The Other Israel
Keywords: 
اليهود الشرقيون
إسرائيل
العلاقات العنصرية
اليهود الاشكناز
الأحزاب السياسية الإسرائيلية
التصويت
Full text: 

 أولاً: في مكان ما من جنوب إسرائيل، بعيداً عن تل أبيب لكن ليس بعيداً جداً عن غزة، تقع بلدة نتيفوت الفقيرة الهاجعة. في انتخابات رئاسة الحكومة التي جرت سنة 1996، كانت النتائج، فيما يتعلق بنتيفوت، واضحة: 86 في المئة لمصلحة نتنياهو؛ 11 في المئة لمصلحة بيرس. في سنة 1957، تأسست نتيفوت كـ "بلدة تطوير". وكان جميع سكانها الأوائل تقريباً، الذين أتوها على مضض، مهاجرين جدداً من المغرب وتونس، واليوم لا يزالون يعيشون فيها مع نسلهم.

بالقرب من نتيفوت تقع بلدة تطوير أُخرى هي أوفَكيم التي احتلت مؤخراً عناوين الأخبار في إسرائيل بسبب أرقام البطالة القياسية فيها. وهذه البلدة، التي تأسست سنة 1955، تقطنها أيضاً، في الأغلب، عائلات مهاجرين من المغرب وتونس. وفي سنة 1996، كانت نتائج الانتخابات فيها مشابهة: 74 في المئة لمصلحة نتنياهو؛ 24 في المئة لمصلحة بيرس.

تمثل البلدتان شيئاً ما عن إسرائيل لم يلق الكثير من الانتباه خلال الذكرى السنوية الخمسين لقيامها: إن الجالية الكبرى من المهاجرين تتألف من يهود "شرقيين"، أغلبيتهم من شمال إفريقيا، وهم فقراء نسبياً، يحتلون مرتبة اجتماعية متدنية، وفي الغالب يعيشون بعيداً عن المدن الرئيسية، ويعتبرون أنفسهم متدينين أو "تقليدييين". وقد أصبحوا قوة سياسية رئيسية عبر مواظرتهم على التصويت لمصلحة اليمين. وفي الواقع، ينتمي نصف يهود إسرائيل تقريباً إلى عائلات يهودية شرقية.

في سنة 1997، بعد عام ونصف عام من اغتيال رابين، وبعد عام من خسارة حزب العمل الانتخابات، لم يعقد حزب العمل مؤتمره، كالعادة، في أحد أحياء تل أبيب الراقية وإنما عقده في نتيفوت. وواقع الحال هو أن تل أبيب ليست كلها راقية و"أشكنازية"، أي مؤلفة من يهود قدمت عائلاتهم إلى إسرائيل من أوروبا أصلاً.[1] ففي الأحياء شبه الفقيرة، الواقعة جنوب تل أبيب، حصل نتنياهو على تأييد بلغت نسبته 80 في المئة، في مقابل 20 في المئة حصل بيرس عليها. أمّا في شمال تل أبيب، فقد فاز بيرس بـ 70 في المئة من الأصوات، في مقابل 30 في المئة فاز نتنياهو بها. في الإجمال، كسب بيرس تل أبيب بفارق كبير بلغ 55 في المئة، في مقابل 45 في المئة لنتنياهو.

وهكذا لم يكن متوقعاً ألاّ يعقد حزب العمل مؤتمره في عقر داره في تل أبيب، وأن يعقده على أرض نتيفوت القاحلة. ومن قبيل المصادفة أن نتيفوت معناها "دروب"، إشارة إلى الآية 17:3 من سفر الأمثال، "وكل دروبها [نتيفوت] سلام". وبالنسبة إلى حزب العمل، فإن الفكرة التي فحواها أن الدروب إلى السلام مع العرب يجب أن تمر بالبلدة اليهودية الشرقية نتيفوت تعتبر فكرة جديدة.

في مؤتمر حزيران/يونيو 1997، ألقى إيهود براك، الذي خلف بيرس زعيماً لحزب العمل، خطاباً افتتاحياً مهماً طلب فيه، بالنيابة عن حركة العمل، من المهاجرين الشرقيين الصفح. وقال إنه في حين ينبغي لحركة العمل أن تكون فخورة بدورها في إقامة دولة إسرائيل وتنظيم "جمع المنافي"، "فإننا يجب أن نعترف أمام أنفسنا" بأن المهاجرين الجدد أُرسلوا مباشرةً إلى بلدات تطوير كنتيفوت، وفي سياق هذه العملية

تمزق النسيج الداخلي للحياة الجماعية. وفعلاً، حتى النسيج الحميم للحياة العائلية تمزق هو أيضاً في بعض الأحيان. لقد أُنزل بالمهاجرين ألم كبير، وهذا الألم انطبع في قلوبهم وقلوب أبنائهم وأحفادهم. إن المسؤولين عن جلب المهاجرين إلى هنا لم يتعمدوا المكر. على العكس تماماً، كان هناك الكثير من النيات الحسنة. لكن الألم وقع في أية حال. اعترافاً بهذه المعاناة والألم، وانطلاقاً من التماثل بالمتألمين ونسلهم، فإني ههنا أسأل الصفح، باسمي الشخصي وباسم حركة العمل التاريخية.

إن أدبيات الكنيسة تضع تمييزاً حذراً بين نوعين من التوبة: التوبة الناجمة عن خشية العقاب (attrition)، والتوبة الناجمة عن محبة الله (contrition). كانت تلك أول مرة يطلب فيها زعيم حزب الصفح من أيٍ كان، لكن ما الذي قصده في الواقع؟ إن التوبة السياسية تكون دوماً عملاً ناشئاً عن الخوف، ويخشى براك استمرار قوة اليهود الشرقيين في الانتخابات الإسرائيلية. لكن التوبة السياسية قد تكون ذات قيمة عالية، مهما تكن دوافعها، ما دام السياسيون لا يتوبون بسهولة.

إن ردة فعل أعضاء حزب العمل القدامى الغاضبة على خطاب براك كانت كافية للدلالة على أن طلبه الصفح لم يكن مسألة سهلة. لقد عبّر براك عن الأسف للسبب الصحيح. إن خطيئة حزب العمل كانت خطيئة الغرور المميتة؛ إذ كانت نظرته إلى المهاجرين الشرقيين نظرة استعلاء لا يطاق. يصف شلومو تسيماح، وهو صديق لبن ـ غوريون منذ عهد الطفولة وشخصية حرة وفذة، في مذكراته، اجتماعاً عقده سنة 1963 مع وزير التعليم في حينه، زلمان عران. ووصف عران "فهم وقدرة" الأطفال الشرقيين، على العموم، بـ "البلادة". وأصيب تسيماح بالبهتة وقال: "تلك نظرية عنصرية"، فرد عران قائلاً: "الحقائق هي الحقائق".

