الأعمال الفكرية العامة للدكتور قسطنطين زريق (أربعة مجلدات)
قسطنطين زريق. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
هذا الكتاب، في أجزائه الأربعة، ليس تكريماً للدكتور قسطنطين زريق وحده، بل تكريم للثقافة والفكر والعلم معاً. وحسْب القارئ العربي اليوم أنْ صارت بين يديه الأعمال الفكرية الكاملة للدكتور زريق بعدما نفد معظم أجزائها منذ زمن بعيد. وتتضمن الأعمال الكاملة الكتبَ التسعة، فضلاً عن مقالاته بالعربية والإنكليزية باستثناء بعض المقالات التي أهملها المؤلف بتقصد. أما الكتب فهي التالية: "الوعي القومي" (1939)؛ "معنى النكبة" (1948)؛ "أي غد؟" (1957)؛ "نحن والتاريخ" (1959)؛ "هذا العصر المتفجر" (1963)؛ "في معركة الحضارة" (1964)؛ "معنى النكبة مجدداً" (1967)؛ "نحن والمستقبل" (1977)؛ "مطالب المستقبل العربي" (1983)؛ "من بعيد ومن قريب" (مقالات وخطب - 1994).
لم يكن الدكتور زريق قائداً شعبياً، أو زعيماً يتوسل الجموع لبقاء زعامته، أو سياسياً يحترف هذا الضرب من النشاط العام، وإنما كان مفكراً ومؤرخاً وأستاذاً جامعياً وموجهاً ومربياً وبانياً للمؤسسات في آن واحد. وفي هذا الميدان، بالذات، تجلى عطاؤه المرموق ونقده الثاقب ومنهجه العلمي وفكره المستقبلي. وكان له التأثير الكبير في حركات سياسية شتى، وفي هيئات ثقافية وعلمية وأكاديمية ذات شأن. على أن السياسة شغلت فكر الدكتور زريق وعقله ووجدانه، لا بمعناها الاحترافي طبعاً، وإنما بمعناها الاجتماعي والتاريخي، وبقيت تؤرقه حتى يومنا هذا؛ فالمقدمة الطويلة التي كتبها لِـ "الأعمال الفكرية العامة" جديرة بأن تُطبع وتوزع في كتيب مستقل. إنها أشبه ببيان شامل إلى الأمة العربية في مختلف أقطارها، ينقد حال المجتمعات العربية الراهنة، وينبه إلى مكامن الأخطاء ومظاهر الأخطار، ويشير - برؤية خلاقة - إلى الطريقة التي يعتقد صحتها لتخطي هذه الأحوال وللخروج من وهن الحال.
ولد الدكتور قسطنطين زريق سنة 1909 في حي القيمرية في دمشق العتيقة. ودمشق العتيقة هذه، ذات الأبواب العشرة، مدينة فريدة في تكوينها وتنوعها وخصبها وتقاليدها الاجتماعية، كأنها متحف طبيعي يضم في أرجائه نماذج لكل ما هو قديم ووسيط ومعاصر.
عاش الدكتور زريق، المسيحي الأرثوذكسي، في هذا الحي المختلط الذي يتداخل بالأحياء التقليدية الأُخرى للمسلمين ويجاور، في الوقت نفسه، السوق التجارية الكبيرة، وحارة اليهود، وحي الأمين الذي يقطنه الشيعة السوريون ذوو الأصول اللبنانية، وحي باب توما، وهو الحي المسيحي بامتياز، ويتصل بِـ "الشارع المستقيم" و"شارع حنانيا" اللذين وردا بالاسم في "العهد الجديد".
كان حي القيمرية يجاور أهم ثلاثة رموز ممن ارتبطت أسماؤها بالتحديث والعلم والنهوض هي: شارع مدحت باشا ومكتب عنبر وقصر العظم. فمدحت باشا يعتبر أبا التحديث في بلاد الشام في القرن الماضي؛ وأسعد باشا العظم، حاكم دمشق، كان أحد رجال العمران والعلم البارزين، وما زالت شواهده ومآثره مقيمة في قصر العظم وخان أسعد باشا؛ أما مكتب عنبر فهو المدرسة المشهورة التي انطلقت منها التظاهرات الوطنية الصاخبة ضد العثمانيين ثم ضد الانتداب الفرنسي. ولم ينافس مكتب عنبر في هذه المكارم الوطنية إلا مدرسة التجهيز وأحياء الميدان والعمارة وباب الجابية.
