين لأغراض سياسية، ويحمّل، أيضاً، الأنظمة العربية مسؤولية التسبب بالأوضاع البائسة لتجمعات فلسطينية بأكملها في العالم العربي.

إن نقطة الانطلاق عند إيليا زريق هي تحديد حجم المشكلة بمساعدة مصادر متنوعة صادرة عن مختلف الأطراف. بحسب مصادر أميركية وإسرائيلية (إيليا زريق مواطن إسرائيلي سابقاً، ويجيد القراءة والتحدث بالعبرية)، يُقدَّر العدد الإجمالي للفلسطينيين في منتصف العقد الحالي، بمن في ذلك المواطنون الإسرائيليون، بنحو 6.4 ملايين نسمة (أنظر مثلاً: "هآرتس"، 21/6/1995). وتعريف "من هو الفلسطيني" يشمل جميع الرعايا العرب في الدولة الانتدابية البريطانية وذريتهم، من ناحية الأب. وبحسب تقدير آخر، يصل الرقم إلى 7 ملايين فلسطيني، ومن المتوقع أن يصل في سنة 2020 إلى 10 ملايين فلسطيني. أمّا المسجلون رسمياً كلاجئين ويتلقون معونات من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، فيبلغ عددهم أكثر من 3 ملايين فلسطيني قليلاً، من مجموع الـ 6.4 ملايين فلسطيني، ويعيش 40% منهم في الأردن، و38% في الضفة الغربية وغزة، ونحو 11% في سورية ولبنان.

ويعترف إيليا زريق بصحة الادعاء أن أرقام الأونروا مضخمة على العموم (سواء أكان من مصلحة المنظمة الدولية أم اللاجئين الحصول على معونات أكثر من خلال عدم تسجيل جميع الوفيات)، لكنه يدعي أن هذا التضخيم يوازنه، كما يبدو، أن 12% من اللاجئين من أجيال متعددة (أساساً من أبناء الطبقات الموسرة ومن أوساط الفلسطينيين المسيحيين) لم يُسجَّلوا، أساساً، في قيود الوكالة، أو غادروا المخيمات في فترات متعددة.

وانضاف إلى لاجئي سنة 1948، بحسب معطيات الأونروا، نحو 130 ألف لاجئ "أول مرة" في إثر حرب 1967، وعدد أكبر من ذلك قليلاً من "اللاجئين في المرة الثانية"، الذين هربوا أو اقتلعوا بالقوة، مثل الأربعة آلاف أو الخمسة آلاف فلسطيني الذين طردوا من غزة إلى مصر، والذين صنفتهم إسرائيل جنوداً في "جيش التحرير الفلسطيني". أمّا المصادر الرسمية الإسرائيلية فتقدر مجموع عدد لاجئي سنة 1967 (باستثناء سكان القرى الثلاث في منطقة اللطرون، التي هدمت) بنحو 200 ألف شخص. وقد ذكر شلومو غازيت، في أشمل وأعمق تقرير إسرائيلي كُتب عن موضوع اللاجئين، أن إسرائيل سمحت، منذ سنة 1967، بعودة ما يُقدّر بـ 88 ألف لاجئ إلى الضفة الغربية لأسباب إنسانية.

ويُقدِّر إيليا زريق، في حصيلة حساباته، مجموع اللاجئين والمقتلعين في سنة 1995 بـ 4 ملايين شخص، بينما يبلغ العدد في تقدير الباحث الإسرائيلي موشيه إفرات، مثلاً، نصف هذا الرقم. وفي اعتقادي، لا يستقيم تقدير إفرات مع الحقائق، حتى لو استخدمنا كأساس للحساب أقل تقدير إسرائيلي للاجئي سنة 1948، وهو نحو 520 ألف لاجئ أو حتى أقل من ذلك، وأخذنا في الاعتبار أن النسبة المقدرة للنمو السنوي في أوساط اللاجئين هي نحو 5.5% أو أقل. لكن مهما يزيد الرقم أو ينقص فيما بين التقديرات القصوى، نزولاً أو صعوداً، فإن حجم مشكلة اللاجئين أكبر من أن يكون في الإمكان كنسها وإخفاؤها تحت السجادة، من قبَل كلا الطرفين، ويجب معالجتها بصورة مستقلة تقريباً عن التقدم أو الجمود في عمليات السلام على تنوعها.

إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي، كما يبدو، مشكلة اللاجئين الأقدم في العالم التي بقيت غير محلولة. وأسباب ذلك كثيرة ومتنوعة. فالأسباب والأعذار السياسية معروفة إلى حد ما، إذ عممتها الدعاية العربية ("الصهيونيون يرفضون إعادتهم إلى بيوتهم ووطنهم")، والدعاية الإسرائيلية ("العرب حوّلوا مشكلة إنسانية إلى سلاح كجزء من رغبتهم في تدمير إسرائيل")، والأونروا ("تخلد المشكلة، لأنها من خلال الخدمات التي تقدمها تحوّل وضع اللاجئ إلى وضع مجزٍ").

لكن يبدو أن هناك أسباباً أُخرى أعمق وراء حقيقة عدم اختفاء مشكلة اللاجئين. إن المجتمعات العربية التقليدية، بما فيها المجتمع الفلسطيني، هي مجتمعات مغلقة وانعزالية. وعلى الرغم من اللغة والثقافة المشتركة، فإن الفلسطينيين مروا بعملية انعزال واغتراب عن البيئة الاجتماعية المحيطة بهم. وحتى الأردن، الدولة العربية الوحيدة التي منحت الفلسطينيين المواطنة ورغبت جداً في "أردنتهم"، لم يشرع أبوابه أمام "الغرباء"؛ لم تنشأ "سوق زواج" مفتوحة (أيضاً بسبب أعراف الزواج العربية بين الأقارب)؛ لم يتم اندماج اللاجئين في المجتمع الأردني. وأيضاً في إسرائيل، حيث توجد مشكلة "لجوء داخلي" (المقصود السكان العرب الذين دمرت قراهم، وصودرت أراضيهم، وجرى تجميعهم "وإعادة توطينهم" في قرى عربية أُخرى)، لا ينجح اللاجئون، بصورة عامة، في التزاوج مع السكان المحليين "غير اللاجئين".

كما أن أنماط التنظيم الداخلي في المخيمات وفقاً للأمكنة الأصلية قبل اللجوء، وتحول "اللجوء" إلى جزء أساسي من تجربة الهوية الجماعية الفلسطينية، مأسست صورة هذه الحياة. وقد اتضح من معظم الدراسات التي أجريت في مخيمات اللاجئين في الدول جميعها (وأقل قليلاً في "الضفة") أن أغلبية اللاجئين تفضل (دائماً كخيار ثان بعد خيار تطبيق "حق العودة") تحسين شروط الحياة وشروط البيئة داخل المخيمات ذاتها، لا إعادة توطينهم في أي مكان آخر. وفي أوسع بحث من نوعه، أجراه مركز البحوث والدراسات الفلسطينية في نابلس على عيّنة متنوعة من 1271 شخصاً من سكان مخيمات اللاجئين في غزة والضفة الغربية، في أيار/مايو 1995، وُجِد أن 47% يرغبون في الاستمرار في السكن في مخيماتهم مع تحسين شروط الحياة، وأن 20% مستعدون للاستمرار في السكن حتى من دون تحسين الشروط، وأن 25% يفضلون توطينهم من جديد في مكان آخر، بينما لم تبد البقية رأياً في الموضوع.

إن "العودة"، التي يعتقد الفلسطينيون (استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة، وأساساً إلى "ثقافة المخيمات" التي تكوّنت عبر عدة أجيال) أنها حق لهم غير قابل للطعن، هي لب الهوية الفلسطينية، كما أن الفلسطينيين من غير اللاجئين يعتبرونها شرطاً لا مفر منه لتسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهذا، كما يخيل إليّ، هو الموضوع الوحيد الذي تبلور بشأنه إجماع فلسطيني قومي شامل تقريباً. وما يبقى مفتوحاً الآن هو التفسير المطلوب تقديمه لـ "حق العودة" هذا، في ظروف سياسية متغيرة.

هناك صيغتان رئيسيتان لتجسيد "حق العودة": التفسير الأسطوري ـ الأيديولوجي الأصلي، الذي يطالب بإعادة الشخص والعائلة إلى البيت أو الحقل أو البستان أو الحيّ نفسه الذي اقتلعا ـ هما أو أهلهما ـ منه، أو إلى ما سمته عالمة الأنثروبولوجيا روز ماري صايغ "العودة إلى جنة عدن الضائعة." ويتضح أن هذا الموقف ما زال هو الموقف الأكثر انتشاراً وشيوعاً في أوساط معظم اللاجئين (بمن في ذلك المثقفون المعارضون لاتفاقات أوسلو، سواء لأسباب أيديولوجية أو دينية، أو من خلال الاعتقاد أنه كان من الضروري الحصول على شروط أوضح وأفضل بشأن الوضع الدائم وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة). ففي استقصاء واسع النطاق أجري في حزيران/يونيو 1995، سئل فيه سكان القطاع والضفة عما إذا كانوا يؤيدون اتفاق سلام مع إسرائيل، تقام في إطاره دولة فلسطينية في جميع أنحاء الضفة والقطاع وعاصمتها في القدس، في مقابل التنازل عن الأراضي التي احتلت سنة 1948 ـ ارتدّت أغلبيتهم (60%) إلى موقف متصلب يرفض اتفاقاً كهذا، وأيدته فقط أقلية (31%). وكلما كان العمر أصغر كان التأييد أقل.