في الواقع، عمل عران، أكثر من أي شخص آخر في إسرائيل، على المساعدة في تعليم الأطفال الشرقيين. غير أنه، أسوة بمعاصريه في قيادة حزب العمل، كان ينظر إليهم أنهم متخلفون. واختلف قادة حزب العمل فيما إذا كان هذا التخلف ثقافياً أو بنيوياً. وكان بن ـ غوريون، كعادته، يحمل رأياً توراتياً تجاه هذه المسألة. إذ كان يشبّه المهاجرين بالإسرائيليين التوراتيين الذين خرجوا من "بيت العبودية" في مصر (أي المغرب) وجالوا في الصحراء مع موسى (أي بن ـ غوريون) أربعين عاماً. لكنه كان يتوقع أن يكون نسل هؤلاء المهاجرين، الذي لم يتعرض لـ "عقلية العبودية" الخاصة بالثقافة العربية، مختلفاً. في نظر قادة العمل، يوجد فقط لدى اليهود الأشكنازيم "ثقافة"؛ أمّا اليهود الشرقيون فيوجد لديهم، في أحسن الأحوال، "تراث". لقد كان براك على حق؛ إن حركة العمل أخطأت تجاه الشرقيين في مواقفها منهم أكثر مما أخطأت بأفعالها ضدهم. وقد كان في استطاعتها، مع ذلك، أن تعمل من أجلهم أكثر مما عملت، الأمر الذي جعل مواقفها التمييزية منهم أكثر مدعاةً للاستياء.

كان إيهود براك رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي حتى سنة 1995. وقد اشتهر بكونه قائداً لوحدة الكوماندو الإسرائيلية الأكثر شهرة؛ تلك التي نفذت عملية الإنقاذ في عنتيبي، التي قتل فيها أخو نتنياهو الأكبر، جوناثان، المعروف بيوني. إن براك يُعتبر المحارب الذي قُلِّد أكبر عدد من الأوسمة في تاريخ الجيش الإسرائيلي. وتُعدّ وحدة الكوماندو التي كان قائداً لها ـ والتي يسميها المقاتلون المنتمون إليها "الوحدة"، ويسميها الجمهور "سييريت مَتْكال" [الوحدة العسكرية التابعة لهيئة الأركان] ـ رمزاً قوياً للنخبوية بين الشباب الإسرائيلي. ويسود في إسرائيل، على نطاق واسع، الاعتقاد أن أعضاء هذه الوحدة هم من اليهود الأشكنازيم الذين تربوا إمّا في كيبوتس، وإمّا في موشاف، كما تسمى المزارع التعاونية.

في الخطاب الذي التمس براك فيه الصفح، إشارة بعيدة الأثر إلى "الوحدة"، مدعياً أن مؤسسيها لم يكونوا، في الواقع، شباناً تربوا في الكيبوتس وإنما أولاداً شرقيين وصلوا إلى إسرائيل في الخمسينات، ولم يُعزَ إليهم فضل قد في تشكيل "سييريت متكال". وإنه لصحيح أنه عندما التحق براك بالجيش سنة 1959، كانت "السييريت" تضم عدداً من الجنود الذين يعملون لمصلحة الاستخبارات العسكرية، متنكرين، أحياناً، في زي عرب؛ كان جنودها في معظمهم ينتقون من جوالي المهاجرين الشرقيين لأنه كان يمكن أن يُظنّوا عرباً وكانوا يتكلمون اللغة العربية العامية. وكان براك الشاب، القصير القامة وذو الشاربين، يشبه ولي عهد أردنياً. وقد أوصى به لدى "سييريت متكال" شاب شرقي كان يقيم بكيبوتس براك ويخدم في "الوحدة" في ذلك الوقت. لكن "السييريت" تغيرت إذ أصبحت، إضافة إلى كونها عملية استخباراتية، وحدة كوماندو مقاتلة عليا يهيمن عليها اليهود الأشكنازيم.

لعل براك كان، أكثر من أي شخص آخر، مسؤولاً عن هذا التغيير. وكانت "السييريت"، باعتبارها وحدة كوماندو نخبوية، تجتذب شباب الكيبوتسات، بالإضافة إلى شباب أشكنازيم من "عائلات راقية" في المدن. وكان بين هؤلاء المجنّدين الجدد بنيامين "بيبي" نتنياهو. وفي وقت لاحق، التحق بها، أيضاً، أخوه الأكبر يوني، وأخوه الأصغر إيدو. كان براك قائد الوحدة التي يخدم فيها بيبي، وكان بيبي شديد الإعجاب به. وحتى في الوقت الحاضر، وعلى الرغم من المنافسة الشديدة بينهما، يتكون لدى المرء انطباع بأن بيبي بحاجة دائماً إلى موافقة براك [على أعماله].

إن المرء لا يكاد يكون بحاجة إلى تضخيم الهالة السحرية المحيطة بـ "الوحدة" في إسرائيل. وقد ارتبطت صورتها بأربع خصائص: النشأة في الكيبوتس؛ الخلفية الأشكنازية؛ النخبوية؛ الولاء لحركة العمل.[2] إن براك يملك هذه الخصائص الأربع كلها، وصورته النخبوية تلاحقه سياسياً. إن كيفية نشوء هذا المركّب من الصفات وعلاقته بالجوالي الشرقية تعتبران قضية مركزية بالنسبة إلى تاريخ إسرائيل ذي الأعوام الخمسين، وإلى وضعها اليوم.

إن الوحدة العسكرية الأكثر شهرة في حرب استقلال إسرائيل سنة 1948 كانت البلماح (مصطلح مركّب من الحروف الأولى لكلمتي "بلوغوت ماحتس" بالعبرية ويعني الكتائب الضاربة). وكانت هذه الوحدة القوة الهجومية التابعة للهاغاناه، الحركة السرية التابعة لحركة العمل. وكان من قادة البلماح يغآل ألون وموشيه دايان ويتسحاق رابين وحاييم بار ـ ليف، الذين أصبحوا جميعاً، في وقت لاحق، شخصيات قيادية في حزب العمل. وقد جاء مقاتلو البلماح، ومعظمهم من الأشكنازيم، من حركة الكيبوتسات وجماعات الشبيبة الاشتراكية المرتبطة بها. وكان التأثير الماركسي في حركة الكيبوتسات يرعب بن ـ غوريون، الذي كان يعتبره تهديداً مباشراً لحزبه مباي. وبناء عليه، كانت إحدى الخطوات الأولى التي قام بها في نهاية حرب الاستقلال حل البلماح. وولدت هذه الخطوة لدى الكثيرين من شباب حركة الكيبوتسات شعوراً بالاغتراب تجاه الجيش.