عاش الدكتور قسطنطين زريق نشأته الأولى في مدينة دمشق هذه (1909 - 1923). وشهدت هذه الفترة خروج العثمانيين من سورية ودخول الجيش العربي دمشق وتأسيس المملكة السورية بقيادة فيصل الأول، ثم معركة ميسلون وسقوط حكومة الملك فيصل وبداية الانتداب الفرنسي. وتركت هذه الفترة في شخصية الدكتور زريق أعمق الأثر الذي سيظهر لاحقاً، والذي تمثل في تجرده من العصبيات الدينية والطائفية، وفي انغراس الشعور القومي في وجدانه، وتطلعه إلى الحرية في معناها الأرحب وإلى حرية العرب واستقلالهم في معناها المخصوص، وإلى افتخاره بأمجاد أجداده.
أنضجت مرحلة الدراسة في الكلية الإنجيلية السورية في بيروت (الجامعة الأميركية لاحقاً) المؤثرات الأولى وأطلقتها في فضاء جديد؛ فالجو الليبرالي، حيث يتآلف التفكير الحر وحرية النقد والجدل، عمَّق نظرة هذا الفتى الوافد من دمشق، وقوّم رؤيته. واستفاد بدوره كثيراً من اختلاطه بالطلاب العرب القادمين من الدول الواقعة تحت الانتداب البريطاني، مثل فلسطين والعراق والسودان، والذين كانوا ينشدون تعلم الإنكليزية لأنها اللغة المرغوب فيها في دوائر الانتداب وإداراته. واللافت، في هذا المجال، ذلك التفوق اللامع الذي امتاز الدكتور قسطنطين زريق به منذ يفاعته. ففي الخامسة عشرة كان يدرس في الصف الجامعي الأول في الجامعة الأميركية. وفي الحادية والعشرين كان يحمل الدكتوراه من جامعة برنستون ليعود إلى بلاده واضعاً علمه وثقافته وخبرته وإبداعه في خدمة أمته ومجتمعه؛ فبدأ أستاذاً مساعداً في التاريخ في الجامعة الأميركية وتدرج حتى تولى رئاسة الجامعة بالوكالة. كما عُين وزيراً مفوضاً لسورية في واشنطن ثم عضواً في الوفد السوري إلى الأمم المتحدة قبل أن يتولى رئاسة الجامعة السورية من سنة 1949 حتى سنة 1952. وعندما عصفت ببلاده رياح الانقلابات، وهو الداعية الكبير إلى الديمقراطية والعلمانية، يمم شطر بيروت ثانية، حيث عُيّن نائباً لرئيس الجامعة الأميركية. وطوال خمسة وستين عاماً من العطاء، بقي الدكتور قسطنطين زريق فارساً في معمعان الفكر والتاريخ والموقف. ومن شواهد فروسيته صموده في بيروت في أثناء الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 ورفضه المغادرة مع مَن استعجل طلب السلامة.
ربما كان من الجائز أن ندّعي أن منهج الدكتور قسطنطين زريق في البحث هو المنهج الاستدلالي. فالدكتور زريق ينطلق في تحليله أية مسألة موضع البحث من مبادئ عامة شمولية. وهو يستخرج من هذه المبادئ عناصر الموضوع والقواعد والنتائج، ثم يحاول أن يرى ذلك في صورة الواقع العربي، مستشهداً بالحوادث والوقائع المباشرة، فتأتي معالجته على قدر رفيع من التجريد ومن العيانية في آن واحد. وبهذا المنهج يستنبط أحكامه من المبادئ والأصول بحيث تسهل عليه معالجة التفصيلات والفروع. وهو لا يعمد إلى استخراج الأحكام من الوقائع المباشرة والحوادث الواقعية، وإنما من الخطوط العامة والاتجاهات الرئيسية والمنعطفات الكبرى. ولهذا المنهج خلفية فلسفية ديكارتية تنظر إلى الغايات أكثر مما تنظر إلى الطرائق والوسائل والتفصيلات.