أمّا الصيغة الثانية لأسلوب تجسيد "حق العودة" فهي الصيغة البراغماتية ـ السياسية. ويدعو مؤيدو هذه الصيغة إلى حق العودة عام ومبدئي إلى الدولة الفلسطينية ذات السيادة، بالإضافة إلى تعويضات (إذا أمكن الحصول عليها) من إسرائيل لكل فلسطيني مقيم في "الغربة". لكن الفلسطينيين هنا حذرون جداً، ويتحدثون عن "طاقة استيعاب" اقتصادية واجتماعية لضبط السماح بالعودة إلى كم، وإلى مَن، وإلى متى. وقد صيغ بروحية هذا التفسير مشروع رشيد الخالدي، أحد المفكرين المقربين من السلطة الوطنية الفلسطينية وفتح. إذاً، الموقف المبدئي الفلسطيني لم يتغير حتى بعد اتفاقات أوسلو، وكتاب إيليا زريق مكتوب بهذه الروحية، إلاّ إنه يترك مجالاً رحباً للمناورة فيما يتعلق بتطبيق "حق العودة".

كما أن إيليا زريق ينبّه إلى ضرورة التبكير في إقامة بنية تحتية اقتصادية واجتماعية واسعة وفعالة ـ أحياء سكنية؛ مدارس؛ مستشفيات؛ تهيئة فرص عمل ملائمة ـ قبل البدء
بـ "استيعاب" كتل من المهاجرين. ومع ذلك، فإن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأيضاً استعداد العائلات الفلسطينية ومبادراتها وتصميمها على ترجمة الموقف الأيديولوجي إلى سلوك عملي، هي ما ستقرر ماذا سيحدث فعلاً. ويجب إدراك أن "العودة" هي عملية هجرة وانفصال، مرة أُخرى، عن مكان وبيئة، ولد وترعرع فيهما الموعودون بـ "العودة". ويمكن الافتراض أن العائلات والأفراد "سيهاجرون" إلى فلسطين إذا كان ذلك سيؤدي إلى تحسن حقيقي في نمط معيشتهم ومستواها، وأن أقلية ضئيلة ستجيء مدفوعة بدوافع أيديولوجية فقط. فمن الأردن، الدولة التي يقطن بها التجمع السكاني الأكبر للفلسطينيين الذين يعيشون خارج وطنهم الرسمي (أكثر من 2 مليون شخص)، "سيعود" كما يبدو، عدد قليل نسبياً فقط. ذلك بأن ظروف المعيشة في الأردن لن تكون أدنى مستوى من تلك التي ستنشأ في دولة فلسطينية قد تقوم في المستقبل، وأيضاً بسبب ضعف التمييز في مسألة ما إذا كان الأردن جزءاً من فلسطين أم لا، وفيما إذا سيصبح في المستقبل جزءاً من كونفدرالية معها.

لقد قامت الباحثة الفلسطينية بسمة قضماني درويش بدراسات في المخيمات الموجودة في لبنان والأردن، ووجدت أن نحو نصف اللاجئين سيرغب في أن يطبق "حق العودة" نظرياً وعملياً، وأن نحو ثلث الأشخاص في العينة الأردنية قال أنه، في أية حال (أي حتى لو قامت دولة فلسطينية ذات سيادة)، سيبقى في الاردن. ومع ذلك، طالب 70% بحرية إمكان الانتقال إلى الوطن في الوقت الملائم كشرط لأي حل، لكن 40% فقط اعتقدوا أن إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة هو في منزلة حل شامل للمشكلة الفلسطينية. وأعرب 77% عن رغبتهم في العيش فيها، وأيد 56% كونفدرالية فلسطينية ـ أردنية. ويبدو أن إنشاء كونفدرالية كهذه من شأنه أن يضفي شرعية على بقاء فلسطينيين كثيرين في الأردن، مع أو من دون تعويضات.