عندما أصبح دايان رئيساً للأركان في سنة 1953، غيّر مواقف الشباب من الكيبوتسات والموشاف تجاه الجيش. فقد عيّن أريئيل شارون قائداً لسلاح المظليين، القوة التي نفذت جميع "الهجمات الانتقامية" ضد الأردن وسورية ومصر خلال الخمسينات؛ وكان اللواء الذي يقوده شارون هو الذي شن أشرس الهجمات ضد مصر سنة 1956. وقد اجتذب سلاح المظليين شباب الكيبوتسات، ممن كانت تستهويهم الوظائف العسكرية وكانوا ينظرون إلى أنفسهم أنهم يقومون بدور الطبقة الأرستقراطية الحاكمة في إسرائيل. وخلال هذه الأعوام، لم يكن شباب الكيبوتسات يتقدمون إلى الامتحانات التي تعد تذكرة دخول الجامعات الإسرائيلية. وعوضاً من ذلك، جمعوا شهادات امتياز كضباط في وحدات قتالية أو وحدات كوماندو أو كطيارين. ولكونهم نتاجاً لحياة الكيبوتس الشاقة، ومعتادين منذ الطفولة على العمل الجسدي القاسي والشاق في الحقول، وملمّين بالتكنولوجيا الأساسية جراء تصليح الآلات الزراعية، ومستمدين الشجاعة من الروحية السائدة في الكيبوتس لتقديم التضحيات، فإن هؤلاء الشبان كانوا جنوداً لا نظير لهم.

عندما واجه اليهود الشرقيون الشباب شبان الكيبوتسات في الجيش، نظروا إليهم بالطريقة التي كان ينظر بها جنود الجيش البروسي إلى الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية
البروسية ـ كأناس ذوي كفاءة ومعجرفين. غير أن هذه لم تكن المواجهة الوحيدة لليهود الشرقيين مع الكيبوتس. فالكثيرون من أولئك الذين هاجروا إلى إسرائيل في الخمسينات وأوائل الستينات وُزِّعوا على بلدات صغيرة، حيث أصبحوا عمالاً مياومين؛ وعمل بعضهم في الكيبوتس المحلي أو بالقرب منه. ووجد هؤلاء أعضاء الكيبوتسات باردي الإحساس، ومتغطرسين، ومنغلقين، بينما وجدهم أعضاء الكيبوتسات بدائيين، ومغيظين، وعنيفين. لم يكن مستوى المعيشة في الكيبوتس مرتفعاً، لكن حدائق الكيبوتس وبرك السباحة بدت خلابة قياساً بالمظهر الرث لبلدات المهاجرين.

اجتذب مناحم بيغن بفوزه في الانتخابات أول مرة، كرئيس لحزب الليكود سنة 1977، مشاعر الاستياء السائدة في أوساط اليهود الشرقيين، عن طريق المقابلة بين "أصحاب الملايين في الكيبوتس في برك السباحة العائدة لهم"، وبين "الشعب العامل في بلدات التطوير المجاورة." (من دواعي السخرية أنه نجح في الانتخابات التالية، سنة 1981، بعد أن أرسل طيارين إسرائيليين، معظمهم من الكيبوتس، لتدمير المفاعل النووي العراقي). قادت حركة العمل إسرائيل خلال الأعوام الثلاثين السابقة، من سنة 1948 إلى سنة 1977، وقادت الجالية اليهودية ما قبل الدولة في فلسطين ـ الييشوف ـ خلال الأعوام العشرين التي سبقت تأسيس الدولة. خلال معظم تلك الفترة، كان بيغن في المعارضة، وكان حزبه حيروت (الحرية)، الذي أصبح لاحقاً جزءاً أساسياً من الليكود، حزباً منبوذاً. كان يهيمن على قيادة الليكود أشد الأشكنازيم أشكنازية ـ أي اليهود البولنديون؛ لكن كان بين بيغن والجوالي اليهودية الشرقية "رابطة منبوذين". وأصبح بيغن صوت اليهود الشرقيين، الذين شعروا بأنهم مهانون ومرفوضون من قبَل حركة العمل. لقد كان حقده حقدهم.

في نظر الكثيرين من اليهود المغربيين، كان بيغن مغربياً فخرياً، في حين اعتبره بعضهم مغربياً تماماً. وكان الأشكنازيم المرتبطون ببيغن يسامَحون فوراً من قبَل الشرقيين، فلمجرد كونهم أعداء لأعدائهم أصبحوا أصدقاء لهم. وبهذه الطريقة، تمكن نتنياهو من النجاة من المصير الذي كان مقدراً لبراك، على الرغم من أنه ولد في ضاحية أكاديمية نخبوية في القدس (رحافيا) وتلقى تعليمه في مدرسة كانت تعتبر مكاناً خاصاً بالنخبة هناك ومن ثم خدم في "الوحدة".

يميل الإسرائيليون إلى الشك في صدقية نتنياهو كما يتبين من كل استطلاع للرأي. لكنه صادق تماماً في مسألة واحدة مهمة. إنه ينفث حقداً نيكسونياً [نسبة إلى الرئيس الأميركي نيكسون] شديداً لما يسميه "النخب". عندما كتب مفكرون مختلفون أمثال فيلفريدو باريتو (Vilfredo Pareto)، أو غايتانو موسكا (Gaetano Mosca)، أو روبرت مايكلز (Robert Michels)، أو سي. رايت ميلز (C. Wright Mills) عن "النخبة"، فإن ما كان في أذهانهم هو نخبة السلطة ـ مجموعة أقلية تتحكم، فعلاً، في جزء كبير من المجتمع. إن مؤسسة العمل في إسرائيل فقدت تلك السلطة منذ فترة طويلة، لكنها لا تزال تحتفظ بسلطة لها وزنها ـ سلطة إهانة الناس، بمن فيهم نتنياهو نفسه. إن نخبة العمل هي نخبة هيبة أكثر مما هي نخبة سلطة.