كان الدكتور زريق مؤرخاً مجدداً، بل ناقداً للتاريخ ولمناهجه القديمة التي تعتمد الرواية والسرد والاسترسال؛ فالمؤرخ التقليدي ينظر إلى الفكرة التاريخية في نشوئها الأول، أي إلى الماضي الذي ولدت فيه ونشأت. أمّا الدكتور زريق فينظر إلى هذه الفكرة في تطورها: كيف صارت وإلامَ ستؤول؟ أي أنه يشدد على السيرورة التاريخية لظواهر التاريخ وإلى الصيرورة الاجتماعية لمظاهر العمران. فهو في منهجه هذا ورؤيته تلك ليس مؤرخاً فحسب، بل مفكر أيضاً، حيث الحقيقة عنده ليست مسألة تتكشف مرة واحدة وإلى الأبد، بل هي سعي لا نهاية له، ومحصلة الجهد متراكم عبر الزمن.
جال الدكتور قسطنطين زريق، على امتداد أكثر من خمسة وستين عاماً، في قضايا المجتمع والفكر والسياسة والتاريخ والثقافة والتعليم والتربية وبناء المؤسسات. غير أن أبرز مساهمة له كانت فكره القومي وتطويره مفهوم القومية العربية التي أخرجها من السياق الرومانسي المألوف إلى رحاب الواقعية الحديثة، فأزاح تلك "القداسة الحجرية" عن ناووس القومية العربية القديم، وأعاد إحياءها ثم أكسبها نضارة جديدة. فهو لم يرَ في القومية العربية، كما رأى كلاسيكيو الفكر القومي، نهاية المطاف والتاريخ، وإنما مجرد سبيل إلى الترقي والتقدم الحضاري الذي هو غاية الإنسانية وغاية الإنسان العربي بالتحديد. والقومية العربية عند الدكتور زريق ليست سرمدية؛ أي أنها لم تكن موجودة في التاريخ العربي، وهي ليست موجودة الآن أيضاً، وإنما يجب إيجادها. إنها اليقظة نفسها في أدق تعبير لها عن حالة النهوض المنشودة. لذلك يحاذر الدكتور زريق استعمال تعبير "الوطن العربي" ويتحفظ من استعمال مصطلح "الأمة العربية"، ويؤثر استخدام مفهوم "المجتمع العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية. والدكتور زريق، مع تسليمه بأن للعروبة محتوى اقتصادياً واجتماعياً شاملاً، تجنب التعبير عن هذا المحتوى أو إطلاق نعوت عليه كالاشتراكية مثلاً. لكنه شدد على التفريق بين العروبة والإسلام، جاعلاً العلمانية إطاراً لا بد منه في محاولة لإطلاق النهضة العربية وإعلاء شأن القومية. ويلاحظ الدكتور زريق، في معرض نقده حال المجتمع العربي، أن ثمة غياباً شبه شامل للشعوب العربية عن المسرح العربي، وأن ثمة حضوراً طاغياً للحكام الذين حوّلوا الشعوب إلى جماهير منقادة، أو إلى رعية طيعة ومطيعة. وهو يشير إلى غياب القضايا الكبيرة عن هموم الناس، كالاستقلال والوحدة وفلسطين، التي كانت تجذب عقول النخبة ووجدان الشعوب فتسعى لاعتناقها وتحقيقها بصبر وتضحية وإقدام. ومن مظاهر العياء في الواقع الراهن، بحسب الدكتور زريق، غياب العقلانية والقيم والقدرة على الفعل والتأثير.
أمّا القضية الفلسطينية، التي واكبها منذ البداية، فملأت كيانه وعقله ووجدانه مذ كان سفيراً لسورية في واشنطن، حيث ساهم في الجهد الذي بذل في الأمم المتحدة لمنع قيام إسرائيل سنة 1948. وكقومي عربي، رأى في قيام الدولة اليهودية خطراً يهدد الوجود العربي برمته، وكمفكر رأى في هذا الحدث الكبير تحدياً حضارياً يستوجب الرد الكبير. لذلك رفض الدكتور زريق القول بوجود صراع بين حقين: فلسطيني وإسرائيلي. فالقضية الفلسطينية هي صراع بين حق متلبس بالضعف والعجز، وباطل متسربل بالقدرة الذاتية والخارجية (المجلد الأول، المقدمة، ص 27). وهو يصر على أنْ لا سبيل للخروج من هذه الحال إلا بالتقدم والتحرر والأخذ بأسباب الحضارة. والتقدم والتحضر لا يكونان إلا بالعلم والارتقاء الخُلُقي والأدبي. أمّا التحرر من الاستعمار والسلطان فلا يكون إلاّ بالنضال الشعبي والسياسي وبالعلم أيضاً.