إن إيليا زريق، الذي يعرف جيداً الخريطة السياسية الداخلية في إسرائيل، لا يخدع نفسه بالاعتقاد أن إسرائيل ستوافق، في أي وقت من الأوقات، على عودة لاجئين إلى أراضيها، مهما يكن العدد قليلاً، لأن في ذلك تحملاً لمسؤولية رمزية عن نشوء مشكلة اللاجئين. ويلاحظ أن إسرائيل، للأسباب نفسها، لن تقبل دفع أية تعويضات للاجئين على أساس فردي، لكن ربما ستكون مستعدة للمشاركة في تحمل عبء إعادة توطينهم، أساساً، خارج فلسطين، في إطار مشروع إنساني دولي. وقد كان اقتراح بن ـ غوريون في سنة 1949 قبول عودة مئة ألف لاجئ، الذي رفضه العرب، الاقتراح الأول والأخير من هذا النوع. وعندما طرحت إسرائيل في اجتماعات أوتاوا (في كندا)، سنة 1992، اقتراحاً مضاداً [لاقتراحات التعويضات للفلسطينيين] طالبت فيه بتعويضات ليهود الدول العربية من أملاكهم التي تركوها عندما جاؤوا إسرائيل، أحالهم الفلسطينيون، بتهذيب كبير، على الدول المعنية. أمّا الدول العربية، فقد قدمت من ناحيتها مطالب مضادة، نابعة من "تكلفة" استضافة اللاجئين في أراضيها. فالأردن، مثلاً، يدعي أنه ينفق 300 مليون دولار سنوياً لتقديم خدمات للاجئين الفلسطينيين منذ سنة 1967 (لاجئو سنة 1948 يعتبرهم مواطنين). وأمّا اللبنانيون، فهم لا يريدون أن يروا فلسطينياً واحداً على أراضيهم، بعد أن تمزق النسيج الإثني لدولتهم، إلى حد كبير، بحسب اعتقادهم، بسبب الفلسطينيين الذين استضافوهم.

منذ أن قررت إسرائيل سنة 1948 منع عودة اللاجئين، لم يطرأ أي تغير مهم على موقفها تجاه المشكلة. وعملياً، مثلما هي الحال في مجالات كثيرة أُخرى في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أضاعت إسرائيل الفرصة الذهبية التي سنحت في سنة 1967 لإصلاح أحوال أجزاء كبيرة من اللاجئين، وبذلك إزالة جزء كبير من المرارة اللاذعة القائمة في لب الصراع العربي ـ الإسرائيلي. كان جيل كامل من اللاجئين تحت سيطرتنا، وكانت مصلحة إسرائيل العليا تقتضي إصلاح أحواله. لكن إسرائيل ربطت استعدادها لمناقشة حل المشكلة بعقد اتفاقات سلام شامل وإنهاء المقاطعة العربية، وحتى عندما بدأ هذاالوضع يتحقق، لم تبد استعداداً لمعالجة الموضوع.

ولا يرجع ذلك إلى عدم وجود مشاريع. فهناك عشرات من المشاريع اقترحت مع مرور الوقت. على سبيل المثال، اقترح رعنان فايتس منذ سنة 1967، وكان وقتها رئيس دائرة الاستيعاب التابعة للوكالة اليهودية، إعادة توطين سكان مخيمات اللاجئين في غزة في الضفة الغربية. وفي سنة 1971، حاول أريئيل شارون تقليل عدد السكان في مخيمات اللاجئين وإعادة توطينهم من جديد. وفي سنة 1973، اقترح يسرائيل غاليلي إصلاح أحوال اللاجئين من خلال إسكانهم في منازل في ضواحي المدن. لكن المشروع الأكثر تفصيلاً والأكثر طموحاً، على ما يبدو، كان المشروع الذي اقترحته لجنة مردخاي بن ـ بورات، التي عينها مناحم بيغن في سنة 1982. إذ اقترحت اللجنة إزالة 29 مخيماً للاجئين، يقطن فيها نحو ربع مليون نسمة، مع بناء عدة مدن جديدة بتكلفة 2 مليار دولار بتمويل أوروبي وأميركي، ومع إتاحة الفرصة للاجئين أنفسهم لبناء منازلهم خلال خمسة أعوام. لكن بيغن، بدلاً من أن يبدأ تنفيذ هذا المشروع، قرر "إصلاح أحوال" الفلسطينيين في لبنان.

Author biography: 

باروخ كيمرلنغ: أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبريةـ القدس.