إن مهمة براك مهمة جسيمة؛ التغلب على استياء عميق الجذور يشعر به اليهود الشرقيون بصورة رئيسية. والاستياء، على العكس من الحقد الفج، هو عاطفة معنوية، شعور بالسخط على ما يُعتبر خطأً سابقاً. إذا شاء براك التغلب على هذا الاستياء، فينبغي له إقناع اليهود الشرقيين بأن السلام مع العرب ليس في مصلحة الأشكنازيم والأثرياء فقط. ذلك بأن المرء لو أصغى بتمعن إلى تصريحات الكثيرين من اليهود الشرقيين، لتبين له أنهم ليسوا ضد اتفاق سلام بقدر ما هم ضد ثقافة السلام كما يروّج لها اليسار. لقد أحس اليهود الشرقيون بأنهم مهددون بشعار شمعون بيرس عن "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يعني، بالنسبة إليهم، ثقافة مشتركة عصرية ما بين أصحاب المستويات العلمية الرفيعة، تحت هيمنة إسرائيلية، ويخشون ألاّ يكون لهم مكان فيها، في حين سيكون اليهود الأشكنازيم بمن فيهم المهاجرون اليهود الروس ـ كما يظنون ـ في وضع جيد. لذا فإن التحدي الذي يواجه براك ليس سياسياً فقط، بل ثقافياً أيضاً.

ثانياً: [....]

[.......]

كان براك رئيس أركان ذا عقلية مسيّسة للغاية. وقد انتظر حزب العمل لحظة تسرحه من الجيش بفارغ الصبر كي يتمكن من الالتحاق بقيادته. وفي سنة 1995، عُيّن براك وزيراً للداخلية في حكومة رابين، وبعد اغتيال رابين عينه بيرس وزيراً للخارجية. وقد احتفظ بيرس بوزارة الدفاع كي يتمكن من الاستفادة من أهمية هذا المنصب لدى تنافسه بشأن رئاسة الحكومة مع نتنياهو. غير أن تجدد عمليات حماس الإرهابية جعل بيرس يبدو أضعف. لو سلّم بيرس براك وزارة الدفاع فلربما كان حصل على نتيجة أفضل في الانتخابات. وبعد هزيمة بيرس في سنة 1996، فاز براك برئاسة حزب العمل بسهولة في سباق ضم أربعة متنافسين، حائزاً 51 في المئة من الأصوات.

إن أحد المتنافسين في هذا السباق [بشأن زعامة حزب العمل]، شلومو بن ـ عامي، الذي نال 15 في المئة من الأصوات، يعتبر مراقباً سياسياً ثاقب النظر، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بسياسة اليهود الشرقيين. وبصفته أستاذاً في التاريخ خبيراً بإسبانيا الحديثة، خدم بامتياز كسفير لإسرائيل لدى إسبانيا. ولد في طنجة، المدينة الحرة في المغرب الإسباني، وهاجر إلى إسرائيل في الخمسينات، وصاهر عائلة لامعة من الأشكنازيم في الكيبوتس. أمّا براك فقد صاهر عائلة شرقية موسرة من طبرية. (بدا في فترة ما أن "الفجوة الإثنية" بين الأشكنازيم واليهود الشرقيين قد تُضيَّق لا عن طريق السياسة وإنما عن طريق الزواج. لكن نسبة التزاوج [بين الطائفتين]، التي ارتفعت من 7 في المئة، في الخمسينات، إلى 24 في المئة في الثمانينات، توقفت عند هذا الحد).

إن المساوئ التي يعانيها اليهود الشرقيون في مجال التعليم معبرة بنحو خاص [عن أوضاعهم]. فهناك 4 في المئة فقط من اليهود المولودين في إسرائيل من ذوي الأصول الشرقية يتجهون الآن إلى التعليم العالي، في مقابل 15 في المئة من اليهود المولودين في إسرائيل من ذوي الأصول الأشكنازية. وتبلغ نسبة اليهود الأشكنازيم الذين يشغلون وظائف أكاديمية وعلمية قياساً باليهود الشرقيين أربعة أضعاف، وفي أوساط أولئك المولودين في إسرائيل، تبلغ هذه النسبة 1:6 لمصلحة الأشكنازيم.

إن بن ـ عامي يدرك هذه الفجوة الإثنية إدراكاً يصل إلى حد التألم. مع ذلك فإنه يؤكد، سوية مع عمير بيرس رئيس الهستدروت ـ النقابة العامة للعمال في إسرائيل ـ وهو أيضاً يهودي مغربي، تبعات الفوارق الطبقية أكثر من تبعات الفوارق الإثنية. يجادل بن ـ عامي، وهو على حق كما أعتقد، في أن [حزب] العمل لا يستطيع الفوز في الانتخابات عن طريق التركيز على مسألة السلام. يجب أن يصبح حزب العمل، من جديد، حزباً اشتراكياً ديمقراطياً يخاطب، بصورة غير متعالية، هموم جماهير الناخبين المستاءة في مجالات التعليم والعمالة والصحة. كما يجب، بحسب رأي بن ـ عامي، أن ينأى بنفسه عن النشاطات العلمانية الصاخبة التي جعلت اليهود الشرقيين "التقليديين" ـ أولئك المتدينين من ناحية ثقافية من دون أن يكونوا متزمّتين ـ ينفرون من حزب العمل (يعني ذلك، مثلاً، التساهل تجاه حضور ألعاب كرة القدم أيام السبت لكن ليس تجاه إشعال النار في المطابخ). إن رأي بن ـ عامي مدعوم بتقرير يستند إلى بحث دقيق كتبه شيفاح فايس، عضو الكنيست وأستاذ العلوم السياسية، إلى حزب العمل.[3]

لقد أقنع براك بن ـ عامي بالإنضمام إليه، ويبدو أن هذه الخطوة يمكن أن تكون ذات شأن. في تموز/يوليو الماضي [1997]، خلال أسبوع هيمنت فيه مسألة البطالة المتزايدة على عناوين الأخبار في إسرائيل، ولا سيما في بلدات التطوير، سجل براك نتائج جيدة في الاستطلاعات، إذ حصل على نسبة تأييد بلغت 46 في المئة، في مقابل 23 في المئة لنتنياهو. وفي الأسبوع الذي هيمنت فيه أنباء السلام، أو بالأحرى عدم السلام، على عناوين الأخبار ـ الأسبوع الذي أمضى فيه نتنياهو فترة مع كلينتون في واشنطن، قبيل نشوب فضيحة لوينسكي ـ كان هناك تعادل في الاستطلاعات بين نتنياهو وبراك، إذ حصل كلاهما على 41 في المئة. وفي استطلاعات نيسان/أبريل، تقدم نتنياهو على براك بفارق بسيط. إن أحداً لا يشك في أن قسماً كبيراً من التأييد الذي ناله نتنياهو أتى من اليهود الشرقيين.

ثالثاً: عشية الحرب العالمية الثانية، كان 92 في المئة تقريباً من اليهود في العالم من الأشكنازيم. وفي ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى اتصال واهٍ بين اليهود الشرقيين والأشكنازيم. وكان اليهود الأشكنازيم في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، المكان الذي كان للصهيونية فيه القوة الأكبر، لا يكادون يعرفون اليهود الشرقيين. كان ثمة استثناء واحد لهذا الإهمال المتسم بالجهل، ألاّ وهو اهتمام يهود فرنسا باليهود في شمال إفريقيا وأجزاء أُخرى من الشرق الأوسط، كالعراق. في سنة 1860، شكل يهود فرنسيون الاتحاد اليهودي العالمي (Alliance Israélite Universelle)، أول منظمة حديثة لدعم التضامن اليهودي، تحت شعار "كل إسرائيل رفاق". وقد جرى تنظيم الاتحاد كرد على حادثة وقعت في دمشق سنة 1840. فقد قُتل راهب كبوشي يعيش في دمشق، هو وخادمه، واتهم الكبوشيون يهودَ دمشق بقتلهما من أجل الحصول على دم لطقوس ليلة عيد الفصح. وقاد تكرار هذا التشهير الدموي المسيحي القديم ضد اليهود بعض يهود فرنسا إلى أخذ قرار بأن ثمة حاجة إلى منظمة لحماية اليهود في كل مكان من اللاسامية.

كان الاتحاد فعالاً، بصورة خاصة، في إنشاء نظام مدرسي ناطق بالفرنسية، وخصوصاً في شمال إفريقيا، التي كان معظمها، آنذاك، خاضعاً لنفوذ فرنسي. وكان الاتحاد، إلى حد بعيد، أهم مؤسسة لليهود هناك، بينما كانت الحركة الصهيونية، على الرغم من ادعائها أنها تتحدث باسم جميع اليهود في كل مكان، لا تكاد تفعل أي شيء من أجلهم. في فلسطين ما قبل الحرب [العالمية الثانية]، شكّل اليهود الشرقيون ما يتراوح بين 10% و15% من السكان اليهود. وبعد أن غيرت الكارثة النازية ديموغرافية الشعب اليهودي، على نطاق العالم، متسببة، بصورة عامة، برفع نسبة اليهود الشرقيين، كان التحول في إسرائيل دراماتيكياً؛ إذ سرعان ما ارتفعت نسبة اليهود الشرقيين إلى نحو 50 في المئة. وبدأ هذا التغيير خلال موجة الهجرة الكبرى الأولى بين سنتي 1948 و1951، التي أدت إلى زيادة عدد السكان اليهود في فلسطين أكثر من الضعف، فمن 700.000 قادم جديد، كان هناك النصف تقريباً من اليهود الشرقيين. وفي موجة الهجرة الثانية (1955 ـ 1957)، وكذلك في الموجة الثالثة (1961 ـ 1964)، قدم معظم المهاجرين من الدار البيضاء وفاس ومدن مغربية أُخرى.

عاش المهاجرون الأوائل في ظروف مروعة في معسكرات انتقال (مَعْبَروت بالعبرية) لم تكن، في الواقع، أكثر من مدن أكواخ. كان ثمة بطالة واسعة النطاق، وفي أحيان كثيرة، كان حتى أولئك الذين حصلوا على وظائف يقومون بعمل لا معنى له، في مشاريع ممولة من قبَل الحكومة وبأجور متدنية جداً. والأسوأ من ذلك أن الأشكنازيم أعضاء حزب العمل القدامى كانوا يعاملون القادمين الجدد معاملة فوقية لا تطاق. فقد اعتقد الكثيرون من القادمين الجدد أن موظفي الصحة الذين رشّوهم بمطهّر الـ د. د. ت. لدى وصولهم إنما فعلوا ذلك جراء ازدراء مهين. إن مثل هذه "الخطايا" التي ارتكبت بحق المهاجرين الجدد يعتبر، بصورة عامة، مصدر استياء الشرقيين من حزب العمل.

غير أنني أشك في أن يكون مثل هذا التصرف التفسير الرئيسي للعداء الذي يشعر به اليهود الشرقيون تجاه حزب العمل. من المهم التمييز بين المرحلتين الرئيسيتين من الهجرة إلى إسرائيل في الخمسينات: الأولى، حيث عاش المهاجرون في معسكرات انتقال؛ الثانية، عندما نُقلوا إلى بلدات تطوير كنتيفوت وأوفكيم، حيث كانت الظروف أفضل إلى حد بعيد. في رأيي إن المصدر الرئيسي لاستياء المهاجرين يمكن أن يُرَدّ إلى هذه المرحلة الثانية.

إن ما يدعم حجتي هو المقارنة بين مواقف اليهود المغاربة واليهود العراقيين من حزب العمل. كان اليهود العراقيون ـ نحو 123.000 نسمة ـ إحدى الجماعات الكبرى من اليهود الشرقيين الذين أتوا في موجة الهجرة الأولى، بينما أتى معظم المغاربة في الموجتين الثانية والثالثة. بيد أن كراهية اليهود العراقيين لحزب العمل ليست في أي حال من الأحوال أشد من كراهية المغاربة له. لعل اليهود العراقيين، الذين يدعي بعضهم أنه يتحدر من عائلات كانت تعيش في بابل منذ العصور التوراتية، كانوا أكثر تأهيلاً للتعامل مع الحياة الإسرائيلية؛ فقد كانوا، في الإجمال، أفضل تعليماً من اليهود المغاربة، إذ تعلم بعضهم الإنكليزية وكذلك الفرنسية في مدارس الاتحاد (Alliance). وفي تقويم مواقفهم تجاه حزب العمل بناء على تصويتهم لمصلحة الليكود، تبيّن من عينة جمعها عالما اجتماع بارزان أن 57 في المئة من اليهود العراقيين صوتوا لمصلحة الليكود، في مقابل 73 في المئة من المغاربة.[4] علاوة على ذلك، يجد المرء عدداً لا يستهان به من اليهود العراقيين بين قادة حزب العمل، وعدداً قليلاً جداً من اليهود المغاربة.

بحسب رأيي الشخصي، فإن قسطاً كبيراً من كراهية اليهود المغاربة لحزب العمل هو نتيجة [نوعية] الإسكان المقدم إليهم في بلدات التطوير. لقد أُرسل اليهود العراقيون، في الأساس، إلى معسكرات انتقال تدهورت في الخمسينات والستينات لتصبح أحياء فقيرة بائسة؛ وبحلول منتصف الستينات، شق الناس المقيمون بها طريقهم إلى تل أبيب وأماكن أُخرى في وسط إسرائيل، واختفت الأحياء الفقيرة كلياً. أمّا بلدات التطوير، التي تؤوي يهوداً مغاربة أساساً، فهي دائمة. وبما أنها معزولة عن وسط البلد، فإنها تشكل جيوباً توفر للمقيمين بها حياة رديئة وآفاقاً هزيلة. إن الفارق بين سعر السوق لشقة تقع في بلدة تطوير وشقة تقع في وسط البلد كبير إلى حد يجعل حظوظ انتقال سكان بلدات التطوير إلى وسط البلد ضعيفة.

إن الكثيرين من اليهود اليمنيين أيضاً يكرهون حزب العمل، لكن لأسباب مختلفة. عندما أُرسلوا إلى معسكرات انتقال في الخمسينات، كانوا معتادين على شظف العيش أكثر كثيراً من يهود بغداد مثلاً، لكن جميعهم تقريباً توصل إلى الاعتقاد أن مئات من الأطفال المينيين اختطفوا من عائلاتهم وسُلموا إلى عائلات من الأشكنازيم لغرض التبني ـ في الكيبوتسات، في الغالب، لكن أيضاً إلى يهود خارج إسرائيل. علاوة على ذلك، فإنهم يعتقدون أن ذلك تم بصورة منهجية، بعلم (إن لم يكن بالمشاركة النشيطة من قبَل) وكالات حكومية، كالمستشفيات ووزارة الداخلية والشرطة والمحاكم، التي كانت تديرها كلها حركة العمل.

إن اليهود اليمنيين لا يزالون يؤكدون هذا الإدعاء. وهم يشيرون إلى أن يهوداً من اليمن هاجروا إلى فلسطين ابتداء من سنة 1882، أي في الوقت نفسه الذي هاجر إليها صهيونيون من أوروبا الشرقية. وعشية تأسيس الدولة، كان هناك 35.000 يمني في فلسطين، ولربما كانوا أكبر جالية من اليهود الشرقيين فيها. وابتداء من كانون الأول/ديسمبر 1948 حتى أيلول/سبتمبر 1950، جُلب نحو 50.000 يهودي من اليمن إلى إسرائيل فيما وُصف بـ "عملية بساط الريح" ـ أي بواسطة الطائرة.

لم يكن اليهود اليمنيون الذين كانوا يعيشون في فلسطين قبل ذلك معادين للصهيونيين العماليين؛ وحاولت جالية اليهود الشرقيين، التي كانت رسخت وجودها في القدس، تولي بعض المسؤولية تجاههم، في حين كانت تعاملهم معاملة سيئة فعلاً. وكان الرواد من الصهيونيين العماليين معجبين باليمنيين أكثر من باقي اليهود الشرقيين. فقد كانوا يتكلمون لغة عبرية جميلة، وبدوا طيّعين، ونحيفي القوام، وذوي أجسام جذابة. وإذا كان العمال العرب في مستوطنة يهودية يكسبون يومياً 10 قطع نقدية تركية لقاء أعمال الحفر، وكان الرواد الأشكنازيم يتقاضون 15 قطعة لقاء العمل نفسه، كان اليمنيون يتلقون [21؟] قطعة. لقد كانوا يُعدون "عمالاً بالسليقة"، كما يقال.

لكن الهجرة بين سنتي 1948 و1950 غيرت هذا الوضع، إذ لم يعد اليمنيون يقبلون أن تعاملهم مؤسسة العمل كأنهم "في الجيب". إن ما تسبّب بهذا التغيير هو قصة الأطفال المخطوفين. وقد جرت مؤخراً تظاهرات عنيفة ـ تزعمها رئيس الطائفة الدينية عوزي ميشولام، الذي نصب نفسه حاخاماً ـ تطالب بالتحقيق في قضايا الخطف. إن أحد الناطقين بلسان ميشولام، وهو أشكنازي، كان تلميذاً سابقاً لي، وقبل الاحتجاجات العنيفة أطلعني على ما اعتقدَ أنه دليل مقنع على خطف الأطفال اليمنيين المزعوم. لم أقتنع بذلك. لكن المهم هو أن الجالية اليمنية لا تزال تعتقد أن أعمال اختطاف فظيعة حدثت فعلاً.

إن حقيقة كون يغآل عمير، قاتل يتسحاق رابين، يأتي من الجالية اليمنية لا تبدو لي أمراً عرضياً. فعمير يدعي أنه قتل رابين كي يحول دون تنفيذ اتفاقات أوسلو؛ لكن ما عمّق كراهيته لرابين، على ما يبدو، هو غضب اليمنيين القديم نتيجة خطف الأطفال المزعوم.

مما لا شك فيه أن تجربة معسكرات الانتقال قامت بدور كبير في تشكيل وعي يهودي شرقي مشترك. لم يكن المهاجرون القادمون من مختلف الدول الإسلامية يرون أنفسهم أصحاب هوية مشتركة. خلال الستينات، عندما عملتُ، فترة ستة أعوام، مدرساً في قرية لأطفال المهاجرين، الذين جاء معظمهم من المغرب، أذكر جيداً لقاءً لي مع والدة فتى تونسي انتقلت إلى باريس لكنها أرسلت ابنها إلى إسرائيل. وفي إحدى زياراتها للقرية اكتشفت، لهول المفاجأة، أن رفيقة ابنها عراقية، وطلبت مني أن أضع حداً لهذه العلاقة لأنه، كما ادعت، ليس هناك شيء مشترك بين "الناس الذين أنتمي إليهم" ـ اليهود التونسيين ـ وبين "هؤلاء الناس" ـ اليهود العراقيين.

لا بد من أن هذه الجماعات باتت تشعر الآن بأنه يوجد بينها أمور مشتركة أكثر كثيراً. لكن الهوية الشرقية المشتركة التي ظهرت في إسرائيل منذ ذلك الحين إنما هي، في جزء منها، نظرة سلبية تستند إلى شعور بالعداء تجاه أشكنازيم حزب العمل وحلفائهم "المحبين للعرب" في حركة السلام. وأصبحت تجربة معسكرات الانتقال، في تشكُّل "الهوية الشرقية"، أسطورة مشتركة تدل على الأصل: "لقد أُهِنّا جميعاً عندما رشّونا د. د. ت."

إن النواة الصلبة للكراهية ضد حزب العمل توجد بين أعضاء الجالية المغربية، التي كانت أكبر جالية يهودية في إسرائيل حتى الهجرة الروسية في التسعينات. ويتعين على براك، إذا شاء أن يتحدى الليكود، أن يفهم خلفيتهم ومشكلاتهم بدرجة أكبر مما فعل أي سياسي آخر في حزب العمل إلى الآن. وهذه المشكلات تشمل الشعور بالكراهية تجاه المهاجرين الروس الجدد، الذين سيتجاوز عددهم، سوية مع أطفالهم المولودين في إسرائيل، المليون نسمة بحلول سنة 2000. ينظر اليهود الشرقيون إليهم أنهم يستفيدون من مزايا لم تُعطَ لهم في أي وقت من الأوقات، من دون أن يقدروها حق قدرها، في حين يبدي أطفالهم أداءً أفضل في المدارس.

عندما طلب براك، في الخطاب الذي أشرت إليه، الصفح من الطائفة الشرقية، فإنه لمّح إلى مشكلة خطرة أُخرى في صفوف الطائفة المغربية، ألا وهي تفسخ العائلات المغربية وضُعْف إحساسها بالتماسك الاجتماعي. لم ينجم ذلك عن أخطاء حزب العمل فقط. فمن أجل فهم أسبابه، يجب أن ننظر إلى ما حل بمختلف الجماعات اليهودية في شمال إفريقيا قبل تأسيس إسرائيل، وخصوصاً إلى حجم تأثرها بنظام الحماية الفرنسية هناك. بدأ نظام الحماية في الجزائر سنة 1830، بينما بدأ في تونس سنة 1871. وقد بدأ في المغرب، رسمياً، سنة 1912، لكن الفرنسيين، في الواقع، لم يستولوا على ذلك البلد إلاّ سنة 1935.

في ضوء هذه الفوارق، ليس من المستغرب أن يكون 75 في المئة من يهود الجزائر الذين هاجروا إلى فرنسا فعلوا ذلك في الأعوام نفسها التي هاجرت فيها نسبة مماثلة من يهود المغرب إلى إسرائيل. وقد ذهب نصف المهاجرين التونسيين إلى إسرائيل، بينما ذهب نصفهم الآخر إلى فرنسا. وهناك شيء واضح: كلما كان يهود شمال إفريقيا أكثر تمدناً وأفضل مهارةً وأكثر علمانية في بلادهم الأصلية، كانوا أكثر ميلاً إلى الهجرة إلى فرنسا، بعد توقف قصير في إسرائيل أحياناً. في الوقت نفسه، فإن القول إن أقلّ يهود شمال إفريقيا كفاءة انتهى بهم المطاف في إسرائيل سيكون قولاً مضللاً. ففي دراسة أجريت في السبعينات، قابل عالما اجتماع بين مجموعات تضم كل منها أخوين من المغرب انتهى المطاف بأحدهما في فرنسا وبالآخر في إسرائيل.[5]

وجد الذين ذهبوا إلى فرنسا وظائف أفضل وكسبوا مداخيل أعلى من أولئك الذين ذهبوا إلى إسرائيل. في ضوء دلالات كهذه، فإن للاعتقاد المتأصل لدى اليهود المغاربة، والذي فحواه أنهم تعرضوا لتمييز في المعاملة في إسرائيل، أساساً من الصحة. لم يكن عدم التكافؤ في المهارات والتعليم هو وحده ما وضع المغاربة في أسفل درجات السلّم الإسرائيلي، بل التحيّز الاجتماعي أيضاً.

مع ذلك، فإنه لصحيح أيضاً أن يهود شمال إفريقيا، الذين كانوا أعلى كفاءة للقيام بوظائف في اقتصاد حديث، ذهبوا إلى فرنسا. كان اليهود المغاربة أقل كفاءة من [اليهود] الجزائريين، لأن التأثير الفرنسي في التعليم اليهودي في المغرب، كما رأينا سابقاً، كان قصير العمر نسبياً. ومع أن ثمة يهوداً عاشوا في مدن شمال إفريقيا منذ القرن الثامن على الأقل، فإن الكثيرين من يهود المغرب أتوا من الريف ـ في جبال أطلس ـ ولم ينتقلوا إلى الأحياء اليهودية في المدن إلاّ بعد سيطرة الفرنسيين على البلد. وفي الثلاثينات من هذا القرن، كانت أعداد ضخمة منهم تعيش في كازابلانكا [الدار البيضاء]، وكان من الألقاب الشائعة التي أُطلقت على المغاربة في إسرائيل، في الخمسينات، لقب "كازا" ـ اختصار كازابلانكا.

إن جزءاً كبيراً من سوء المعاملة التي عاناها اليهود المغاربة في إسرائيل ـ والتي اعتذر براك عنها في خطابه ـ كان شبيهاً بالتجربة التي مروا بها في المغرب، عندما انتقل اليهود من جبال أطلس كي يعيشوا حياة هامشية في المدن. حقق بعض السكان اليهود القدامى في هذه المدن نجاحاً هائلاً كأصحاب مشاريع تجارية. ومال هؤلاء اليهود إلى البقاء في المغرب، الأمر الذي أوجد وهماً لدى اليهود المغاربة الذين هاجروا إلى إسرائيل انه كان في استطاعتهم أن يحققوا النجاح نفسه لو بقوا هناك أيضاً.

غير أن يهود المغرب، من الناحية الاجتماعية، عاشوا حياة انطواء، ولا سيما في المدن. لم يكونوا مقبولين سواء من جانب الفرنسيين أو المسلمين [....]. أمّا إسرائيل فقد أعطت يهود شمال إفريقيا، على الرغم من مشكلات الاستيعاب، شعوراً بأنهم موجودون في بيتهم، أكثر من المغرب أو فرنسا. ومن الإخوة الذين شملتهم الدراسة التي أشرت إليها، قال أولئك الذين ذهبوا إلى إسرائيل أنهم يشعرون بأنهم مندمجون في المجتمع على نحو أفضل ـ مثلاً، يوجد لديهم أصدقاء أكثر خارج جاليتهم المباشرة ـ من أولئك الذين ذهبوا إلى فرنسا.

ومع أن الجالية الشمال الإفريقية ممثلة تمثيلاً زائداً عن الحد في السجون الإسرائيلية، فإنها أيضاً ممثلة بكثافة في قوات الشرطة. في الواقع، إن الصورة النموذجية للشرطي في إسرائيل هي صورة اليهودي الشمال الإفريقي، أي ما يشبه، إلى حد بعيد، الصورة النموذجية للشرطي الإيرلندي في شمال شرق الولايات المتحدة. كما أن للجالية الشمال الإفريقية، شأن الإيرلنديين في الولايات المتحدة، حضوراً قوياً في الحياة السياسية الإسرائيلية.

لقد خسر بيرس الانتخابات بأقل من 30.000 صوت؛ لكن بين السكان اليهود، خسر بنسبة 10 في المئة من الأصوات. ولم يضيِّق الهامشَ [بينه وبين نتنياهو] سوى التأييد الكثيف من العرب (94 في المئة من الأصوات العربية). في النظام الديمقراطي، الصوت هو الصوت. هذا ما يتعلمه الأولاد في المدارس ـ على الأقل في بعض المدارس. لكن ذلك ليس ما تسمعه في الشوارع الإسرائيلية. لو ربح بيرس الانتخابات بفارق 15.000 صوت، لما كان من شأن اليمين سوى استبدال اسمه في شعاره السام "رابين، أنت لا تملك تفويضاً" ـ أي "أنت ليس لديك أكثرية بين اليهود." كانت الغاية من حملة اليمين ضد اتفاقات أوسلو هي الإعلان، بأعلى صوت ممكن، أن لا شرعية للصوت العربي. في الوقت نفسه، إن النواة الصلبة من أعضاء اليمين ـ الطائفة الأورثوذكسية المتزمتة، التي حصل نتنياهو على 95 في المئة من أصواتها ـ لا تفكر كثيراً في الديمقراطية في أية حال (إنها تعتبرها جيدة للأغيار، لا لليهود). وفي إمكاننا أن نرى أن مهمة براك لا تقتصر على تحويل 15.000 صوت من طرف إلى آخر. إذا كان براك يريد دفع "عملية سلام" تُحقق، فعلاً، تسوية قابلة للتنفيذ ـ لا، كما هو الأمر بالنسبة إلى نتنياهو، بديلاً من
السلام ـ فسيحتاج إلى إقناع نسبة إضافية لا تقل عن 5 في المئة من الطائفة الشرقية بالتصويت لمصلحته.

في الإمكان ملاحظة علاقة متبادلة وثيقة بين الدين والسن في المعارضة لاتفاقات أوسلو. فكلما كان المرء أكثر تديناً وأصغر سناً، كان أكثر ميلاً إلى معارضتها. وجميع الخصائص التي تتسم بها المعارضة لأوسلو موجودة بين اليهود الشرقيين: مستوى تعليم متدنٍ؛ متوسط عمر صغير؛ عقيدة دينية متعصبة.[6] ومع ذلك، فإن معارضتهم، بحسب اعتقادي، ليست موجهة، في الواقع، إلى الاتفاقات نفسها بقدر ما هي موجهة إلى السياسيين الذين صنعوها.

في الانتخابات الأخيرة، لم يعر اليهود الشرقيون، كما يبدو، حالة الاقتصاد اهتماماً كبيراً. وقد شهد الاقتصاد الإسرائيلي نمواً سريعاً تحت حكم رابين، بين سنتي 1992 و1996. وفي سنة 1995، مثلاً، كانت نسبة نموه، التي بلغت 7 في المئة، الأعلى بين الأمم الغربية. وخفض حجم البطالة من المعدل القياسي الذي بلغ 11 في المئة سنة 1991، تحت حكم شمير، إلى 6 في المئة سنة 1995. وقد غيّرت حكومة حزب العمل السياسات الاقتصادية الأساسية لإسرائيل. فبدلاً من توجيه الأموال إلى المستوطنات في الضفة الغربية، تم منحها لبلدات التطوير، وأيضاً للتعليم الذي ازدادت ميزانيته بمعدل الضعف تقريباً. غير أن ذلك كله لم يترك سوى انطباع بسيط في نفوس اليهود الشرقيين.

هل يعني هذا أن حالة الاقتصاد لن تؤثر في الانتخابات القادمة أيضاً؟ في إسرائيل، لا يُعطى السياسيون، إجمالاً، رصيداً بسبب النجاح الاقتصادي، لكنهم يخسرون أصواتاً عندما يصبح الوضع الاقتصادي سيئاً على نحو خطر. واليوم تمر إسرائيل بحالة انكماش اقتصادي ـ يوجد لديها معدل نمو بطيء جداً وانخفاض حاد في الاستثمارات ـ لكن ليس حالة ركود اقتصادي، أي معدل نمو سلبي. وتزداد البطالة بصورة مطردة، وخصوصاً في بلدات التطوير. وإذا وصل عدد العاطلين عن العمل ـ الذي يبلغ الآن نحو 165.000 شخص ـ إلى 200.000 شخص، ومن المحتمل أن يصل، فسيواجه نتنياهو متاعب مع اليهود الشرقيين.

[.......].

 

[1] في أحيان كثيرة، يجري التمييز بين اليهود الأشكنازيم، المتحدرين من اليهود الذين توطنوا في أوروبا الوسطى وأوروبا الشمالية بعد الشتات، وبين اليهود السفاراديم، المتحدرين من اليهود الذين طردوا من إسبانيا، والذين ذهب بعضهم إلى الشرق الأوسط. ولغرض البحث بشأن إسرائيل اليوم، فإن الإشارة إلى اليهود الشرقيين ـ أي الإسرائيليين الذين قدمت عائلاتهم من بلاد إسلامية ـ تعد تعبيراً أدق لوصف الواقع.

[2] يمكنك التعرف إلى نموذج مثالي لمقاتل في تلك الوحدة في "السيرة الذاتية للعقيد موشيه (موكي) بيتسر" Secret Soldier (Atlantic Monthly Press, 1996).

[3] "تحليل نتائج انتخابات الكنيست الرابع عشر ورئاسة الحكومة"، 1996(بالعبرية).

[4] ELiezer Ben-Rafael and Stephen Sharot, Ethnicity, Religion and Class in Israeli Society (Cambridge University Press, 1991), p. 183.

[5] Michael Inbar and Chaim Adler, Ethnic Integration in Israel: A Comparative Case Study of Moroccan Brothers Who Settled in France and in Israel (Transaction Books, 1977).

[6] Tamar Herman and Ephraim Yaar, “Is there a Mandate for Peace?” in Dan Caspi (ed.), Communication and Democracy in Israel (Jerusalem: Van Leer Jerusalem Institute, 1997).

Author biography: 

أفيشاي مرغليت: أستاذ الفلسفة في الجامعة العبرية ـ القدس.